الخميس، 8 سبتمبر 2016

تفسير سورة هود من الآية -١- إلى الآية -٧- / الأترجة

د. ناصر الماجد


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد ..
فأرحب بكم في هذا المجلس العلمي الذي سنتناول فيه-بإذن الله- عز وجل تفسير سورة هود عليه السلام، ولم تزل طريقة أهل العلم من المفسرين في تناولهم وتفسيرهم لسور القرآن الكريم يبتدئون بتعريف مختصر موجز عن السورة الكريمة .
/ وهذه السورة الكريمة سُميت سورة هود لذكر خبر نبي اللَّه هود فيها ، وهي السورة التي كُرر فيها ذكر اسمه – عليه السلام- خمس مرات ولم يتكرر بهذا العدد في سورة غيرها ، ومن هذا الباب ذهب بعض أهل العلم إلى ، أو تلمّس حكمة من وراء تسمية هذه السورة باسم هذا النبيّ مع ورود اسم أنبياء آخرين في هذه السورة الكريمة .
وأما تاريخها ووقت نزولها فإنَّها تُصنَّف ضمن السور المكية بل إنها من السور المكية التي تقدم نزولها، ويمكن أن يُقال - لا على سبيل الجزم- إنها نزلت بعد وفاة عمّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أبي طالب ووفاة زوجه خديجة رضي الله عنها ، فبعد وفاة خديجة رضي الله عنها، فبعد وفاته اشتدت قريش عليه وتجرأت عليه فنزلت هذه السورة الكريمة تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وربطا على قلبه، وذِكرا لما كان عليه الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام ومواقف أممهم معهم . على أن هذه السورة الكريمة وإن ذهب عامة أهل العلم إلى أنها سورة مكية إلا أنه قد وقع خلاف في بعض آياتها ، في ثلاث آيات منها هي :
 / قوله عز وجل (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ....) 
 / وقوله عز وجل (أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ...) 
 / وقوله عز وجل (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ..)
فقد وردت روايات عن بعض السلف أنها نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، غير أن المتأمل في نظم هذه الآيات وسياقها وجَرْس ألفاظها يقطع أنها تندرج ضمن خصائص السور المكية . فإذا هذه السورة بكل آياتها هي سورة مكية .
وقد ورد في فضلها حديث مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي وغيره وفيه (أنه عليه الصلاة والسلام قال له أبو بكر: شِبت يا رسول الله ) يعني أنه قد بدا فيك الشيب فأجابه عليه الصلاة والسلام بقوله (شيبتني هود وأخواتها ) وفي لفظ أنه قال (شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت) . وهذا الحديث عدّه بعض أهل العلم مثالا على الأحاديث المضطربة التي اضطربت ألفاظها ، ومن هنا وقع خلاف بين أهل العلم بين تضعِيفه وتحسِينه إلا أنه بكل حال يومئ ويُشير إلى ما تضمنته هذه السورة من المعاني والعِبر العظيمة التي تُفزِع القلب وتُوقعه في الدهشة ، ولهذا سبب أن يعلو الإنسان الشيب هو بسبب ما في هذه السورة الكريمة من الوعد والوعيد الذي يُفزِع القلب ، ولذلك الله عز وجل لما وصف القيامة قال عنه يوما يجعل الولدان شيبا من شدته وهوله.
وهذه السورة الكريمة بآياتها ومضامينها ومعانيها تضمنت كثيرا من المعاني العظيمة التي لو تأملها الإنسان وتدبرها لاشك أن لها أثرا كبيرا على قلبه . وهذا يقودنا إلى الإشارة إلى موضوع هذه السورة ومحورها الرئيس الذي تدور عليه وتتكلّم عنه.
والحقيقة من تأمل هذه السورة الكريمة لم يشق عليه أن يهتدي إلى موضوعها الرئيس الذي تتكلم عنه ، إذ فيها بيان لحال الأمم السابقة وموقفها من رُسل الله عز وجل .. موقفها من دعوة التوحيد.. موقفها من رُسل الله الذين أرسلهم الله والكتب التي أنزلها والدعوة التي جاء بها الأنبياء ، كيف أرسل الله عز وجل الرُسل وكيف كانت دعوتهم وكيف كان موقف قومهم منهم ، ثم ما مصير الذين آمنوا بدعوة رسل الله وما مصير الذين كذبوا بدعوة أولئك الأنبياء.
 وفي أثناء هذه السورة تثبيت لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وربط على قلبه، فإن من تأمل هذه السورة علِم أن فيها تثبيتا عظيما وتسلية لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم فهو إن كُذِّب فقد كُذِّب قبله الأنبياء والرُسل ، وإن استُهزئ به ووُصف بأبشع الأوصاف فقد سبقه من إخوانه من الأنبياء والرُسل من لقي مثل هذا التكذيب ومثل هذا الصدّ والإعراض ، ولذلك الله عز وجل أشار إلى هذا المعنى في آخر السورة الكريمة حيث يقول عز وجل ( وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) فقصّ الله عز وجل للأنباء والأخبار هو تثبيت له عليه الصلاة والسلام وتسلية له.
/ وقد استُفتحت هذه السورة الكريمة بقوله عزوجل (الر) وهذه حروف مقطعة استُفتحت بها عدد من سور القرآن الكريم ، وقد وقع بين المفسرين خلاف كبير واسع في تحديد معاني تلك الحروف والمقصود بها، وهذا الخلاف الذي وقع بين المفسرين فيها خلاف واسع حتى إن بعض الأقوال فيها تذهب إلى معانٍ عجيبة ودلالات غريبة ليس في أثناء الكلام ولا سياقه ما يدل عليها، والذي يظهر-والله أعلم - أن هذه الأحرف التي اُفتتحت بها السور هي إشارة إلى معنى التحدي والإعجاز للعرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، حيث اُفتُتحت بها ثلاثون سورة من سور القرآن الكريم كلها بعد أن تُذكر هذه الحروف يأتي إشارة إلى القرآن الكريم عدا أربع سور منها لم يرِد فيها الإشارة مباشرة إلى القرآن الكريم وهي سورة [مريم ، العنكبوت ، الروم ، القلم] هذه اُفتُتحت بحروف التهجي - الحروف المقطعة - لكن لم يرِد بعدها مباشرة حديث أو إشارة عن القرآن ، أما باقي المواضع جميعا فإن بعد هذه الحروف مباشرة يأتي إشارة إلى القرآن الكريم كهذه السورة الكريمة.
/ يقول عز وجل (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ومن هنا نستطيع أن نقول إن هذه الحروف هي إشارة إلى العرب الذين هم أهل الفصاحة في اللسان العربي أن هذا القرآن الذي تقرؤنه ، هذا القرآن الذي تحدّاكم اللَّه به أن تأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة واحدة منه ، أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف وأنتم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ، فإذا ثبُت عجز العرب مجتمعين ومنفردين عن الإتيان بمثله ولو ببعضه فلأن يعجز من بعدهم ممن لم يكن من أهل اللسان من باب أولى.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ، قوله عز وجل (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) أصل الإحكام الإتقان ، والشيء المُحكم المتقن ، ومدار كلمة الإحكام على المنع ، ومنه يُقال للحَكَمَة التي تُوضع ضِمن لجام الدابة فتمنعها من الاضطراب، ومنه الحاكم الذي يمنع الخصوم من الظلم والتعدي، ومنه الحكمة المانعة من الجهل ، ومنه الإحكام الإتقان، فكلها مدارها على هذه المعاني، وهذا وصف للقرآن الكريم حيث يقول عز جل (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) أُحكمت آياته بمعنى اُتقنت آياته ، فمعنى ذلك أن القرآن كله مُحكم (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) أُتقنت لا خلل فيها ، لا اضطراب، لا تعارض، لا اختلاف . والقرآن لم ينزل في يوم واحد أو ليلة واحدة ، بل تتابع نزوله طول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن تقرأه من أول ما نزل إلى آخر آية نزلت لا تجد فيها اضطرابا ولا اختلافا بل يُصدِّق بعضها بعضا ويدل بعضها على بعض .
/ ثم قال عزوجل بعد ذلك (ثُمَّ فُصِّلَتْ) والتفصيل المقصود به التوضيح والبيان ، فأُحكمت الآيات ثم فُصِّلت يعني بُيّنت، بيّنت أوامره ونواهيه ، بُيّن فيه ما يحبه الله وأَمر به ، وما يُبغضه ونهى عنه، فُصِّلت فيه الشرائع والعقائد والمعاملات والأخلاق وكل ذلك يدخل ضمن معاني التفصيل.
 / ثم قال عز وجل ( مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وهذا الختم في غاية المناسبة لمعنى الآية الكريمة ، الختم بوصف اللَّه بالحكيم والخبير مناسب، فإن الحكيم يناسب معنى الإتقان ، والخبير يناسب معنى التفصيل، لأن تفصيل الأمور وتوضيحها لا يكون إلا من الخبير الذي يعلم بواطن الأمور وخواصها ، وإذا كان هذا الكتاب تفصيل من لدن حكيم خبير فإذا ( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) يعني لأجل ألا تعبدوا إلا الله. وانظروا إلى هذا الاستفتاح العظيم الذي تُستفتح به السورة دلالة على المقصد الأساسي وهو الدعوة إلى توحيد الله عز وجل.
(إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) وتأملوا هذا الخطاب الواضح الذي تبتدئ به السورة الكريمة فهي تبيّن حقيقة ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما جاء به وحقيقة مهمته أنه نذير وبشير ، يُنذر المكذبين الصادِّين، ويُبشر المؤمنين المنقادين .
 / ثم قال عز وجل بعد ذلك (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فأمرهم بالاستغفار والتوبة ، ونحن نعلم أن بين لفظ الاستغفار والتوبة تقاربا في المعنى، فلو أن أحدا فسّر التوبة بالاستغفار صحّ كلامه، ولو فسّر الاستغفار بالتوبة صحّ كلامه ، أما وقد قُرِنا في موضع واحد فإنَّه يُحمل كل منهما على معنى خاص، فالاستغفار يُحمل على ترك الشرك والمعصية والطلب من الله عز وجل أن يغفرها وأن يتجاوز عنها ، وأما التوبة فإنها تُحمل على معنى الإيمان بالله عز وجل وفعل الطاعات ، لأن أصل التوبة الرجوع فالمقصود توبوا إلى الله ، يعني راجعوا إلى الله عز وجل . فإذا يكون معنى الاستغفار معنى الإقلاع عن الذنب سواء كان شِركا أو ما دونه ، والتوبة هي الرجوع إلى الله بالإيمان وعمل الطاعات، وهذا غاية في التناسب لأن التخلية قبل التحلية .
/ ثم قال عزوجل ( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) وهذه هي أول ثمرات الإيمان بالله عز وجل والانقياد لطاعته المتاع الحسن ولذلك قال ( يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) ولم يُبين لنا صورة هذا المتاع لتذهب النفس كل مذهب في تقدير هذا المتاع ، المتاع الذي يكون في داخل النفس بذاتها فتشعر بالرضى والهدوء والسكون والانقياد والراحة ، وأيضا المتاع حتى في حياة الإنسان وسلوكه العملي ، وهذا بفضل الله عز وجل يجده كل من يؤمن بالله عز وجل فإنه أبدا تجده مرتاح الضمير.. مرتاح النفس ، دائما في حال استبشار وفي حال رضى عن الله عز وجل حتى لو نزلت به المصائب ما تنزل وذلك أثر من آثار الإيمان بالله عز وجل.
/ ثم قال عز وجل (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) وهذا أيضا من آثار الإيمان بالله عز وجل أن يعطي كل ذي فضل فضله ، فضله في العلم وفضله في العمل فيُجازيه بحسب عمله وهذا من كمال عدل الله عز وجل، كل صاحب فضل يُعطى فضله أيّا يكن ذلك الفضل الذي هو فيه وعليه ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) . 
/ ثم قال عز وجل بعد أن ذكر ثمرة الإيمان وثمرة الاستغفار والتوبة وهذا أسلوب ترغيب ودعوة لهم، بيّن بعد ذلك عاقبة الإعراض فقال عزوجل (وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) إذا لم ينقادوا ولم يؤمنوا بالله عز وجل إنهم موعودون بعذاب يوم كبير والمقصود به يوم الآخرة، ووصفُه بالكبير لعِظم ما يقع في ذلك اليوم. 
/ وفي قوله عز وجل ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) فيه دلالة على أن الجزاء من جنس العمل، وتأملوا حيث يقول عز وجل ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) بما أنك عمِلت فضلا وحسنا فإنك تُجازى عليه بالفضل والحسن ولهذا هذه الآية تدل على أن الجزاء من جنس العمل .
/ ثم قال عز وجل بعد ذلك (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تأملوا هنا تقديم الجار والمجرور (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ) وهذا من باب الاهتمام بما يكون إليه الرجوع ، يعني أنتم ترجعون إلى الله وليس إلى أحد سواه (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا أيضا غاية في المناسبة ختم الآية بذكر قدرة الله عز وجل هو غاية في المناسبة لأن إرجاع الخلق مرة أخرى بعد فنائهم بعد أن يبلوا ، إرجاعهم مرة أخرى هو أثر من آثار قدرة الله عز وجل (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
/ ثم قال عز وجل ( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) بعد أن ذكرت هذه الآيات حقيقة دعوة النبي ، حقيقة القرآن الذي أُنزل عليه ، حقيقة ما يأمر به وما ينهى عنه ، عاقبة من يُطيعه وعاقبة من يعصيه، انتقل إلى الحديث عن واقع أولئك -كفار مكة- عن واقعهم وموقفهم من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وتأملوا هنا كيف يحكي الله عز وجل صورة عجيبة من موقف أولئك المشركين من هذا القرآن العظيم ، هم أهل اللسان .. أهل اللغة فيعرفون ما في القرآن من بديع النظم وبلاغة البيان، يعرفون ذلك ويشُدّ أسماعهم وقلوبهم إليه ، ويشعرون بعجز مُفظع أمام هذه الآيات العظيمة، يشعرون لأنهم أهل اللسان فيعرفون ما مدى ما فيها من البلاغة وعِظم المعاني والدلالات والهدايات ولم يجدوا سبيلا للإعراض وتحاشي ذلك القرآن إلا هذه الصورة التي يبيّنها عز وجل ( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أصل الثني طي الشيء ، فهو يثني صدره يعني يجمع صدره كأنه يريد أن يُغلق قلبه وصدره فلا يخلُص إليه القرآن ، من شدة تأثير القرآن فيهم بلغ بهم إلى هذا الحد من الإعراض ومحاولة التصدد والبعد عن سماع آيات الله عز وجل ، وفي آية أخرى يقول عز وجل ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) انظروا كيف يحكي الله عز وجل حال عجزهم المُفظع من هذا الكتاب العزيز، يقول عز وجل ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) أولا لا تسمع ، طيب لماذا لا تسمع؟ إن كان باطلا فلا عليك إن تسمع منه لكنهم يعلمون تأثيره العظيم في القلوب ( لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ ) طيب هب أنكم سمعتموه عرضا أو أُلقي عندكم بمحضركم (وَالْغَوْا فِيهِ) يعني ارفعوا أصواتكم بالصياح واللغو حتى تشوشوا على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع القراءة (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) يعني رجاء أن تغلِبوا ، فلم يملكوا أي شيء أمام هذا القرآن إلا أن يفعلوا هذه الأفعال الدالة على عجزهم وإفلاسهم أمام هذه الآيات العظيمة .
/ قال عز وجل (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) الاستغشاء: التغطية (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يعني مهما حاولوا أن يتغطوا وأن يستغشوا بثيابهم أو غير ذلك فإنه الله يعلم ما يُسرّون وما يعلنونومهما كان حالهم ومهما اجتهدوا في الاستتار والتغطية.
وتأملوا ختام الآية الكريمة حين يقول عز وجل (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أيضا هذا الختم للآية الكريمة مناسب لمضمونها لأن مضمون الآية فيه بيان لكمال علم الله عز وجل واطلاعه على خبايا النفوس فناسب أن تُختم الآية بهذا الوصف.
/ ثم قال عز وجل بعد ذلك ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
 بدأت الآية الكريمة في عرض مظاهر قدرة الله عز وجل فقال ( وَمَا مِن دَابَّةٍ ) يعني لا توجد دابة ، والدابة : كل ما يدب على وجه الأرض ، كل ما يدب عليها ويمشي أيّا كان دبيبه وأيّا كان مشيه ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) فالله عز وجل خلق الخلق جميعا وقدّر أقواتهم وآجالهم وأرزاقهم، لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها وعملها ، هذا أمر مضمون لاشك فيه.
/ ثم قال عز وجل (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) المُستقر : محل الاستقرار ، والمستودع : محل الاستيداع ومحل الإيداع.
وقد تنوعت عبارات السلف -رحمهم الله - في بيان المُستقر ومن أشهرها : قولهم أن المُسقر والمستودع في الرحم ، وإذا علم الله عز وجل هذه الحالة فهذا دلالة على علمه التام بحال الإنسان.
  (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) يعني مقدار ما تستقِر في الرحِم وتُستودع فيه حتى يأذن الله عز وجل لهذه النفس أن تخرج من الرحِم.
/ لكن الآية الكريمة الأولى أن تُحمل على عمومها فيعلم كل مُستقر للنفس وكل مستودع لها .
والأصل - وهي قاعدة عامة يستفيدها طالب العلم في فهمه لنصوص الكتاب والسنة - أن الأصل في ألفاظ الكتاب والسنة العموم، أن تُحمل على المعنى العام ، هذا هو الأصل إلا إن جاء ما يُقيد ذلك ، أما الأصل أن تُحمل على العموم ، ولذلك هذه من القواعد التفسيرية التي طبّقها بعض أهل العلم في ترجيحهم بين الأقوال كما هي طريقة شيخ المفسرين ابن جرير -رحمه الله- فكثيرا ما كان يُرجِّح اعتمادا على هذه القاعدة أن الأصل أن تُحمل ألفاظ القرآن على العموم.
/ ثم قال عز وجل  (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) أيضا هذا بيان لبعض صفات الله عز وجل وكمال قدرته ومنها خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وخلق السموات والأرض كثُر ذِكره في القرآن الكريم والإشارة إليه في مواضع كثيرة أن يُشار إلى خلق السموات والأرض، والحقيقة إن العلم الحديث كشف لنا كثيرا من حقائق السماء والأرض ، كثيرا من الحقائق التي لا نعلمها عن خلق السماء والأرض دلّ على هذا الخلق العجيب الكبير ، على هذا الكون الواسع الذي لا يُشكِّل فيه الإنسان ، بل هذه الأرض التي نحن عليها لا تُشكِّل فيه شيئا يُذكر حتى إن بعض العلماء أراد تقريب مقدار حجم الأرض من هذا الكون فقال : الأرض بمن عليها هم نقطة على حرف في صفحة من مجلد من أصل خمسمائة مجلد. طبعا هذه صورة تقريبية وإلا فالأمر أكبر وأوسع ، هذه الأرض عبارة عن نقطة التي فوق حرف فما الإنسان نفسه في الأرض!! الإنسان على الأرض ماهو إلا نقطة فكيف بالواحد منا بالنسبة لهذا الكون ؟! تبارك الله الخلاّق العليم.
/ قوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الحقيقة إن الإشارة إلى هذا الأمر أن الله عز وجل خلق الكون في ستة أيام يربي الإنسان على معنى التأني في الأمور والرفق فيها فإن الله عز وجل لا يُعجزه شيء ولو شاء خلق السموات والأرض في طرفة عين لم يُعجزه ذلك فإنه إن شاء شيئا قال له كن فيكون، ولكنه عز وجل يخلقها في هذه الأيام الستة ومن المعاني والحِكم أن يتربى الإنسان على معنىىالحِلم ، على معنى الأناة وعدم العجلة في إتمام الأمور وإنجازها .
/ ثم قال عز وجل  (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)
 (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) العرش هو سرير الملِك وقد دلّت النصوص الواردة في صفة العرش على عِظم خلقه عِظما لا يُقدر قدرُه، بل ذهب كثير من أهل العلم إلى أن العرش هو أكبر مخلوقات الله وأعظمها ، وبين يدي حديث أخرجه البيهقي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلَقة أُلقيت في فلاة) - يعني كحديدة - أُلقيت في فلاة ، حديدة صغيرة أُلقيت في صحراء واسعة ، الفلاة هي الصحراء الواسعة (وفضل العرش على الكرسي) الآن الكرسي أوسع وأكبر من السموات التي ذكرنا قبل قليل مقدار حجمها مقدارها نسبة إليه كالحديدة أُلقيت في صحراء واسعة ، هذا بالنسبة للكرسي ، طيب ما نسبة الكرسي إلى العرش؟ قال صلى الله عليه وسلم (وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة) فلا يقدُر قدرُه إلا الله عز وجل.
/ قوله ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) هذه في بيان حكمة خلق الإنسان ذلك أن الله عز وجل هو الحكيم العليم لا يخلق خلقا إلا لحكمة ولهذا يقول العقلاء من البشر لو أن الله لم يُنزل الكتب ولم يُرسل الرُّسل لعلمنا أن هناك حكمة لخلقنا وأن هناك مرد بعد ذلك لأن الله حكيم ، والحكيم لا تخلوا أفعاله عن حكمة ولذلك محال أن يكون خلق الناس بغير حكمة ولهذا قال عز وجل ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) يعني ليبتليكم فيعلم أيكم أحسن عملا . فتأمل .. ربنا عز وجل ما قال ليبلوكم أيّكم أكثر عملا، بل قال ( أَحْسَنُ عَمَلًا) هذا هو المقصود الإحسان في العمل ، ومعنى ( أَحْسَنُ عَمَلًا) أحسن ما فُسِّرت به هذه الآية : أخلصه وأصوبه ، أخلصه لله ، وأصوبه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عمل عملا قد حقق فيه هذين الشرطين فقد أحسن في عمله، ولذلك الله عز وجل لا ينظر إلى كثرت العمل ولا لسعته بل ينظر إلى تحقيق هذين الشرطين: الإخلاص ، وموافقة النبي صلى الله عليه وسلم -موافقة الصواب- ولذلك كم سبق درهم دينار، ربما يتصدق الإنسان بريال واحد فيكون عند الله أفضل ممن يتصدق بآلآف الريالات لأن المعنى ليس في كثرة النفقة أو الصدقة أو كثرت العمل، المعنى على تحقيق معنى الإخلاص لله عز وجل وإصابة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك على المرء - الحقيقة - أن يجتهد في تحقيق هذين الشرطين لأنهما معقد النجاة .
/ ثم قال عز وجل (وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ) يبين الله عزوجل في هذه الآية موقف الكفار الذين بُعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وتأملوا هذا الربط بين حكمة الخلق وتكذيب الكفار بالآخرة والمرَد إلى الله عز وجل ليدل على أن تكذيبهم وشكّهم بالبعث دلالة على ضعف عقولهم وجهلهم لأن العقل لوحده يقطع أنه مُحال أن يخلق الله هذا الخلق ويدعهم هملا ، محال أن يخلق الله هذا الخلق ويتركهم يتعدى بعضهم على بعض ويظلم بعضهم بعضا دون جزاء ودون حساب، مُحال أن الظالم في هذه الدنيا يظلم الناس ثم يعيش عيشة سوية ويموت ميتة سوية ولا يُحاسب على ظلمه ، مُحال، هذا لا يجوز في حكم العادل الحكيم العليم، ولهذا ربط بين هذين المعنيين بين حكمة الخلق وتكذيب الكفار ليدل على أن تكذيبهم مع أنه تكذيب لخبر النبي صلى الله عليه وسلم ولخبر الله إلا أنه جهل بحكمة الخلق وضعف ونقص في عقولهم.
/ والآية الكريمة أيضاً فيها إشارة إلى أن حقيقة الرزق هو من الله عز وجل وما هذه الأسباب التي يسعى لها الناس إلا وسائل لتحقيق ذلك الرزق وإلا فإن الرازق هو الله عز وجل.
وفي قوله عز وجل (وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذه الجملة الشرطية - وهي جملة فعلية - فيها دلالة على التجدد والاستمرار يعني مهما تقول إنكم مبعوثون ، تقول بقولك وبفعلك ، تقول بالأدلة ، بكل أنواع الأدلة التي تقولها ومهما تُعيد عليهم فإنهم أبدا ليقولون هذا القول، فالجملة الفعلية تدل على تجدد هذا القول منهم واستمرارهم عليه وبقائهم عليه.
/ وفي الآية أيضا دلالة على أن الله عز وجل خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ، وقد جاء ذلك أيضا مع أنه صريح في الآية إلا أنه جاء صريحا في الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن عمران بن حُصين وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول هذا الأمر، يعني أول خلق هذا الكون ، عن أول هذا الأمر فقال عليه الصلاة والسلام (كان الله ولم يكن شيء قبله) لأن الله عزوجل هو مُبدع وخالق الأكوان وموجدها على غير مثال سابق، قال عليه الصلاة والسلام (كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض فكتب في الذِكر كل شيء) فهذا فيه دلالة على أن خلق العرش قبل خلق السموات والأرض.
وهذا الاستفتاح الذي تُستفتح به هذه السورة الكريمة بهذه الآيات هي تؤكد ما أشرنا إليه في أول حديثنا عن هذه السورة من أن فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لقلبه وربطا عليه بأن يعلم أن هذا التكذيب الذي صدر عن قومه صدر بسبب جهلهم بالله عز وجل وعدم معرفتهم بالحكمة التي من أجلها خلق الله عز وجل السموات والأرض وجهلهم بآثار حكمة الله عزوجل لأنه محال على الحكيم العليم أن يخلق خلقا عبثا بلا هدف ولا غاية ، ثم أيضا شكّهم في البعث بعد الموت حقيقته شكّ في قدرة الله عزوجل، وقد جاء ذلك صريحا في آيات أخرى تحكي صورا من صور شكِّهم في قدرة الله عزوجل مثل قوله عزوجل ( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) يعني بعد أن تتفتت هذه العظام وتصبح رميما (مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) نتوقف عند هذا القدر في هذا الدرس ونكمل إن شاء الله في الدرس القادم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق