الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

مفاتيح تدبر القران / د.عمر المقبل


 بسم الله الرحمن الرحيم
.... أقرب إلى التعبير الذي نزل به القرآن الكريم فإننا سنتحدث بحول الله تعالى عن المغاليق أو دعونا نسميها الأقفال كما قال الله تبارك وتعالى في الآية السابقة : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }

أيها الأخوة حينما يقرأ المؤمن في سورة مكية وهي سورة المؤمنون : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وهي خطاب للمشركين وحينما يقرأ المؤمن في سورة مدنية وهي سورة النساء { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وحينما يقرأ المؤمن أيضاً في سورة مدنية أخرى تتحدث عن المنافقين وفي سورة النساء كذلك يُدرك أن التدبر أمر يُخاطَب به جميع الناس مسلمهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم، منافقهم والسالم منهم من النفاق، كلهم إن كانوا يريدون سلامة قلوبهم وصحة دينهم والحرص على الإستقامة على أمر الله عز وجل فهم مطالبون جميعاً بأن يتدبروا .
 وحتى ينفتح الحديث نتذكر جميعاً قصة جبير بن مُطعِم رضي الله عنه قبل أن يسلم حينما جاء إلى المدينة من مكة يطلب أسيراً له بعد غزوة بدر قال : فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة الطور -ومن يحفظها منكم فليستعرضها سريعاً- حتى يصل إلى ذلك السؤال العقلي الذي يقطع كل إيراد يمكن أن يرد على قلب المُشرك بالله عز وجل { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } قال جبير وهو بعد لم يسلم : "كاد قلبي أن يطير" وجاء في بعض الروايات -وهذا هو الشاهد الذي أريده- قال : "فكان ذلك أول ما وقع الإسلام في قلبي" سبحان الله آية واحدة كانت سبب في انتقاله من الكفر إلى الإسلام .
 أحبتي: قبل أن ندخل في المفاتيح أود أن أوضح معنى التدبر وما المقصود به حينما نتحدث عنه وهل هناك فرق بينه وبين التفكر؟ فالتدبر حينما ننظر في معنى هذه الكلمة لغوياً ونجردها من اللواحق التي لحقت بها نجد أنها مؤلفة من ثلاثة أحرف : الدال والباء والراء، ودُبُر الشيء يدل على كونه يأتي في الخلف وفي الأخير وهذا هو معنى التدبر عندما قال بعض أهل العلم : إن التدبر هو تصرف القلب بالنظر في العواقب ، وهذا معنى أنه يأتي مُتأخراً ليُثمر ثمار التدبر إما ببكاء أو بسجود أو بتحسن السلوك أو باقشعرار الجلد أو بغير ذلك من العلامات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى عن أهل الإيمان حينما يسمعون القرآن الكريم كما قال الله عز وجل : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ  ثُمَّ } ثم حين يسمعون الوعد والطمأنينة { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ } .
أما التفكّر: فهو أمر يسبق التدبر بمعنى -كما يعبِّر عن ذلك أهل العلم- أن التفكر هو: تصرف القلب في النظر في الدلائل بمعنى أنك تحاول أن تتأمل في هذه الألفاظ التي تمر بك وهذه الكلمات التي تتلوها على ماذا تدل ؟ وإلى ماذا تسوق ؟ وعن ماذا تتحدث ؟ وماذا يُراد منك أنت حينما تقرأها ؟ فهذا التفكر يُورث بعد ذلك تدبراً ثم هذا التدبر يورث أعمالاً من أعمال الجوارح أو أعمال القلوب .
دعنا أيها الأخ المبارك قبل أن نبدأ بالمفتاح الأول نتأمل قليلاً وعلى وجه الاختصار والسرعة في تأثر الجنّ بعد أن سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما سمعوا من القرآن في جلسة واحدة -أيها الإخوة- فقط أنطلقت منهم تلك الكلمات العظيمة التي تدل على استماع جيد وعلى تأثر عظيم استمع ماذا يقول الله عز وجل في قصة استماعهم لنبينا عليه الصلاة والسلام مع أننا نُوقِن أن الرسول ما كان يعلم بهم بدليل أنه قال في أول سورة الجن : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } إلى آخر السورة، وفي آواخر سورة الأحقاف يقول الله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ } انظر كيف المفاتيح هذه التي أشتغلت بالفطرة { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ*قَالُوا } استمع إلى عظمة الخطاب وهم في جلسة واحدة فقط أنظر كيف أثّر فيهم هذا الوحي وهذا النور { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } هذه أيها الأخوة تقدمة سريعة بين يدي الحديث عن هذه المفاتيح والتي ابتدئ فيها بالمفتاح الأول.
 - المفتاح الأول : للإقبال على القرآن وتدبره والعيش معه أن تدرك كيف هي حياتك بدون القرآن أو أن تحاول أن تتأمل كيف هي حياتك بدون القرآن ، أنت بدون القرآن كما دلّ على ذلك القرآن أنت ميّت وأعمى وضال وخذ ما شئت من الصفات وإن شئت فدعنا نأتي بها بطريقة إيجابية أنت مع القرآن حي ومُبصِر ومُهتدٍ وبدون ذلك سيأتيك من أضدادها بحسب بُعدك عنها، استمع ماذا يقول الله عز وجل : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } بأي شيء يارب ؟ { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } ويقول تعالى : { وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } تأمل في دلالة كلمة (الروح) على الحياة { رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } هذه دلالة الحياة { مَا كُنْتَ تَدْرِي } هذه دلالة العِلم { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } - اللهم اجعلنا منهم يارب العالمين واجعل لنا من هذا النور أوفر الحظ والنصيب - { وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
تأمل أيضاً أيها المبارك حتى يتضح لك هذا المفتاح في كيف وصف الله تعالى المُعرضين عن هذا الوحي وأكتفي بهذا الوصف الوحيد الذي يكفي تأمّله لاستبشاع أثر البُعد عن القرآن الكريم يقول الله تعالى في أواخر المدثر ناعياً على الكفار إعراضهم عن هذا الكتاب : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } كيف شبههم ربك ؟ { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ } جمع حمار { حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } من سبع أو أسد يلحق بهذه الحُمر تخيل هذه الصورة الآن وأنت تستمع لي، تخيل صورة حمر يلحق بها أسد أو سبع ضار يريد أن يفترسها هذه تماماً هي صورة المُعرِض عن القرآن، قال أهل العلم كالعلامة الشنقيطي وغيره : "وكل معرض عن القرآن حتى لو كان من أهل لا إله إلا الله فله نصيب من هذا الوصف بقدر إعراضه عن هذا القرآن" فهل ترضى أيها المبارك وهل ترضين أنتِ أيها الأخت الكريمة بهذا الوصف لا أظن .
 المفتاح الثاني: الذي يعين على تدبر القرآن والعيش معه هو: الاغتباط بالقرآن والاغتباط مأخوذ من الغِبطة..الفرح..السرور..الشعور بأنك وأنت تتلوا كتابك بأنه لا أحد أعظم نعيماً منك ودليل هذا المفتاح قوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } وفي قراءة أخرى { هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ }.
 دعني أنا وأياك وأنتِ أيتها الأخت المباركة نتصور أن مصرفا من المصارف في بلادنا اتصلوا عليك الآن وقالوا لك : أنت عامل مُتميز وقد وقع الاختيار بمناسبة هذا الشهر الكريم أو أردنا أن نضع جائزة متميزة ونريد أن نفاجئ عملاءنا الكرام بأنواع من الحوافز والمشجعات التي تجعلهم يبقوا معنا فقررنا أن نمنحك عشرة ملايين ريال بالله، عليك ماهو شعورك في تلك اللحظة ؟ مبسوط صح طيب ضاعفها إلى مائة مليون شعورك ؟ أعظم، يمكن بعض الناس قد يُغمى عليه من الفرح خاصة مع الخسائر التي لحقت بالناس في الأسهم وارتفاع الأسعار وغير ذلك من العوارض، الله جل جلاله يقول لك : إن فضل الله ورحمته -كما فسر ابن عباس وغيره من السلف- القرآن والإسلام { هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } فإذا كانت هذه مشاعرك أو هذه مشاعرك أيها الأخت حينما يأتيك مائة مليون، مائة مليون ماذا تشكِّل بالنسبة لأرصدة الناس في الدنيا ؟ ولا شيء ومع ذلك كتاب الله عز وجل -ولا مقارنة لكن هذا المعنى للتقريب- ولهذا لما جاء أعرابي إلى عمر بن الخطاب وكان يلي إبل الصدقة فقال : أبشر يا أمير المؤمنين لما كثُرت الإبل وكانت نظرة الأعرابي إلى كثرة الإبل في مصلحة المسلمين فاستدل بهذه الآية الكريمة وقال : أبشر يا أمير المؤمنين { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } قال : كذبت -يعني بلغة الحجاز أخطأت- هذه الإبل هي مما نجمع إنما فضل الله ورحمته هو القرآن .
 أيضاً من المفاتيح وهو المفتاح الثالث : أرجوا أن نتنبه له جيداً أيها الأخوة ونحن في هذا الشهر قد يكون الإقبال أكثر من غيره ، المفتاح الثالث وهو من أعظم المفاتيح أن تدرك جيداً وأن تستشعر أن الله سبحانه وتعالى إنما خطاب الوحي يتوجّه إلى القلب، الخطاب يتوجه إلى القلب بمعنى أن القرآن أول ما نزل إنما نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا له دلالة، حينما نتأمل مثلاً في حديث أنس في صحيح مسلم حينما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يلعب وهو صغير في بادية بني سعد فيأتي جبريل فيأخذه فيشق صدره ويأخذ قلبه ثم يغسله بطست من ذهب بماء زمزم ثم يعيده حتى يقول أنس فرأت أثر المخيط في صدره على ماذا يدل هذا ؟ يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مُهيأ منذ طفولته من أجل أن يتلقى وحي السماء ، حظ الشيطان الذي يوجد في قلب كل آدمي قد نُزع من قلب النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتهيأ لاستقبال الوحي وهذا يقودنا أيضاً إلى نقطة أخرى تتعلق بالقلب، تأمل في جميع الجوارح وفي جميع أعضاء البدن لن تجد في القرآن الكريم أكثر تكراراً من الحديث عن هذه المضغة ولذلك حتى في موضوع التدبر يقول الله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) لم يقل الله تعالى على العيون لأن الإنسان قد يكون نير البصيرة وإن كان قد فقد البصر، ولم يقل الله سبحانه وتعالى يتحدث عن السمع مع أنه هو آلة تلقي الوحي لأن الأمر كله يدور على القلب ، ثم إن أعظم أثر للقرآن إنما هو في القلب لأن القلب إذا صلح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين : ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ) .
 المفتاح الرابع : افتح صفحة القلب قبل صفحة المصحف ، ما معنى هذا ؟ حينما نريد أن تفتح القرآن الكريم فإنك بحاجة أيها الأخ المُبارك وأيتها الأخت المباركة أن تتهيأ لتلقي أوامر الله سبحانه وتعالى وأنت على استعداد أن تُنفِّذ كل ما يأتيك من أوامر ومن نواهي أما الأوامر فهي مبنية على القدرة والطاقة وأما النواهي فلا مثنوية فيها ولا خيار فيها تُترك نهائياً ، قال ابن مسعود كما يروى عنه : "إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فأرعي لها سمعك" أنت المُخاطب بها لا زيد ولا عبيد، ولا تتلفت يمين ويسار أنتِ المخاطب بهذه الآية وأنتِ المخاطبة بهذه الآية، ويقول الحسن مبيناً حالة من كان قبله من السلف مع أن الحسن مات سنة (١١٠) ومع ذلك كان يُدرِك نوع من الخلل بدأ يسري في الأمة من جهة الحرص على كثرة التلاوة دون الحرص على التعمق في فهم القرآن، فماذا يقول الحسن مُبيناً سبب تميّز ذلك الجيل الذي سبقه- وهو جيل الصحابة- يقول : إن من كان قبلكم يرون القرآن رسائل إليهم من ربهم -ولله المثل الأعلى- ماذا ستصنع أنت الآن وأنت تعمل في وزارة من الوزارات لو جاءتك رسالة جوال الآن أو برقية عاجلة إلى الأخ الفلاني مطلوب منك كذا وكذا وكذا وكذا، دعنا نرتقي فوق الوزير دعنا نقول جاءتك رسالة من ولي الأمر -الملك وفقه الله- ماذا ستصنع بهذه الرسالة؟ ما هو شعورك كيف تتعامل معها؟ تقول اصبر إن شاء الله هو يأمر بكذا بعد العيد المرة الثانية ولعلنا نشوف نتأمل ؟ لا ستجدك (مختب) كما يُقال وحالتك حالة وتستنفر جهودك ومن حولك من أجل أن تُنفذ محتوى هذه الرسالة سواء أمراً أو نهياً -ولله المثل الأعلى- هذا بشر لا يملك هو لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره فلماذا أيها الأخوة نتعامل نحن مع أوامر الله ونواهيه بشعور أنا أجزم أن كثير من المسلمين يتعاملون به أقل من هذا بكثير ولهذا لا نعجب حينما لا نجد ذلك التأثر العظيم في تلاوتنا لكلام الله سبحانه وتعالى، أصبحت حالتنا معه نقرأ للتبرك -إلا من رحم الله عز وجل- ولهذا أيها الأخوة لم تكن قراءة القرآن وحدها كافية في الخوارج بل كانت قراءتهم وحدها فقط من دون تدبر ولا تأمل ولا وصولٍ للقلب كانت هذه مذمة عليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحقر أحدكم صلاته إلى صلا تهم) ما يخاطبنا، يخاطب الصحابة الذين كانوا عُبَّاداً بالليل ورُهباناً في الليل وفرساناً في النهار ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لهم : ( يحقر أحدكم صلاته إلى صلاته يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ) لا يصل إلى قلوبهم، فهل ترضى أن تكون كهؤلاء ؟
والله تعالى نعى على أهل الكتاب فقال : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } لا يعلمونه إلا تلاوة فقط فانتبه أيها المبارك. وهنا أحيل لأن الوقت قصير إلى مقدمة أول كلام لابن القيم في كتابه الفوائد فقد تكلم على هذا المعنى بكلام عظيم وبإختصار خلاصة الكلام على هذا المفتاح افتح صفحة المصحف قبل صفحة القلب أن تتهيأ وقبل أن تفتح المصحف هيء نفسك وقل ولو تخاطب نفسك أو هيء نفسك لأن تقول يارب أنا مستعد خلاص أي أمر يأتي سأنفذه حسب قدرتي وطاقتي وأي نهي يأتي سأنتهي عنه بإذن الله.
 والله الذي لا إله غيره هذا المفتاح فقط لو تعاملنا به بصورة واقعية والله لتغيرت حياتنا، والله العظيم وسأذكر -إن شاء الله-  نماذج واقعية على هذا.
 المفتاح الخامس من مفاتيح التدبر : هي أن نقرأ القرآن على الوجه الشرعي ، الله جل وجلالة لعظمة كتابة لم يترك لنا حتى أن نجتهد في طريقة القراء بل بيّنها لنا فقال : { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } وقال سبحانه : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } وقال سبحانه وتعالى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } إلى آخر الآيات الكريمة.
 وإذا تأملت في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وجدت أنه كان مُطبقاً لذلك عملياً يقول أنس -كما في البخاري- : (كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مداً بسم الله الرحـمن الرحيـم يمد بها صوته) حتى قال يمد الرحـمن ويمد الرحيـم، ويقول ابن أبي مليكة وهو يتحدث عن شيخة وإمامه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : (صحبت ابن عباس في السفر من المدينة إلى مكة أو من مكة إلى المدينة قال فكان إذا قام الليل يقرأ القرآن حرفاً حرفاً حتى أسمع لصوته نشيجاً وبكاء من قراءة القرآن) ويصف أحد أصحاب الفُضيل ابن عياض قراءته فيقول : كانت قراءته - إسمع لجمال الوصف - "كانت قراءته بطيئة شهية حزينة كأنما يخاطب إنساناً".
 أخي وأختي هل نتوقع لإنسان يقرأ القرآن بهذرمة خاصة للذين هم في بدايات القراءة دعك من الذين لهم سنين طويلة حفظوا القرآن وعلِموه ودرسوا مسائله قد يكون استيعابهم هذا وارداً وعلى هذا يُخَرَّج عمل السلف في رمضان لكثرة ختماتهم، لكن أنا أتحدث عن إنسان لا زال في بداية الطريق أو لا زال لا يحفظ القرآن أو لا يعي كثيراً أو لا يحفظ كثيراً من الآيات هل يمكن أن يعي هذه المعاني؟ والله جل جلاله يقول : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } هل يمكن أن يتأتى هذا القول الثقيل لإنسان يقرأه بسرعة؟!
 وإليكم برهان ساطع جداً على هذا المعنى وهو ما نتحدث عنه في المفتاح السادس .
 المفتاح السادس : التكرار ، نحن قلنا التلاوة وعدم العجلة وعندنا شيء أخصّ من التلاوة وهو حينما تجد قلبك مع آية من الآيات فعليك أن تكررها لأن الغرض من قراءة القرآن هو صلاح القلب ، فإذا وجدت قلبك قد تحرّك أو تأثّر مع آية واحدة فكررها وإليك البرهان يقول أبو الدرداء رضي الله عنه كما سنن ابن ماجه وغيره وقد صحّح إسناد الحديث ابن حجر وابن القيم والبوصيري وغيرهم من أهل العلم يقول : قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يرددها ما هي ؟ { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كنت أتأمل وأقول عجباً ما بقي على السورة إلا آيتين فقط وتنتهي ثم تبدأ سورة الأنعام فقلت: أما والله لو كان أحدنا يقرأ هذه السورة حتى ولو تحرّك قلبه عند هذه الآية ماذا سيفعل ؟ يقول كمل يا رجل حتى تبدأ بالأنعام هذا لسان الحال .. لماذا ؟ لأن همّ أحدنا هو كم قرأت وليس كيف قرأت، وهمّ أحدنا متى أصل إلى آخر السورة وليس كم فهمت من هذه السورة.
 وخذ برهاناً ساطعاً آخر من حياة نبيك صلى الله عليه وسلم آية { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } في سورة المزمل، وسورة المزمل على إختلاف المفسرين في أوائل ما نزلت لا تتجاوز الترتيب رقم أربعة ومع ذلك يُؤمر نبيك صلى الله عليه وسلم بأن يرتل القرآن ترتيلاً كم الذي نزل قبل المزمل -على اختلاف الأقوال- (اقرأ) وهذا بالاتفاق و (نون) و (المدثر) كما قلت لكم هناك خِلاف هل هي الرابعة أم الثالثة لكن دعونا نفترض أن هذه هي الرابعة المزمل، في ليلة يقوم فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنصف الليل سيُردد اقرأ والقلم والمُدثر، كم هذه في قراءتنا نحن المعتادة كم تحتاج من دقيقة ؟ سبع أو خمس دقائق صح. أما نبيك صلى الله عليه وسلم فهو يرددها ويرتلها ويعيش معها ، أرجو أن يكون هذا المعنى واضحاً .
 أما المفتاح السابع فهو من مفاتيح التدبر : سماع القرآن، الإنسان منا أحياناً قد يأتيه نوع من الفتور أو نوع الضعف أو شيء من هذا القبيل يعني أنه يشعر بأنه بحاجة من أن يسمع القرآن من غيره، فمن المفاتيح التي دلّت عليها السنة لتدبر القرآن والعيش معه أن تسمع القرآن مِن مَن تتأثر به، والناس يتفاوتون في ذوقهم بعضهم يعجبهم القارئ هذا وبعضهم يعجبه القارئ هذا، وأصل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود : ( اقرأ علي، قال : يا رسول الله أأقرأ عليه وعليك أنزل قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، قال : فأفتتحت سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } قال : فالتفت فإذا عيناه تذرفان) صلوات الله وسلامه عليه. هذا دليل على أن التأثر بالقرآن يتأثر أحياناً من السماع من الغير وهذا أحياناً أمر مُجرب ومعروف لكن المُهم أن يكون الإنسان مُستمِعاً جيداً لا يُشغِّل القرآن وقلبه هنا أو يمين أو يسار أو يعني لا يُلقي لكلام الله سبحانه وتعالى بالاً .
 المفتاح التاسع : هو النظر في سِيَر الصالحين، وهذا شيء مُجرب فحينما تمرّ بك مواقف للصالحين من سلف هذه الامة أو من حاضرها فإنك تجد أنك حينما تمرّ بهذه الآيات التي تأثروا بها تتذكر تلك المواقف فتكون مواقفهم في الواقع كالتفسير العملي لما تقرأه خذ مثلاً حينما يمرُّ بك موقف عبد الله بن عمر رضي الله عنه مرة طلب ماء في وقت الصيف -وقت قارّ- فأُوتي إليه بماء فشرب هذا الماء وكان فيه برودة فبكى رضي الله تعالى عنه وعن أبيه فقيل له : ما يُبكيك يا أبا عبد الرحمن قال : تذكرت قول الله عز وجل : {وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ } انظر الماء لوحده ثم قال : { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } فلما بدأ بالماء -أنا أوضح استنباط ابن عمر- قال بن عمر هو نفسه : "فعلمت أنهم لم يشتهوا شيئاً أحب إليهم من الماء" الله أكبر انظر إلى هذه القلوب الحية واحد مثل ابن عمر يتذكر نداء أهل النار لأهل الجنة { أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } قالوا : { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } سبحان الله.
 حينما يمرّ بك مثلاً موقف ابن المُنكدر مع أبي حازم -وهما من كبار التابعين- يقول : جاء في ترجمة أبي حازم في حلية الأولياء أنه قام ليلة فاشتد بكاؤه في صلاة الليل، اشتد بكاؤه جداً حتى خاف أهله عليه فقالوا : يا أبا حازم يا أبا حازم، مافي فائدة الرجل قد أنهمك ودخل في نوبة من البكاء عظيمة تأثّرا بما يقرأ في كتاب الله سبحانه وتعالى، فقالوا : ليس له إلا صاحبه محمد بن المنكدِر -أبو بكر- وهو من خيار التابعين فلما جاء إليه قال : يا أبا حازم إن فضل الله عظيم ورحمته واسعة وبدأ يحاول أن يُرجيه ويفتح له أبواب الرجاء فقال : ويحك يا أبا بكر أتدري ماذا أقرأ إنني أقرأ قول الله تبارك وتعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } فبكى معه محمد بن المنكدر.
انظر إلى القلوب الحية الآية في الكفار ومع ذلك تأثروا هم -رضي الله عنهم- كأنهم بلسان الحال يقولون : والله ما يؤمننا أن نأتي يوم القيامة ويأتي لنا من الله عز وجل مالم نكن نحتسب.
 أنا أقول أيها الأخوة هذه مواقف والوقت يضيق عن ذكرها لكنني أُحيل الأخوة على كتابين حرِصت أن أحضرهما من أجل من أراد أن يمرّ على جملة من المواقف فبإمكانه أن يستفيد من هذين الكتابين: الأول هو كتاب اسمه [دموع القراء لمحمد الرملي] وهذا الكتاب جمع جملة من المواقف للسلف الصالح رضي الله عنهم ورحمهم التي حصل فيها تأثّر، ومن المزايا في هذا الكتاب أنه ينقل كلام بعض أهل العلم على الآية حتى يتضح لك معناها وكيف تأثروا بها.
 الكتاب الثاني وهو كتاب لابن أبي الدنيا وهنا أرجوا من أخوتي طلبة العلم أن لا يُدقِقوا كثيراً في الأسانيد لأن هذه مواقف لا نحتاج فيها أن نُثبت حكم شرعي حلال أو حرام يكفي أن نعتبر بمثل هذه المواقف وابن ابي الدنيا -رحمه الله- معروف في هذا الفن عند أهل الحديث لكن الذي يُهمني أن نستفيد من المواقف الموجودة في هذا الكتاب اسمه [الرقة والبكاء] فقد عقد فصلاً كاملاً ومُستقلاً لذكر مواقف السلف رضي الله عنهم ورحمهم في بكائهم مع كتاب الله عز وجل.
 تذكرت -أيها الأخوة- فيما يتعلق بالمفتاح السابق أو الذي قبله والمتعلق بالتكرار حتى أُبين أثر هذا المفتاح على النفس يقول أحد الشباب -وهذا معاصر ويستنشق الهواء الذي نستنشقه حتى لا يقول أحد السلف بيننا وبينهم مفاوز لا- أنا أحرص أن أذكر جملة من المواقف عن المعاصرين هذا شاب من الأخيار الفضلاء لكنه من الناس الذي يقول : أشعر اني أجاهد نفسي جهاد عظيم على قضية التأمل والتأثّر بكتاب الله سبحانه وتعالى فأجد نفسي يعني ما بعد تقدمت وأغبِط رجلاً - وهذا الشاهد الذي أريده - عندنا في المسجد شبه عاميّ أو عاميّ  بل عليه بعض مظاهر المخالفات الشرعية ولكنني والله سمعته أكثر من مرة يمرّ في حالات من البكاء من تكراره لبعض الآيات والله أشعر أن نعيم الدنيا جُمع في قلبه وهو يرددها يقول فرمقته مرة واختبأت خلف أحد الأعمدة لأنتظر ل-أن الرجل بعد أن ينصرف الناس يبقى في المسجد ويبدأ يقرأ في القرآن ثم إذا جاءت بعض الآيات -آيات معينة- بعض الآيات له فيها سبحان الله تأمّل خاص فيبدأ يرددها حتى يبكي بكاء تتأثر معه الأعمدة يقول : فاجترأت على هذا الرجل مرة من المرات وقلت له يا رجل : أنا مرة أختبأت وسمعتك تبكي أرجوك أخبرني أنا أتمنى أن أبكي هذا البكاء الذي تبكيه والله لأني لأشعر بلذته وأنا لا أبكيه فكيف وأنت ؟ قال : والله يا ولدي انظر ما عندي كبير علم ولكنني إذا مررت بآيات فيها تعظيم الله عز وجل رددتها حتى ينفتح لها قلبي ، فيقول هذا الأخ : الآية التي سمعته يرددها في آخر موقف له هي قول الله سبحانه وتعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } تدري ماذا يقول هذا الرجل العاميّ يقول : لا والله يارب ما فيك شك لا والله يارب ما فيك شكة، ويبدأ يردد الآية هذه حتى ينخرط في نوبة من البكاء عجيبة يتأثر بها من يسمعه. لنعد إلى مفاتيحنا .
 المفتاح العاشر : هو قراءة ما يُعين على فهم الآيات نحن نمرّ في بعض الآيات -وهذا ليس كثيراً- وهذه من نعمة الله عز وجل علينا أن جعلنا عرب مسلمين عربا نفهم غالب القرآن لكن في بعض الآيات يحتاج فهمها إلى إدراك معنى الغريب مثلاً نقرأ في سورة الفلق { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } ما الغاسق ؟ وما الوقب ؟ وما النفاثات؟ ..إلخ، فهنا على الإنسان منّا إلى أن يلتمس هذا المعنى حتى يُعينه هذا على أن يفهم ما يقرأ في كتاب الله سبحانه وتعالى ويتدبره، ومن الكتب المرشحة في هذا وهو بيان الغريب وهي سهلة ولعله موجود في بعض المساجد زبدة التفسير للأشقر وهذا الكتاب من أحسن مزاياه العناية ببيان الغريب وهناك كتب أخرى في التفسير لكنها أوسع منه وكل إنسان أدرى بحاجته هناك مثلاً ممكن يترقى بعدها إلى تفسير السعدي إلى تفسير ابن كثير أو أحد مختصراته .
 المفتاح الحادي عشر وهو ماقبل الأخير: أن نبدأ أيها الأخوة إذا أردنا أن نتدبر وأن نعيش مع القرآن جيداً فلنحاول أن نبدأ بالمفصل يعني نركِّز التدبر في المفصل فما بعده، هذه المراحل الأولى للتدبر والمراحل الأولى في التمرّن، ما نبدأ في البقرة مثلاً وليش هذا نهياً، لكن هذا توجيه مبنياً على تتبع لآثار السلف رضي الله عنهم وأرضاهم.
 جاء عن ابن مسعود أن البقرة هي سنام القرآن ويُروى في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لا يصح ، طيب السؤال: الإنسان حينما يريد أن دعونا نقول يصعد إلى شيء يبدأ من فوق أو يبدأ من تحت؟ من تحت والسنام لا يُوصَل إليه إلا بعد أن يتدرج الإنسان ويمر بما هو دونه، لا أعني في الرتبة فكلام الله سبحانه وتعالى عظيم ولا شك أن بعضه يتفاضل لكنني أتحدث عن نقطة مُعينة ومُحددة بالذات.
 لِمَ المُفصَّل ؟ ولماذا ركزت على المُفصَّل ؟ فأقول ركزت على المُفصّل لأنه الذي ركّز عليه سلف هذه الأمة الذين أحياهم الله بالقرآن فأحيوا به الدنيا ، يقول عمر رضي الله عنه -كما روى عبد الرزاق في مُصنّفه- يقول : "من كان منكم مُعلِّما صبيه القرآن فليعلمه المُفصّل" هذه واحد.
 البراء بن عازب -كما في البخاري- في الصحيح في كتابه فضائل القرآن في فضائل القرآن في صحيح البخاري يقول -لاحظ التوقيت كيف وقّته بهذه الطريقة وهي عجيبة- يقول : "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كنت قد قرأت المُفصّل -يعني حفظت المُفصّل-"  طيب لماذا يا البراء ركّزت على المُفصّل ؟ ولماذا عمر ركّز على المُفصّل ؟ وهل هذان فردان ؟
 لا استمع ماذا يقول ابن عباس يقول : "مات النبي صلى الله عليه وسلم وكنت قد قرأت المُحكم -يعني المُفصّل-"
 إلى ماذا يشير قول عمر وهو من فقهاء الصحابة والبراء كذلك وابن عباس وهو الذي علم التأويل كلهم يدورون على قضية المُفصّل والسبب عند التأمل ستجد أن المُفصّل يتميز بمزايا ثلاث ظاهرة، وقد توجد مزايا ولكن هذه ظاهرة :
 الأمر الأول في المُفصّل : أن فيه تركيزاً عظيماً على قضية التوحيد وما يتعلق بقضية تعظيم الله عز وجل ونفي النقائص عنه وإظهار قدرته في خلق السماوات والأرض والأنفس وغيره .
 الأمر الثاني مما تميز به المُفصّل  : الكلام الكثير جداً عن اليوم الآخر بمقدماته وما يتعلق بالبرزخ وما بعده مثل : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } هذه مُقدمة الحياة البرزخية. كذلك الحديث عن البرزخ في أواخر سورة الطور مثلاً.
 الحديث عن اليوم الآخر شيء عظيم جداً ولو تأملت سور جزء عمّ وتبارك -بالذات- وكذلك إذا انتقلت إلى جزء الذاريات لوجدت هذا أمراً واضحاً .
 الميزة الثالثة في المُفصّل  : أنه ركّز كثيراً في الحديث عن الأخلاق، عجيب الأخلاق ما علاقة الأخلاق بما نحن فيه ؟
فأقول بلى ، لا يمكن لأحد أن تنجح دعوته في الناس وهو سيء الخُلُق لا يمكن للناس أن يتقبلوا دعوة أحد وهو ضيق العطن نزِق الأخلاق يؤذي عباد الله عز وجل أو يمنعهم حقوقهم ولذلك تلاحظ مثلاً:
 قالوا : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } 
في سورة الحاقة { إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ } انظر الإحسان إلى الناس
في سورة الإنسان { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ } ماذا ؟ عدوا معي :{ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا } وماذا أيضاً { وَأَسِيرًا } الأسير مسلم ؟ لا ، ومع ذلك يمتد نفع أهل الإسلام حتى إلى الكفار ليدركوا أن دين الإسلام دين رحمة، هداية للعالمين، رحمة للعاليمن رحمة بالخلق وحرص على هدايتهم . وإذا تأملت أيضاً في سورة الهمزة، في سورة الماعون، في سورة الضحى، في سورة المطففين -في أواخرها- في سور كثيرة، في سورة عبس ستجد هذا المعنى جلياً واضحاً.
 إذاً أنا مُوقِن أن من ركّز ولو أننا جعلنا مشروعاً ونحن في أوائل الشهر ألاّ يمر شهر رمضان إلا وقد تدبرنا المُفصّل جيداً من سورة (ق) إلى الناس -على قول أكثر أهل العلم- أنا متأكد أننا سنخرج بكنز هائل جداً من التربية الإيمانية لا يحققه لنا شيء غير القرآن الكريم .
 المفتاح الأخير الثاني عشر من مفاتيح التدبر : إثارة التساؤلات ما المقصود بإثارة التساؤلات ؟ تمرّ بك أنت أيها المبارك آيات كثيرث أحياناً تقول لماذا جاءت الآية بهذا الأسلوب ؟ ولماذا جاء الحديث عن هذه القصة بهذه الطريقة ؟ لماذا أُجملت القصة هنا وفُصِّلت في موضع آخر ؟ ما السبب في هذا التعبير بهذا اللفظ ؟
مثلاً على سبيل المثال خذوا نموذجاً على ذلك سورة الإنسان مثلاً : حينما تتأمل في وصف يوم القيامة في سورة الإنسان ستجد أنه وُصِف بثلاثة أوصاف لا توجد في غيره من القرآن [عبوس وقمطرير وثقيل] ما السر يا ترى في اختيار هذه الألفاظ في هذه السورة بالذات ؟ حينما تقرأ في سورة الإنسان ستجد أن أكثر سورة في القرآن تردد فيها لفظ الإنسان هي سورة القيامة مع أنها وجه ونصف فقط ما السر في تركيز الكلام على الإنسان ؟
في سورة مريم هي أعظم وأكثر سورة في القرآن تكررت فيها مفردة الرحمة ستة عشر موضعاً تقريباً ما السر في تكرار هذه اللفظة؟ من أولها { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } إلى أن تمر بمفردة الرحمن والرحمة وغيره إلى أن تصل إلى { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} وقل مثل ذلك، ضع عندك تساؤلات.
 ودعوني أذكر لكم نماذج أختم بها من فوائد وبركة إثارة التساؤلات :
هذا شاب من الشباب كان مبتلاً في الوقوع في بعض المعاصي ودعوني أخصّ وأقول كما تحدث هو ببعض الفواحش وكان يظن أنه لا ينجو من هذا الشَرَك وأنه شاب ولا يمكن أبداً أن يتخلص فلما أراد الله عز وجل هدايته -انظر إلى بركة القرآن الكريم أيها الأخوة- وكيف أن تدبر آية واحدة وإثارة التساؤلات حولها يقلب حياة الإنسان ولا نشك في هذا ، الله يقول عز وجل عن هذا الكتاب : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله } ويقول الله سبحانه وتعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ } لم يُذكر الجواب والمعنى لكان هذا القرآن، ولهذا كان بعض السلف يقول لما ذُكر له أن رجلاً كان مُغمى عليه فترة طويلة فلما قُرئ عليه القرآن بالرقية أفاق ورجع إلى حالته قال : وما تعجبون والله لو قيل لي أن القرآن قرئ على رجل ميت فأحياه الله والله لصدقت هذا هو اليقين الذي نحتاجه .
 أعود وأقول -أيها الأخوة- أن إثارة التساؤلات مفيدة: هذا الشاب الذي كان يعاني من الوقوع في المعصية القذرة أو الفاحشة مرّ عليه قول الله عز وجل في قصة يوسف : { كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } هذا الأخ توقف وقال الشهوة التي عَرضت ليوسف هي التي تَعرِض لي فما الذي صرفها عن يوسف قال الله : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } إذاً المشكلة عندي أنا، في قلبي أنا فلو كنت مخلصاً والله ليصرفن الله عني الفاحشة كما صرفها عن يوسف. وسبحان الله تكون هذه الآية بركة على هذا الرجل وهذا التساؤل يقلب حياته حتى أصبح من شاب يُصارع الشهوات إلى شاب داعية يحذر من هذا الطريق.
 خذوا مثال آخر: فتاة -وهذه قصة وقعت عندنا في عنيزة تحديداً- فتاة تزوجت في أول أيامها ولما تزوجت مرّ عليها يوم يومين ثلاثة فكأنها شعرت أن أمورها مع زوجها غير مضبوطة ورأت أن الخيار المتاح الآن هو الفراق وترك الزوج ، تعرفون حريم أول وكان هذا الوقت على أول ما تولى شيخنا العلامة العثيمين -رحمه الله تعالى- الإمامة بعد شيخه عبد الرحمن بن سعدي تعرفون ما هي عدة المرأة يعني شناط وكذا لا، عبارة عن قطعة قماش فيها ثويبين فلفت هذه الثياب ومشت راجعة -قافلة- إلى بيت أهلها وهي تمشي راجعة إلى البيت سمعت الشيخ وهو يقرأ في صلاة المغرب سورة البلد فسمعت قول الله تبارك وتعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } سبحان الله هذه الآية رنت في أذنها وقالت : يعني أنا في كبد عند زوجي أو عند أهلي لعل أجل أبقى في كبدي مع زوجي خيراً من أن أبقى في كبدي مع أهلي فرجعت إلى زوجها سبحان الله، وبدأت كما نعبر عنه بالأسلوب المعاصر تُبرمج نفسها على أن تتقبل زوجها بما فيه وبالفعل مع الأيام سلكت الأمور وتحسنت الأوضاع وأحب كلاهما الآخر وحصل لهما ذرية، والذرية حصل لها ذرية وهي -حسب علمي موجودة- نسأل الله أن يمتعها وإياكم متاع الصالحين.
أختم بهذه القصة: وقد حدثني بها أحد الشباب من دولة البحرين في الأسبوع الماضي وهذه القصة وقعت لأبيه يقول : كان أبي تاجراً وهو من الرافضة ممن يتدينون بشتم بعض أمهات المؤمنين وخاصة الصدِّيقة المُبرأة رضي الله تعالى عنها وأرضاها يقول : فلما قيل له يا رجل أنت تشتم أمّك قال : أنا أشتم أمي ؟ قال : نعم ، ثم قرأ عليه الأخ الآية الكريمة { النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فقال لي : أنا ما أصدق افتح لي المصحف، ففتح له المصحف وقرأ فقال بئس هذا الدين دين السوء الذي يُعلمنا أن نشتم أمهاتنا فترك الرفض كله بسبب هذه الآية الكريمة .
 إذاً أحبتي يعني أنا أذكر هذه القصص والله من أجل مزيد من التطمين وإلا والله إن عندكم وعندنا -إن شاء الله- جميعاً من اليقين إن هذا القرآن كما قال الله : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا } { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ } لوقع هذا الأمر بسبب هذا القرآن فهل أيها الأخوة نحاول وقد أستمعنا إلى هذه المفاتيح أن نجرب أن نفتح بها ما أستغلق من قلوبنا .
 الحديث لم يكتمل غداً بإذن الله تعالى سنواصل الحديث ولعله إن شاء الله يكون أقصر من هذه الليلة بالكلام على الأقفال التي تحول دون الانتفاع بهذا القرآن أسال الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومها وذهاب غمومنا وقائدنا ودليلنا إلى جناته جنات النعيم ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

هناك تعليق واحد:

  1. يارب ثقل موازين حسنات الشيخ وكل من ساهم في نشر الخير

    ردحذف