الثلاثاء، 26 أبريل 2016

تفسير سورة المنافقون / د. رقية المحارب



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
 ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ *
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
فكما سمعنا في في هذه السورة قول الله جل وعلا ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) وافتتحت السورة بقوله ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) كقصة من القصص وحادثة من الحوادث التي وردت على رسول الله ﷺ احتاج فيها التوجيه من ربه والإعلام كيف يفعل وجاء فيها بيان بعض الأحداث التي خفيت عليه ﷺ.
وهذا الاستفتاح خبر من الله جل وعلا قال ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ  قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) يعني حين يأتيك المنافقون يقولون نشهد إنك لرسول الله فهم يتفوهون بالإسلام ظاهرا أما في الباطن فإنهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى كاذبون في دعواهم.
/ قال الله جل وعلا  ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)
فعقب على قولهم (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) بقوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) وما من حاجة إلى إيراد ذلك للمؤمنين ولكن القصد من ذلك إن في هذا رد على المنافقين إنه لا يحتاج إلى شهادة منهم، فالله لا يحتاج ولا رسوله يحتاجون إلى شهادة من المنافقين بأن محمدا رسول الله، إنما الذي يحتاج إلى ذلك هم، هم الذين يحتاجون إلى الشهادة ، فهم أحوج إلى شهادتهم من الله ومن رسوله ومن المؤمنين، فالله جل وعلا يعلم إنك لرسوله ولا يحتاج إلى شهادتهم، لأن الذي يحتاج إلى الشهادة من لا يعرف المشهود عليه، أما الذي يعلم المشهود عليه فإنه لا يحتاج إلى شهادة الشاهد، إذا من الذي يحتاج إلى شهادة الشاهد ؟ يحتاج إليها الجاهل بالشيء فيحتاج إلى شهادة ، فالله جل وعلا عالمٌ برسوله وعالمٌ إنه لرسوله فإذا شهادتهم هذه إن كانوا أرادوا بها الله وأرادوا بها الرسول وأرادوا بها المؤمنين فليس الله بحاجة لها ولا رسوله بحاجة لها ولا المؤمنون بحاجة لها، إذا الشهادة لمن؟ الشهادة لهم لأنفسهم من أجل أن تُخرجهم  شهادتهم هذه من الكفر إلى الإيمان فإذا لم يتفق مافي باطنهم على مافي ظاهرهم فقد بطلت الفائدة من الشهادة. مَن أول الخاسرين ببطلان الشهادة تلك؟ هم الخاسرين ببطلان تلك الشهادة فلذا قال الله جل وعلا (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ثم قال (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) فدلّ إيراد علم الله جل وعلا إنه لرسوله، دلّ على أن تلك الشهادة ليست شهادة إثبات لرسوله وإنما شهادة إثبات لهم، فأما إذ لم يكونوا على قدر تلك الشهادة فلا تنفعهم شيئاً ولذلك المُعول على الشهادة التي شهد بها الله جل وعلا (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) فجاءتهم الشهادة هنا صاعقة، صعقتهم وأفسدت كل خططهم التي كانوا يخططونها فقال الله جل وعلا (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) هؤلاء إذا حضروا عندك قالوا ما قالوا من شهادتهم بأنك رسول الله وذلك لضعفهم وذلك لقوة محمد ﷺ وأصحابه وما دانت له الدنيا حينما شهدوا بذلك وهم يعلمون أنهم ليسوا على قدر مُخالفته ولذلك قالوا ما قالوا.
إذا لمَ قالوا ذلك؟
إما أنهم قالوه في غضبة دون نظر إلى تبِعات تلك الغضبة فلما قالوها أخرج الله أضغانهم وأخرج مافي قلوبهم، فالكلمة التي خرجت منهم إما أنها لم تكن خارجة بإرادتهم وإما أنهم أخرجوها إذ أخرجوها ظنا منهم أن ذلك الإخراج يمكن أن يفري في المؤمنين أو أنه يُضعِف نفوسهم فلما رأوا التماسك ارتدوا يُغيرون الكلام (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد:٣٠] وهم بالفعل ليسوا سواء باطنهم وظاهرهم بل ظاهرهم مُتقلِّب وباطنهم يلوي على المكر والكفر ولذا قال الله جل وعلا (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) كيف يردُّون كذبهم و كيف يُغيّرون فيه، وكيف يَقلبونه.
/ يقول الله جل وعلا (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) يعني أنهم يُوارون الكذب الذي يكذبونه بالأيمان التي يحلفون بها (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) [التوبة:٧٤] فهم هكذا يتقلبون ثم يجعلون الأيمان جُنة يظنونها كذلك لأنهم يعتقدون في رسول الله ﷺ أنه يُصدِقهم وأنه أُذن -سمٌاع- يسمع ما يقولون ولذلك فهم يكذبون عليه ثم يحلفون على كذبهم ويظنون أن الله لا يفضحهم وأن الله لا يُخرج أضغانهم وأن الله لا يُخرج ما في أنفسهم، والله يُخرج ما في أنفسهم ولذلك فهم يحذرون أن يُخرج الله مافي أنفسهم (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ) [سورة التوبة 64] لكن مع ذلك فيأبى الباطل إلا أن يظهر.
ما الذي حدث من أجل أن تنزل هذه السورة؟
/ يقول الله جل وعلا .. نُكمل القصة - المشهد- أولا ثم نذكر الحديث الذي نزلت أو الذي بيٌن تلك القصة.
/ يقول الله جل وعلا (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يعني إنهم اتخذوا أيمانهم جُنة اتخذوها تُغطِيهم والجُنة هي: ما يُغطي، كل شيء فيه الجيم والنون فهو يدل على السَتر والغِطاء فهم اتخذوها سترا أو ساترا لهم من سخط الله وعقاب رسوله. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فصاروا يصدون المؤمنين عن الإيمان ويشككونهم في رسالة محمد ﷺ.
 يقول الله جل وعلا (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذا العمل الذي يعملونه من إبطان الكفر وإظهار الإيمان والنفاق والكذب ، كل ذلك فعل سيء لا أسوأ منه.
/ (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) وقوله (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) يعني آمنوا فيما يظهر لكم ثم كفروا في الحقيقة والواقع.
/ (فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) الله جل وعلا طبع على قلوبهم وختم عليها فهم لا يفقهون الإسلام على وجه الحقيقة، ولا يفقهون شِرعة محمد ﷺ التي جاء بها من ربه، ولا يفقهون ما يكون من عاقبة أمرهم، وعاقبة أمرهم ومردهم إلى سوء ومع ذلك لا يفقهون ذلك ولا يعونه ولا ينتبهون إليه، هم مع ذلك كله تراهم أنهم في تمام في الأجسام وحُسن في الطليعة وحُسن مال وحُسن هيئة وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ)  وإذا رأيتهم يا محمد لا تغتر بهم فإنهم لا يُغنون عنك شيئا ولو أعجبك أو ولو أعجبتك أجسامهم.
 (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) إن يقولوا ما يقولونه تسمع لقولهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) يعني إنهم ليسوا بشيء بل هم يرددون الكلام الذي يسمعونه يدخل آذانهم ويخرج من ألسنتهم لا يلِج إلى قلوبهم فلا تتأثر قلوبهم بالإيمان، أما أهل الإيمان فيقولون أيكم زادته هذه  إيمانا أما أهل النفاق فإنهم ينظر بعضهم إلى بعض ويقولوا هل يراكم من أحد ثم ينصرفون فهم لا يستفيدون مما يستمعون إليه أو يسمعونه من القرآن والموعظة التي يُعظون بها.
/ يقول سبحانه (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) نعم هم كذلك لأن في قلوبهم شيء ولأنهم يعني يعرفون كذبهم، كلما سمعوا أحدا يتكلم بكلام خافوا، يظنون أنهم نزلت فيهم سورة أو نزل بهم عقاب أو أن النبي ﷺ أهدر دماءهم  أو أنه أمر بضرب أعناقهم ، هم يخافون مع ذلك ما يستطيعون كتمان ماهم فيه ولذا فهم يحتالون كل حيلة، مرة يخرجون مع النبي ﷺ مرات يخرجون في الغزوات والمعارك لكنهم لا يقاتلون وإنما يكونون في أواخر الطلائع من أجل أن يدرؤا عن أنفسهم التُهمة.
/ يقول الله جل وعلا (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) هؤلاء المنافقون هم العدو أي هم عدوك الحقيقي لأنهم أول درجات الحرب عليك والحرب على أهل الإيمان، هم بابه ونافذته إليك فإيّاك أن تستمع لهم أو أن تُصدقهم أو أن تتابعهم أو أن تركن إليهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) وهذا دعاء ، هذا لعن ومحق من الله جل وعلا لهم (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ)، ماظنكِ بأحد يقول الله فيهم (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) فنسأل الله السلامة والعافية من النِفاق وأهله.
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) كيف يُصرفون "أنى" يعني كيف يُصرفون عن الهدى إلى الضلال.
وفي الحديث -كما ذكر ابن كثير- "إن للمنافقين علامات يُعرفون بها : تحيتهم لعنة وطعامهم نُهبة وغنيمتهم غُلول ولا يقربون المساجد إلا هجرا - يعني بين الحين والحين - ولا يأتون الصلاة إلا دُبرا مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون خشبٌ بالليل صُخب بالنهار" والمقصود "خشب بالليل" يعني ينامون عن صلاة الفجر وينامون عن الصلوات. "صخب بالنهار" أي لا ينتفعون بموعظة ولا يسعون في إصلاح. نسأل الله السلامة من هذا الحال - لا يعرفون في نهارهم إلا السعي في دنياهم ولا يعرفون في ليلهم إلا الرُقاد والنوم والهوى والشهوة.
/ يقول تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ) يخبر الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله  حين أخطؤا وحين ظهر منهم ما ظهر رأيتهم يصدون، قال (لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) ومعنى (لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) الآن إذا ناديتي واحدة وهي لا ترغب ماذا تفعل؟ حتى لو كانت طالبة من طالباتك أو بنت من بناتك وهي لا ترغب تجدينها -خاصة إذا كانت لا تحب هذا الشيء- تُميل رأسها وتتأفف منه - هذا طبع هؤلاء (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ، وقال (لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) أمالوها معرضين متأففين متذمرين متلكئين في إجابة الداعي وأولئك خلاف أهل الإيمان ، أهل الإيمان يقول الله جل وعلا فيهم (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) [التوبة:٩٢]  فلاحظي هذه الصورة وهذه الصورة تختلف اختلافا تاما.  فالله جل وعلا يقول فيهم لمحمد ﷺ (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) هؤلاء الذين هذا حالهم حتى لو تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.
 (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) فالله جل وعلا مادام هذا حالهم من العِناد والبُغض لدين الله جل وعلا ولما جاء به رسول الله ﷺ فحتى لو تستغفر لهم لن يغفر الله لهم، فهؤلاء لا يهديهم الله وهم فاسقون (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) يعني القوم المُبعدين المناوئين لطريق الاستقامة ولطريق الله جل وعلا والصراط والدين الحق.
/ ثم يخبر الله سبحانه وتعالى عن هذه القضية وعن أصلها فيقول (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا ) 
 وهذا الكلام الذي أخبر به القرآن جاء موافقا لما أُنزلت فيه هذه السورة وللقصة أو الحادثة التي جاءت وذلك كما رواها أبو إسحاق في قصة بني المصطلق قال: " بينا رسول الله ﷺ مُقيم هناك - يعني في قصة بني المصطلق - قال: اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري - وكان أجيرا لعمر بن الخطاب وزيد بن سنان، وزيد بن سنان كان حليفا لعبد الله بن أُبيّ - وسنان بن يزيد فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين "
الجهجاه كان أعرابيا وكان أجيرا لعمر وسنان بن يزيد كان أنصاريا وحليف لعبد الله بن أُبي، فتداعوا الذي يقول يا معشر الأنصار، والذي يقول يا معشر المهاجرين ، وزيد بن أرقم كان شابا غلاما صغيرا، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أُبيّ، فلما سمع هؤلاء يقولون الأنصار وهؤلاء يقولون المهاجرين وقد تثاوروا.  قال:  " فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل سمِّن كلبك يأكلك" يعني أننا نحن المهاجرين نحن الذين أسكناهم بيوتنا وأنتم يا معشر الأنصار ... مع أنه لم ينفق شيئا ولم يعمل شيء لكن الأنصار آووهم في بيوتهم وقاسموهم أموالهم ثم بعد ذلك أيضا يُخاصموننا ويجادلوننا ويُجالدوننا.
 " قال سمِّن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن منها الأعزُّ الأذل، ثم أقبل على من عنده من قومه وقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها" وكأنه بهذا قالها مرتين ، مرة عندما بلغه خبر تجالد المهاجرين والأنصار ، ومرة عمِل على إيغار صدور الأنصار في وقت الحادثة وتعرفون الشيطان حريص في مثل هذه المواقف فجاء يوغر يُوغِر قلوبهم على إخوانهم.
"فسمعها زيد بن أرقم - وكان غُليما صغيرا - فذهب بها إلى رسول الله ﷺ يقول: وهو غُليّم عنده - عند عبدالله بن أُبيّ - فسمِعه وهو غُليم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -كان عنده عمر بن الخطاب- فأخبره الخبر ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله " -عمر ما يلعب ما عنده إلا الشدة- "فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله مُر عبّاد بن بِشر فليضرب عنقه فقال رسول الله ﷺ (فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمدا يقتل أصحابه) انظري إلى حكمة النبي ما يأخذه الغضبة والشدة وكذا..لا، إنما أخذ الأمر بالحكمة قال (فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمدا يقتل أصحابه) لا..لا أفعل ولكن نادي يا عمر الرحيل..الرحيل) .
كانوا في غزوة وكانت الحادثة حدثت وقت غزوة قال (نادي يا عمر الرحيل) وهذا كان دأب النبيﷺ وديدن النبيﷺ أنه إذا حدث في الناس أو في المسلمين فتنة أنه يُشغلهم لأن الإشغال سواء المشيع وإلا غيره يُشغلهم يُشغلهم يُشغلهم يُتعبهم بالشُغل حتى ينشغلوا فيه وينسون المُلاججة - لأن الفاضي يعمل قاضي - كما يقولون ، والفاضي يتكلم كثيرا ويزيد في الكلام ويبالغ فيه، وهذا مالا يريده النبي ﷺ ومثل هذا حدث متى؟ في حادثة الإفك لما تكلم الناس في عائشة رضي الله عنها قال سُرى (اسروا) امشوا. هنا حدث نفس القضية فنادي في الناس يا عمر الرحيل، فلما بلغ عبد الله بن أُبيّ أن ذلك قد بلغ رسول الله ﷺ كان يريد يشوش الناس ويتكلمون من تحت لتحت وهو لا يظهر في الصورة.
وترى دائما المنافقين، دائما يظل المنافقون من وراء وراء ويلمزون ولا يصرِّحون حتى لا يؤخذ عليهم لدرجة أن عبد الله بن أُبي بن سلول يُذكر أنه لم يُجلد في الإفك يقولون لم يُسمع منه ذلك صُراحا وإنما كان يغمز -من تحت لتحت- فهكذا أيضا هنا كان يغمز من ن تحت لتحت يُحرِّض الناس من تحت لتحت.
"فلما بلغ عبد الله بن أُبيّ أن ذلك قد بلغ رسول الله أتاه فاعتذر إليه وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم - قال عليّ كلام أنا ما قلته - وكان عند قومه بمكان لأنه جسيم ووسيم وغني وصاحب لسان وصاحب مكانة - كان صاحب مكانة كانوا سيُسودونه سيجعلونه ملِك  يبايعونه بالمُلك. فقالوا يا رسول الله ، قالوا - قومه - قالوا: يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أَوهَم ولم يُثبت ما قال الرجل" - يعني ما ثبّت الكلام وقال ربما أنه مُتوهِّم- وراح رسول الله ﷺ مهجِّرا - مُبكرا، في ساعة مبكرة لم يكن يروح فيها- راح رسول الله ﷺ في ساعة كان لا يروح فيها فلقيه أُسيد بن الحُضير رضي الله عنه فسلّم عليه بتحية النبوة - أُسيد من الأنصار- ثم قال:  والله لقد رُفعت يا (**) في ساعة مبكرة ما كنت تروح فيها!! فقال رسول الله أما بلغك ما قال صاحبك ابن أُبيّ؟ -قال صاحبك لأن أُسيد من الأنصار- قال: أما بلغك ما قال صاحبك ابن أُبيّ؟ زعم أنه إذاقدِم المدينة سيُخرج الأعزّ منها الأذلّ" تتوقعون ماذا قال أُسيد؟ قال فأنت يارسول الله العزيز وهو الذليل ، ثم قال: اُرفُق به يا رسول الله فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننُظم له الخرز لنُتوِّجه فإنه يزى أن قد سلبته مُلكا" فاقتنع النبي صلى بهذا الكلام ودخل قناعته لأنه كان كذلك حكيما ﷺ .
فسار رسول الله ﷺ بالناس - يعني الرحيل - سار بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا وصدر يومه حتى اشتد الضحى" مشى بهم يومين متتاليين، يعني ما بقي فيهم للكلام حِراك.فناموا " حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليُشغلهم عن ما كان من الحديث فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقين ".
وفي هذا قال الحافظ أبو بكر البيهقي عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال:  (كنا مع رسول اللهﷺ في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار - كسعه يعني ضربه - فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال رسول الله :  ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها مُنتنة، فقال عبدالله بن أُبيّ بن سلول - بلغه هذا الكلام فهو لم يكن حاضرا - قال: وقد فعلوها!! - يعني قالوا فينا ما قالوا وتنادوا علينا بالمهاجرين - قال: وقد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ منها الأذل، قال جابر: وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين  حين قدِم رسول الله ﷺ ثم كثُر المهاجرون بعد ذلك) وتعرفون ماذا قال النبي ﷺ (الناس يزيدون والأنصار يقِلُّون) يعني الأنصار هم ما يقِلّون وإنما من يموت منهم ما له عِوض إلا من أولاده فقط لذلك قال (ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) أما المهاجرون فإنهم كل مرة يأتي جديد كل مرة يأتي جديد فيأتون من الأعراب .. من القبائل.
قال جابر: "وكان الأنصار في المدينة أكثر من المهاجرين حين قدِم رسول الله ﷺ ثم كثُر المهاجرون بعد ذلك، فقال عمر:  دعني أضرب عُنق هذا المنافق، فقال النبي ﷺ دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)
وطبعا هذه الروايات كلها متوافقة وإن كانت بعضهم كل واحد يصُوغها بطريقته.
وأيضا هذا الحديث رُوي من سياق زيد بن أرقم نفسه كما عند الإمام أحمد - رحمه الله - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: " كنت مع رسول الله في غزوة تبوك" هكذا قال في هذه الرواية "في غزوة تبوك" وفي رواية أخرى عند الترمذي قال" في غزوة غزاها" ، ما ذكر تبوك ولذلك اختلفوا فيها هل هي في غزوة تبوك وإلا هي غزوة بني المصطلق، وابن عاشور يُرجِّح أنها في غزوة بني المصطلق وليس في غزوة تبوك.
وقال زيد: "كنت مع رسول الله في غزوة تبوك فقال عبدالله بن أُبيّ : لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجن الأعز منها الأذل، قال: فأتيت النبيﷺ - طبعا ساق جزء من الخبر - "قال: فأتيت النبي ﷺ فأخبرته، قال: فحلف عبد الله بن أُبيّ أنه لم يكن شيء من ذلك"
 هذا الذي قال الله جل وعلا (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) حلف "قال:  فلامني قومي وقالوا ما أردت إلى هذا ؟ قال: فانطلقت فنِمت كئيبا حزينا، قال: فأرسل إليّ نبي الله ﷺ فقال : إن الله قد أنزل عُذرك وصدّقك" .
يعني يا الله صدّق القرآن غلاما فبيّن صدقه وكان معه في همِه وحُزنه والله جل وعلا جعل هذا الحزن الذي حزنه والاكتئاب الذي اكتأبه جعله قرآنا يُتلا يُذكر به زيد بن أرقم إلى قيام الساعة.
 قال فنزلت هذه الآية (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا.. ) حتى بلغ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ).
فأنتِ تقرئين سورة المنافقون وتقرئين هذه الحادثة وكأنما هي سياق قصة حدثت في غزوة. فلو تأملنا - سبحان الله العظيم - من هؤلاء الناس ؟ من هؤلاء البشر ؟ من هؤلاء الخلق الذين من خلقه حتى يتكلّم الله جل وعلا بأحداثهم وحوادثهم وأقوالهم ثم يُنزلها وحيا بملائكة يذكرونه ليلا ونهارا. يا الله.. من يتفكّر في شأننا حين يُنزِل الله جل وعلا قرآنا يُتلا بكلامه وقوله علينا ، من نحن حتى يُنزل الله جل وعلا أطراف أحداثنا وحوادثنا وحِراكنا كتابا .. كلاما يُسمعه ملائكته وهو الجليل الجبار سبحانه وتعالى.
من يتأمل ذلك في الحقيقة يخشع قلبه لهذا المعنى فضلا عن بلاغة القرآن وفصاحته وكذا ، فقط  مجرد شعورك أن الله جل وعلا يتكلم بحوادث ووقائع تحدث للناس من جنسك، فكم من الضلال والوهن والخسران لمن لا يكون مُصدِّقا لله جل وعلا صادقا مع الله فينزل القرآن مصدقا له .. مُجرِما له .. مُبعدا له عن جنته ورضوانه وجنابه؟ كيف يهنأ له عيش وكيف يلذّ له رُقاد!! كيف يعيش على ذلك ويموت عليه إلا إذا كان الله جل وعلا قد طبع على قلبه حقا، ولذلك لما قال الله جل وعلا (فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ) فحقا طُبع على قلوبهم  لا يعون هذا المعنى، يعني الإنسان البعيد الذي بينه وبين هذا المعنى قرون طويل حين يفتح الله قلبه لهذا المعنى تدمع عينه له ويخشع قلبه له فكيف بالذي يتنزّل القرآن عليه فيفضح أمره ويُظهر كذبه ومع ذلك لايزال يُصِرّ عليه حتى يموت عليه  - نسأل الله السلامة والعافية - فلذا تعجبين من بعض الناس الذين يكونون في بلد الإسلام ويسمعون الخُطب ويسمعون المواعظ ويسمعون الصلوات ويسمعون التلبية -وقت التلبية- والصائمين في وقت الصيام ومع ذلك يبقون على ماهم فيه من الكِبر والعناد والنفاق والشقاق والكفر، بينما أُناس في بلاد الكفر نشأوا ورضعوا الكفر من أوله إذا بهم ينقلبون عن ذلك الدين إلى الإسلام وهم لا يعرفون القرآن ولا يفهمونه ومع ذلك تخشع قلوبهم له. فتعجبين - سبحان الله العظيم - من الذي هدى هؤلاء!! من الذي هدى هؤلاء!!  سبحان الله.
أرسلت لي واحدة من الأخوات أنا على تواصل معها قد جاءتنا مرة من المرات اسمها (**) كندية - توفيت الله يرحمها ويغفر لها - هذه مسلمة وهي أمريكية الأصل -يعني أمريكية من الأمريكان الأصول الذين هم أصول الأمريكان وليسوا أمريكان أوروبا الغُزاة ، لا .. الأمريكان الأصليين أصولهم من الهنود الحمُر- وأسلمت وحسُن إسلامها ويرسل لي ابنها وقد جاءه ولد فترسل لي البنت صورهم مع الطفل منقبات بالعبايات السود ، في كندا !! ونشأة من أم وأب غير مسلمين في الأصل!! ثم يُسلم أبوهم ثم تُسلِم أمهم - سبحان الله - وينشأون هذه النشأة ويُحافظون على هذا الحجاب وعدد من المسلمات في بلاد المسلمين يتأففون منه ويتأذون منه ويضعونه ويتركونه ويحاربون الإسلام ويحاربون أهله!! إنه الهُدى من الله جل وعلا إذا صبّه في قلبه صبّه فيه مهما كان الإنسان وأينما كان ، وإذا نزعه الله من القلب نزعه مهما كان وأينما كان ولو كان عند الكعبة -نسأل الله أن يهدي شبابنا آمين وأن يهدي قلوبنا وأن يتوفانا وهو راضي عنا غير غضبان.
وهذه رواية زيد بن أرقم ، وفي حديث آخر يرويه الإمام أحمد أيضا عن زيد ذاته يُحدِّث بهذه القصة يقول: " خرجت مع عمي في غزاة" - وهذه أطول أو تأتي بمعانٍ لم تكن هناك - يقول: " خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبدالله بن أُبيّ بن سلول يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله ولئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزّ الأذل، يقول:  فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله" هذه القصة بيّنت الآن أنه ذكره لعمه وعمه ذكره لرسول الله بينما القصة الأولى ذكرت أنه أخبر رسول الله وكلاهما لا يتناقضان فقد يكون المعنى هو التالي -يعني هذا المعنى الأخير - يقول " فأرسل إليّ رسول الله ﷺ فحدّثته" يعني الابتداء حدّث عمه  وعمه نقل الخبر فأرسل إليه يتثبت ﷺ فأرسل إلى عبدالله بن أبيٌ بن سلول وأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا ، فكذّبني رسول الله ﷺ وصدّقهم فأصابني همّ لم يصبني مثله قط وجلست في البيت فقال عمي ما أردت إلا أن كذّبك رسول ﷺ ومقتك - يلومه ويُعنِّفه - قال: حتى أنزل الله ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) قال: فبعث إليّ رسول الله ﷺ فقرأها رسول الله عليّ ثم قال:  إن الله قد صدَقك".
 ما شعوره وقد صدَقه الله جل وعلا، وهذا يدلك على مكانة الصدق عند الله جل وعلا، مكانة الصدق عظيمة حتى لينزلن فيها وحي لغُليّم من الغلمان يُصدّقه به في آيات في سورة تامة يُصدِّق خبره .
وروى محمد بن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبدالله بن أُبيّ - ومحمد بن إسحاق صدوق في السيَر مُدلِس في الأحكام- فحديثه هذا إن شاء الله أنه حسن قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبدالله بن عبدالله بن أُبيّ لما بلغه ما كان من أمر أبيه - هذا عبدالله بن عبدالله الذي هو المسلم .. المؤمن - الصحابي ابن المنافق، قال: لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله" طبعا النبيﷺ قال أنه سيقتله؟ لا، ولكن الناس يخمنون - يتوقعون- يقولون نزل فيه كذا سيقتله النبي ﷺ كيف قد قال الله جل وعلا (قاتلهم الله) ، فقال: إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبيّ.
"يا رسول إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبيّ فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمُرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبيّ يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله ﷺ : بل نترفق به ونُحسن صحبته مابقي معنا" .
 إذا لما ترك النبيﷺ قتل عبدالله بن أُبيّ المنافق رأس المنافقين، تركه لأجل ولده ولأجل مصلحة من المصالح حتى لا يتحدث الناس يقولون محمد يقتل أصحابه.
وذكر عكرمة أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبدالله على باب المدينة - الذي هو الصحابي المؤمن ابنه- وقف على باب المدينة واستلّ سيفه فجعل الناس يمرون عليه فلما جاء أبوه عبدالله بن أُبي قال له ابنه: وراءك -بالسيف- قال:  وراءك ، فقال: مالك؟ ويلك ، فقال:  والله لا تجوز من هاهنا حتى يجوز لك رسول اللهﷺ فإنه العزيز وأنت الذليل -كيف صنع الإيمان بقلوب هؤلاء!! - فلما جاء رسول الله ﷺ شكا إليه عبدالله بن أُبيّ ابنه.
أي صدر رحب وأي سماحة يشكي فيها الوالد المُجرم الجاني ابنه ويجد صدرا رحبا سمحا يقبل منه - فقال ابنه عبدالله: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذِن له رسول الله ﷺ فقال له: أمّا أذِن لك رسول الله ﷺ فجُز الآن."
/ وذكر الحميدي في مسنده : "قال عبدالله بن عبدالله بن أُبيّ بن سلول لأبيه والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول رسول الله ﷺ الأعزّ وأنا الأذل ، قال: وجاء النبيﷺ فقال:  يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد تقتل أبي فوالذي بعثك بالحق لئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي".
هذا بعض ما ورد في قصة هذه السورة التي جاء سردُها كما أخبر به الله جل وعلا عمّا حدث لرسوله ﷺ في حادثة قصّ الغلام فيها القصة صادقة وكُذِّب فيها وكذَب ابن سلول وصُدّق فيها لأجل جسده وطوله وعرضه ومكانه ووجاهته ولَي لسانه بالكذب، والنبي ﷺ كان يأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر لعلمه ﷺ أن الله جل وعلا يوحي إليه مِما خفي عليه ما يُوحي.
 ولما كان ذلك، أي لما كان هذا مقام الشهادة -الحدث هذا- مقام الشهادة لزيد بن أرقم  قال الله جل وعلا (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) ثم شهِد الله جل وعلا لزيد بن أرقم  بكذِب المنافقين وكانت تلك شهادة يُحتاج إليها ولذلك عُبّر عنها بالشهادة (وَاللَّهُ يَشْهَدُ) . وأما عند الكلام على رسوله ﷺ فلا يحتاج الأمر إلى أن يشهد الله جل وعلا  لرسوله بأنه رسول بل الله جل وعلا يعلم إنه لرسول ذ يعلمون  إنه لرسول فما يُحتاج إلى إظهار الشهادة بذلك لأن الأمر أعظم من هذا بل شهِد لذلك الكتاب المُنزل وشهد له الآيات البينات وشهد له الحق المبين وشهد له جبريل والملائكة والله جل وعلا شهد قبل ذلك وبعد ذلك شهادة ليس هذا موطنها وإنما الموطن هنا للشهادة على هذا المنافق بنفاقه وكذبه وللشهادة على المؤمن الصادق بصدقه، أما هذا المُقام فهو مُقام إثبات أن الله يعلم إنك لرسوله لأن شهادة ابن سلول لا تزيد في علم المؤمنين شيئا ولذلك جاءت بهذا السياق بين الشهادة والعِلم.
/ يقول الله جل وعلا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ولعل هناك مناسبة بين هذه الآية وبين السياق السابق وهو أنه إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم فإن كانت الأجسام والأموال قد تغُر في مسألة التصديق فاعلموا أن هناك ماهو أعظم منها أيضا وهو أنه يجب عليكم ألا تلتهو بأموالكم وأولادكم عن ذكر الله بل ذكر الله أولى لكم من الأموال والأولاد والتجارة ، ولعل هذا أيضا فيه إيماء لموقف عبدالله بن أُبيّ حيث قدّم ذكر الله جل وعلا على أبيه ، فإذا كان قدّمه على أبيه فمن باب أولى أن يقدم الإنسان ذكر الله على ابنه فالأب أحقّ بحُسن الصُحبة من الابن ولذلك قال الله جل وعلا (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) فأمر عباده بكثرة ذكرهم ونهاهم عن الاشتغال بالأموال والأولاد عن الذِكْر وأخبرهم أن من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عن طاعة ربه وذِكره فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وجزاء ذلك أو النجاء منه هو الإنفاق من المال في سبيل الله جل وعلا لذا قال (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .
ولا شك أن من أبلغ مواعظ القلوب ومن أبلغ ما ينبغي أن يستعرضه الإنسان ويستحضره حال مثل هذه المواقف التي تُضعف انتصاره للحق ونفقته في سبيله وأن يكون في حزب أهله، لعل ما يُقوي هذا ويُضعِف ضده هو ذِكر الموت والبلى لأن الإنسان إذا يعلم يقينا أنه يموت ويفنى ويبلى وأنه يقوم بين يدي الله جل وعلا مُحاسَبا ولاشك أنه لا يؤمن بذلك -بأنه محاسب- إلا أهل التصديق بالغيب والإيمان بالغيب وهم الذين يعمل فيهم هذا الإيمان عمله فيجعلهم يصدُقُون مع الله ويصدُقُون مع رسوله ويصدُقون مع الناس وينفقون في سبيله ويقدمون طاعته على هوى أنفسهم ولقد قال الله جل وعلا (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ) [الإسراء:١٨] ثم يجعل الله له جهنم بعد ذلك فلذلك قال الله جل وعلا (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ولاشك أنه إذا جاء الموت ورأى الناس ذلك قالوه في أنفسهم كما قال الله جل وعلا (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) فيقول الله جل وعلا (كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) [المؤمنون:١٠٠] والمعلوم أن المرء إذا جاءه الموت لم يُسمع منه  قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ) وإنما يقولها بينه وبين نفسه.
س:  صدقة الإنسان عن والديه هل من الممكن أن ثواب الصدقة يكون لي ولوالدي بمعنى أتصدق وأقول لي ولوالدي، هل ينقص من أجر صدقتي؟
جـ : ما ينقص من أجر صدقتك إن قلتي "اللهم اجعلها عني وعن والديّ" أو تصدقتي بها عنكِ فإن ثوابها يقع عن والديكِ أصلا لأن المرء من كسب أبيه ، فأي عمل صالح يعمله الولد فإنه يبلغ أباه بإذن الله تعالى.
/ يقول الله جل وعلا ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) كل مُفرِّط لاشك أنه سيندم ويظهر الندم عند الاحتضار وهذا الندم الذي يظهر عند الاحتضار لا يظهر للناس وإنما يكون بينه وبين نفسه ، ومن وُفِق فإن الله جل وعلا لعله يُريه من عذاب الآخرة بالبلايا بالمصائب بأنواع الأمراض بكذا ما يرُدُّه إليه كما قلت أكثر من مرة في قول الله أو استشهدت بقول الله جل وعلا ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [السجدة:٢١] بعض الناس يُصيبه ذلك ويرجع وبعضهم لا يرجع -نسأل الله السلامة والعافية- ما يرجع ولا يُقلع عما هو فيه من النفاق ، ولا يُقلع عما هو فيه من الكُفر ، ولا يُقلع عما هو فيه من الهوى -فنسأل الله السلامة والعافية- ولكن الله جل وعلا يقول ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) فمهما يطلب الإنسان من التأخير حينما يرى الموت ويرى اليقين فلن يؤخر الله هذه النفس بل أجلها إذا جاء لا يؤخر كما قال جل وعلا (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس:٤٩] وقد قال جل وعلا ( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) [إبراهيم:٤٤] ويقول الله جل وعلا (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) ولكن الجواب (كلا) والجواب هنا ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي لا يُنظِر أحدا بعد حلول أجله وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقا في قوله وسؤاله ممن رُدّ لعاد إلى شر ما كان عليه والله جل وعلا يقول (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام:٢٨] هذا قاله في مَن؟ في من (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ) وقِفوا على النار ووُقِفوا على ربهم ومع ذلك .. رأوها عيانا، ولاشك أن الإنسان أول ما يحضر أجله يرى منزلته عيانا وقد قال النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها (من أحبّ لقاء الله أحبّ لقاءه ومن كره لقاء الله كرِه الله لقاءه، قالت : يا رسول الله ما منا من أحد إلا يكره الموت، قال: ليس ذلك يا عائشة لكن إذا كان العبد في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة أُري منزلته إن كان في الجنة أو في النار ، فأما إن كان في الجنة فإنه يُحبرلقاء الله، وأما من كان في النار فإنه يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه) هذا هو المعنى ولذلك يقول الله جل وعلا(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يعني خبير بما أنتم تعماونه وبما تتقدمون به وما قدمتموه لأنفسكم في الدنيا.
وقد روى الترمذي عن ابن عباس كما ذكره ابن كثير قال : "من كان له مال يُبلِّغه حجّ بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت، فقال رجل: يا ابن عباس اتقِ الله فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: سأتلو عليك بذلك قرآنا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) " دعاهم بلفظ الإيمان قال ( لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ولو كانوا من أهل الإيمان، إذا الهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله يعني عن حجٍّ واجب وعن زكاة واجبة وعن جهاد واجب وعن صلاة واجبة وعن برٍ واجب، من ألهاه ولده أو ماله عن أمر واجب لله جل وعلا وحق في ذمته لله جل وعلا فإن الله جل وعلا يسأله عنه ومن فرّط في ذلك فهو خاسر ولو كان من أهل الإيمان.
قال ابن عباس : "سأتلوا عليك بذلك قرآنا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) إلى قوله (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) قال ابن عباس: فما يُوجِب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مئتين فصاعدا ، قال: فما يُوجب الحجّ؟ قال: الزاد والبعير" .
إذا وُجد عندك زاد وراحلة خلاص وجب في حقك الحجّ، يأتي أحد يقول والله أنا عندي اختبارات .. أنا عندي دراسة، ما يؤمِنكِ أنكِ تحيين؟! وإلا عندي مؤتمر وإلا ما اشتهيت .. ما نويت .. ما يناسبني .... من هذا الكلام، هذا لا يُجزئه أبدا بل يجب عليه أداء الفرض على الفور ما دام قادرا على ذلك، وقد جاء في الحديث (من مات ولم يحُجّ لم يُبالي الله به أن يموت يهوديا أو نصرانيا ) من بلغ وكان قادرا فإن على والداه أن يُحجِجاه إذا كانا قادرَين أو مالكين للزاد والراحلة ، الزاد والراحلة، الراحلة التي تُبلِغه ، يعني عندك قيمة باص أو قيمة تذكرة أو زاد، الآن يمكن يكون قيمة حملة ولو أقلّ الحملات فإن الحجّ في حقه واجب فمن لم يحُجّ وقد تيسرت له السُبُل ... رُفع أذان العشاء.
/ طيب قول الله جل وعلا ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) ثمة إشكال في حديث (البِر يزيد في العُمر) وحديث (من أحب أن يُنسأ له في أجله ويُبارك له في رزقه فيصِل رحِمه) فما معنى هذا؟ يُنسأ له في أجله يعني معنى ذلك أنه يمكن يطول عمر الإنسان والله يقول ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)؟
جاء فيما روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (ذكرنا رسول الله ﷺ الزيادة في العُمر -الذي جاء في الحديث- فقال: إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما الزيادة في العُمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له فيلحقُه دعاؤهم في قبره ) فهذا معنى أنه يُنسأ له أنه يُنسأ له بهكذا، يعني يُبارك له في رزقه بأن يصِله نفع رزقه، و(يُنسأ له) أي: يكون له من الذرية الصالحة من يدعو له. -وكما ذكرت في الحلقة السابقة- أن الذرية الصالحة امتداد للعمل فينبغي للعبد أن يحرِص أن يكون له ذرية ، يعني بعض النساء تقول ما أريد أن أتزوج - يا مسكينة يصير عمرك قصير- أطيلي عمرك بالذرية الصالحة ، ولذلك النبي ﷺ قال (تزوجوا الودود الولود فإني مُكاثر بكم الأمم) ، وكذلك بعض الرجال قد يقول لك أنا ما أُريد أن أتزوج المرأة تُشغلني والأولاد يُشغلوني ...الخ بل بالعكس يأتيك أولاد يذكرونك ويمتد عُمُرك بهم ، كم من الناس صار لهم امتداد بأولادهم -بأولاد صالحين- وعليه أن يستعدّ لذلك بكثرة الدعلء فيدعو دوما أن يرزقه الله الأولاد الصالحين والذرية الصالحة ، وهذا دعاء إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يرزقه الذرية الصالحة ، وهو دعاء الأنبياء ودعاء الصالحين ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:٧٤] فينبغي للعبد أن يستحضر هذا المعنى في ذريته وفي عمله وفي ماله وذلك بأن يقِف من مالِه ما يكون امتدادا له فيجعل من ماله أوقاف خير <مسجد يُصلى فيه .. كتب عِلم .. مصاحف تُتلى > مثلا : يؤلِف ، بعض الناس رزقه الله مالا فيضع ماله في الخير، ليس عنده عِلم ، وبعضهم رزقه الله علما، لم يجمع مالا لكنه جمع علما فيكتب كُتبا ويؤلف فيها، تبقى هذه الكتب.
لما قدِم النبي ﷺ المدينة كان نزول ناقة النبي ﷺ في مكان ، هذا المكان اتخذ مسجد ، فإذا بهذا المكان الذي نزلت فيه، فيه خِرب وفيه قبور للمشركين وفيه مزارع -بساتين- للناس فأمر بالخِرب وأُخرجت -أُزيلت- وأمر بالقبور ونُبشت ، وأما المزارع والبساتين فقال  ثامنوني بها فقالوا : لا نريد ثمنها إلا من الله ، فتخيلي هؤلاء الذين جعلوا المسجد مسجد النبي ﷺ إلى اليوم يُصلى فيه .
ولا أدري هل قرأتم عن مسجد مكة -الحرم- حين كانت التوسعة الأخيرة -توسِعت الملك عبد الله- بعض الناس يملكون فيها دُورا، يملكون أبراجا، يملِكون عمائرا ، في المنطقة المركزية وأنتم تعرفون أثمانها كيف ، يصِل قيمة المتر في ذاك المكان إلى ستمائة متر -المتر الواحد- ومع ذلك بعض النلس أُريدها وقفا في المسجد فكان قيمة -تقريبا- تسعمائة مليون تبرعوا بها أصحابها قالوا هذه للمسجد - للحرم- فتخيلي كم من يُصلى فيها، من الذي يعلم هؤلاء إلا رب العالمين، فبقيت أوقافا.
عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لا يزال له نسبة أوقاف في جبل عمر، لو تقرئي مؤسسي جبل عمر ستجدين عثمان بن عفان رضي الله عنه -الصحابي الجليل- . فالإنسان إن استطاع أن يعم ل لنفسه خير ، يقِف وقفا، هو سيموت .. يذهب ماله لكن الوقف سيبقى ، يؤلف كتاب ، يكون له ولد صالح يمكن هذا الولد يكون مؤلفا .. يكون عالِما فيذكره الناس ويقولون غفر الله له ولوالديه ، فيُصبح الدعاء للوالد كذلك. فما يبخس الإنسان نفسه حقها بالعمل والتأليف وبقاء العلم الذي يؤثر.
من العِلم الذي يُؤثِّر أيضا تعليم الناس حتى القراءة والكتابة ، بعض الناس قد يستسهل ذلك. يُذكر في أحد العلماء أنه كان حريصا على شيء -إضافي على ما كان يعمل- كان يُعلِّم الصبيان الفاتحة، كان حريصا على تعليم الصبيان الفاتحة على أساس أنهم سيُصلُّون بها فيأخذ سبق أو قصب سبقِ تعليمهم الفاتحة يُصلُّون بها . أمر يسير أليس كذلك؟ على المُتعلِّم يسير أنه يعلِّم الصبيان. لما مات رُؤي في المنام فقالوا: بِمَ غفر الله لك؟ قال: بتعليمي الصبيان سورة الفاتحة . يعني كم له من الأعمال احتسابهةفي تعليم الصبيان سورة الفاتحة غفر الله له بها ، فهناك من لا يُعلِّم الصبيان يُعلِّم الكبار في السن أو الأمية، بعض الناس حريصة تُعلِّم الأمية ، تعليم الأمية صعب لكنها لو تعلّمت منكِ حرفا نفعها الله بذلك وبقي لك حظ بذلك إن شاء الله. ولاشك أن تعليم الصبيان ، الصبيان أطول عُمرا من الكبار فلذلك فإن في تعليمهم حظ لمُعلمهم ، طبعا التعليم المُحتسب ليس تعليم أنا مُدرِس وأعلِّم الناس. كل من كان مُحتاجا إلى تعليم أو عِلمٍ وعُلِّم احتسابا لوجه الله جل وعلا فإنه لا ينقص أجره شيء إذا عمِل المتعلِّم بعلمٍ تعلّمه منه فهما في الأجر سواء .
(***) هذا تفسير النبي ﷺ لحديث أبي الدرداء فيما رواه ابن أبي حاتم عنه أما ما يُذكر في ذلك من تفاسير أنه بالبركة في عُمره أما أنه يتغير عمره فلا أعلم ذلك إنما أعلم أنه  (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أما من يقول كما تقول أختنا (**) أنه لا يرد القضاء إلا الدعاء ، هذا كله من الأجل المكتوب ، هذا داخل في الأجل المكتوب لأنه لو كان فإن الله جل وعلا أخّره قدرا وإنما المقصود بذلك ما يقولوه الإنسان ، يقول أنا أريد أن أفعل شيئا غير أجلي ، أجلي الذي حُدّ أريد أن أفعل شيئا سوى ذلك فهذا الذي أخبر به النبي ﷺ.
/ يعني خبير بما أنتم عاملوه من كان من أهل الإحسان فإن الله يهديه إلى عمل أهل الإحسان ، ومن كان من أهل الإساءة فإن الله يهديه إلى عمل أهل الإساءة ، من كان من أهل الجنة فإن الله يهديه إلى عمل أهل الجنة، من كان من أهل النار فإن الله يهديه إلى عمل أهل النار ، وهداية الله جل وعلا له إلى عمل أهل النار لا يعني أن الله يُكرهه على ذلك ويُجبره ويُسييره عليه تسييرا وإنما ذلك من علم الله جل وعلا وخبرته فيه لا يؤثِّر عليه ، وإن قال إني أنا أعمل ذلك العمل الذي هو من عمل أهل النار لأن الله قضاه عليّ وقدّره فإنه يُقال له : هل عندك عِلم بأن الله قضى عليك وقدّر؟ أحسِن وانظر هل تُهدى للإحسان أو لا ؟ فإذا أحسن فإنه سيُهدى إلى الإحسان ولا يصرِفه عنه صارف.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يفتح قلوبنا وأن يُصرِّفها على ما يُرضيه، وأن يجعلنا وإياكم من الذين طال عُمرهم في الإسلام وحسُن عملهم فيه، وأن يختِم لنا بخاتمة خير وأن يصرِف عنا كل شر ، وأن يُأمِننا في أوطاننا ، وأن يُصلِح قلوبنا ، وأن يُصلِح أولادنا وأزواجنا وذرياتنا وخدمنا وبيوتنا وجيراننا وأموالنا وأهلنا، وأن يُصلِح ولاة أمورنا وأن يجعل ولايتنا فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، وأن يُصلِح بطانتهم ، وأسأله سبحانه وتعالى أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا، وأن يحفظ بلادنا من كل ماكر وحاقد ، وأسأله سبحانه وتعالى أن يصِرف عن المسلمين ما أصابهم من فتنة وبلاء وداهية من حرب ومكر من أعدائهم الداخلين أو الخارجين ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يُأمِن إخواننا في فلسطين وفي الشام وفي اليمن وفي مصر وفي كل مكان، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بنواصيهم للاتفاق على سُنة محمد ﷺ وأن يهديهم لتحكيم شرع الله جل وعلا والعمل وفق كتابه وأن يرُد كيد الكائدين من الخونة الكافرين والرافضة الماكرين والمنافقين المخادعين، ونسأل الله سبحانه وتعالى ألا يُسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا . اللهم يا أرحم الراحمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ادفع عنا البلاء والوباء وخذ بنواصينا للبِر والتقوى وأصلح بنا واهدنا واهدِ بنا ، اللهم يا حي يا قيوم علمنا ما ينفعنا وارزقنا العمل بما علمتنا ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق