الأحد، 15 مارس 2020

تفسير المثاني للشيخ محمد بن على الشنقيطي / سورة الفاتحة (4)



السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ..
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} .
 بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الأتمّان الأكملان على سيد الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأحبابه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين نِعم المولى ونِعم النصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله أرسله رحمة للعالمين فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة فجزاه الله عنا وعن أمته خير ما جزى به نبي عن أمته . ثم أما بعد :
أيها الأحبة في الله ما زلنا وإياكم مع المثاني وهي فاتحة الكتاب وقد وصلنا بحمد الله عز وجل وإياكم إلى الآية الثالثة منها وهي قوله تعالى :{الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } والآية الثانية أيضاً وهي {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} على أن الآية الأولى هي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقد ذكرنا في المقدمة أن كل آية من آيات الفاتحة أصل يُبنى عليه ويُستنبط منه مقاصد كثيرة من مقاصد القرآن، وذكرنا أن هذه الآية {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} أصل يُبنى عليه قاعدة الرجاء في القرآن كله ولذلك قواعد العبادة ثلاث :
/ قاعدة المحبة وهي مشتقة من الآية الأولى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}
/ قاعدة الرجاء وهي مشتقة من الآية الثانية {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}
/ قاعدة الخوف والرهبة من الله عز وجل وهي مشتقة من الآية الثالثة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.

 واليوم مع الآية الثانية {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}:
/ علاقتها بالآية التي قبلها {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}، وعلاقتها بالآية التي بعدها {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
/ والفرق بين {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} الواردة في الفاتحة و{الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} الواردة في البسملة
/ والعلاقة بين الترتيب في أسماء الله عز وجل حيث ذُكِر اسم الجلالة الله أولاً {الْحَمْدُ لِلَّهِ }، ثم الرب ثانياً {رَبِّ الْعَالَمِين} ، ثم الرحمن ثالثاً {الرَّحْمَٰنِ} ، ثم الرحيم رابعاً ، ثم {مَالِكِ} و { مَلِكِ } خامساً على قراءة { مَلِكِ } وعلى قراءة {مَالِكِ}
 وأن هذا الترتيب أيضاً استُنبط منه معاني كثيرة:
فتقديم الله دل على أن هذا الاسم الأعظم الذي جميع الأسماء صفات ونعوت له : فالله هو رب العالمين ، الله هو {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} ، الله هو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، الله وحده هو المعبود  {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، والله وحده هو المستعان به { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} ، والله وحده الذي يهدي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } ، الله وحده المُنعم { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} أنعم الله عليه .. إلى غير ذلك، ولكن بقية الأسماء نعوت وصفات .
وذُكرت هنا هذه الأسماء لبيان أهميتها في أسماء الله عز وجل،  فاسم (الرب) أصل توحيد الربوبية، واسم (الله) أصل توحيد الألوهية، واسم (الرحمن الرحيم) أصل توحيد الأسماء والصفات ، فالأسماء والصفات إذا ذُكر هذا القسم من أقسام التوحيد أول ما يُصرف النظر إلى اسم (الله) إلى اسم (الرحمن الرحيم) ، (الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من صفة واحدة وهي الرحمة وهذه الصفة هي أخصّ صفات الله عز وجل وهي الصفة التي كتبها على نفسه { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَة } ولهذا قُدِّم لفظ (الرب) على لفظ (الرحمن) لاشتمال ربوبيته على رحمته { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } ولهذا استوى الرب جل جلاله على عرشه بأوسع أسمائه وأوسع صفاته ليشمل استواؤه على عرشه جميع خلقه في رحمته ، فاستوى على عرشه باسم (الرحمن) فقال تعالى : {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فما تحت عرشه خلْقُه وما فوق عرشه هو جل جلاله ، والأصل في عروش الملوك أن يكون أصحاب العروش ذووا كبرياء، ملِك متكبر على عرشه { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } كبرياء .. ظلم ، أصحاب العروش عندهم كِبْر واستووا على عروشهم بالكِبر ، لكن الله جل جلاله المتكبر .. المتعال .. العلي .. الكبير ، لكن مع ذلك لم يقل : الكبير على العرش استوى ، ولم يقل : المتكبر على العرش استوى ، ولم يقل الجبار على العرش استوى ، ولم يقل : الله على العرش استوى ، وإنما قال : { الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ليُبين لخلقِه أنه خلقهم برحمته ، وأنه أيضاً تولى أمرهم برحمته ، وأن رحمته وسعتهم جميعاً { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً} { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} .
 عندما تقول في فاتحة الكتاب { رَبِّ الْعَالَمِين *الرَّحْمَٰنِ } وتقرأ في خواتم سورة القمر { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر * الرَّحْمَٰنِ} تجد أن الرحمن رحمته شملت الدنيا والآخرة ، فهو رحمن الدنيا ورحمن الآخرة ، وهو أيضاً رحيم في الدنيا ورحيم في الآخرة ، إلا أن رحمته التي كتبها لعباده المؤمنين خصّهم فيها باسمه (الرحيم) ، و(الرحمن) اسم عام لجميع خلقه ، ورحمته في الآخرة للمؤمنين خصّهم أيضاً باسمه (الرحيم) ولهذا قال الله عز وجل عن سلامه على أهل الجنة : { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيم} وقال أهل الجنة : { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيم} يعني في الدنيا وقال تعالى عن عباده الذين اصطفاهم : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } فبيّن لنا الفرق بين اسمه الرحمن وبين اسمه الرحيم وأن اسمه الرحمن يستوي خلقه فيه ، حظ خلقه من اسمه الرحمن الناس فيه سواسية كلٌ قد أخذ من رحمة الله المؤمن والكافر على حد السواء ، لكن الله فضَّل المؤمنين وخصّ المؤمنين باسمه الرحيم ولهذا جاءت الرحيم مع الرحمن تارة ومع الغفور تارة أخرى ومع الرؤوف تارة أخرى { غَفُورٌ رَحِيم } { رؤوف رحيم } { رحمن رحيم } إلى غير ذلك. وهذه أسماء مدلولاتها تخصّ المؤمنين فالرأفة والمغفرة والرحمة والموالاة إلى غير ذلك بالمؤمنين أخصّ.
 وعندما نريد أن نفرِّق بين اسم (الرحمن) واسم (الرحيم) فإننا نقول :
 الرحمن: ذو الرحمة الواسعة { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً } وهذا معنى الرحمن { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } وهذا معنى الرحمن.
معنى الرحيم: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فمن خُصصوا بكتابة الرحمة لهم فهؤلاء أصحاب الرحمة الواصلة التي لا تنقطع لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا هو الفرق بين الواسع والواصل وأضرب لكم مثلاً : عندما تتلبد السماء بالغيوم فلا ترى إلا سحباً تقول : السماء ملبدة بالغيوم والغيوم واسعة وسعت المكان لكن لم تهطل قطرة ماء، فسِعة الغيوم استفاد الناس منها أن هذا الغيم لطَّف الجو وحال بينهم وبين حرارة الشمس وهذا من الرحمة لكن لم تنزل ولم تصل فإذا نزلت وهطلت ووصلت واهتزت الأرض وأنبتت من كل زوج بهيج نقول : وصلت ، فالغيم رحمة ووصول السحاب إلى الأرض وصول الرحمة ، فسعته من سعة الرحمة ووصوله من وصول الرحمة ففرق بين السعة والوصول فقد توجد السعة من غير وصول ولا يوجد الوصول من غير السعة .. واضح ، فينزل السحاب من سِعة السحاب ولكن قد يتسِع السحاب ولا ينزل منه شيء ، لهذا رحمة الله واسعة لكن لا تُكتَب لكل أحد وإنما تُكتَب رحمة الله للمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}،{ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيم }، { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} أي عند الموت { أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيم } .
إذاً ما الفرق بين الرحمن والرحيم ؟ 
الفرق بينهما كالفرق بين فعلان وفعيل ، وما الفرق بين فعلان وفعيل ؟
 الفعلان صيغة تدل على الامتلاء بالصفة ، وفعيل صيغة تدل على ديمومة الصفة ، فالامتلاء بالصفة قد لا يقتضي أن تستمر ولكن ديمومة الصفة تقتضي الاستمرارية ، مثال : عندما تقول نعسان على وزن فعلان فإذا نام زال نعاسه ، عطشان على وزن فعلان فإذا شرب زال عطشه ، مرضان فإذا شفي -برئ- زال مرضه ، غضبان فإذا رضي زال غضبه ، فكل صفة في اللغة العربية تأتيك على وزن فعلان فيجوز أن تزول إذا زال سببها.
 إذاً الرحمة الواسعة لها أسباب فإذا وُجدَت أسبابها استمرت وإذا فُقدت أسبابها رُفعت ، ولذلك رحمان الدنيا لكن ستزول رحمته عن الدنيا بحذافيرها فيغضب غضبته الكبرى التي هي يوم القيامة ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فكانت غضبته زوالٌ لمظاهر رحمته ، فالسماوات من رحمته تتشقق من غضبه { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت} ، والأرض من رحمته تتزلل من غضبه { إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} ، والشمس والقمر من رحمته { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } ، والحمل والرضاعة من رحمته فإذا غضب { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} ، القرآن من رحمته { الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَان }، نعم قال : { الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ } ولم يقل الرحيم علم القرآن ولو قال الله : الرحيم علم القرآن لبقي القرآن يُعلَّم في الدنيا ولما رُفع ، ولكن الرحمن إذا غضب زالت مظاهر رحمته عن الكون عند غضبه وعندئذ حتى القرآن الذي هو رحمة من الله سيُرفع ، (لا تقوم الساعة حتى يُرفع القرآن من بطون المصاحف ومن صدور الحفظة فيتقدم الرجل ليصلي فلا يجد آية من كتاب الله يقرأها) ، الرحمن على وزن فعلان والرحيم على وزن فعيل.
  أمثلة فعيل : طويل يبقى طويل، قصير يبقى قصيراً، متين يبقى متيناً، سمين في الأصل يبقى سميناً، سكير دائم السكر، نعيس دائم النعاس، مريض دائم المرض، فلا تأتِ صفة فعيل إلا على من استمرت الصفة معه حتى اتصف بها.

 كيف نجمع بين وجود الرحمة العامة الواسعة ووجود الرحمة المستمرة المتصلة؟ 
يوم القيامة أليس يوم غضب؟ هو يوم غضب ولكن ليس على كل الناس { هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُون } { هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} هذا يوم يقال فيه لأهل الجنة : { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِين } { لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُون } إذاً الغضب لم يشملهم لأن الرحيم قد شملهم برحمته التي أدخلهم فيها يوم دخلوا الإسلام {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } فالله جل جلاله إذا رحم العبد هيأ له أسباب استمرار الرحمة.
 طيب {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة حَرُمَ أن يجتمع معه في الدنيا عذاب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِم } لماذا ؟ لأنك رحمة والرحمة والعذاب لا يجتمعان، فإذا مات النبي صلى الله عليه وسلم هل تموت الرحمة بموته؟ لا {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم} الرحمة مصدرها الله وليس محمد صلى الله عليه وسلم بل محمد أثر من رحمة الله لكن إذا مات فإنه ترك فينا أسباب الرحمة كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ( تركتكم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك كتاب الله وسنتي ) (محجة بيضاء ليلها كنهارها) ليل مشبّه والنهار مشبّه به ووجه الشبه بينهما الضياء، أي ليلها لا سواد فيه ولا ظلمة فيه فهو كالنهار ببياضه ونهارها مشرق وإذا كان نهارها القرآن وليلها السنة فليلها كالقرآن (أُوتيت القرآن ومثله معه)، إذاً هذه الرحمة كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر أسباب نزول الرحمة (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا ونزلت عليهم السكينة ) السكينة من آثار الرحمة (وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) ثم يقال لهم قوموا مغفورا لكم وقد بُدلت سيئاتكم حسنات، كل هذه الأربع داخلة في عموم الرحمة وشمولها ، فالسكينة لا تنزل إلا برحمته ، والرحمة لا تغشى إلا بإذنه ورحمته أيضاً، والملائكة لا تتنزل إلا برحمته ،والمغفرة لاتحصل إلا برحمته { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }.
 إذاً عندما تقرأ في صلاتك وأنت بين يدي الله { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يقول الله : حمدني عبدي ، فما بعد الحمد هو ثناء وما معنى الثناء؟ الثناء هو: قمة المدح فإذا أردت أن تمدح الله وتثني عليه ماذا تقول؟ تقول : {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} أثنى علي عبدي ومن نظر بعينيه وقلّب ناظريه في هذا الكون لا يرى إلا آثار الرحمة فالأرض شاهدة على رحمته، والسماء شاهدة على رحمته، وما بينهما شواهد رحمته،{ وَفِي أَنْفُسِكُم } شواهد رحمته { أَفَلَا تُبْصِرُون }، { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى } فبرحمة الله لم يبقَ نطفة، ولهذا جعل الله مكان الخلق رحم ، والرحم مشتقة من الرحمة (أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها إسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته) الرحم أصلا موطن الخلق { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَام } جمع رحم ، إذاً .. إذا أردت أن تنظر إلى آثار رحمة الرحمن فانظر إلى الرحم { وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَاد} وانظر إلى الأطوار التي مررت بها لترى آثار الرحمة بك { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى } المني ماذا كان قبل أن يكون منياً ؟ كان دماً ومن الدم الأحمر خُلق المني الأبيض وهذا المني خلق من سائر جسد الرجل ثم يخرج ماء دافقاً { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ } صلب الرجل وهو الظهر { وَالتَّرَائِبِ } ترائب المرأة ليختلطا فيكون نطفة، فإذا اختلط لا يخلتط كله بكله وإنما من بين ملايين الحيوانات المنوية واحد يحيا هو أنت وملايين الحيوانات تموت وهي غيرك فمن اصطفاك لتكون أنت أنت من بين الملايين ذكور وإناث كانوا يتسابقون إلى البويضة التي سبقت إليها أنت ، الله .. سبقُك إليها برحمته، وأربعين يوماً والنطفة تجري لا قرار لها في الرحم ورحمة الله ترعاها، لم تسقط مع البول ولم تسقط بالحركة لكن لا قرار لها في جو الرحم فإذا أكملَت أربعين جاء أمر الله إليها أن تتعلق بالجدار لتتغير من نطفة إلى علقة، ثم تتعلق بجدار الرحم لتمتص منه وبينما هي في تعلقها في جدار الرحم وتمتص من شعيرات الدم إذ يأتي أمر الله إليها برحمته أن تتحول من علقة إلى مضغة فإذا بالعلقة أصبحت مضغة، وبينما هي مضغة إذ جاء أمر الله إليها أن نتقسم إلى قسمين : مخلّقة وهي أنت ،وغير مخلّقة وهي المشيمة التي ستتغذى منها بدل اتصالها بجدار الرحم أصبحت متصلة بالمشيمة -سبحان الله- وأربعين يوماً وبرحمة الله يأتي الأمر لهذه العلقة أن تصبح عظام من لحم إلى عظم فإذا بهيكل عظمي أكبر ما فيه الرأس والبقية صغير بما فيه اليدين والرجلين والصلب، كلها صغيرة لا تكاد العين تراها ، عظام وتبدأ العظام تكبر هيكل عظمي ليس عليه لحمة ،ثم تأتي شريحة من العروق ومن الأعصاب مقسّمة على جسدك فوق العظام تغطي تلك العظام، ثم يأتي بعد ذلك غطاء ولباس من اللحم متصل اللحم بالعصب ومتصل بالدم والكل متصل بالعظم { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} ثم جعل قبائل العروق قسمين وجعل الدم الذي يجري فيك قسمين دم شرايين غليظ ودم أورده رقيق يلتقيان ولا يلتقيان مصدرهما القلب مرج الدمان يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ، شريان دم غليظ والأوردة دم رقيق والكل يدخل إلى القلب ويخرج ولا يختلط هذا بهذا، فِعل من هذا؟ فعل الله ، ونبضات القلب تتحرك والطبيب ينظر والدكتورة تنظر والقلب ينبض .. من أنبضه ؟ فإذا بلغت أربعة أشهر بعث الله إليك ملك كريم ، من أنت حتى يُبعث لك ملَك؟ رحمة من الله ثم يُرسل إليه الملك، أنت يُرسل لك ملَك يُرسل بهدية من الله لولاها لما كنت أنت أنت ولولاها لما كنت شيئاً مذكوراً { هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } فقط ؟ لا.. ومتكلماً ومريداً ومتحركاً وآكلاً وشارباً و.. و.. إلخ { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } يُرسَل إليه الملك برحمة الله فينفخ فيه الروح والروح تُنفَخ من الأعلى من الرأس ثم تنتشر في الجسد ، وآدم أول ما نفخت الروح في رأسه ثم نزلت إلى صدره فلما وصلت الروح إلى الصدر عطس فألهمه الله الحمد فقال : الحمد لله رب العالمين ، فقال الملائكة له: رحمك ربك ، ولذلك أصبح كلما يعطس أحد نقول له يرحمك الله، فجاء الله جل جلاله لنا في فاتحة الكتاب بما قاله آدم عند عطاسه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وبما يقال للعاطس بعد عطاسه يرحمك الله {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} ، فإذا اكتمل خلقك سبعة أشهر.. ثمانية أشهر.. تسعة أشهر.. تزيد قليلاً .. تنقص قليلاً إذا بك تخرج ويدلك الله على طريق الخروج، كان رأسك أعلى ورجولك أسفل ووجهك إلى ظهر أمك وظهرك إلى بطن أمك فإذا بالأمر يأتيك .. السبيل من هناك .. الخروج من هناك نزّل رأسك أولاً فإذا بالطفل ينكّس رأسه أسفل { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْق } نعمره في بطن أمه نُنكسه .. نُعمّره في الدنيا ننكسه ، وإذا بك تضرب برأسك عضلة الرحم وقد جاء الأمر للرحم إذا ضرب الولد عضلة الرحم فليتسع { وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَاد} وإذا بمقدمات الولادة ماء لزج يخرج حتى يفتح لك الطريق وإذا بك تخرج من هذا الضيق الذي لولا الله ورحمته لما خرجت منه وإذا به فرج عليها بعد العناء الطويل وفرج عليك بعد العناء الطويل وبكاء منها وبكاء منك ولكن بعد البكاء فرح، امتلأ قلبها حناناً وحباً وامتلأ صدرها لبناً { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } برحمة مَن؟ الله ، من علّمك أن هذا المكان فيه لبن؟ هل أخذت دورة في الرضاعة وأنت في بطن أمك؟ من علّمك؟ من أي كلية تخرجت أو مدرسة تخرجت لتعليم الرضاعة؟ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قدر الرزق فهدى إليه فإذا بالغلام -الطفل- يُلهَم الرضاعة وإذا به يمص وليس له أسنان ولو كان يولد الطفل بأسنانه لرمت كل والدة ولدها لكن من غير أسنان حتى يرضع بلطف، فإذا أراد الله عز وجل أن يُبعِده أنبت له الأسنان وأصبح يعض أمه وأصبحت تبعده ثم يأتي الفطام بعد ذلك { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } لا تزيد ، إذا نقص من الحمل زاد من الرضاعة، وإذا نقص من الرضاعة زاد في الحمل إن أكمل تسعة اشهر نقص من السنتين يُفطَم قبل تمام السنتين وإذا نقص في بطن الأم أكمل سنتين، وأقصر مدة بين الحمل وبين الولادة ثلاثين شهر.
 ولدت امرأة في عهد عمر بن الخطاب مولوداً على ستة أشهر فاتهموها بالزنا لأنها نادراً تلد المرأة على ستة أشهر فقال علي بن أبي طالب : قد ولدت والولد لفلان زوجها الذي تزوجها قبل ستة أشهر قالوا : وما دليلك على ذلك؟ قال : دليلي كتاب الله الله عز وجل يقول : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَة } فالرضاعة لا تزيد على سنتين وقال : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} سنتين أربع وعشرين شهر وأربع وعشرين شهر ناقص ثلاثين شهر الباقي هو الحمل ستة أشهر.. الرحمة. ولذلك عندما ترجع إلى هذه الجوارح التي خُلقَت من مني يُمنى تجد العجب العجاب، العين الناظرة والأذن السامعة واللسان الناطقة واليد ذات الإحساس المختلف برودة وحرارة وملمساً و..و.. إلخ والكل من ماء واحد ، كيف أصبح من هذه القطرة كل هذه!! هذه رحمة الله عز وجل كما أن الماء إذا نزل على الأرض أهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، انظر إلى المزارع المختلفة تجد العجب العجاب الحبة تأخذها برحمة الله المزارع يأخذها ويرميها في الأرض { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُون} هذا حرث { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَه } حتى يكون زرعاً {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون }، { اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ} ، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق } ، { فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فالذي فلق الحبة حتى أنبت منها شجرة وفلق النوى حتى أنبت منها نخلة هو الذي فلق البويضة وأدخل فيها الحيوان المنوي وأنبت منها بشراً {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا } هذه آثار الرحمة.
 السمع هل هو العظْمَة هذه ؟ والبصر هل هو العين ؟ والكلام هل هو اللسان ؟ لا .. السمع شيء ثاني غير الأذن والبصر شيء ثاني غير العين والكلام شيء ثاني غير اللسان، كم من أبكم له لسان وشفتين، وكم من أعمى له عينين وأربعة جفون، وكم من أصم له أذنين أكبر منك ولا يسمع شيئاً ،إذاً الأسماع والأبصار والألسن والأفئدة آثار من آثار رحمة الله من أجل أن تعلم أنه لا إلا الله {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } لماذا يذكر السمع قبل البصر؟
{ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } لماذا وحّد السمع مع أنهم أسماع وعدد الأبصار والأفئدة؟ قالوا : لأن الحق واحد وشواهده كثيرة فالله أنزل كتاباً يُقرأ ويُسمع وبث في الكون آيات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَات } طيب هذا الكتاب فيه آيات بينات لكنها كلها مسموعة بشرط وجود القلب { إِنَّ فِي ذَٰلِك} القرآن { إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد } شهيد القلب حاضر القلب.
 إذاً عندما نقرأ {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} فنحن نفتح باب ثناء على الله عز وجل وينبغي في هذا الوقت أن تستحضر آثار رحمة الله في الكون .. في الآفاق .. في نفسك .. وعندما تستحضرها سيمتلئ قلبك رجاءً لأن الرحمة واسعة وستشملك لا محالة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعبِّر عن الرحمة قال: ( غشيتهم الرحمة )، وذكر الله عز وجل في قصة موسى والخضِر قال :{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } فجعل الرحمة مرتبطة بالعندية والعلم مرتبط باللدُّنية فأصبح العلم مخصوص والرحمة عامة.
 (عند) و (لدن) كلمتان فإذا قلت (عند) فمن وصل مكان العندية شمله مافيه { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر } الرحمن ، فكل من دخل إلى هذا المقعد مقعد الصدق وهي الجنة وجد كل مافيها .. واضح ؟ { قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } إذاً هذا البيت في الجنة لآسيا وليس فقط بيت لآسيا بل بيوتات لأهل الجنة، ليس بيتاً واحداً وليست جنة واحدة بل جنان.
 لكن كلمة (لدن) إن جاءت أفادت التخصيص، أصحاب الكهف دخلوا كهفهم {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} فكانت الرحمة لأصحاب الكهف لدُنية لم يدخل فيها من كان خارج الكهف { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } إذاً الرحمة داخل الكهف لم تخرج منه، أما الرحمة التي عند الخضر فقد شملته وشملت موسى معه وشملت أصحاب السفينة التي ركبها وشملت الغلام الذي قتله ووالديه والجدار واليتامى وكل من صاحبهما أخذ من تلك الرحمة نصيب لأنها عندية ، بينما العلم كان لدُنياً فاضطر موسى أن يسأل ولو كان العلم عندياً كالرحمة عندية لتساووا في العلم كما تساووا في الرحمة .. اتضحت ؟
 إذاً الرحمة قد تكون لدُنيةً وقد تكون عنديةً ، فإن كانت لدنية خُص بها من وقعت عليه كرحمته لأصحاب الكهف { آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } لم يدخل فيها آباءهم ولا أهلوهم ولا من حولهم في الجبل لو أن حولهم أناس ،{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد } مدخل الكهف لو تجاوزت الكلب لدخلت في الرحمة ومن هنا قال الإمام القرطبي رحمه الله : "أن الكلب -كلب أصحاب الكهف- لم يدخل معهم في الكهف إذ لو دخل الكلب في الكهف لمنع دخول الملائكة إلى الكهف والملائكة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال فبرحمة الله حبس كلبهم بالوصيد لتشملهم الرحمة وتتنزل عليهم الملائكة فتقلبهم ذات اليمين وذات الشمال" وقال: "وفي ذلك فائدة أن كلب الحراسة لا يمنع دخول الملائكة البيت" فلو إنسان في بلد فيه لصوص لا مانع أن يضع في باب داره كلباً يحرسه من اللصوص والملائكة ستدخل داره إذ الباب -وهو الوصيد- لا يعتبر من الدار لكن لا تدخل كلبك معك في غرفتك فيمنع دخول الملائكة إلى غرفتك ، وكذلك الصور المعلقة والصور المصورة تمنع دخول الملائكة فلا ينبغي أن تُدخلها معك في غرف نومك ولا في مجلسك إذ هذه قد تمنع دخول الملائكة فالملائكة لا تدخل بيت فيه كلب ولا بيت فيه صورة.
عندما نتحدث عن آثار الرحمة فنجد أن رحمة الله فعلاً وسعت كل شيء .. هل إبليس شيء ؟ نعم شيء.
طيب وسعته الرحمة؟ نعم وسعته الرحمة ثم أُخرج منها لأن أصل اللعن هو الخروج من رحمة الله فهو كان أصلاً في رحمة الله ثم أُخرج من رحمة الله إلى لعنة الله لكن بعد لعنته دعا فاستجيب له { فَاخْرُجْ مِنْهَا} ثم قال : ربي اجعلني من المنظرين فاستجاب الله له بعد لعنته وهذا يدل على سعة رحمة الله فإذا كان استجاب لابليس وهو ملعون فكيف لا يستجيب لك وهو الذي يقول :{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم } !! ومن هنا يفتح الله لنا باب رجاء كبير خاصة مع الذنوب، عندما تذنب وتعمل كبيرة وأخرى وكبائر كثيرة وتأتي بقراب الأرض خطايا ثم تعتقد أن الله عز وجل رب واحد إله لا شريك له في ألوهيته ولا ربوبيته ولا أسمائه ولا صفاته ، اعتقدت توحيده ثم أتيته بهذا القلب الذي يعتقد التوحيد ويرجو المغفرة لأعطاك الله مقابل توحيده فقط مغفرة يغفر بها ذنوبك كلها وهذه هي سعة الرحمة ( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )، وإذا كنت تشك أو تظن أن الله لا يعلم ذنوبك فهذا كفر ( لن تُطاع إلا بإذنك ولن تُعصى إلا بعلمك ) فالله يعلم كل شيء صغيراً كان أو كبيراً يفعله عباده.
طيب.. لماذا الذنوب؟ الله قادر على أن يجعل عباده جميعاً صالحين لا يذنبون ولا يعصونه كالملائكة لكن الله جل جلاله له أسماء وله صفات ولابد أن يخلق خلقاً يحقق بخلقه أسماءه وصفاته، فهو الغفور لو لم يذنب المذنبون لما عُلِمت مغفرته ، وهو الرحيم لو لم يقترف الناس ذنوباً يرجون بعدها رحمته لما عرف الناس رحمته ولهذا { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فكان اسم (التوّاب) لو لم يتلقى آدم كلمات التوبة ما علِم العباد معنى (التوّاب) ، وربما يئسوا من رحمة الله وقنطوا منها { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}.

  رحمة الله عز وجل لها أماكن توجد فيها، ولها أحوال توجد معها، ولها أقوال تُستنزَل بها.
 فمن أماكن الرحمة:
أولا: المساجد، حينما تريد تدخل المسجد ماذا تقول ؟ "بسم الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" فمجرد ما تدخل في المسجد دخلت في أبواب رحمة الله.
 ثانياً : القرآن الكريم، كل حرف من حروف القرآن هو باب من أبواب رحمة الله { الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ } فكل حرف من القرآن تقرأه أو تسمعه أو تتلوه يفتح لك باب من أبواب رحمة الله عز وجل.
ثالثاً : كل ضعيف فقير مسكين ترحمُه يعطيك الله رحمة أعظم من رحمتك تلك به (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) حتى الطفل ولدك إذا أخذته فقبّلته رحمة به رحمك الله وأنت تُقبِّل ابنك ، والديك إذا خضعت لهما وخفضت جناح الذل رحمك الله {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } لماذا قال : { رَبَّيَانِي } ولم يقل رحماني؟ إن رحمة الوالدين بالولد وقت ضعفه تقتضي رحمته بهما وقت ضعفهما { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } والجزاء من جنس العمل لقد كنت ضعيفاً تحتاج إلى رحمة حملتك أمك كرهاً ووضعتك كرهاً ،حملتك أمك وهناً على وهن وفصالك في عامين مع ذلك كله بعض الناس إذا قوي واشتد اشتد حتى على والديه فأنّا يُرحم هذا ، من لا يَرحم لا يُرحم حتى إن الرحمة تتجاوز البشرية لتصل إلى الحيوانات (دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) لو أطعمتها لرحمتها ولو رحمتها لرحمها الله ولو رحمها الله لأدخلها الجنة لكنها لم ترحم قطة فما بالك بمن لا يرحم البشر؟! دخلت الجنة امرأة بغي زانية تتكسب بالزنا وتأخذ المال من الزنا والزنا من كبائر الذنبوب { وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَاب } ومع ذلك هذه الزانية سقت كلباً يلهث من العطش، رحمت كلباً فرحمها الله وغفر لها وأدخلها الجنة (الراحمون يرحمهم الله) ، وعندما تعفو وترحم وأنت قادر فالله يعفو ويرحم أكثر منك ، وعندما تتكرم الله يتكرم أكثر منك { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان }.
 إذا وقفت بين يدي الله وأنت تقرأ : {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } وتستمع إلى حديث النبي  عن رحمة الله ترى العجب العجاب ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة في الدنيا فبها يتراحم الخلق حتى ترفع الأم حافرها عن ولدها رحمة به وادّخر لعباده المؤمنين تسعة وتسعين رحمة في الجنة ) إذا هذه الدنيا كل ما فيها من الرحمة بما فيها السحب { بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه }، وبما فيها الكتب المنزلة على الناس من رحمة الله { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } الرسل المرسلة برحمة الله كل هذا رحمة واحدة. محمد صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين } كل هذا رحمة واحدة وتسعة وتسعين رحمة أدخرها لعباده المؤمنين في الجنة.
 يبقى عندك باب الرجاء مفتوح تقول : والله مادام ربي وسع كل شيء رحمة سيرحمني لا محاله فينفتح باب الرجاء ويحسُن الظن بالله عز وجل وخصوصاً يوم القيامة.
 لماذا قال بعد { الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } { مَالِكِ يَوْمِ الدِّين }؟ أتدرون لماذا؟
 ما العلاقة بين { الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } و{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّين }؟
 يوم الدين يوم الجزاء ، والجزاء هناك برحمته (والله لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت يارسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) دعونا نحللها ..
 ألم تصلي لله؟ بلى ، ألم تصم؟ بلى ، ألم تزكي؟ بلى ، ألم تحج؟ بلى، ألم تعتمر؟ ألم تعمل الصالحات؟ بلى ، طيب كيف تدخل الجنة برحمته وقد عملت كل هذا ؟
 طيب ارجع شوية هذا العمل من هداك له؟ الله ، من قوّاك عليه؟ الله ، من ثبتك عليه ولم يفتنك؟ الله 
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّه } أصل العبادة توفيقه { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَام } ، طيب لو لم يشرح صدرك للإسلام أكنت مسلماً ؟ طبعاً لا ، لو لم يُعنك على العمل الصالح أكنت عملت صالحاً؟ ولهذا أهل الجنة جميعاً اعترفوا في الجنة أنه لا فضل لهم فيما عملوا وأن الفضل كله لله {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه}، وأول هداية الله لنا إرسال الرسل { لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق } فلو لم يبعث رسلاً ، لو لم ينزل كتباً هل تعرّف الخلق عليه ؟ طبعاً لا .. إذاً البداية منه والنهاية إليه والمبتدأ منه والمنتهى إليه { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَى } سبحانه وتعالى.
{ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِه } الرحمة هي الإسلام يُدخل الله فيها من يشاء ومن أدخله في رحمته في الدنيا أدخله في جنته في الآخرة، ومن لم يدخله في رحمته في الدنيا لا يدخله جنته في الآخرة.
طيب النبي صلى الله عليه وسلم{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } لكن هل يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدخِل شخص واحد في الإسلام من غير هداية الله له؟ {إِنَّكَ} يا محمد {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } لقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب حباً جماً وحزن على وفاته ومع ذلك لم يستطع يدخله في الإسلام (يا عماه قل لا إله إلا الله) فلم يقلها ، وقد كان غضب النبي  صلى الله عليه وسلم من وحشي قاتل حمزة وهمّ بقلته وأقسم قال :( والله لأُمثِّلن بسبعين رجل ) -طبعاً وعلى رأسهم وحشي رقم واحد- فنزل القرآن {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ۖ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين } قال : (والله إذاً لنصبر) ، وجاء وحشي الذي كان مهدور الدم ودخل الإسلام { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء }.
 { الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيم} من الأماكن التي هي أماكن رحمة كذلك:
الأماكن التي يُذكَر فيها اسم الله يتلى فيها القرآن ويذكر فيها اسم الله هذه أماكن رحمة ولو لم تكن مساجد لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم :( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ) وفي رواية ( وما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ) من غير ذكر (بيت من بيوت الله) مع أن بيوت الله تفيد عموم جميع البيوت لأن كل ما في الأرض هو لله ويدخل في ذلك المساجد وهي أخصّها ، ويدخل فيها بيوت الناس التي تسكنها إذا ذكروا الله عزوجل فيها.
/ أيضاً من مواطن الرحمة زيارة المرضى ، المستشفيات التي فيها المرضى والضعاف من زارها فإن المريض دعاؤه مستجاب والدعاء له مستجاب لأن الله عند المنكسرة قلوبهم، والمنكسر قلبه -المضطر- يدخل فيه المريض والمظلوم وغير ذلك، خاصة عند اشتداد الألم فالمرأة عند ولادتها دعاؤها مستجاب لأنها في وقت اضطرار، وقد نبّه القرآن على ذلك في قصة أم مريم -حَنة- {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} هنا الدعاء عند الولادة { أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } والفاء تدل على سرعة الاستجابة.
/ أيضاً عند نزول المطر: تنزل الرحمة عند نزول المطر { يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه } وأطلق على المطر رحمة والدعاء عند نزول المطر مستجاب ، والمطر يحمل رحمةً فهو ماء مبارك { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًاً } وبركته لا تقتصر على الشرب حتى على الاغتسال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل المطر  خرج  وحسر عن رأسه -يعني كشف عن رأسه- حتى يصيبه من ماء المطر ويقول:( هذا ماء مبارك حديث العهد بربه ) وهذا تعرض لرحمة الله ، وأيضاً ماء المطر يذهب رجس الشيطان يبطل السحر والعين والحسد والمس ويُطهّر من الجنابة لأن كل ذلك يدخل في رجس الشيطان وقد أخبر الله بذلك في قوله :{ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } يعني من الجنابة {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان} من كان معه سحر لأن أهل المدينة -خاصة المهاجرين- قد سُحِروا سحراً عاماً كما ورد في الحديث عندما قدموا المدينة وفيها اليهود فعمل اليهود سحراً عاماً للمهاجرين لدرجة أن المهاجرات لم تحمل منهن أي امرأة في السنة الأولى من الهجرة وعلموا أن ذلك بسبب السحر وهو سحر عام حتى قدمت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها مهاجرة وهي حبلى بعبد الله بن الزبير فلما وضعته فرح به المهاجرون فرحاً شديداً لأنه كسر هذا السحر الذي تحدث به اليهود أنهم فعلوه وأن المهاجرين لن يتوالدوا ولن يتناسلوا وسيموتون وعندئذً ينقرض المهاجرون المسلمون ويبقى الأنصار ويعود الأمر إلى ما كان عليه قبل الإسلام وبدأوا يحددون مدة الإسلام سبعين سنة وينقضي ولما نزلت { الم } قالوا : عرفنا مدة الإسلام وكانوا يعدون أرقام الحروف فالألف يدل على واحد واللام على ثلاثين والميم على أربعين فقالوا مدة عمر الإسلام واحدة وسبعين سنة وينتهي فلما جاءت { المر } {المص} ، {كهيعص}، {حم عسق} قالوا : والله ماعاد نعرف نعد لأن هذا شيئاً مستمرا وأبطل الله سحرهم خاصة بعد غزوة بدر وبعد المطر المبارك الذي أذهب الله به رجس الشيطان وسحر اليهود فالمطر من مبطلات السحر إذا تعرض له المسحور وهذا من رحمة الله.
/ أيضا.. من أماكن الرحمة وأحوالها حال السفر فالمسافر في معية الله إذا كان سفره في طاعة ولذلك دعاء السفر ( اللهم أنت الصاحب في السفر ) ومن كان مع الله لا يخاف دركاً ولا يخشى ومن كان صاحبه في سفره الله فسيُرحم وسيُطعم وسيُكرم وسيُحفظ ..الخ.
 / أيضاً من أسباب الرحمة وأحوالها التعرض لها في الثلث الآخر من الليل فإن الله عز وجل ينزل نزولاً يليق بجلاله إذا كان ثلث الليل الآخر فينادي ( هل من سائل فأعطيه ، هل من مستغفر فأغفر له هل ما داعٍ فأستجيب له ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول :( ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) وكان هذا أيضاً دعاؤه يوم بدر { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} فالدعاء والاستغاثة والالتجاء إلى الله من أسباب الرحمة، والرحمة من أسباب إجابة الدعاء.
 / أيضاً من أسباب الرحمة العمرة والحج فالذي يذهب إلى مكة هذا قادم { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } هذا مسافر إلى الله { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ} والسفر إلى زيارة بيت الله من أسباب الدخول في رحمة الله عز وجل الواسعة.

 { الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } تقتضي أيضاً من المؤمن أن لا يتوقف لسانة عن الثناء على الله عز وجل، والله عز وجل يحب الثناء ومن أسباب إجابة الدعاء الثناء، والفاتحة تعلمنا كيف ندعو الله ، فالله عز وجل كان قادر على أن يقول قولوا : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم } من غير مقدمات لكن جاءنا بخمس مقدمات قبل {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}:
 المقدمة الأولى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذا الحمد هو أول مفتاح لإجابة الدعاء.
والمفتاح الثاني : {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} وهذا الثناء على الله عز وجل برحمته هو المفتاح الثاني لإجابة الدعاء.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهذا المفتاح الثالث وهو تمجيد الله.
 وما علاقة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بتمجيد الله؟
 لأن المجد يوم الدين لله وحده لا ملك إلا هو ولا مالك إلا هو جل جلاله وهذا المجد (مجّدني عبدي ).
ثم بعد هذه الثلاث قال :{إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهذه الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فيها توحيد العبادة أي لا أصرف عبادة إلا لك والدعاء عبادة فلا تدعوا غير الله ، والنداء -الاستغاثة- عبادة فلا تستغيث إلا بالله، والصلاة عبادة فلا تصلي إلا لله، والسجود عبادة لا تسجد إلا لله، والركوع عبادة لا تركع إلا لله، والقيام عبادة لا تقوم إلا لله، ولا تفعل عبادة إلا لله فمن أشرك به في عبادته لا يُستجاب له، ومن وحَّده في عبادته وحمِده وأثنى عليه ومجده فإن الله يستجيب له ولهذا قال في سورة البقرة :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي } من السائل؟ عباده الذين يقولون :{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي } وهذه حقيقة العبادة ، وأن تقول أنك عبد لله ولا تستجيب لله فهذه دعوى ، لكن استجبت له فإنه يستجيب لك أكثر .. اقتربت منه فإنه يقترب منك أكثر ، والجزاء من جنس العمل { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}.
 المفتاح الخامس : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهو آخر المفاتيح فجعل الله قبل {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أربعة مفاتيح: حمدُه والثناء عليه وتمجيده وإفراده بالعبادة، فإذا حصلت هذه فاستعن به يُعِنك.
 وقد قسّم أهل العلم الناس في باب الاستعانة والعبادة إلى أربعة أقسام :
/ قسم جمعوا بين العبادة والاستعانة حققوا في حياتهم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهذا القسم الأول.
/ وقسم اقتصروا على {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وضيعوا {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يعبد ولا يدعو، ما تراه رافع يديه أبداً لكن يصلي وفعل كل شيء.
/ وقِسم ضيعوا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وحققوا {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} لا يصلي ولا يصوم ولكن يدعو يارب .. يارب.
/ وقَسم ضيع {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} معاً، لا يصلي ولا يصوم ولا يدعو.
 فأي هؤلاء الأقسام الأربعة ترونه ناجياً في الدنيا والآخرة ؟
 من حققهما معاً ، حقق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فاستجاب لله وحقق {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فدعى الله ، لذلك إذا أردنا أن يستجيب الله جل جلاله دعاءنا فلنتعرف عليه ولنكثر من حمده {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك} {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }، ولنكثر من الثناء عليه {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}، ولنكثر من تمجيده {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، ولنكثر من إعلان عبوديتنا له {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ولنكثر من إعلان استعانتنا به وعدم نفع حولنا وقوتنا وتبرؤنا من حولنا وقوتنا مهما بلغت قوتنا مهما بلغت كثرتنا مهما بلغت أموالنا فإنها لا تغني عنا من الله شيئاً .
يوم بدرٍ استغثنا برحمة الله (يا حي ياقيوم برحمتك نستغيث) فجاء الله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة } { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًاً } عشرة آلاف وزيادة أو اثنى عشر ألف ومع ذلك حصلت الهزيمة، والأمة الإسلامية اليوم مليار ونصف لسنا قلة ولكن أين من حقق { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وأين من حقق {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؟؟ 
مادام في أمتنا من :
 / يسافر من أجل قبر ليطوف به
/ من يذبح بغير الله باسم فلان 
 / من ينادي غير الله عند الشدائد يا شيخ فلان ويا ولي فلان ويا فلان
 فكل هذه مظاهر تناقض حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتناقض حقيقة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فلو جُرِّدت الأمة وتجردت لله في عقيدتها وقالوا :{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم وقالوا :{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم فإن الله الذي نصرهم في بدر ينصرهم في كل ميدان ، وإن الله الذي أنزل الملائكة لنصرتهم يُنزلها في كل وقت وآن { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه } ومن لم ينتصر على نفسه لا ينتصر على غيره ، ولذلك شرّع الله شرائع الإسلام لتكون نصراً أولياً على أنفسنا ، فالصوم جهاد للنفس { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} والنفس تهوى الشراب والطعام والنساء فتجاهدها فإذا انتصرت عليها انتصرت على أعدائك ومن عجز عن نفسه فهو عن من سواها أعجز . 
أسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته وكلماته أن يغفر لي ولكم اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا .. اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، ونسألك بأنك أنت رب العالمين لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، ونسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، ونسألك بأنك أنت وحدك مالك يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، ونسألك بأنا لا نعبد سواك ..
 اللهم إنا نسألك بتوحيدنا .. اللهم إنا نسألك بعبادتنا لك .. اللهم إنا نسألك بعدم شركنا بك .. اللهم إنا نسألك بحاجتنا إليك وغناك عنا وبفقرنا إليك ياحي يا قيوم .. وبضعفنا وقوتك .. وبذِلَّتنا وعزتك .. وبهواننا وكرامتك .. يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ، يامن إذا تضايقت الأمور رجعت إليه .. وإذا كثرت الحوائج رُفعت إليه .. وإذا غُلِّقت الأبواب فتح بابه لتهتدي العقول إليه ، اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم .. يا علي يا عظيم .. يامن تسمع كلامنا وترى مكاننا وتعلم سرنا وعلانيتنا ولا يخفى عليك شيء من أمرنا أن لا تدع لنا في مجلسنا هذا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا كرباً إلا نفسته ولا ديناً إلا قضيته ولا مريضاً إلا شفيته ولا مبتلاً إلا عافيته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مظلوماً إلا نصرته ولا جباراً إلا قصمته اللهم إنا نسألك رضاك الأكبر والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار اللهم أحل علينا رضوانك فلا تسخط علينا أبداً اللهم اغفر لنا جِدنا وهزلنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم ولمن ولدوا ولجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات اللهم اصلح ولاة أمور المسلمين وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يارب العالمين اللهم ولي على أمة محمد خيارها ولا تولي عليهم شرارهم يا حي يا قيوم اللهم إنا نسألك أن تحفظ إمامنا خادم الحرمين الشريفين بحفظك وتكلؤه برعايتك وعنايتك وتهيء له البطانة الصالحة الناصعة التي تدله على الخير وتعينه عليه وسائر ولات أمور المسلمين اللهم وحد صفوف المسلمين واجمع كلمتهم على الحق والدين اللهم أنزل على أمة محمد خيرات السماء اللهم أخرج لأمة محمد بركات الأرض اللهم أجعلها أقوى أمة وأغنى أمة يا حي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام اللهم إنا نسألك يا ذا الجلال والإكرام غيثاً مغيثاً طبقاً غدقاً تنبت به الزرع وتدر به الضرع وتحيي به الأرض بعد موتها اللهم إنا نسألك أن تنزل على قلوبنا من سكينتك ما يزداد به إيماننا وعلى مجالسنا من رحمتك ما تثبتنا به على الدين اللهم إنا نسألك ياحي ياقيوم ياعلي ياعظيم أن تغني فقراء المسلمين اللهم اغني كل فقير الله اغني فقراء المسلمين اللهم اسألك أن تشفي مرضاهم اللهم عليك بطاغية الشام وأعوانه اللهم عليك بالذين ظلموا فإنهم لا يعجزونك اللهم ترى الظالمين وما يصنعون وتعلم يارب ما يفعلون ولا يخفى عليك شيئاً مما يعملون ارنا فيهم عجائب قدرتك اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك اللهم لا حول ولاقوة لأمة محمد ولا قوة إلا بك بك نجول وبك نصول وعليك نتوكل وإليك ننيب أمنا بكتابك الذي أنزل وبنبيك الذي أرسلت ولا حول ولا قوة لنا إلا بك على الله توكلنا وإلى الله أنبنا وإلى الله المصير سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق