الخميس، 25 ديسمبر 2014

المتشابهات في سورة التوبة

/ قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)
وهذه الآية نزلت في ذي القعدة، فآخر الأربعة صفر. ثم قال: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) . وانسلاخها آخر المحرم؟  جوابه: أن الآية الأولى في المعاهدين، والثانية في من ليس لهم عهد، ثم نسخ ترك القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقيل: أول. الأربعة " شوال " وعلى هذا لا إشكال.
وقيل: أولها عاشر الحجة سنة تسع وسماها حرما لتحريم قتالهم فيها أو تغليبا للأشهر الحرم.[كشف المعاني في المتشابه من المثاني]

/ قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وفيما بعد : (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فاستوت الآيتان فى إعلامه تعالى نبيه والمؤمنين أنه يتوب على من يشاء وفى ختم الآيتين بصفتين من صفاته سبحانه ثم اختلفت الصفتان فقيل فى الأولى "عليم حكيم " وفى الثانية "غفور رحيم " ؟
 ووجه ذلك -والله أعلم- أن الآية الأولى أعقب بها ما تقدمها متصلا بها من الآى فى كفار مكة وفعلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من التضييق والإحراج وبدئهم بالقتال يوم بدر ونقضهم العهد فى قصة خزاعة فى صلح الحديبة وهذا كله مبسوط فى كتب السير والتفسير فأمر الله تعالى بقتالهم وخزيهم والنصر عليهم وشفاء صدور من آمن من خزاعة وغيرهم ممن آذوه قال تعالى : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ)  ثم قال تعالى (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) كأبى سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل إلى من أسلم منهم بعد ما صدر من اجتهادهم فى الأذية والصدّ عن سبيل الله. ثم قال (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أى بما فى القتال وفى طى ما جرى من ذلك كله بتقديره السابق أولا إذ لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وتقدم علمه أولا وما فى ذلك من الحكمة، وختم أفعالهم السيئة بالأوبة والرجوع إليه سبحانه بسابق سعادة لمن شاهدها له منهم فهذا وجه النظم والتناسب فيه واضح.
 وأما الآية الثانية فسببها - والله أعلم - ما جرى يوم حنين من تولى الناس مدبرين حين ابتلوا بإعجابهم بكثرتهم فلم تغنِ عنهم شيئا ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم أحد إذ لم يبرح عليه السلام من مكانه فلم يثبت معه إلا القليل من العدد القليل فنادى العباس رضى الله عنه بآل الأنصار فاستجاب ناس وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ومكّن نبيه والمسلمين من أعدائهم والقصة معروفة فختمت هذه الآي بقوله تعالى (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تأنيسا لمن فرّ من المسلمين فى ذلك اليوم وبشارة لهم بتوبة الله عليهم وإن ما وقع منهم من الفرار مغفور لهم رحمة من الله سبحانه فجاء كل هذا على ما يناسب ولا يلائم خلافه والله أعلم. [ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل].

/   قوله تعالى : (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وورد بعد هذا بآيات (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وبعد الحزب الأول من هذه السورة (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) وفى ذكر المنافقين من هذه السورة : (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) للسائل أن يسأل عن وجه افتراق أوصاف المذكورين فى هذه الآى بالظلم والفسق والكفر ؟وهل ذلك لداع من المعنى ؟
 والجواب: أن كل وصف منها إنما جرى على ما تقدمه لداعٍ مناسب من المعنى:
 أما الآية الأولى فإن قبلها قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) وهؤلاء المقول لهم : "أجعلتم " إنما هم كفار قريش ممن ظلم نفسه بالتقصير فى النظر وظن أن عمله من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كاف مخلِّص عند الله وأن المؤمن بالله واليوم الآخر المجاهد فى سبيل الله ليس بأفضل حالا وعملا منه فردّ الله مقالهم وقيل لهم : (لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) ومن ظن ذلك كما ظننتم فظالم لنفسه من حيث قصر فى نظره مع تنبيهه على النظر فى وجه ما به خلاصه : (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهم الذين سبق فى علم الله أنهم لا يؤمنون بظلمهم أنفسهم .
 وأما الآية الثانية فكفٌ ومنع للمؤمنين عن ارتكاب ما ليس من شأنهم ألا ترى أن قبلها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ) فنُهوا عن موالاة من ذكر من آباءهم وإخوانهم إذا كانوا مؤثرين للكفر مستحبيه على الإيمان ثم قيل لهم : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ثم أعقب بقوله :(قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) أى إن آثرتم ما ذكر وكان أحب إليكم (مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أى أنكم إذا أتصفتم بهذا فقد خرجتم عن دينكم وفارقتم إيمانكم ولحقتم بمن كفر بعد إيمانه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) والفاسق الخارج.
 وأما الآية الثالثة فقبلها قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ثم ذكر مرتكبهم فيه وتزيين ذلك لهم ولما قدر لهم من تماديهم فى كفرهم فقال : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) فوسِموا أولا بالكفر فقيل :  (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إذ لم يكن تقدم لهم إيمان ثم خرجوا عنه بل كانت حالهم التمادى على كفرهم الذى لم يتقدمه إيمان، ولما ذكر بعض ما حملهم عليه كفرهم وأنه من سوء أعمالهم ومما زينه الشيطان لهم قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) الآيات فوصفوا بالتظاهر بالاسلام ثم خرجوا عنه بشنيع كفرهم وقبيح مرتكباتهم ووصفهم تعالى بأنهم "يلمزون المطوعين من المؤمنين " ومن لا يجد إلا جهده إلى قوله : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ثم قال : (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) فلخروجهم ومفارقتهم ما قد كانوا تظاهروا به من الإسلام وصِفوا بالفسق الذى هو الخروج والمفارقة من قولهم فسق الرطبة إذا خرجت من قشرها قال تعالى : "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " فقد وضح فى كل آية من هذه أن ما انجر فيها من وسم من أريد بها وجرى ذكره قبلها يقتضى ورود ذلك الوصف على ما ورد عليه وأنه لا يلائم كل آية منها إلا ما أعقبت به والله أعلم.[ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل]
 / قوله تعالى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ) - إلى قوله - (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ؟
 وقال بعده: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) .
وقال بعده: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) .
جوابه: أن الأولى: نزلت في الذين فضلوا سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام على الإيمان والجهاد، فوضعوا الأفضل في غير موضعه، وهو معنى الظلم، أو نقصوا الإيمان بترجيح الآخر عليه، والظلم: النقص أيضا كقوله تعالى: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) .
والثانية: في المسلمين الذين اتخذوا أقاربهم الكفار أولياء، وبعض الفسق لا ينافى الإيمان.
 والثالثة: في الكفار الذين كانوا ينسئون الشهور فيُحلون حرامها ويُحرمون حلالها ولذلك قال تعالى: (زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).[كشف المعاني في المتشابه من المثاني]



/ قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) هل وقع ذلك لغير المسيح؟ .

 جوابه: أنهم نزلوهم منزلة الرب تعالى في امتثال أحكامهم فيهم في التحليل والتحريم ولذلك قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا)
/ قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) . وفي الصف: (لِيُطْفِئُوا) .
 جوابه: أن (يُطْفِئُوا) هو مفعول يريدون وفى الصف مفعوله محذوف تقديره: يريدون الافتراء لأجل أن يطفئوا نور الله بأفواههم أى بتحريفهم الكتاب وما يقولونه من الرد على النبى - صلى الله عليه وسلم -. ويؤيد ما قلناه من إظهار المفعول وحذفه في الصف ما ختم به الآيتان وظهر ذلك بالتدبر.[كشف المعاني في المتشابه من المثاني]


/ قوله تعالى :  (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)

وفى سورة الصف : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)
ومعنى الآيتين فى السورتين واحد وقد زادت آية براءة على آية الصف عشرة أحرف صورا فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك ؟ والجواب عنه والله أعلم : أن زيادة آية براءة مقابل بها ما ورد من الطول فى المحكى فى هذه السورة من قول الطائفتين من اليهود والنصارى قال تعالى حاكيا عنهم : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) فوقع فى المحكى هنا طول اقتضى ما بنى جوابا عليه ليتناسب.
وأما آية الصف فمقابل بها قول عيسى عليه السلام لما قال لهم : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ثم قال تعالى (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) وإنما الجواب على المحكى من قولهم خاصة وهو قولهم (هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) وليس هذا فى الطول وعدة الكلم المحكى فى سورة براءة ألا ترى أن الواقع فى سورة براءة ست كلمات وفى الصف ثلاث كلمات. ثم إن الواقع فى سورة براءة مقال طائفتين منهم اليهود والنصارى مفصحا به والواقع فى الصف مقالة طائفة واحدة وهذا مراعى فقد وضح ورود كل من الآيتين مناسبا لما اتصل به وعلى ما يجب فى السورتين والله أعلم بما أراد.

/ قوله تعالى : (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) وفيما بعد من هذه السورة : ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) وكذا فى سورتى الحشر والمنافقين فورد فى الأولى : "يعلم " وفى البواقى "يشهد " مع أن المقصود فى الأربع آيات واحد وهو أنه سبحانه عليم بما يخفونه أو يظهرونه من أعمالهم فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك ؟
والجواب والله أعلم : أن الاستطاعة وعدمها حكم لا يطلع عليه فى الغالب بل ينفرد كل بحاله فى ذلك إلا أن يعلم ذلك بقرينة فقول المنافقين فى إخبار الله تعالى عنهم : (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) غير مُشاهد من ظاهرهم فقد كان يمكن صدقهم أو صدق بعضهم لولا أنه سبحانه أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم وما يكون من اعتذارهم قبل أن يقع منهم وبتقاسعهم عن الخروج فقال تعالى : ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) فأعلم تعالى بما يكون منهم قبل أن يكون وذلك غيب وأعلم بوجه تقاسعهم وتثبطهم ثم أعلم بكذبهم فقال : (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فحصل العلم بحالهم بإخباره تعالى ثم تكاثرت الشواهد عنهم. فلما كان حال الاستطاعة على ما ذكرنا من الخفاء حتى لا يطلع عليها ناسب ذلك التعريف عن اطلاعه تعالى على ما أخفوه من حالهم بالعلم فقال سبحانه : (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) ولا يناسب غيره.
 أما الآية الثانية فهى فى أهل مسجد الضرار وأمرهم مما قد كانوا تواطئوا عليه ولم يخفَ حال بعضهم عن بعض وذلك بخلاف حال الاستطاعة وما يمكن فيها من الخفاء فكان هذا مما يرجع إلى حكم الظهور والشهادة فكان ورود قوله تعالى هنا : ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ) أنسب وكذا الحكم فى آية الحشر لبنائها على قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم " إلخ الآية وكل هذا قول مشاهد معلوم مدرك بحاسة السمع وما وعدوا به إخوانهم من نصرتهم والخروج معهم أن خرجوا كل ذلك مما كنا يشاهد لو وقع وليس شئ من ذلك كالاستطاعة فى خفائها وغيابها فناسب هذا قوله تعالى : ( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) الوارد فى سورة المنافقين لأن قولهم : "نشهد إنك لرسول الله " قول مدرك بالسمع مع أن هذه الآية قولهم نشهد فطابق هذا وناسبه قوله : "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " وجاء كل من هذه الآي على ما يجب ويناسب والله أعلم. [ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل]

/ قوله تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) وفيما بعد من هذه السورة : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وبعد هذه الآية : ( وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) للسائل أن يسأل عن زيادة الباء فى قوله "وبرسوله " ولم تزد فى الآيتين بعد والظاهر من بعد ما يسأل فيه لأنها مقاصد مختلفة ؟
والجواب : أنك إذا قلت مثلا المانع من تقريب زيد نفاقه فإنك لم تزد على أن أخبرت عن علة منع تقريب زيد شيئا فإذا قلت أن المانع من تقريب زيد نفاقه فقد زدت على الاخبار بالمانع من تقريب زيد أنه نفاقه وإن قلت إنما المانع من تقريب زيد نفاقه فقد حصرت المانع من التقريب فى النفاق وأكدت ذلك تأكيدا أكثر من الحاصل بـ"إن" ولذا اتفق الأصوليون على القول المفهوم الحاصل من قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما الولاء لمن أعتق " ولم يتفقوا فى المفهوم الحاصل من قوله عليه الصلاة والسلام : "فى سائمة الغنم بالزكاة " وذلك بسبب ما تقتضيه إنما من معنى الحصر وقد جرده بعضهم عن المفهومات وجعله دليلا برأسه لقوته وأبى أن يجعل هذا من دليل الخطاب وفى معنى قوله : "إنما الولاء لمن أعتق " وفى قوم قولك : "ما الولاء إلا لمن أعتق " فإن معناه حصر الولاء فى المعتق وأنه لا ولاء لغيره ومن هذا قوله تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " أى ما يخشاه تعالى حق الخشية إلا العلماء، وقال تعالى : "إن هو إلا وحى يوحى " فنزه سبحانه نطق نبيه عن أن يكون غير وحى وليس قولك فى الكلام : هو وحى فى قوة قولك : إنه وحى يوحى لما زدت من التأكيد بـ"إن" ولا قولك : إنه يوحى فى قوة الاخبار القرآنى من قوله تعالى : " إن هو إلا وحى يوحى " لما بين قبل.
فإذا وضح هذا فقوله تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) وقد ورد على أبلغ وجوه التأكيد وحصل حصر المانع من القبول فى كفرهم وأنه لو لم يكن الكفر لكان القبول فناسب هذا التأكيد الذى بلغ به الغاية زيادة الباء فى قوله "وبرسوله " لإعطائها معنى التأكيد وإحرازها إياه.
 ولما لم يكن هذا التأكيد الحصرى واقعا فى الآيتين بعد وإنما وكد فيها بأن قال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وقال تعالى : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) فلم يبلغ بهذا الإخبار مع تأكيده وقوته مبلغ الأول لم تلحقه الباء وجاء كل على ما يجب والله أعلم بما أراد. [ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل]
/ قوله تعالى: (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) وقال بعد ذلك في مواضع: (كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
جوابه: أن الأول في سياق إثبات بعد النفى فناسب التوكيد بإعادة الجار بخلاف بقية الآيات. [كشف المعاني في المتشابه من المثاني]

/ قوله تعالى فى المنافقين : (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وقال فيما بعد : (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا)
فحملت الآية الأولى على ما قبلها بالفاء والثانية بالواو
وزيدت "لا" النافية فى الأولى وسقطت من الثانية
وقيل فى الأولى "ليعذبهم " وفى الثانية "أن يعذبهم "
وقال فى الأولى "فى الحياة الدنيا " واكتفى بالوصف فى الثانية فقيل "فى الدنيا ". فتلك أربع سؤالات.
  والجواب عن الأول : أنه لما وصف تعالى أقوال المنافقين فى كفرهم وشتى مرتكباتهم وقرر ما هم عليه فى آيات إلى قوله : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) فلما عرّف بأحوالهم قال لنبيه عليه السلام : (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ) وكان الكلام فى قوم أن لو قيل : إذا عرفت أحوالهم فلا تغتر بما لديهم فتظن أن ما مكّناهم فيه ومنحناهم إياه من مال وولد إحسان عجلناه لهم "أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون " ، "إنما نملى لهم ليزدادوا إثما " فالكلام فى قوة الشرط والجزاء فكان موضع الفاء.
 أما قوله فى الآية الأخرى : (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ) فمنسوق على قوله : (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ) وكل هذا نهى له صلى الله عليه وسلم أن يفعله وليس كالأولى فى أن ذكر مرتكباتهم ما بنى نهيه عليه السلام عليه فيتصور فيه معنى شرط وجزاء فلا محل للفاء هنا ولا هو موضعها.
والجواب عن الثانى : أن الآية الأولى مقصود فيها من التأكيد ما لم يقصد فى الثانية لما قيل له عليه السلام : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) وذكر له من قبح مرتكباتهم أشنعها أكد نهيه عليه السلام عن أن يلتفت إليهم تنزيها لقدرِه العلى عن الصغو إلى ما حاصله إملاء ولأهله فى الحقيقة استدراج وعناء فدخلت لا النافية تأكيدا يناسب هذا القصد ولما لم يكن فى الآية الأخرى اشتراط وجزاء يقتضى التأكيد فلم تدخل لا فجاء كل على ما يجب ويناسب.
والجواب عن السؤال الثالث : أن قوله فى الآية الأولى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) بـ"لام" كى مناسب لما فى الآية من التأكيد إذ لا تقتضى تراخيا فناسب هذا ما ذكر من التأكيد.
 أما قوله فى الآية الثانية : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ) فيقتضى أن التأكيد لما لم يبلغ فى هذه الثانية مبلغ الأولى بما تقدم فيها أشعرت أن بما فيها من التراخى فـ"أن" هذه ليست من التأكيد فى نمط الأولى وهذا راعى مناسبة لفظية إذ الإخبار بحالهم واحد فى الآيتين من غير فرق.
فإن قيل فإن لام كي فى قوله تعالى : " ليعذبهم " تقدر بعدها "أن" -على قول الجمهور- فقد تساوت الآيتان.
قلت ليس المعنى مع تقديرها هو المعنى مع ظهورها بل لظهورها حكم لا يكون فى تقديرها وقد نص سيبويه رحمه الله على ذلك فى باب الجواب بالفاء من كتابه أنه كلام العرب فتبين أن قوله تعالى : " ليعذبهم " ليس كقوله : "أن يعذبهم " فيما يعطيه ظهور أن من التراخى والله أعلم.
والجواب عن السؤال الرابع : أن قوله (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فى الآية الأولى بالجمع بين الصفة والموصوف مناسب أيضا وملائم أوضح ملاءمة للتأكيد الجارى فيها ، أما الآية الأخرى فلا تأكيد فيها فناسب ذلك الاكتفاء بقوله : "فى الدنيا " وجاء الكل على ما يجب ويناسب. [ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل]

/  قوله تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
وقال بعده: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا) .
 فالآية الأولى: بالفاء وتكرار (وَلَا) وباللام في (يُعَذِّبَهُمْ) وبلفظ (الْحَيَاةِ) .
والآية الثانية: بالواو، وسقوط (لَا) ، و (أن) موضع اللام.
جوابه: أن الآية الأولى: ظاهرة في قوم أحياء، والثانية: في قوم أموات.
وأما الفاء في الأولى: فلأن ما قبلها أفعالا مضارعة يتضمن معنى الشروط كأنه قيل: إن اتصفوا بهذه الصفات من الكسل في الصلاة، وكراهية النفقات فلا تعجبك أموالهم، الآية. والآية الثانية تقدمها أفعال ماضية، وبعد موتهم، فلا تصلح للشرط فناسب مجيئها بالواو. وأما قوله تعالى: (وَلَا أَوْلَادُهُمْ) فلما تقدم من التوكيد في قوله: (إِلَّا وَهُمْ) ، وفى قوله تعالى: - (وَلَا يَأْتُونَ) إلى (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا) ، فناسب التوكيد في قوله تعالى: (وَلَا أَوْلَادُهُمْ) بخلاف الآية الثانية.
وأما (اللام) في الأولى، و (أن) في الثانية فلأن مفعول الإرادة في الأول محذوف، واللام للتعليل تقديره: إنما يريد الله ما هم فيه من الأموال والأولاد لأجل تعذيبهم في حياتهم بما يصيبهم من فقد ذلك، ولذلك قال: (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ومفعول الإرادة في الآية الثانية " أن يعذبهم " لأن الأعمال المتقدمة عليه ماضية ولا تصلح للشرط ولذلك قال: (وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)
وأما: (الدنيا) في الثانية فلأنها صفة للحياة فاكتفى بذكر الموصوف أولا عن إعادته ثانيا. [كشف المعاني في المتشابه من المثاني]

/ قوله سبحانه وتعالى : (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ )
 وقال بعدها : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) فيهما سؤالان :
- قوله فى الأولى (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ببناء الفعل للمفعول مكتفى به وفى الثانية (وَطَبَعَ اللَّهُ) ببناء الفعل على الأصل؟
- والثانى قوله فى الأولى  (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) وفى الثانية (فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) .
 والجواب عن الأول : أن مطلع الآية قبلها قوله تعالى : (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) على بناء الفعل للمفعول فجاء قوله (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) على ذلك ونوسب بختام هذه الآية بداءة ما قبلها. وأما الثانية فلم يقع قبلها فعل بنى للمفعول وقد ذكر الفاعل فيها فجرى الكلام على ما يجب فقيل (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ).
 والجواب عن الثانى : أن قوله (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) لما اجتمع ذكر إنزال السورة والإشارة إلى ذكر المراد بها بقوله : (أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ)  استدعى ذلك نظر من بلغه هذا المنزل واعتباره وتفهم المقصود به إلى الكمال ليقع الامتثال على وجهه فلما تراموا إلى الخلود إلى الراحة وترك الجهاد الذى تحملت الآية الأمر به ناسب ذلك أن ينفى عنه الفهم والتدبر فقيل : (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) والتفقّه التفكّر والاعتبار.
 ولما لم يقع فى الآية بعد ذكر تدبره وتفهمه لقرب المعنى المراد منه وذلك قوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) صرف النفى إلى الحاصل على التفهم وهو العلم فقيل : (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل]
/ قوله تعالى: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) وقال بعده: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ؟
مع العلم بالفاعل، فخُتمت كذلك مناسبة بين صدر الكلام، وختمه.
والثانية: جاءت بعد بسط الكلام في عذر المعذورين فناسب البسط في توبيخ مخالفيهم، والتوكيد فيه بتصريح اسم الفاعل، ولذلك صدر الآية ب (إنما) الحاصرة للسبيل عليهم.
 وأما ختم الأولى بـ (لا يفقهون) ، والثانية بـ (لا يعلمون) :
أما الأولى: فلأنهم لو فهموا ما في جهادهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأجر لما رضوا بالقعود ولا استأذنوا عليه. والثانية: جاءت بعد ذكر الباكين لفوات صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلمهم بما في صحبته من الفوز والمنزلة عند الله تعالى، فلو علم المستأذنون ما علمه الباكون لما رضوا بالقعود، لكنهم لا يعلمون. [كشف المعاني في المتشابه من المثاني]

/ قوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وقال في المؤمنين: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ؟
 جوابه: أن المنافقين ليسوا بمتناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة، فكان بعضهم يهود، وبعضهم مشركين، فقال: (مِنْ بَعْضٍ) أي في الكفر والنفاق، والمؤمنون متناصرون على دين الإسلام وشريعته الظاهرة، فقال: (أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) في النصرة وفى اجتماع القلوب على دينهم، فلذلك قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، وقال في المنافقين: (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [كشف المعاني في المتشابه من المثاني]

/ قوله تعالى : ( قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقال بعد هذا : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)  فيها أربع سؤالات :
الأول : قوله فى الأولى (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) بـ"واو" النسق ولم يرد فيها "والمؤمنون " وقال فيها (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)  ، وقال فى الثانية  (فَسَيَرَى اللَّهُ) بـ"فاء" التعقيب وفيها "والمؤمنون " ولم يقل فى الأولى "والمؤمنون " وقال "وستردون " بالواو وفى الأولى "ثم تردون " .
فاختلفت الآيتان فى ثلاثة مواضع فيسأل عنها وهل كان يصح وقوع الأولى فى موضع الثانية ؟ والثانية فى موضع الأولى ؟ وكل منهما على ما بنى ؟ فهذه أربعة أسئلة.
 والجواب عنها على الجملة أن الآية الأولى فى المنافقين لم يخالطهم سواهم والثانية فى طائفة من المؤمنين كان فيهم تقصير ولهم إيمان فأنسوا وقوى رجاؤهم قال الطبرى : "هى فيمن تاب من المخلفين " قلت ويشهد لهذا ما اتصل بالآية مما قبلها والواقع قبل الأولى من قوله : "قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أى لستم صادقين فى اعتذاركم ثم قال : "قد نبأنا الله من أخباركم " أى قد أطلعنا على نفاقكم وسوء سرائركم ثم قال : "وسيرى الله عملكم ورسوله " وهذا تهديد عطف على مثله وقصد تعريفهم بالمجموع مما استوجبوا به المقت ولم يعطف بالفاء إذ ليس ما تعطيه من المعنى مقصودا هناا ولم يقل هنا والمؤمنون إذ النفاق عمل يخفيه المنافق فلا يطلع عليه إلا الله سبحانه وقد يطلع عليه رسوله ومن شاء من عباده وإنما كانوا يتظاهرون بخلاف ما يبطنون ثم قال "ثم تردون " فعطف ردهم إلى الله بثم المعطية مع مهلة الزمان هنا تفاوتا فى التهديد والوعيد ولم تكن الواو لتعطى هذا المعنى وتحرزه وقد بينت المواضع الثلاثة التى خالفت فيها هذه الآية الآية التى بعدها.
وأما الثانية فهى فى المتخلفين عن غزوة تبوك قال الطبرى : "فيمن تاب منهم " كما تقدم وقد وقع قبلها قوله تعالى : (وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ثم قال : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) فأمره سبحانه بأخذ زكواتهم وأخبره أنها تطير لهم وتزكية وأمره أن يدعوا لهم بقوله : "وصل عليهم " ثم زادهم تأنيسا بقوله : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)[ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل]

/  قوله تعالى: (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) . وقال بعد ذلك: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) فقال في الأولى: (ثُمَّ تُرَدُّونَ) ، وفى الثانية: (وَسَتُرَدُّونَ) ، وقال في الثانية: (وَالْمُؤْمِنُونَ) ؟
 جوابه: أن الأولى في المنافقين بدليل: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) وكانوا يخفون من النفاق ما لايعلمه إلا الله تعالى ورسوله بإعلامه إياه. والآية الثانية في المؤمنين، بدليل قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) وأعمالهم ظاهرة فيما بينهم من الصلاة والزكاة والحجّ وأعمال البر فلذلك زاد قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ) .
وأما (ثم) في الأولى فلأنها وعيد، فبين أنه لكرمه لم يؤاخذ هم في الدنيا، فأتى بـ (ثم) المؤذنة بالتراخى. والثانية وعد، فأتى بالواو والسين المؤذنان بقرب الجزاء والثواب وبعد العقاب. فالمنافقون يؤخر جزاؤهم عن نفاقهم إلى موتهم فناسب (ثم)
 والمؤمنون يُثابون على العمل الصالح في الدنيا والآخرة لقوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) الآية.[كشف المعاني في المتشابه من المثاني]

/ قوله تعالى : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) وفى سورة هود : (إِنَّ إِبْرَاهِيم لَحَلِيم أَوَّاه مُنِيب) فتقدم فى الأولى الوصف بأواه على حليم وتأخر فى الثانية وتقدم فيها وصفه بحليم.
 ووجه ذلك والله أعلم ان الأواه الكثير التأوه وفى كتاب ابن عطية أن التأوه التفجع فالمراد بالآية أن إبراهيم عليه السلام مع غلظة أبيه وقساوته حتى قال له (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنك ) وإبراهيم عليه السلام مع ذلك يتأوه تأسفا وتحسرا على إباية أبيه عن إجابته واتباعه مع تلطف إبراهيم عليه السلام فى قوله دعاء لأبيه إلى الإيمان فى إخبار الله تعالى عنه : ( يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً) إلى قوله : (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) فكان عليه السلام لفرط ترحمه ورأفته وحِلمه يتعطف على أبيه ويستغفر له ولم يزل على ذلك إلى أن قطع من حاله وتبيّن له أنه عدو الله فتبرأ منه فأخبر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بما كان من أبيه إبراهيم فى ذلك ليقتدى به ويهتدى بهديه فقال تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) وأعلمه تعالى بعذر إبراهيم فى استغفاره وأن ذلك كان عن موعدة تقدمت منه لأبيه فتقدم وصف إبراهيم عليه السلام فى هذه الآية بأنه أواه وذلك مناسب لما بينّاه.
 أما آية هود فمُنزلة على ما ذكر سبحانه من مجادلته فى قوم لوط جريا على ما وصفه سبحانه به من الحلم فكان تقديم وصفه هنا بالحلم أنسب وأجرى على ما بنى عليه. فوضح ورود كلا الموضعين على ما يجب ويناسب ولا يمكن عكس الوارد والله أعلم.
[ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل]

/ قوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ)  فهل التوبة الأولى هي الثانية أو غيرها؟
جوابه: قيل: الأولى عامة - والثانية في الفريق الذي كادت تزيغ قلوبهم.
وقيل: الأولى هي الثانية، وإنما بين في الثاني سبب توبتهم وقوله تعالى: (لِيَتُوبُوا) أي ليدوموا على توبتهم.

/ قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إلى (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) . وقال بعدها: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) زاد في الأولى: (عَمَلٌ صَالِحٌ)؟
 جوابه: أن الآية الأولى تضمنت ما ليس من عملهم فبين بكرمه تعالى أنه يكتب لهم بذلك عَمَلٌ صَالِحٌ وإن لم يكن من عملهم.
والآية الثانية تضمنت ما هو من عملهم القاصدين له فقال: (كُتِبَ لَهُمْ) أي ثواب ذلك العمل. والله أعلم. 
[كشف المعاني في المتشابه من المثاني] 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق