الأحد، 6 ديسمبر 2015

الأمثال في الآيات [(٢٦٥) (٢٦٦) (٢٧٥)] من سورة البقرة

د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري:



المثل الذي يليه
هي اﻵية (٢٦٥ ) من سورة البقرة وهي اﻵية التي بعدها مباشرة.
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٢٦٥﴾)
ضرب الله سبحانه وتعالى هنا مثل لمن يُنفِق رياء وسُمعة فجاء من المناسب أن يذكر هنا مثلا لمن يُنفق ابتغاء مرضاة الله.
والمجتمع المسلم منذ كان فيه هؤلاء وفيه هؤلاء، في عهد النبي ﷺ وإلى اليوم ولا يكاد يخلو مجتمع من هذه الفئات، أُناس صادقون مخلصون يبتغون ما عند الله سبحانه وتعالى ويتحرَّون الصدق واﻹخلاص في كل ما يأتون ويذرون -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- ﻷن اﻹنسان ما عالج شيئا أشدّ عليه من نيته -تتقلب عليه- في أول الأمر ربما يجد في نفسه صدقا وإخلاصا فإذا دخل في العمل ووجد الناس والثناء واﻹقبال دخله الرياء فأبطل عليه عمله كما ذكر في اﻵية التي قبلها (كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) ياللا ابحث عمن يعطيك اﻷجر، اﻷجر هو بيد الله سبحانه وتعالى ولذلك ينبغي على اﻹنسان أن يُداوِم على تجديد النية وإصلاحها.
جاء المثل اﻵخر هنا لمن أنفق في سبيل الله صادقا مخلصا محتسبا فقال الله سبحانه وتعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة البقرة ٢٦٥] لاحظوا أولا أنه قدّم ضرب المثل بالمُنافق المُرائي الكذّاب تخويف وإرهاب للمؤمن حتى يخاف ولا يدخله الغرور عندما يُنفق ويُعطي ﻷن دائما الذي يُعطي ويُنفِق هو صاحب اليد العليا والذي يأخذ هو صاحب يد سُفلى محتاج ونفسه مكسورة وظروفه صعبة فقدّم الله هذه اﻵية تحذير لكل من تسوِّل له نفسه أن يمُنّ أو يُؤذي فلما تحقق هذا الغرض طمأن المخلصين الصادقين فقال(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
 يعني يقول الله مثل الذين ينفقون أموالهم لوجه الله، ابتغاء رضا الله سبحانه وتعالى واعتقادا راسخا بصدق وعدِه أن الريال الذي تُنفقه خير ألف مرة من الملايين التي تُمسكها، اعتقاد راسخ في نفس المؤمن الصادق، والرجل الذي يتصدق ربما بدرهم خير من بعض الذي يتصدق بالملايين، هذا ميزانه عند الله ولذلك قيل "سبق درهم ألف درهم" وأدخل الله الجنّة أناس بأعمال أقلّ من ذلك ﻷن العبرة بما قام بالقلب من الصدق واﻹخلاص لوجه الله تعالى ولذلك يقول هنا (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني معنى (يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) واضحة ولكن (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني اعتقادا راسخا من أنفسهم بصدق موعود الله سبحانه وتعالى بأن من أنفق فله كذا وأن موعود الله لا يكذب ولا يُخلف.
قال فمثله كمثل بستان عظيم (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الجنة هي: البستان العظيم، سُميت الجنّة جنّة أو البستان سُمِّي جنّة لماذا؟ ﻷن اﻹنسان إذا دخل داخل هذا البستان يختفي والجنّة هي الشيء الذي يخفيك مأخوذة من جنّ إذا اختفى واستتر، وسُمِّيت الجنّة جنّة ﻷنها خافية عنا الآن لا نعرفها، وسُمِّي البستان جنّة ﻷن من يدخل فيه يختفي، سُمِّي المجنون مجنونا ﻷن عقله -خارج التغطية- مُختفي، وسُمِّي الجنين جنينا ﻷنه مُختفي في بطن أمه -طبعا قبل أن تظهر اﻷشعات هذه- وسُمي الجنيّ جنيا ﻷننا لا نراه، وسُميت المقبرة مِجنَّة ﻷنها تُخفي الموتى، وسمي الدرع الذي يستتر به المقاتل في الحرب مِجنّ
وكان مِجنّي دون من كنت اتقي ** ثلاث شخوص كاعبان ومُعصِرُ
يعني كان تُرسي الذي اتقي.
 فكل مادة الجنّة بمعنى الخفاء والستر، البستان سُمي جنّة ﻷنه يختفي من يدخل فيه.
قال  (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) والربوة هي: المكان المرتفع مأخوذة من ربى يريو يعني مرتفعة. لاحظوا بستان في مكان مرتفع بعيد عن أوساخ السيول، لا مرتفع.
(أَصَابَهَا وَابِلٌ) يعني مطر غزير مثل الوابل الذي أصاب التراب الذي قبل قليل، الوابل الشديد المطر.
قال (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) بركة ونماء، هذا الذي ينُفِق ماله في سبيل الله صادقا مخلصا محتسبا -والله هو الذي يعلم نيته- مثل هذه النفقة التي ينفقها كمثل هذه الجنّة التي في هذا المكان المرتفع وأصابها هذا الوابل فآتت أكلها ضعفين.
 قال (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) يعني حتى لو ما أصابها وابل -مطر غزير- أصابها مطر خفيف فإنها تؤتي أيضا وتتبارك ﻷن المؤمن حتى لو أنفق اليسير من ماله فإن الله يبارك فيه ويُنميّه ولقد قال النبيﷺ (إن أحدكم إذا تصدق بصدقة أخذها الرحمن بيمينه فرباها له كما يربي أحدكم فُلُوَه) كل هذه اﻷمثلة التي تُضرب في القرآن والسنة لفضل والنفقة واﻹقراض والتصدق في سبيل الله إشارة عظيمة إلى أن اﻹنفاق في سبيل الله، النفقة والصدقة -أيها الإخوة- ينبغي لو كنا فعلا قد استشعرنا هذه اﻵيات وهذه المعاني ما يترك الواحد منا في حسابه ريالا واحدا بل يُقدِّم كل أمواله أمامه، ولذلك جاء أبو بكر الصديق -فعلا هو ما أخذ لقب الصديق من فراغ- لما جاء النبيﷺ بالهجرة جاء له بماله كله، قال يا أبا بكر ماذا تركت ﻷهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، وأيضا النبي ﷺ في معركة حنين عندما قسم الغنائم فأعطى المهاجرين وأعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعطِ اﻷنصار شيئا، واﻷنصار هم الذين نصروه ووقفوا معه فوقع في نفوسهم كيف يُقسِّم الغنائم لقومه قريش وكذا، فجاء إليهم النبيﷺ وخطب فيهم قال: لعلكم قد وجدتم في أنفسكم يا معشر اﻷنصار، ثم قال كلمة جميلة قال: أئن يرجع الناس بالشاة والبعير وأكِلُكُم أنتم إلى إيمانكم وترجعون برسول الله إلى رِحالكم؟ هذا خير مما أخذ هؤلاء فبكى اﻷنصار رضي الله عنهم وقالوا آمنا بالله وبرسوله .. آمنا بالله ورسوله.
فاﻹنسان -أيها الإخوة- هذه الدنيا متاع قليل وزائل والنبيﷺ لم يحرِم اﻷنصار في هذا الموقف إلا ﻷنه وَكَلَهم إلى إيمانهم الصادق وقال: (والله لو سلك الناس شِعْبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شِعْب اﻷنصار) في قصة مؤثرة. (١)
فنقول: قال  (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هذا ختام الآية إشارة إلى أن مسائل النيات عند الله سبحانه وتعالى وأنه هو الخبير والبصير سبحانه وتعالى بمن يتصدق لوجه الله ومن يتصدق رياء وسمعة.
وهذه اﻵية كالتي سبقتها فيها فضل اﻹنفاق في سبيل الله وفيها إشارة عظيمة إلى أنه لا تقبل الصدقة إذا كانت لغير وجه الله ولذلك فليحرص اﻹنسان قبل أن يدفع أن يُصحح نيته وأن يُخفيها ما استطاع ﻷن الخفاء مظنة اﻹخلاص قال الله سبحانه وتعالى (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة البقرة: ٢٧١] ﻷن اﻹخفاء مظنة اﻹخلاص أما اﻹظهار فقد يدخله الرياء - نسأل الله أن يكفينا وإياكم شر الرياء-.
/ المثل الذي يليه هي اﻵية السادسة والستين بعد المئتين في البقرة
يقول الله سبحانه وتعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [سورة البقرة ٢٦٦] .
هذه اﻵية متصلة باﻵيتين التي قبلها وتُلاحظون المثل اﻷول الحبة والسنبلة -يعني مسألة زراعية- مرتبطة باﻷرض، المثل الذي قبل قليل عن المطر وعن الصفا وعن التراب وعن الجنّة وربوة، المثل هذا أيضا يدور في نفس الفلك وكلها تتحدث عن اﻹنفاق في سبيل الله، فيُشير الله سبحانه وتعالى هنا  يقول أيرغب الواحد منكم (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) جنة عظيمة، صفتها أنها جنة من نخيل وأعناب، والجنة التي فيها نخيل وأعناب هذه من أفخر أنواع الجنان حتى إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر هذا في الجنة قال (فيهما فاكهة ونخل ورمان ) في وصف الجنة.
يكون له فيها بستان فيه نخيل وأعناب تجري من تحت أشجاره المياه العذبة وله فيها من كل أنواع الثمرات وحاله أنه قد كبُر في السن، عنده هذه الجنة العظيمة فعلا الذي يملك مثلها فهو غني ولكنه كبير في السن وعنده أطفال صغار.
قال ( وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ تخيلوا هذا الموقف -أيها الإخوة- رجل كان إنسان مستور في حياته وغني وعنده هذه المزرعة التي تُدِرُ عليه وعلى أهله وأولاده (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ) صغار وهو قد كبُرت سِنه، وفي هذه اللحظات -يعني تو اﻷمور استوت- يصيب هذه الجنة أو هذا البستان يصيبه جائحة -والعياذ بالله- إعصار فيه نار .
 واﻹعصار تكلم المفسرون عن اﻹعصار بكلام طويل ملخصه: أنها هذه الزوابع واﻷعاصير التي نعرفها، تعرفون اﻷعاصير التي يسمونها الترنيدو التي هي الزوبعة فيها نار فأحرقت هذه المزرعة تماما، تماما كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة القلم في قصة أصحاب الجنة ( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ)  قال الله (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) هنا نفس الصورة عندما قال فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) هذا موقف لا يُحسد عليه هذا الرجل، رجل كبير في السن لا يستطيع أن يغرسها مرة ثانية وأولاده ضعفاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا -والعياذ بالله- كأنه يقول تعب حياته وشقى حياته كله راح وهو خلاص ضعُف أن يغرس وأبناؤه ضعفاء لا يستطيعوا أن يصنعوا شيئا.
هذا المثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمخلصين ولغير المخلصين فقال الله سبحانه وتعالى هنا وهكذا نفقات غير المخلصين كيف تأتي يوم القيامة فإنهم يأتون يوم القيامة ولا حسنة لهم فكأنه هنا يُصوِّر أن عملكم الذي عملتوه في الدنيا سوف يكون مثل هذه الجنة التي أصابها هذا اﻹعصار احترقت ولم ينتفع بها لا هو ولا أولاده من بعده، فكذلك المُنفقون الذين ينفقون أموالهم رئاء وسمعة فإنها تُحبط أعمالهم ويصيبها ما أصاب هذه الجنة من الحريق ومن الذهاب.
ولاحظوا -أيها الإخوة- هذا المثل المحسوس ﻷن أهل المدينة كلهم يعرفون النخل ويعرفون المزارع ، فهذا المثل قد وقع في نفوسهم أوقع ما يكون الكلام وأبلغ ما يكون الكلام.
/ وهذه من فوائد اﻷمثال:  تقريب المعاني المحسوسة أو المعاني المعقولة وتشبيهها بالمعاني المحسوسة فقد شبّه الله سبحانه وتعالى في هذه الصور وفي هذه اﻷمثال شبهها لنا بهذه القضايا المحسوسة التي يعرفها الناس من واقع حياتهم اليومية. فليتخيل الواحد منا أنه يتعب ويشقى طول عمره ثم يذهب كل تعبه سدى، فكذلك المنافق يوم القيامة.
- ومن فوائد اﻵية : أنه تحذير للمؤمن أن يتعاهد نيته وأن يُصلِح عمله في وقت المهلة قبل أن تنتهي المهلة.
/ المثل اﻷخير الذي معنا في هذا المجلس المبارك قول الله سبحانه وتعالى في اﻵية الخامسة والسبعين بعد المئتين من سورة البقرة وهو يتحدث سبحانه وتعالى عن أكل الربا ﻷن الله سبحانه وتعالى تحدّث عن المُنفقين في سبيل الله وتحدث عن النفقة وتحدث عن آدابها، وعن النفقة الخالصة والنفقة المشوبة ثم جاء هنا فتحدث عن الربا فقال الله سبحانه وتعالى:
 (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [سورة البقرة ٢٧٥]
الذين يتعاملون بالربا، والربا مأخوذ من اﻹرباء وهو الزيادة وكانوا في الجاهلية يتعاملون به فيُقرض أحدهم المال ويشترط الزيادة فيُقرِضُه مئة -مثلا- ويسترِدها مئة وعشرين أو مئة وخمسين، ولا شك أن هذا مُحرّم وهؤلاء المشرِكون وهؤلاء المُرابون وهؤلاء الذين يأكلون الربا -حتى من غير المشركين- يتذرعون ويقولون ما الفرق بين البيع والربا؟ أنا الآن اشتري لي أرض -مثلا- بمئة ألف ثم أبيعها بمئة وخمسين ألف، وهذا أنا سأُسلِّفه مئة ألف ويردُها لي مئة وخمسين ألف؟؟ فالخمسين ألف هذه التي أخذتها زيادة يعني هي مُقابل الانتظار الذي انتظرته. طبعا هؤلاء يقيسون البيع الحلال على الربا الحرام فقال الله سبحانه وتعالى، لاحظوا أنه لم يقل الله سبحانه وتعالى كذبتم أو أن البيع ليس كالربا قال: لا، قال الله سبحانه وتعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وهذه الآية فيها فائدة عظيمة أنه يبطُل القياس مع النص. إذا ورد النص بطلَ القياس، هذا قياس فاسد لأنه في مقابل نصّ، الله سبحانه وتعالى يقول (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) خلاص البيع حلال لأن الله أحلّه -في صُوره المشروعة طبعا- لأن هناك بيوع مُحرّمة، ولذلك (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) هذا من العموم المخصوص بما استُثني منه، قال  (وَحَرَّمَ الرِّبَا) وبالمناسبة لا تجد في القرآن الكريم إلا هذا التعبير فقط، لا يوجد في القرآن الكريم "أحلّ الله كذا وحرّم كذا" إلا في هذا الموضع (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا). نتحدث دائما عن آيات الأحكام في القرآن الكريم، الآيات التي وردت فيها أحكام عملية فقهية من أمثال هذه المعاملات ونحوها ماهي الصِيغ الاي ترِد بها هذه التكاليف؟ لها صِيغ كثيرة من ضِمن الصِيغ التي ترِد بها (أحل الله كذا وحرّم كذا) هذه نادرة وهذه منها (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) خلاص انتهى الموضوع صدر القرار وانتهى، هذه الآية تُبطل كل أنواع المُراباة ولذلك الرِّبا ورد التحريم له مُتدرجا لأنه كان من القضايا التي تعوَّد عليها العرب في الجاهلية وهذه القضايا تحتاج إلى وقت حتى تزول، وهذه فائدة للتربويين عندما ترى أبناءك أو ترى طُلابك أو ترى من حولك يُمارسون عادات خاطئة فإنه يصعُب عليك أن تنتزعهم من هذه العادات بسهولة ولذلك ينبغي عليك أن تتلطّف بهم وتتدرج معهم. والبعض يقول هذه في العهد المكي فقط، نقول: لا، بالعكس هذه مسألة تربوية لأنك عندما تأتي -على سبيل المثال- عند رجل تريد أن تدعوه إلى الإيمان وهو يشرب الخمر -مثلا- فتقول له أول ما يُسلِم ترى الخمر محرمة وإذا شربتها سوف نُقيم عليك الحدّ، فيقول: إذا لن أُسلِم، من أولها قطع وجلد، لكن الحكمة تقتضي منك أن تدعوه إلى شهادة لا إله إلا الله، ولذلك النبي ﷺ عندما دعا اليهودي قال أتشهد أني رسول الله؟ قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فخرج النبيّ ﷺ يقول (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) فالتدرج مطلوب. فتدرّج القرآن في ذِكر هذه التشريعات في تحريم الخمر.. في تحريم الربا فقال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) [آل عمران: 130] هذه الآية على الحيح لا تدل على تحريم الربا وإنما تحريم المضاعفة فيه، ثم جاءت الآية التي في سورة البقرة فقطعت كل قول (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ولذلك جاء النبي ﷺ في حجة الوداع بعد نزول هذه الآية وقال (أيها الناس إن كل ربا موضوع، إن كل ربا الجاهلية تحت قدميّ وأول ذلك ربا عمي العباس) لأن العباس رضي الله عنه كان ممن يتعاملون بالربا في الجاهلية كثيرا، يُقرِض الناس ويُربي، وكانوا يقولون للإنسان إما أن تقضي وإما أن تُربي، يعني الآن أنت تُقرِضه على أن يرد لك مئة وعشرين بعد المئة فيقول: والله أنا ما استطعت أن أُسدد، يقول خلاص لا مشكلة رُدها مئة وأربعون ويُمهله مدة فتتراكم عليه الديون دون أن يعمل هذا شيئا. يعني هذا جالس بس يمتصّ جهود الآخرين، لذلك حرّم الله سبحانه وتعالى الرِّبا. فيقول الله سبحانه وتعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ) في الآخرة  من قبورهم وهذا أكثر أقوال المفسرين على أن المقصود بها في الآخرة، أنهم يقومون يوم القيامة من قبورهم -هؤلاء المرابين- كما يقوم (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) من الجنون. وهذا المشهد مشهد مألوف الإنسان المبتلى الذي أُصيب بمس من الشيطان معلوم أنه يتخبط -مسكين- ومشيته ظاهر فيها عدم الاتزان وعدم العقل والله سبحانه وتعالى عندما ضرب به المثل لأنه شيء معروف ومألوف في المجتمع فقال (كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) يعني من الجنون،المسّ هنا هو مس الجنون، وهذه الآية دليل على أن الجني والشيطان يمسّ الإنسان من بني آدم ويتخبطه وأنه يؤثر ذلك عليه في حركته وفي مشيته وفي كلامه وفي تصرفاته. وهذا المثل يشير هنا إلى مشية الذي يتخبطه الشيطان من المسّ وأنه يتخبط ذات اليمين وذات اليسار. لماذا، شبهه الله بهذا الإنسان المجنون.
 وبعض المفسرين يقول: إن هذا التشبيه يصح في حق من يأكل الربا في الدنيا والآخرة، فإن المُرابي في الدنيا حاله كحال المجنون الذي به شيء من المسّ لما به من الجشع والطمع وأحيانا من فوات الصفقات ومن هموم الحسابات يصيبه شيء من المسّ- تراه سرحااان- ويمكن هذه الصورة ظهرت في أيام الأسهم ومشاكل الأسهم زمان حتى سمعنا قصصا عجيبة في صالات الأسهم، بعضهم يقوم فيضرب رأسه بالجدار يعني تصرفات مجانين كما ذكر الله سبحانه وتعالى هنا، ولاشك أن التعاملات الربوية والذي يستحِل هذه المحرمات فإنه يفقد التعظيم لأوامر الله سبحانه وتعالى والوقار ولذلك البعض عندما يُنصَح -أحيانا- لماذا تتعامل بالربا؟ فيقول: إنما هي ٥%  أو ٣%  فأقول له مادامت هذه النسبة قليلة فلماذا لا تتركها؟! هذه كنقطة الحبر التي تُفسِد على الإنسان سائر عمله، ولذلك حذّر الله سبحانه وتعالى وحذّر النبيﷺ من الربا أشدّ التحذير وليس هذا موضع التفصيل في ذلك.
لكن هنا بيان هذا المثل الذي ضربه الله لآكل الربا كيف يقومون من قبورهم كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (ذَٰلِكَ) يعني هذا التخبط وهذا المصير (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) يعني عندهم حجة فقهية فيقولون البيع مثل الربا ما الفرق؟ ولذلك الله لم يرُد على هذا القياس الفاسد الذي قاسوه وإنما قال (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وهنا فائدة من فوائد الآية وهي: أن  المؤمن العبرة عنده بأوامر الله سبحانه وتعالى، ولو حرّم الله علينا هذا الماء ما شربناه لأنه أمر الله سبحانه وتعالى. ولذلك نحن اليوم عندما نبحث يقول الخمر اليوم تُضِر بالعقل وتُذهبه وفيها وفيها، نقول نحن لا نشرب الخمر لأنها مُضرة بالصحة ، لا.. أبدا، نحن لا نشربها لأن الله حرّمها سواء علِمنا بما فيها من المضار أو لم نعلم، ولذلك الذي يمتنع عن شرب الخمر لأنها مُضرة بالصحة وليس إيمانا بالله وتصديقا لأمره فهذا كافر وهذا الذي شأنه كثير ممن يُطبِّق القوانين الوضعية اليوم، فيقول والله نحن نُطبق القوانين الوضعية -قوانين بشرية- لكن يأتي من ضمن القوانين البشرية تحريم الخمر، فيقال هذا القانون مُتسِق مع الشريعة الإسلامية، طيب هل نحن عندما حرّمنا الخمر هل هو استجابة لأمر الله وإلا لأن البرلمان أقرّ هذا القانون الذي يُحرِّم الخمر لما فيها من الخسائر المادية والبشرية ...الخ وهذا يتوافق مع القرآن الكريم، فنقول هذا كفر لاشك فيه ولا جدال فيه لأنه لو لم يُقِرِ البرلمان أو يُقِرّ صاحب الصلاحية لإقرار القانون هذا القانون ما عمِلنا به، ونحن نقول إنما نستجيب لأمر الله سبحانه وتعالى.
فنقول: في قوله تعالى (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) إشارة لنا أن العبرة عند المؤمن هي بأمر الله سبحانه وتعالى، إذا أحلّ الله أمرا فهو حلال وإذا حرم الله أمرا فهو حرام دون النظر إلى فوائده أو مضاره.
/ قال الله سبحانه وتعالى (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ) يعني من استجاب لأمر الله سبحانه وتعالى وتوقف عند هذا الحدّ -كفاية- عفا الله عمّا سلف (فَلَهُ مَا سَلَفَ) يعني فمغفور له ما سلف ( وَمَنْ عَادَ) إلى هذا بعد هذا التحذير (فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وعيد شديد عظيم، ولذلك الزمخشري دائما يقتنص مثل هذه المناسبات حتى يستدِل لمذهبه الباطل فقال: "وهذه الآية دليل على تخليد أصحاب الكبائر في النار" وهذا طبعا غير صحيح فإن أصحاب الكبائر لا يُخلّدون في النار لأن النبي ﷺ قد قال: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) أو قال (مثقال خردلة من إيمان) كما أخبر النبيﷺ .
 وهذه الآية تدلنا وهذا المثل الذي ضربه الله فيه تقبيح لشأن الربا وتحريم له صريح وفيه تبشيع لصورة المرابي لعله يرتدع وأيضا تحذير للمؤمن أن يسلُك هذه الطريق.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الربا وآثاره وأن يكفي المسلمين والأمة شره فإن هذا الذنب العظيم من أعظم الذنوب التي انتشرت في الأمة الإسلامية في القرون المتأخرة وأصابها بسبب ذلك من البلاء ما نسأل الله أن يرفعه بعودتها إلى دينها.
.... وأسأل الله أن يكتب أجركم جميعا وأختِم بشكر الله تعالى ثم شكركم أيها الإخوة على حضوركم وإنما هذا من تعظيمكم للقرآن الكريم وللعِلم وأسأل الله في هذه الساعة -وهي ساعة إجابة إن شاء الله- كما جمعنا في هذا المجلس أن يجمعني وإياكم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. 
------------------
(١) عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال { لما أفاء الله على رسوله يوم حنين : قسم في الناس ، وفي المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا . فكأنهم وجدوا في أنفسهم ، إذ لم يصبهم ما أصاب الناس . فخطبهم ، فقال : يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن . قال : ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ؟ قالوا : الله ورسوله أمن قال : لو شئتم لقلتم : جئتنا كذا وكذا . ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها . الأنصار شعار ، والناس دثار . إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض . } صحيح مسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق