الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على من ختم الله به النبوة وأتمّ الله به الرساﻻت وبعد:
كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى الحديث عن فضل الهجرة من أجل الله -تبارك اسمه- وربنا يقول (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) وبيّنا أننا سنتحدث -إن شاء الله تعالى- عن الهجرة إلى الحبشة.
لما اشتد أذى كفار قريش على النبي ﷺ وأصحابه بيّنا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان في مَنَعة ﻷن عمّه أبا طالب كان يحوزه للسؤدد الذي كان عليه أبو طالب عمّ النبي -عليه السلام- ذلك دفع النبي إلى أن يأذن ﻷصحابه بالهجرة فاختار لهم المكان وبيّن لهم السبب، اختار المكان فقال الحبشة، وقال عن السبب (إن فيها ملكاً عادﻻ ﻻ يظلم الناس عنده). والعدل يقول العلماء: حقيقة مطلقة أي ﻻ تتقيد بشيء، يجب العدل حتى مع أكفر الكفرة، وبالعدل قامت السموات والأرض.
فلما شاع أن النجاشي ملك عادل وهذا يدل على أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يطّلِع على أحوال من حوله- أذن لهم بالهجرة إلى الحبشة. العرب وحتى عند غير العرب من مَلَكَ الفرس يُسمى كسرى، ومن يملِك الروم يُسمى قيصر، ومن يملك الترك يُسمى خاقان، ومن يملك مصر في زمن ما يسمى فرعون، ومن كان يملك الحبشة يسمى النجاشي. فهذه ألقاب ولكن اسمه أصحمة -رضي الله عنه- ﻷنه مات على اﻹسلام وصلى عليه النبي ﷺ . خرج المهاجرون اﻷوائل سادة الناس قطعا فرارا بدينهم. نحن ﻻ نريد أن نتحدث عن الهجرة وأيامها كيف مضت، هذا درس تفسير لكن سنحاول أن نلتمس كيف نستفيد من أولئك اﻷخيار.
ممن هاجر عثمان -رضي الله عنه- وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ. الثلة هؤلاء من المهاجرين عندما يرون بنت النبي ﷺ معهم يزدادون يقينا أن هذا النبي ﻻ يريد أن يخدعهم وهذا قل ما يكون في أحد إلا في اﻷنبياء أو من هداه الله إلى طريقهم. وقد قال -عليه الصلاة والسلام- إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد إبراهيم أي بعد خليل الله إبراهيم -عليه السلام-، كان ممن فيهم الزبير بن العوام -رضي الله عنه وأرضاه- والزبير من بني أسد وكان في عِداد صغار المهاجرين سِنا، وكل أحد يحب أن يكون معه في سفره أحد من قومه -من قرابته- ﻷن هذا يشد العضد. كان هناك خالد بن حكيم بن حزام -رضي الله عنه وأرضاه- وهو صحابي غير مشهور، كان معهم في الهجرة لكنه أبطأ فوصل الزبير إلى الحبشة قبل خالد، وخالد مثل الزبير كلاهما من بني أسد، فكان الزبير عندما وصل يرقُب وصول خالد -رضي الله عنه وأرضاه- لكن حية ما نهشت خالدا -رضي الله عنه وأرضاه- فمات ولهذا قلّما يعرف الناس خبر هذا الصحابي -رضي الله عنه وأرضاه- ﻻ يشتهر بين الناس ﻷنه مات قبل الهجرة إلى المدينة ولم يروي عن النبي ﷺ شيئا مات شابا من بني أسد نهشته حية وهو في طريقه إلى الهجرة، وقطعا وقع أجره على الله لكن أحبّ إلينا أن المعنيين في التعليم، المعنيين في اﻷمانات، في تسمية المدارس، في تسمية الطرقات الكبرى أن يأتوا إلى هؤلاء اﻷفذاذ اﻷخيار من أمة محمد ﷺ الذين بلغوا الدين لنا وضربوا لنا أعظم اﻷمثلة والنماذج أن تسمى -وهذا حاصل الحمد لله في بلادنا- لكن ينبغي التوسع فيه أكثر أن تُسمى المدارس، تُسمى الطرقات خاصة بمن يغلب على الظن أن أسماءهم غير معروفة لدى الغير. المهم أن خالدا -رضي الله عنه وأرضاه- نهشته حية فلم يصل إلى الحبشة فبقي الزبير هناك. هذا مما وقع لهم.
ممن هاجر أسماء بنت عميس مع زوجها جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله ﷺ، وقد مرّ معنا -أظنه في العام الماضي أو في الذي قبله- أن أسماء هذه -رضي الله عنها وأرضاها- تزوجت بعد جعفر أبا بكر ثم تزوجها بعد أبي بكر علي بن أبي طالب، أنجبت من جعفر في الحبشة عبد الله ومحمد، وأنجبت من أبي بكر بعد زواجها منه بعد عودتها أنجبت محمد بن أبي بكر فيقولون في أخبار التاريخ أن عليا بعد أن تزوجها كان حاضرا وابناها عبدالله بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، اﻵن هم غلمان عند أمهما، إخوة ﻷم فعبد الله يقول لمحمد أنا خير منك وأبي خير من أبيك ومحمد يقول لعبد الله أنا خير منك وأبي خير من أبيك، وعليّ زوج أمهما اﻵن ليس أبا لعبد الله وﻻ أبا لمحمد ينظر فقال علي ﻷسماء احكمي بينهما. هذه صحابية هاجرت -امرأة امرأة- قالت لعبد الله -وهو اﻷكبر- والله لم أرى شابا في العرب أفضل من أبيك، وقالت لمحمد: والله لم أرى كهلا في العرب أفضل من أبيك، فقال علي ماذا أبقيتي لي؟ قالت: لو قلت غير ذلك لمقتاك. يعني لو مدحتك أنت وهما اﻵن سيتربيان في حجرك سيمقتومك، سيبغضونك، فخير لي أﻻ أمدحك. فأحيانا الكلمة لست ملزما أن تقولها في كل محفل، ﻻ يستطيع أحد أن يجبرك على أن تقول كل مافي قلبك إنما أنت قُل ما يغلب على الظن أنه ينفع وﻻ يضر وأنه يُصلح وﻻ يفسد، وأنه يجمع وﻻ يفرق، والمقصود أن أسماء هذه -رضي الله عنها وأرضاها- عادت مع زوجها على مركب -على سفينة- عن طريق البحر إلى المدينة في العام السابع، دخل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- على حفصة زوجة رسول الله ﷺ وهي ابنته فوجد عندها أسماء فقال ﻻبنته حفصة من هذه؟ قالت: هذه أسماء بنت عميس، قال: الحبشية البحرية؟! الحبشية: أي عائدة من الحبشة، والبحرية: أي عائدة عن طريق البحر، قالت: نعم -هذه أسماء تجيب- قالت: نعم، فقال عمر لها: نحن أحق برسول الله منكم سبقناكم إلى الهجرة معه، فغضبت -رضي الله عنها وأرضاها- وقالت: لقد كنتم مع رسول الله يعِظُ جاهلكم ويُطعم جائعكم وكنا في أرض بعيدة كل ذلك في ذات الله، ثم قالت: وأيمُ الله -هذا قسم أصله وأيمن الله لكن تحذف النون- قالت: وأيم الله ﻻ آكل طعاما وﻻ شرابا حتى آتي رسول الله ﷺ فأسأله. ثم قالت -وهذا أدب النقل- قالت: والله ﻻ أكذب وﻻ أزيد وﻻ أزيغ، يعني ما جرى بيني وبينك من قول سأنقله كله كما قلت وقلت إلى النبي ﷺ. فلما جاء -عليه الصلاة والسلام- دخلت عليه أسماء بنت عميس وقالت له: إن عمر يقول كذا وكذا، قال الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام- وبماذا أجبتيه؟ فقالت له ما أجابت به عمر، فقال -عليه الصلاة والسلام- ليسوا بأحق بي منكم له وﻷصحابه هجرة ولك ولمن معك هجرتان. ففرحت فرحا عظيما. ماالذي يتوقع؟ يتوقع أن من كان معها على السفينة وسمع بالخبر سيأتيها فرحا أنها نقلت لهم هذه البشارة فكان أبو موسى اﻷشعري ومن معه ومن جاء معها على السفينة يأتونها أرساﻻ يسألونها عن الخبر فتخبرهم بما أخبر النبي ﷺ به.
بقينا في ذلك الملك العادل الذي كتب الله على يديه أن الناس يأمنوا عنده. النبي -عليه الصلاة والسلام- قال (سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم ﻻ ظل إلا ظله) ذكر أولهم (إمام عادل) الملك، الحاكم، الخليفة، أمير المؤمنين، الرئيس اﻷعلى، أيا كانت تسميته اﻹمام صاحب الوﻻية العظمى إذا كتب الله له صلاحا وتُقى وحبا للخير للناس فإن الله -جل وعلا- يُصلح به ماﻻ يمكن أن يُصلَح على يد أحد، ﻻ يمكن أن يأتي أحد أعظم من الوالي اﻷعظم، من الوالي اﻷول، من الرئيس اﻷعلى، من الملك، من الحاكم، من اﻷمير، من الخليفة حسب الدهور واﻷمصار، يمكن أن ينفع الناس إذا أراد الحاكم أن ينفعهم، ﻻ يمكن ﻷن ما آتاه الله -عز وجل- من سمع وطاعة وبيعة في أعناق الناس تجعله أقدر على أن ينفعهم، ،تجعله أقدر على أن يُحسن إليهم، تجعله أقدر على أن يصل ما يريده من الخير لهم ولهذا قدّمه ﷺ ذكر السبعة ثم قال (إمام عادل). هذا الرجل -النجاشي- كان حاكما وكان يملك أرض الحبشة بقوة وحدث بينه وبين من تحت إمرته نوع اقتتال، أي أراد أن يتمرد عليه بعض الناس، بعض قادته، فلما أرادوا أن يتمردوا عليه حدث اقتتال. لما حدث الاقتتال كان القتال على شط نهر وأصحاب رسول الله من المهاجرين الثمانين كانوا على الشط اﻵخر فبعثوا الزبير بن العوام -والزبير قلت في أول اللقاء أنه كان أصغر القوم- فأتوا له بقربة نفخوها ووضعوها على صدره -كما يصنع الناس اليوم- وقيدوها على صدره حتى يمكث يسبح حتى وصل إلى الشاطئ، فلما أبصر المعركة ورأى انتصار النجاشي عاد فرحا. ماذا كان يصنع الثمانون؟ كانوا يدعون الله أن ينصر النجاشي ﻷنهم يعلمون أن في نصر النجاشي وبقائه بقاء لدينهم. والعاقل ﻻ يشغِّب على نفسه ويبحث -وهذا أمر شرعه الله- يبحث عن أسباب مصلحته حتى عندما تكون أنت في حي ويكون لك أبناء ﻻ يعقل أن تقبل أن أبناءك يؤذوا الناس فيبغضوا شخصك إلى الجيران، من حقك بل يجب عليك أن تجنح بأوﻻدك نحو الخير حتى ﻻ تبغض الناس في شخصك، ﻻ تسمح ﻷبنائك أن يضروك من حيث ﻻ يعلمون، وأنت تفقه مرادي من القول ويكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق، لكن المُراد عموما أن العاقل ﻻ يشغِّب على نفسه وﻻ يجر على أهله أو ذويه أو عشيرته أو عرقه الغضب واﻷذى. هذا النجاشي بعد ذلك أسلم -كما دلت على ذلك اﻵثار- وأنا تجاوزت حديثه مع جعفر ﻷني تحدثت عنه قبل ذلك.
ثم إنه توفي بعد أن عاد المسلمون اﻷوائل المهاجرون عادوا إلى المدينة فجأء جبريل -عليه السﻻم- بالوحي على نبينا ﷺ يخبره بأن النجاشي قد مات فخرج النبي ﷺ بأصحابه إلى المصلى -مكان كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي فيه على الجنائز وبصلي فيه اﻻستسقاء والصلوات التي فيها مجامع مثل العيدين وغيرهما- فقال: توفي اليوم رجل صالح. ترى يا أخي ليس هينا أن يقول نبي اﻷمة عن رجل بأنه صالح، مع أن النجاشي هذا قطعا- لم يكن كثير صلاة وﻻ صيام، هو أصلا بعيد عن بلد السنة لن يصله ما يصل الصحابة من السنة حتى -وﻻ أظن هذا يصح- لكن حتى قال بعض العلماء قد ﻻ يكون الصلوات كلها يأتيها -بلغته- لكن غالبا أنه كان يصلي لكن ليس المقصود الحديث عن الصلاة من عدم الصلاة هو مسلم ما بلغه من الدين أداه لكن في زمنه، في حينه، في وقته، في ظروفه لا يمكن أن يكون الدين كله قد وصل إليه. إذا أنت معنِيّ بأنك تعلم ينبغي أن تعلم أصلا أوﻻ أن اﻹيمان في القلب (أﻻ وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله) ليس من الحكمة أن تطالب الشاب بما تطالب به الكهل، وليس من الحكمة أن تطالب الكهل بما تطالب به الشيخ الكبير، وأنت طالب أهل اﻷموال بأن ينفقوا، وطالب أهل القوة بأن يعملوا، وطالب الحفظة بأن يحفظوا القرآن، اطلب من كل قوم ما يناسبهم وكن على يقين أن الجنة ورحمة رب العالمين تسع الجميع، الجنة ثمانية أبواب ما بين مصراعي كل باب ثمانين عام ويقول -عليه الصلاة والسلام- (وليأتين عليها يوم وهي كضيض من الزحام) إذا جئنا للناس وأنت ما تدخل الجنة وأنت ما تدخل الجنة وأنت مُحرم عليك الجنة من سيزاحم على باب الجنة؟! هذه أمة مرحومة ﷺ يقول (إني ﻷرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال شطر أهل الجنة فكبروا ثم قال ثلثي أهل الجنة فكبروا) وقال ﷺ كما في حديث عبد الله بن مسعود الصحيح قال (لما عُرج بالنبي ﷺ أعطي -عليه الصلاة والسلام- ثلاث: الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وأن من مات ﻻ يشرك بالله شيئا -مات موحدا، مات على التوحيد- يغفر الله -عز وجل- له) ﻻ يُدخله النار والمقصود أنه ﻻ يخلد في النار.
ينبغي أن يعلم الناس -شاؤا التضييق أم لم يشاؤا- أن دين الله يُسر وأن هذه اﻷمة أمة مرحومة وأن شفاعة ومقام نبينا ﷺ ليس باﻷمر الهين وﻻ يجوز ﻷحد اطِّراحُه.
النبي عليه الصلاة والسلام- مات ابنه إبراهيم والصحيح الثابت عن ابن عباس حديث صحيح أن النبي ﷺ لم يُصلِّ على ابنه إبراهيم، واختلف العلماء لماذا لم يصلِّ -عليه الصلاة والسلام- على ابنه إبراهيم، من التعليلات التي ذكرها أهل العلم في سبب عدم صلاته قالوا: بنوته أي أن الرسول أبوه، إن الرسول أباه هذه قربة لوحدها ﻻ يحتاج إلى أن يصلي عليه أحد ويشفع له عند رب العالمين ﻷنك عندما تصلي أنت على جنازة تصلي حتى تشفع للميت رجاء أن الله يرحمه بصلاة الناس عليه، يدعون له، هذا قربه وبنوته للنبي ﷺ أغنته عن أن يصلي عليه أحد. هذه اﻷمة أمة مرحومة بنبيها ﷺ لكن ينبغي على المؤمن أن يعلم أن الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، حرّم الربا، حرّم أمورا عظاما، حرّم الكبائر، لكن المقصود ﻻبد من العمل، ﻻ يمكن أن ينفك العمل عن اﻹيمان (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هذا دين وملة وقُربة، مُحال أن ينفك العمل عن اﻹيمان لكن ﻻ ينبغي أن يكون الخطاب خطابا يُقنِط الناس منه، وﻻ يمكن أن نخاطب شبابنا وأبناءنا وبناتنا بألفاظ أو بطرائق أو بمطالب يصعب على الكهل والشيخ الكبير أن يصل إليها لكن لكل مرحلة من عمرك شيء يُناسبها فإن قُدِّر أن أحدا من الناس نال من الفضل ما هو أكثر أو سعى لما هو أعظم فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. رزقني الله وإياكم من فضله والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق