أيها المباركون في هذا اللقاء المبارك سنشرُف معكم بالحديث عن قول الله تبارك وتعالى : ( لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) والآية من سورة البقرة .
والحديث كما قلنا في اللقاء قبلها -السابق- أنها في منحىً فقهي ، ونحن نحاول أن ننوع في الخطاب لأن هذا مادل عليه كتاب رب الأرباب جل جلاله .
قوله جل علا : ( لَا جُنَاحَ عَلَيْكُم ) هذا رفعٌ لماذا ؟ رفعٌ للإثم فالأصل في الطلاق أنه جائز ولا يُقَدّم على قول الله جل وعلا قول أحد .
قال الله ( لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) والمعنى : يجوز للرجل أن يُطلق زوجته ولا إثم عليه إن كان قد عقد عليها لكنه لم يدخُل بها ولم يقع منه تسميةٌ لمهرها فيصبح جاز الطلاق هنا لكن -بالعقل- أن المرأة إذا خُطِبت وتمّ العقد ثم إن الرجل طلّق أن هذا غالباً يُحدِث انكساراً لدى المرأة ، يُحدِث انكساراً لدى المرأة فجاء الشرع بجبر ذلك الانكسار في قوله جل وعلا : ( وَمَتِّعُوهُنَّ ) كلٌّ بحسبه ( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) من هنا اختلف العلماء في هذا المتاع والمتاع : اسم لكل ما يُنتفع به ، ما المتاع ؟ اسم لكل مايُنتَفعُ به .
قول الله جل وعلا : ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) قال : ( حَقًّا ) تمسك فريق من العلماء كالشافعي -مثلاً- بقول الله جل وعلا : ( حَقَّا ) فرأى أن المُتعة واجبة ، وقال آخرون : المُتعة بمعنى إعطاء الزوجة مال بعد طلاقها أو ماشابهها ، وتمسّك آخرون بقول الله جل وعلا : ( بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) على أنها غير واجبة ، على هذا أيها المباركون اختلف العلماء في قضية المتاع للمطلقة على أقول ثلاثة :
* ذهب فريق من العلماء إلى أن المرأة لها المتعة أيَّاً كان حالها سواءً كان مدخُولاً بها أم غير مدخُولٍ بها ، سواءً كان سُمِّيَ لها المهر أو لم يُسَمَ المهر ، وهذا يُنقل عن علي والزُّهري والحسن البصري وغيرهم من أئمة السلف وغيرهم من أئمة السلف .. هذه الحالة الأولى. وأن لكل امرأة مطلقة متاع واحتجوا بقول الله جل وعلا في آية التخيير في سورة الأحزاب : ( فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ) فقالوا أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مدخولٌ بهن ومع ذلك كتب الله لهن المتعة .. هذا قول.
* القول الثاني : لا تكون المتعة إلا لامرأةٍ عُقد عليها ولم يُسمَّ لها المهر ولم يدخل عليها زوجها ، عَقَد عليها لكنه لم يسمِّ لها المهر ولم يدخل عليها الذي هو تعنيه الآية فقالوا : يصبح المتاع جبراً للانكسار .. يُصبح المتاع جبراً للانكسار ، قالوا : فإن فرض لها المهر فلا متعة .. لمَ ؟ لأنه إن طلقها قبل الدخول وقد فُرِض لها المهر لها النصف ، والله جل وعلا يقول : ( فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم ) هذا قول.
* قول آخر : أن المتعة لكل مطلقة إلا المطلقة التي فُرض لها المهر الذي بيَّناه في آخر الأول التي فُرِضَ لها المهر قبل الدخول .. هذه اقسام العلماء الثلاثة .. أقسام أقوال العلماء الثلاثة في المتاع.
نأتي الآن للتاريخ بعد أن بيَّنا المسألة فقهياً، البيوت تُبنى على المودة والمحبة لكن الله جل وعلا شرع الطلاق ، وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتين قبل أن يدخل عليهما ، والله يعلم كم فاتهما من الشرف أن لا يُعدا من أمهات المؤمنين ، وأبوبكر رضي الله تعالى عنه تزوج امرأةً يقال لها قُتَيلة بنت عبد العزّى فأنجب منها عبدالله وأسماء ، إذاً عبدالله وأسماء شقيقان ثم طلقها - هذا ممن طلَّق من كبار الصحابة ، إذا تكلمنا عن أبي بكر زيادة قليلاً تزوج بعدها أم رومان فأنجبت له عبدالرحمن و عائشة .. إذاً عبدالرحمن وعائشة شقيقان وعبدالله وأسماء شقيقان، ثم تزوج أسماء بنت عميس، وأسماء بنت عميس كانت قبل أبي بكر تحت جعفر بن ابي طالب ، فتزوجها أبوبكر بعد وفاة زوجها جعفر وانقضاء العدة وأنجب منها محمداً ، فأصبح محمداً لا شقيق له، ثم تزوج امرأةً يقال لها حبيبة بنت خارجة ثم مات وهي حامل وحضرته الوفاة وامرأته حامل ثم إن ابنه عبدالله مات قبل وفاة أبيه متأثراً بسهمٍ أصابه من الطائف في غزوة الطائف فمات في زمن أبيه ، فكم بقي من الذكور ؟ إثنان عبدالرحمن ومحمد ، وكم بقي من الإناث ؟ أسماء وعائشة، و أسماء أسنُّ من عائشة بعشر سنين ، لكن الصدِّيق قال لعائشة وهي يعني يأخذ يدها عند الموت يوصيها قال : إنما هما أخواكي - فهمت عبدالرحمن ومن ؟ محمد لأن عبدالله قلنا مات - وأختاك فتوقفت لأنها لا تعرف إلا أختاً واحدة هي أسماء قالت: هذه أسماء فعرفتها ، قال : الثانية ما في بطن حبيبة بنت خارجة فقد وقع في خَلَدي أنها جارية -يعني أنثى- ثم مات الصدِّيق فأنجبت حبيبة جارية -أنثى- كما قال رضوان الله عليه صدَّقه الله بعد وفاته ، وسُمّيَت أم كلثوم ثم أن عائشة رضي الله عنها أعتمرت بها وهذه قضية أخرى لكن هذا الكلام عن الطلاق .
وممن طلّق النبي صلى الله عليه وسلم طلَّق حفصة ثم راجعها .
كما أن الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مزواجاً -كثير الزواج- يتزوج ويطلِّق فكان يُقال أن عليّاً كان ينهى الناس أن يزوجوه وكان الناس يأبون إلا أن يزوجوه لشرفه فكان إذا طلَّق يبعث متاعاً - الذي نحن فيه - إلى المطلقة فبعث مرة إلى امرأة طلقها عشرة الآف وهو مبلغ عظيم لأن العلماء يقولون : أن ارفع المتعة خادم وأقلّها كسوة ، وبينهما ثلاثين درهماً ، فبعث لها بعشرة آلآف درهم وقال للغلام الذي بعثه : انظر ماذا تقول - كأنه عرف - فلما أعطاها العشرة آلآف وهي كثيرة قالت : متاعٌ قليل من حبيبٍ مفارقِ - يعني المال ما يغني عنك وأتمنى أن أكون معك - يروى أنه ردها ويروى أنه لم يردها لكن هذا الكلام في الطلاق .
الحجاج بن يوسف تزوج بنت عبدالله بن جعفر وعبدالله بن جعفر بن أبي طالب أصبح هاشمي من آل البيت ، ويقولون وأظن أني قلت هذا قبل أن أحداً قبل أن يتزوج الحجاج بنت عبدالله بن جعفر رأى غراباً يقع على الكعبة، غراب يقع على الكعبة في الرؤيا فذهب إلى محمد بن سيرين قال : إني رأيت غراباً يقع على الكعبة في المنام ، قال : إن صدَقت رؤياك يتزوج الحجاج امرأة هاشمية ، فنظر إلى الكعبة على أنها أشرف شيء وعلى أن بني هاشم أشرف شيء وعلى أنها امرأة من بني هاشم والغراب فاسق وعلى أن الحجاج أفسق أهل زمانه شُهرةً وعلى أنه يتزوج بنت عبدالله بن جعفر ، موضوع الشاهد ليس الرؤيا .. تزوجها فلما تزوجها - وهذا من غرائب الأخبار- ذهب أحد بني أمية إلى عبدالملك وعبدالملك الذي أمّر الحجاج قال : إن الحجاج تزوج بنت عبدالله بن جعفر ، قال : وما ذاك - يعني ما الذي في المسألة - قال : يا أمير المؤمنين سلني عن نفسي أنت تعرف العداوة التي بين الأمويين والزبيريين ، تعلمون أن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه كان هو وعبدالملك يختصمان على الخلافة هذا في الحجاز وهذا في الشام فالعداوة مابين بني أمية ومابين آل الزبير موجودة، فيقول هذا الأموي عن نفسه أنا عندما تزوجت امرأة من آل الزبير نسيت بني أمية أصبحت أحب بني الزبير كلهم قال :
أحب بني العوام - أي آل الزبير-
أُحِب بني العوام طُرَّا لحبها ** ومن أجلها أحببتُ أخوالها كَلبا
ثم قال بيت ظاهره الكفر قال : فإن تَسلِمي نُسْلِمْ وإن تتنصّر ** يُعلق أقوام على صدرهم صُلبا
يعني حتى لو تنصرتي سنتنصر معك ، هو يريد أن يثبت لأمير المؤمنين أن المرأة تغلب زوجها .
فقال : إن وافقت الحجاج على أن يتزوج من آل البيت قد يتضرر ملكك ، فأمر عبدالملك الحجاج أن يطلقها فطلقها الحجاج .. لمَ ؟ فرَّط في المرأة وأمسك بالإمرة ، فرّط في المرأة وأمسك بالإمرة لأنه لا يجتمعان ، ففرط في المرأة وأمسك بالإمرة ، ثم أعطاها لأنه متعلق قلبه بها أعطاها متاعاً عظيماً دنانير وأموال لكنه لم يستطع أن يخالف أمر أمير المؤمنين بأن لايطلقها .هذا نحن نتكلم عنه الآن عن المتاع في الطلاق.
في زماننا هذا يقع الطلاق كما في الأزمنة الأخرى لكن مما نشأ في مجتمعنا وهو غير محمود يقع من الرجال أنه لا يبالي بالمتاع إنما يطلق وطلاقه مصحوب بالسخط واللعنات والله جل وعلا يقول : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ).
ويقع من المرأة -وهذا في بعض الديار عن بعضٍ الآخر- يقع منهن في بعض الأمكنة احتفالات بأنها -تقيم مأدُبة أو طعام أو وليمة أو حفلاً على مايسمونه فرحاً- بأنها طُلِّقَت وهذا سفَه ولا يُقبَل ولا يُعقَل فكلا الفريقين من الرجال أو النساء أخطأ في حق الآخر ولا أدب مثل أدب الله جل وعلا للمسلمين ، والله جل وعلا قال عن نبيِّه في آية التخيير كما مرّت معنا : ( فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ) .. إلى آخر الآيات .
والمقصود من هذا كله: بيان ما نحن فيه من قول الله جل وعلا : ( لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) لكن وإن قلنا في صدر كلامنا أن الطلاق جائز لكن أنصح النساء والرجال بأمرين وإن كنت لا أحب الكلام بمثل هذه الطيّات من الأحاديث لكن المرأة العاقلة لا تضع زوجها في موقف يجبره على أن يطلقها فإن المرأة إلى الرجل أحوج من الرجل إلى المرأة ، وأما بالنسبة للرجل لا يهدم بيته وبنيانه لخطأٍ ما وقعت منه زوجته ، يقول صلى الله عليه وسلم : (لا يفرُك مؤمن مؤمنة ، إن سخط منها خُلُقاً رضي منها آخر) .
والدنيا قائمة على هذا، أن يحمِل الناس بعضهم بعضاً والكمال عزيز ، وقد قالت العرب في الأصدقاء فضلاً عن النساء:
ولستَ بمُستَبقٍ أخاً لا تلمّه ** على شعث أيّ الرجال مهذب
بمعنى لا يوجد أحد يمكن أن تصاحبه وتخالطه لا تكون منه غفوة ولاتقع منه زلة ولا تنجم عنه عثرة .. مُحال ، لكن الإنسان ينظر إلى من معه زوجةً كان أوصديقاً على مُجمله ، على ماهي عثارته أمام حسناته، على ماهي أفضاله أمام غيرها ثم بعد ذلك تتضح الصورة له.
والمقصود إذا جُبِلَت القلوب على المودة والمحبة وكان في الرجل مزيد حِلم كان أقدر على أن يبني بيتاً لكن إن كان ولابد فلا حرج البتةَ فيه والله جل وعلا يقول : ( وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) وقد يُبدله الله زوجةً خيراً منها وقد يبدلها الله زوجاً خيراً منه .
جعلنا الله وإياكم من أهل الصلاح على كل حال ومتعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمدلله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق