الأربعاء، 5 أغسطس 2015

تفسير الأمثال في سورة آل عمران

د. محمد الخضيري

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد..
 فنحمد الله سبحانه وتعالى على ما منَّ به علينا من الاجتماع على مائدة القرآن (وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) وأرجوا أن يجعلني الله وإيَّاكم من هؤلاء الذين أدركوا هذه الفضائل كُلَّها. وأبشروا أيُّها الأحبة فلقد انتشر الناس وبقيتُم تنتظرون فضل الله عزَّ وجل وترجون رحمته والله غفور رحيم وقد تقدَّم قبلي فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن الشهري فتحدث عن أمثال القرآن وذكر طرفاً منها وأنا سأُتِم أيضاً جملةً أُخرى من أمثال القرآن التي هي من أعظم أو أعظم الأمثال وأجلُّها وأكملها وأكثرها هدايةً للإنسان ولقد قرأ إمامُنا جزاه الله خيراً في الصلاة (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت:٤٣] فأنتم الآن جلستُم لتعقلوا هذه الأمثال التي أوحى بها ربُنا سبحانه وتعالى إلينا فمن عقلها فهو من العالمِين وقد كان أحد السلف إذا مرَّ به مثلُ من أمثال القرآن فلم يفقهه بكى وقال يقول الله عزَّ وجل ( وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) وأنا لم أفقهها إذاً فأنا لستُ من العالِمين فأبشروا أيها الأحبة هذا عِلمٌ أُهمل وهو من أجلِّ العلوم أن يعلم الإنسان الأمثال المضروبة في القرآن ويتفقّه فيها ويهتدي بها ويأخُذ منها العظة والعبرة .
أول مثلٍ معنا في سورة آل عمران في قول الله عزَّ وجل (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) والمثل في هذه الآية في موطنين:
 أولاً: قوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) فحبلُ الله ضُرب مثلاً للقرآن والهدي الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إلى عباده ولا شك أنَّ القرآن هو الحبل المُوصل إلى الله فنحنُ لا نعلم كيف نصل إلى الله عزَّ وجل إلا بهذا الكتاب فمن استمسك به واعتصم به وعضَّ عليه النواجذ فهو الذي سيصل إلى الله قطعاً، يعتصمُ الإنسانُ به بأن يستمسك به ويدعو إليه ويصبر على كُل أذى يُصيبُه فيه ويعتصم به بأن يمشي به في الناس ويحكُم به بين المسائل المُشتبهة والقضايا المختلفة وهذا من اعتصام الإنسان بحبل الله عزَّ وجل.
 ثُم قال (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) فحذَّرنا ربُنا سبحانه وتعالى من التفرق.
 ثُم قال جل وعلا (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)
 يُذكرنا ربنا سبحانه وتعالى بهذه النعمة العظيمة التي جمعتنا ولعلكُم لو التفتُم قليلاً إلى بعضكم لوجدتُم أجناساً من الخلق وأطرافاً من القبائل هذا من الجزيرة العربية وهذا من أفريقيا وهذا من آسيا وهذا من أوروبا وهذا من أمريكا وهذا من استراليا من الذي جمعهم ؟ ولو نظرتم حتى الذين في جزيرة العرب وجدتُم هذا في قبيلة وهذا في قبيلة وهذا من أُسرة وهذا من عائلة وهذا من فخِذ وهذا من شِعب وهلُمَّ جرَّا وقد كُنَّا قبل أن يأتي الله بهذا الخير متشتتين مختلفين فجمع الله به بين قلوبنا ولذلك قال (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) نسب هذه النعمة إليه ليُبين أنَّها من أجلِّ النعم  (إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) وهذا يدلنا أحبتي الكرام على عِظم أمر تأليف القلوب وأنَّهُ عظيمٌ عند الله عز وجل كما قال في سورة الأنفال (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) حدَّثَ مُجاهد في حديثٍ يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إنَّ المُسلِمَين إذا التقيا فتصافحا تحاتت خطاياهُما كما يتحات ورق الشجر فقال أحدُ أصحابه إنَّ هذا لكثيرٌ يامُجاهد كيف ؟ بمجرد السلام تتحات الخطايا مجرد المصافحة تتحاط الخطايا قال أولم تقرأ قول الله عزَّ وجل (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) مما يدُل على عِظم أمر تأليف القلوب واجتماعها والبُعد عن كُل ما يُفرق الكلمة ويشتت الشمل قال (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) هذا من فضلِه وحدَه ولذلك أعاد نسبتَهُ إليه لأن الفضل فيه لله وحده.
 ثُمَّ قال في المَثَل الثاني في نفس الآية (وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) يعني كُنتم مقبِلين على النار حتَّى إنَّكم على حرف النار يعني حافَّة النار ما بينكُم وبين أن تلِجوا فيها وتسقطوا في حفرتها إلا أن تموتوا (وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) المُنقذ هو الله ولولا أنَّ الله بعث هذا النبي وأنزل هذا الكِتاب لما كان لنا مصير إلَّا النار يا أخوان (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) [مريم:71] فالله أنقذنا بهذا الوحي وبذلك الرسول عليه الصلاة والسلام من النار التي كُنَّا سنقع فيها قطعا قال (وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا) أي على حرف حفرة من النار (فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) تأمَّلوا يا إخواني كيف أنَّه في هذه الآيات بيَّن أنَّ المنقذ لنا من النار هو الله سبحانه وتعالى وأنَّ أسباب الإنقاذ أمران:
 الأول : ما قدَّمه في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)
 والأمر الثاني : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)
 فهذان الأمران هما الذان يحصُل بهما التآلف والتآخي ويحصُل بسببهما إنقاذ الخلق من النار كما قال الله في سورة العصر ( والعصر ان الانسان لفي خسر ) أي كُل الناس خاسرون هالكون مستوجبون لنار جهنَّم ( إلا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) ولمَّا ذكر هذين الأمرين بيَّن كيف نُفعِلهما في واقع الناس فقال ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ثُمَّ عاد مرَّة أخرى فقال (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهذا يؤكِّد لنا أنَّ هذه الآيات كُلها تدور في فلكٍ واحد فلا مخرج لهذه الأمَّة ولا عودة لها إلى أن تتقي الله حقَّ تقاته وأن تعتصم بحبل الله جميعاً ولا تتفرَّق إلا بإقامة شعيرتين:
 الأولى : يدعون إلى الخير
والثانية : يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون
 ومالم نقُم بهاتين الشعيريتين العظيمتين فإنَّ مردَّنا إلى التفرق قال (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) نسأل الله العافية والسلامة.
 أمَّا المَثَل الثاني: فهو في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة آل عمران ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) هذا مَثَلٌ ضربه الله لأعمال الكفار ونفقاتِهم وما يقدَّمونه مما يعتقدون أنه ينفعُهم فيُبيَّن الله عزَّ وجل أنَّه حابط وأنَّه خاسر وأنَّه لا يبقى منه شيء ولن يلقى منه الكافر يوم القيامة عند الله نقيراً ولا قطميراً وسِرُ ذلك أنَّهم لم يؤمنوا فالإيمان هو شرط القبول للأعمال قال الله عز وجل (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) [الإسراء:١٩] فلو أنَّ الإنسان أنفق مِلئ الأرض ذهباً ونفع الفُقراء والأيتام والمساكين والأرامل وحفر الآبار وفعل الأفاعيل كُلَّها لم ينفعه ذلك عند الله حتَّى يؤمن ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ هنا في هذه الآيات مُبيِّناً أنَّ أهل الكِتاب على صنفين:
 الصنف الأول : هُم من آمن وانتفع بإيمانه وانتفع بعمله الصالح
 الصنف الثاني : من كفر
قال الله عزَّ وجل (لَيْسُوا سَوَاءً) أي أهل الكتاب ليسوا على حدٍّ سواء بل منهُم من آمن ومنهم من كذَّب وكفر قال (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ) أي هذا الصنف (مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ) لن يُجحدوه ولن يذهب عند الله عزَّ وجل بل كُله مكتوب مذخورٌ مُدَّخرٌ لهم عند الله جل وعلا يجدونه يوم القيامة أوفر وأحسن وأجمل وأكمل ما يكون لماذا ؟ لأنَّهم آمنوا بالله وبرسوله وباليوم الآخر.
 ثُمَّ قال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل الكتاب ومن غيرهم (لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ) فهم لن ينتفعوا من هذه الأموال والأملاك والأولاد والجاه والمناصب التي حصَّلوها في الدنيا لن ينتفعوا منها بشيء بل ستكون حُججاً عليهم عند الله عزَّ وجل بل إنَّهم قد ينخدعون بها وهذا من مكر الله بهم يعني يظنون أنَّهم أحسنوا إلى الفقراء والمساكين وتصدَّقوا وأنفقوا وأعطوا وفعلوا ما لم يفعله حتى يمكن  أحيانا بعض أهل الإسلام فإذا جاءوا يوم القيامة يُخبرنا الله عن مصير تلك النفقات فيقول
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها الذين لا يصحبها أحدٌ مثلهم
(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي باقون دائمون لا يتحولون عنها أبداً.
 ثُمَّ بيَّن إلى أي شيء تصير تلك النفقات وذكر النفقات من بين سائر الأشياء لأنَّها شيءٌ عزيز على النفوس وصعبٌ على كل أحد على المُسلم وعلى الكافر فبيَّن أنَّ هذا الشيء الصعب وهذا الشيء العزيز على النفوس أنَّه لا يُقبل عند الله إذا لم يأتِ بشرطه وهو الإيمان بالله.
 قال (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ) والريح هو الهواء الشديد (فِيهَا صِرٌّ) أي فيها بردٌ شديد هذا البَرد من شدَّته يُحرق الزرع أي فيها بردٌ شديدٌ مُهلكك وقد قيل فيصِرٌّ ) أنَّها بمعنى بَرد وقيل (صِرٌّ) بمعنى نار مُحرقة لأنَّ النار عندما تلتهب ويشتد إلتهابها يُسمع لها صوت كالصرير وقيل (صِرٌّ) أي صوت شديد وكل هذه التفسيرات لا يُعارض بعضها بعضا لأنَّ المقصود هو أنَّ هذه الريح مصحوبة بشيء يُحرق ويُتلف ويهلك (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ) أي زرع (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) يعني إنَّما اصابتهم بسبب ظلمهم لأنفُسهم وظُلمهم هو ما ذُكر في الآية السابقة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا) ومعنى هذا المَثَل يضرِبه الله لنا بقوله (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)  كَمَثَل إِهلاك ريح فيها بردٌ شديد مُهلك للزروع أصابت زَرع قومٍ ظلموا أنفسهم فأهلكته ضرب الله هذا المَثَل لمن يعملُ عملاً صالِحاً يرجوا نفعه فإذا جاء في ساعةِ الشِّدة وقُرب الاستواء والحصاد إذا بذلك الزرع يذهب ويحترق ولا يبقى منه شيء وهذا مَثَلٌ لعمل الكافر يعمل في الدُّنيا ويسعى ويكِدّ ويجتهد ويفعل مؤسسات خيرية وجمعيات بر وإحسان ثُّم يقدم على الله عزَّ وجل فلا يجِدُ منها شيئاً كما قال الله عزَّ وجل ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) [الفرقان:٢٣] ويدخُل في معنى هذه الآية أولئِك الذين أخلَّوا بشرط القبول بأن صحِبوا نفقتهم بالمَنَّ والأذى أو جعلوها مصحوبة بالرياء كما مرَّ في الأمثال التي ذكرها الدكتور عبد الرحمن قبل الصلاة، فالنَّفقة إذا كان فيها ما يُبطِلها صارت مِثل ذلك بمعنى أنَّ الإنسان لا ينتفع منها عندما يرِد على الله عزَّ وجل يبحث عن الصَّدقات وعن الزَّكوات وعن التبرعات وعن الخيرات التي بذَلها والأموال التي قطعها من جسده ومن قلبه فلا يجِد منها شيئاً لأنه ما أراد بها وجه الله عزَّ وجل قال الله جلَّ وعلا (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) وهذا المَثَل ضربه الله عزَّ وجل لمن يعمل عملاً صالِحاً يرجوا نفعه ولكِنَّه يُخلّ بشرط النفع فإذا جاء وقتُ شدَّة حاجته إليه كما قال الله (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) ذَهبت في أشدِّ الساعات حَرجاً وأحوج ما يكون إلى نفع تلك الصدقة وكذلك هؤلاء الذين يُنفقون أموالهم ويصحبونها بالمنِّ والأذى أو بالرياء فإنَّ الله عزًّ وجل يُبطل مفعول صدقاتهم فلا يلقون منها عند الله شيئاً وإن لقوا من جزائها شيئاً فإنَّ الله يُعجِّله لهم في الدُّنيا بأن يُثني الناس عليهم ويذكرونهم بالخير ويضعون لهم الحفلات ويقدِّمون لهم الجوائز والشهادات والدروع التذكارية والشهادات الفخرية وغيرها ولكن لن يلقوا من جزائها عند الله شيئاً لأنَّ الله لا يقبل من العمل إلَّا ما أخلص صاحبه فيه نسأل الله أن يُعيننا على الإخلاص في كُل أعمالِنا.
/ قال الله عزًَ وجل (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ) أي زرع (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ  فَأَهْلَكَتْهُ) ثُمَّ ختم الله الآية بقوله (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) لم يفعل الله ذلك بهم ظُلماً لأحد من عِباده فإنَّ الله جلَّ وعلا قد حرَّم الظُلم على نفسه وجعله بين عِباده مُحرَّما ونهى العِباد كُلَّهم عن الظُلم والله عزَّ وجل مُنزَّه عن كُل ظُلم (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) قال (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) كان هذا بسبب مِنهم لأنَّه طُلب منهم شيءٌ قليل يسير قد قامت عليه الأدِلَّة وهو الإيمان بالله وتوحيده وصرف العِبادة له والإيمان برسوله وباليوم الآخر فأبوا مع قِيام الحُجَّة عليهم في ذلك فالله يقول (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) هذا هو المَثل الثاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق