الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله حده لا شريك له رب الأرض والسماوات وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
كنا قد تكلمنا في اللقاء الذي مضى عن المرض المُتعلق بالأبدان والأجساد؛ حررنا فيه بعض الآيات وذكرنا فيه بعض الفوائد من أحوال بعض الحكماء . واليوم في هذا اللقاء ننتقل إلى الحديث عن مرضى القلوب أعاذنا الله وإياكم منها.
ومرض القلوب المراد به هنا ما يتعلق بها في جانب الله -جل وعلا- أو في جانب عباده. وأمراض القلوب أنكى وأشد، وأعظم أمراض القلوب الشرك والنفاق أعاذنا الله وإياكم منها.
فالشرك -عياذا بالله- لا يمكن أن يقع إلا من قلب مريض، ويتبعه -وهو مثله- النفاق وهو أن يكون الإنسان يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر قال ربنا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) فسمّى الله عز وجل حالهم وقلوبهم بأنها مريضة فقال جل وعلا (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ولا مرض أعظم في القلب من الشرك، ثم تأتي تبع له في الكفر مرض الشك في الله -جل وعلا-.
وليس المقصود بالشك ما يطرأ على المؤمن أحيانا من وساوس يودُّ لو كان كذا وكذا على ألاّ يجهر بها؛ ليس هذا المقصود، وإنما المقصود ما يقع عند بعض الكفار والمنافقين ومن في قلوبهم مرض من الشك في وعد الله؛ في أن وعد الله لن يقع، قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) وهذا قالوه بعد أن وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بفتح المدائن وفتح صنعاء اليمن وفتح قصور الشام ثم بعد ذلك أقبلت عليهم الأحزاب من كل ناحية (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) ربنا يقول (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (هنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) كما قال الله؛ ابتُلي المؤمنون فأصحاب الإيمان؛ أصحاب اليقين؛ العارفين حقا برب العالمين قال الله عنهم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) وعن أولئك قال كما ذكرنا قبل قليل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا) والمؤمن ينبغي عليه أن يتعوّذ دائما من الشرك والنفاق والشِقاق والرياء، يتعوّذ من الشرك والنفاق والشقاق والرياء، ويسأل الله -عز وجل- الثبات على الدين لأنه لا شيء يُهلك مثل هذه.
نأتي لآيات ذكر الله عز وجل فيها المرض قد لا يصل إلى حد الكفر: قال ربنا عز وجل في سورة الأحزاب: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ) والمخاطب أمهات المؤمنين (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ) وهذا قطعا، ليس أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأحد من النساء -أيًا كُنّ- في الحُرمة والجلالة والمكانة وعظيم النِّعمة أنهنّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) بعض المصاحف تجد فيها (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) ثم علامة وَصَلت أو فصلت ثم تبدأ الآية ... والصواب عندي أن تُقرأ (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ) ثم يقف.
(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) جملة شرطية، (إِنِ) أداة الشرط، (اتَّقَيْتُنَّ) فعل الشرط. جواب الشرط: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) وجيء بالفاء لأن جواب الشرط مسبوق بنفي كما قرر ابن مالك في ألفيته.
قال ربنا: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) نأتي للآية..
المرأة جِبِلَّة قولها أرق، صوتها أرق وألين من صوت الرجل. هذه خلقة -جِبلة- فالله عز وجل يقول: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) هو أصلا صوتكِ رقيق فإن خضعتِ زاد رقة على رقة. يعني إن ألنتِ القول وأدخلتِ فيه ما يزيده خُضوعا وضعفا ورقة -المقابل الذي يسمع- الله يقول: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ). القرآن بليغ يأتي بالأمور الُمجملة التي يمكن أن تحتوي أشياء كُثر.
(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) إن كنا نتكلم عن أمهات المؤمنين قد يكون هذا السائل .. هذا الطارق منافقا، فيكون (فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) هذا من جنس الكفر.. من جنس المنافقين، وقد لا يكون كذلك؛قد لا يكون منافقا.. قد يكون مِمن دخل الإسلام لتوه، من ضعفاء الإيمان، أو مِمن له قرابة أو علاقة أو صلة بالمنافقين، لم يكن بعد قد قوِي إيمانه.. هذه حالة، لكن هذه الحال غير موجودة اليوم لكن قول الله عز وجل – قلت إن القرآن جامع - (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ليس كل من تُخاطبه المرأة نفترض فيه حسن النية. المتنبي يقول:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ** وصدق ما يعتاده من توهم
فلنعتذر لمن يسمعني الآن ممن قد يقع عليه ما أريد أن أقول. بعض الفتيان قد يكون له طرائق..علاقات مع جمع من النساء في مرحلة ما من عمره، فهو من خلال تلك العلاقات يكتشف دهاء النساء في أنها كيف استطاعت أن تخدع أبويها وتصل إليه، وهو قابل بهذا، راضٍ به. ثم تنتهي هذه المرحلة الزمنية من حياته فيتزوج. فإذا تزوج -لأن أصلا أفعاله سيئة- ذلك الماضي يبقى خالدا في ذاكرته، فكلما صنعت زوجته صنيعة هي لا تدري ما في خَلد زوجها فهو يحملها على أسوأ الظنون ظنا منه أن هذه الزوجة مثل التي كان معها قبل أن يمُنّ الله عليه بالعودة أو الزواج أو التوبة. واضح؟ هنا لما تأتي للآية قد تتكلم المرأة وهي لا تريد إلا خيرا لكن أنوثتها غلبت.. هي هكذا حتى مع والديها، فهذا الذي في قلبه مرض هو لأنه مريض قلب يعتقد أن كل الناس مثله مرضى قلب فيحمل ذلكم الكلِم على أسوأ أحواله ويظن أنها تدعوه إلى نفسها، ويظنها أنها تريد أن تقيم شيئا معه، فيمضي في الخطاب، فحتى تُقطع هذه الأمور قال رب العزة والجلال وهو أعلم بقلوب عباده: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) ما الأمر يا رب العالمين؟ ما الصنيع؟ قال: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) ما جرت العادة أن التاس يتخاطبون به. وقلنا مرارا -ونحن نُعلم/ ندرس الناس القرآن- قلنا إن قول الله عز وجل في سورة القصص في الحديث عن نبي الله موسى أن قراءتها الصحيحة أن تقرأ (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي) (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). جماهير القراء يقرؤونها (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) الصواب أن تُقرأ (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي) (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). لأن في قولها -كون المرأة تتحدث- هو الذي يُحدث الريبة. فلما تكون تكلمت بلغة يغلب عليها الحياء؛ تبتعد عن الكلِم الذي يُتوهم منه ظن السوء، تكون قد عصمت نفسها وحجبتها أن يصل إليها أحد. فقول ربنا (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) هذا مما نتكلم عنه عن بعض أمراض القلوب التي نصّ القرآن عليها.
ثمة أشياء نصَّ القرآن عليها غير هذا، لكنها لم تأتِ بسياق واضح ينصّ على أنها من أمراض القلوب، لكن الأمة مُتفقة على أنها من أمراض القلوب كالحسد. الحسد -عياذا بالله- من أعظم أمراض القلوب وهو يشيع في فِئام دون فئام. ويقول بعض العلماء: "لا يخلو جسد من حسد؛ لكن الكريم يخفيه واللئيم يظهره" وعندي أن هذا يحتاج إلى تقييد، يعني لا أظنه صحيح على إطلاقه. أيا كان، فإن الحسد -عياذا بالله- قد يدفع صاحبه إلى أن يغضب، وإذا غضب قد يدفعه الغضب إلى الانتقام، وانتقامه قد يدفعه إلى أن يخوض في عرض أخيه أو دمه أو ماله؛ فلا هو بالذي دفع فضل الله عن أخيه، ولا هو بالذي جلب الفضل إلى نفسه، ولا هو بالذي سلِم من الإثم. والله عز وجل جعل الحسد مما ابتلي به بنو إسرائيل وذكر ذلك تبارك وتعالى في كتابه (أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). والعرب في كلامها إذا أرادوا أن يمدحوا أحدا قالوا فلانٌ "مُحَسَّد". ما معنى مُحَسَّد؟ كثير النعمة. فكثرة النِعم التي تفضل المولى به عليه جلبت إليه حسد الحاسدين. وكيف يدفع الإنسان الحسد؟ يتعوذ بالله أولا، وما مثل المعوذتان شيء. دلت على ذلك الآثار عن رسولنا صلى الله عليه وسلم. ويتجنب الإنسان مواطن من يعلم أن في قلوبهم حسدا عليه، ولا داعي لأن تظهر ما أفاء الله عليك في كل ملأ ولا أن تظهره، وقد رُوي شيء من هذا عن أمير المؤمنين عثمانَ بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. ولو قرأت التاريخ وأيام الناس وأحوال العباد وتراجم الرجال لوجدت في هذا عجبا، كيف يحسُد الناس بعضهم بعضا. فبعض من يُحسد يضعُف ويقبل بتسلط حُسّاده عليه، وبعضهم يقوى ويهيئ الله له أن يَرُد، وبعضهم ينجو حينا ويقع أحيانا. ولو رأيت حكمة أم رُومان. من أم رومان؟ زوجة أبي بكر أم عائشة. فهي لما أرادت أن تخفف الوطء على ابنتها عائشة لما رُميت بقضية الإفك قالت لها: يا بنيتي إنه قلّ أن تكون امرأة لها حظ عند زوجها إلا أكثر الناس عليها. بمعنى أن مقامك معروف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت الأنصار تتوخى ليلة عائشة بالهدايا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالأم البصيرة العارفة علمت أن هذا لن يتركه الناس، فهذا من أسباب وقوع أولئك المنافقين في عِرض الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات. والذي يعنينا أن هذا أمرٌ من أعظم أمراض القلوب، على المرء أن يتخلص منه ما أمكن.
كذلك من أمراض القلوب أن تسيطر الشهوة على الإنسان ويرغب في تحقيقها بأي طريقة كانت. ويُصبح المرض في قلبه كما هو في أهل الكفر والنفاق مرض شبهة وشك، يكون في قلبه مرض شهوة يريد أن ينالها.. يريد أن تتحقق. والإنسان لو ترك لنفسه هواها وجعلها ما تريد أن تقبل عليه أقبلت، وما تستطيع أن تدركه أدركته، لهلك بين عشية وضحاها؛ لكن لا لِجام مثل لجام التقوى، ومعرفة العبد نفسه أنه سيقف لا محالة بين يدي رب العالمين. وأعظم ما يمكن أن يرزقه العباد في مثل هذه الأحوال الحياء من الله. فوالله ما نصحْنا أحدا ممن نحب بأعظم من أن نسأل الله عز وجل أن يرزقه الحياء منه؛ فإن الحياء من الله حلة عظيمة جليلة كم منعت الصالحين.. كم منعت الأخيار عبر التاريخ كله من أن يقتربوا من حرمات الله. والله ما أوقف يوسف من أن يصل إلى امرأة العزيز إلا حياؤه من ربه (قالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فحياؤه من الله أحجم به عن المعصية مع القدرة وتهيؤ الأسباب، لكن حياؤه من الله المبني أصلا على التقوى من رب العالمين جل جلاله.
على أنه ينبغي أن يُعلم أن الحياء من الله ليس مختصا فقط بباب الشهوات بل هو باب واسع في كل أحوالك. في كل أحوالك تستحي من الله. تستحي من الله أن تشتري لأهل دارك لأهل بيتك ما لذّ وحَسُن من الطعام تحمله في أوعية تعجز عنها يداك ثم قبل أن تدخل الدار تكون على يقين أن أحدا من أهل الفقر قد رآك إن كان جارا أو مارا، مثل هذا يوقفك ألا تدخل دارك حتى تضع شيئا مما اقتنيت أو أشياء معدودة؛ دراهم معدودة تعطيها ذلك السائل.. ذلك المار.. ذلك العابر.. حتى يكون دخولك على بيتك حياء من الله أنك أطعمت أبناءك.. أهل دارك.. أهل بيتك.. بعد أن أطعمت جياع المسلمين، لا أن تدخله وأنت تشعر بالزهو، بالكبر وما إلى ذلك. لا نمنعك -ولا يحق لنا- أن تأتي أهلك بما يرغبون أن تأتي به، لكن حتى تحتاط للحياء من ربك، قبل أن تدخل على أهل بيتك أدخل على غيرهم من المسلمين. وليس شرطا أن يعلم أهلك؛ بل من الخير لك ألا يعلم أهلك. ويكيفك أن يُدونها المَلك، ثم تُرفع إلى من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والله لتنزلن من البركات على أهل بيتك مالا يعلمه إلا الله. والمراد استطراد في قضية الحياء من الله لكن من مرض القلوب باتفاق أهل العلم قضية الشهوة التي لا يستطيع الإنسان كبح جماحها.
والإنسان العاقل يعلم من أين يُؤتى. كل أحد غالب أحواله أنه يعرف مواطن القوة ومواطن الضعف في نفسه. فمواطن الضعف لا يجعلها تكثر عليه. فإن كانت مواطن الضعف تأتي من خلوتك فكن أكثر أحوالك في غير خلوة. وإن كانت مواطن الضعف في سفرك فكن في أكثر أحوالك في غير سفر وإن كانت مواطن الضعف في مكان معين إذا اردته يغلبك داء الشهوة فاجتنب ذلك الأمر وانحى بنفسك عنه. كل ذلك تصنعه وأنت مستعينًا بالله. من يوفق فيَحجم ومن يُخذل فيُترك؟ هذا مرده إلى سلامة النية إلى القلب. والله أعلم بما في قلوبكم منذ أن خرجت على ما عزمت إلا أن تكون لك عند الله صنيعة سابقة فيحول الله بفضلها من أن تصل إلى محارمه وهذه منازل يؤتيها الله جل وعلا بعض عباده.
مثلا: قد يكون فتى له أمٌ أقعدها المرض، فسخره الله لها. وقد لا يكون ممن يشهد الصلاة كثيرا في الجماعة، ومع ذلك رزقه الله أنه مسخر لوالده أو لوالدته. وهذه كلما خرج عنها ابنها وخلت بنفسها دعت ربها له. ثم يأتي قرناء.. أصحاب.. خلطاء.. وقد مَلّ الفتى من حياته؛ قوة في بدنه وفراغ في وقته، فيأتيه من يأتيه، فيزدلف به إلى مكان شهوة فيُجري الله من أقداره ما يحول بين هذا العبد وبين أن يعصيه عبده؛ استجابةً لدعاء تلك الوالدة؛ والله ولو أن يُطفأ النور قبل أن يدخل البيت. يقع هذا بقدر الله ويظن الناس أنها قضية تتعلق بكهرباء فنية، وهي دعوة رُفعت فاستجاب الله، فحفظ الله عبده هذا لأن هذا العبد حفظ الله في والدته.
ومقصود كل هذه الدروس أن تعلم أنه لا حافظ إلا الله. وحتى يحفظُك الله احفظ الله في أوامره ونواهيه، قال صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله ابن عباس: (يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك).
اللهم إنا نسألك نورا نهتدي به، ونسألك رزقا طيبا مباركا حلالا نكتفي به، ونعوذ بك ربنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونستغفرك اللهم لما نعلم وما لا نعلم. وصل اللهم على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
_______________________________________________
الشكر موصول للأخت "ن.ن" لقيامها بتفريغ الحلقة جزاها الله خيرا ونفع بها.
كنا قد تكلمنا في اللقاء الذي مضى عن المرض المُتعلق بالأبدان والأجساد؛ حررنا فيه بعض الآيات وذكرنا فيه بعض الفوائد من أحوال بعض الحكماء . واليوم في هذا اللقاء ننتقل إلى الحديث عن مرضى القلوب أعاذنا الله وإياكم منها.
ومرض القلوب المراد به هنا ما يتعلق بها في جانب الله -جل وعلا- أو في جانب عباده. وأمراض القلوب أنكى وأشد، وأعظم أمراض القلوب الشرك والنفاق أعاذنا الله وإياكم منها.
فالشرك -عياذا بالله- لا يمكن أن يقع إلا من قلب مريض، ويتبعه -وهو مثله- النفاق وهو أن يكون الإنسان يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر قال ربنا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) فسمّى الله عز وجل حالهم وقلوبهم بأنها مريضة فقال جل وعلا (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ولا مرض أعظم في القلب من الشرك، ثم تأتي تبع له في الكفر مرض الشك في الله -جل وعلا-.
وليس المقصود بالشك ما يطرأ على المؤمن أحيانا من وساوس يودُّ لو كان كذا وكذا على ألاّ يجهر بها؛ ليس هذا المقصود، وإنما المقصود ما يقع عند بعض الكفار والمنافقين ومن في قلوبهم مرض من الشك في وعد الله؛ في أن وعد الله لن يقع، قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) وهذا قالوه بعد أن وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بفتح المدائن وفتح صنعاء اليمن وفتح قصور الشام ثم بعد ذلك أقبلت عليهم الأحزاب من كل ناحية (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) ربنا يقول (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (هنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) كما قال الله؛ ابتُلي المؤمنون فأصحاب الإيمان؛ أصحاب اليقين؛ العارفين حقا برب العالمين قال الله عنهم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) وعن أولئك قال كما ذكرنا قبل قليل: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا) والمؤمن ينبغي عليه أن يتعوّذ دائما من الشرك والنفاق والشِقاق والرياء، يتعوّذ من الشرك والنفاق والشقاق والرياء، ويسأل الله -عز وجل- الثبات على الدين لأنه لا شيء يُهلك مثل هذه.
نأتي لآيات ذكر الله عز وجل فيها المرض قد لا يصل إلى حد الكفر: قال ربنا عز وجل في سورة الأحزاب: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ) والمخاطب أمهات المؤمنين (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ) وهذا قطعا، ليس أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأحد من النساء -أيًا كُنّ- في الحُرمة والجلالة والمكانة وعظيم النِّعمة أنهنّ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) بعض المصاحف تجد فيها (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) ثم علامة وَصَلت أو فصلت ثم تبدأ الآية ... والصواب عندي أن تُقرأ (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ) ثم يقف.
(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) جملة شرطية، (إِنِ) أداة الشرط، (اتَّقَيْتُنَّ) فعل الشرط. جواب الشرط: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) وجيء بالفاء لأن جواب الشرط مسبوق بنفي كما قرر ابن مالك في ألفيته.
قال ربنا: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) نأتي للآية..
المرأة جِبِلَّة قولها أرق، صوتها أرق وألين من صوت الرجل. هذه خلقة -جِبلة- فالله عز وجل يقول: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) هو أصلا صوتكِ رقيق فإن خضعتِ زاد رقة على رقة. يعني إن ألنتِ القول وأدخلتِ فيه ما يزيده خُضوعا وضعفا ورقة -المقابل الذي يسمع- الله يقول: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ). القرآن بليغ يأتي بالأمور الُمجملة التي يمكن أن تحتوي أشياء كُثر.
(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) إن كنا نتكلم عن أمهات المؤمنين قد يكون هذا السائل .. هذا الطارق منافقا، فيكون (فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) هذا من جنس الكفر.. من جنس المنافقين، وقد لا يكون كذلك؛قد لا يكون منافقا.. قد يكون مِمن دخل الإسلام لتوه، من ضعفاء الإيمان، أو مِمن له قرابة أو علاقة أو صلة بالمنافقين، لم يكن بعد قد قوِي إيمانه.. هذه حالة، لكن هذه الحال غير موجودة اليوم لكن قول الله عز وجل – قلت إن القرآن جامع - (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ليس كل من تُخاطبه المرأة نفترض فيه حسن النية. المتنبي يقول:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ** وصدق ما يعتاده من توهم
فلنعتذر لمن يسمعني الآن ممن قد يقع عليه ما أريد أن أقول. بعض الفتيان قد يكون له طرائق..علاقات مع جمع من النساء في مرحلة ما من عمره، فهو من خلال تلك العلاقات يكتشف دهاء النساء في أنها كيف استطاعت أن تخدع أبويها وتصل إليه، وهو قابل بهذا، راضٍ به. ثم تنتهي هذه المرحلة الزمنية من حياته فيتزوج. فإذا تزوج -لأن أصلا أفعاله سيئة- ذلك الماضي يبقى خالدا في ذاكرته، فكلما صنعت زوجته صنيعة هي لا تدري ما في خَلد زوجها فهو يحملها على أسوأ الظنون ظنا منه أن هذه الزوجة مثل التي كان معها قبل أن يمُنّ الله عليه بالعودة أو الزواج أو التوبة. واضح؟ هنا لما تأتي للآية قد تتكلم المرأة وهي لا تريد إلا خيرا لكن أنوثتها غلبت.. هي هكذا حتى مع والديها، فهذا الذي في قلبه مرض هو لأنه مريض قلب يعتقد أن كل الناس مثله مرضى قلب فيحمل ذلكم الكلِم على أسوأ أحواله ويظن أنها تدعوه إلى نفسها، ويظنها أنها تريد أن تقيم شيئا معه، فيمضي في الخطاب، فحتى تُقطع هذه الأمور قال رب العزة والجلال وهو أعلم بقلوب عباده: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) ما الأمر يا رب العالمين؟ ما الصنيع؟ قال: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) ما جرت العادة أن التاس يتخاطبون به. وقلنا مرارا -ونحن نُعلم/ ندرس الناس القرآن- قلنا إن قول الله عز وجل في سورة القصص في الحديث عن نبي الله موسى أن قراءتها الصحيحة أن تقرأ (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي) (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). جماهير القراء يقرؤونها (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) الصواب أن تُقرأ (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي) (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). لأن في قولها -كون المرأة تتحدث- هو الذي يُحدث الريبة. فلما تكون تكلمت بلغة يغلب عليها الحياء؛ تبتعد عن الكلِم الذي يُتوهم منه ظن السوء، تكون قد عصمت نفسها وحجبتها أن يصل إليها أحد. فقول ربنا (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) هذا مما نتكلم عنه عن بعض أمراض القلوب التي نصّ القرآن عليها.
ثمة أشياء نصَّ القرآن عليها غير هذا، لكنها لم تأتِ بسياق واضح ينصّ على أنها من أمراض القلوب، لكن الأمة مُتفقة على أنها من أمراض القلوب كالحسد. الحسد -عياذا بالله- من أعظم أمراض القلوب وهو يشيع في فِئام دون فئام. ويقول بعض العلماء: "لا يخلو جسد من حسد؛ لكن الكريم يخفيه واللئيم يظهره" وعندي أن هذا يحتاج إلى تقييد، يعني لا أظنه صحيح على إطلاقه. أيا كان، فإن الحسد -عياذا بالله- قد يدفع صاحبه إلى أن يغضب، وإذا غضب قد يدفعه الغضب إلى الانتقام، وانتقامه قد يدفعه إلى أن يخوض في عرض أخيه أو دمه أو ماله؛ فلا هو بالذي دفع فضل الله عن أخيه، ولا هو بالذي جلب الفضل إلى نفسه، ولا هو بالذي سلِم من الإثم. والله عز وجل جعل الحسد مما ابتلي به بنو إسرائيل وذكر ذلك تبارك وتعالى في كتابه (أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). والعرب في كلامها إذا أرادوا أن يمدحوا أحدا قالوا فلانٌ "مُحَسَّد". ما معنى مُحَسَّد؟ كثير النعمة. فكثرة النِعم التي تفضل المولى به عليه جلبت إليه حسد الحاسدين. وكيف يدفع الإنسان الحسد؟ يتعوذ بالله أولا، وما مثل المعوذتان شيء. دلت على ذلك الآثار عن رسولنا صلى الله عليه وسلم. ويتجنب الإنسان مواطن من يعلم أن في قلوبهم حسدا عليه، ولا داعي لأن تظهر ما أفاء الله عليك في كل ملأ ولا أن تظهره، وقد رُوي شيء من هذا عن أمير المؤمنين عثمانَ بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. ولو قرأت التاريخ وأيام الناس وأحوال العباد وتراجم الرجال لوجدت في هذا عجبا، كيف يحسُد الناس بعضهم بعضا. فبعض من يُحسد يضعُف ويقبل بتسلط حُسّاده عليه، وبعضهم يقوى ويهيئ الله له أن يَرُد، وبعضهم ينجو حينا ويقع أحيانا. ولو رأيت حكمة أم رُومان. من أم رومان؟ زوجة أبي بكر أم عائشة. فهي لما أرادت أن تخفف الوطء على ابنتها عائشة لما رُميت بقضية الإفك قالت لها: يا بنيتي إنه قلّ أن تكون امرأة لها حظ عند زوجها إلا أكثر الناس عليها. بمعنى أن مقامك معروف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت الأنصار تتوخى ليلة عائشة بالهدايا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالأم البصيرة العارفة علمت أن هذا لن يتركه الناس، فهذا من أسباب وقوع أولئك المنافقين في عِرض الطاهرة المبرأة من فوق سبع سماوات. والذي يعنينا أن هذا أمرٌ من أعظم أمراض القلوب، على المرء أن يتخلص منه ما أمكن.
كذلك من أمراض القلوب أن تسيطر الشهوة على الإنسان ويرغب في تحقيقها بأي طريقة كانت. ويُصبح المرض في قلبه كما هو في أهل الكفر والنفاق مرض شبهة وشك، يكون في قلبه مرض شهوة يريد أن ينالها.. يريد أن تتحقق. والإنسان لو ترك لنفسه هواها وجعلها ما تريد أن تقبل عليه أقبلت، وما تستطيع أن تدركه أدركته، لهلك بين عشية وضحاها؛ لكن لا لِجام مثل لجام التقوى، ومعرفة العبد نفسه أنه سيقف لا محالة بين يدي رب العالمين. وأعظم ما يمكن أن يرزقه العباد في مثل هذه الأحوال الحياء من الله. فوالله ما نصحْنا أحدا ممن نحب بأعظم من أن نسأل الله عز وجل أن يرزقه الحياء منه؛ فإن الحياء من الله حلة عظيمة جليلة كم منعت الصالحين.. كم منعت الأخيار عبر التاريخ كله من أن يقتربوا من حرمات الله. والله ما أوقف يوسف من أن يصل إلى امرأة العزيز إلا حياؤه من ربه (قالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فحياؤه من الله أحجم به عن المعصية مع القدرة وتهيؤ الأسباب، لكن حياؤه من الله المبني أصلا على التقوى من رب العالمين جل جلاله.
على أنه ينبغي أن يُعلم أن الحياء من الله ليس مختصا فقط بباب الشهوات بل هو باب واسع في كل أحوالك. في كل أحوالك تستحي من الله. تستحي من الله أن تشتري لأهل دارك لأهل بيتك ما لذّ وحَسُن من الطعام تحمله في أوعية تعجز عنها يداك ثم قبل أن تدخل الدار تكون على يقين أن أحدا من أهل الفقر قد رآك إن كان جارا أو مارا، مثل هذا يوقفك ألا تدخل دارك حتى تضع شيئا مما اقتنيت أو أشياء معدودة؛ دراهم معدودة تعطيها ذلك السائل.. ذلك المار.. ذلك العابر.. حتى يكون دخولك على بيتك حياء من الله أنك أطعمت أبناءك.. أهل دارك.. أهل بيتك.. بعد أن أطعمت جياع المسلمين، لا أن تدخله وأنت تشعر بالزهو، بالكبر وما إلى ذلك. لا نمنعك -ولا يحق لنا- أن تأتي أهلك بما يرغبون أن تأتي به، لكن حتى تحتاط للحياء من ربك، قبل أن تدخل على أهل بيتك أدخل على غيرهم من المسلمين. وليس شرطا أن يعلم أهلك؛ بل من الخير لك ألا يعلم أهلك. ويكيفك أن يُدونها المَلك، ثم تُرفع إلى من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والله لتنزلن من البركات على أهل بيتك مالا يعلمه إلا الله. والمراد استطراد في قضية الحياء من الله لكن من مرض القلوب باتفاق أهل العلم قضية الشهوة التي لا يستطيع الإنسان كبح جماحها.
والإنسان العاقل يعلم من أين يُؤتى. كل أحد غالب أحواله أنه يعرف مواطن القوة ومواطن الضعف في نفسه. فمواطن الضعف لا يجعلها تكثر عليه. فإن كانت مواطن الضعف تأتي من خلوتك فكن أكثر أحوالك في غير خلوة. وإن كانت مواطن الضعف في سفرك فكن في أكثر أحوالك في غير سفر وإن كانت مواطن الضعف في مكان معين إذا اردته يغلبك داء الشهوة فاجتنب ذلك الأمر وانحى بنفسك عنه. كل ذلك تصنعه وأنت مستعينًا بالله. من يوفق فيَحجم ومن يُخذل فيُترك؟ هذا مرده إلى سلامة النية إلى القلب. والله أعلم بما في قلوبكم منذ أن خرجت على ما عزمت إلا أن تكون لك عند الله صنيعة سابقة فيحول الله بفضلها من أن تصل إلى محارمه وهذه منازل يؤتيها الله جل وعلا بعض عباده.
مثلا: قد يكون فتى له أمٌ أقعدها المرض، فسخره الله لها. وقد لا يكون ممن يشهد الصلاة كثيرا في الجماعة، ومع ذلك رزقه الله أنه مسخر لوالده أو لوالدته. وهذه كلما خرج عنها ابنها وخلت بنفسها دعت ربها له. ثم يأتي قرناء.. أصحاب.. خلطاء.. وقد مَلّ الفتى من حياته؛ قوة في بدنه وفراغ في وقته، فيأتيه من يأتيه، فيزدلف به إلى مكان شهوة فيُجري الله من أقداره ما يحول بين هذا العبد وبين أن يعصيه عبده؛ استجابةً لدعاء تلك الوالدة؛ والله ولو أن يُطفأ النور قبل أن يدخل البيت. يقع هذا بقدر الله ويظن الناس أنها قضية تتعلق بكهرباء فنية، وهي دعوة رُفعت فاستجاب الله، فحفظ الله عبده هذا لأن هذا العبد حفظ الله في والدته.
ومقصود كل هذه الدروس أن تعلم أنه لا حافظ إلا الله. وحتى يحفظُك الله احفظ الله في أوامره ونواهيه، قال صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله ابن عباس: (يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك).
اللهم إنا نسألك نورا نهتدي به، ونسألك رزقا طيبا مباركا حلالا نكتفي به، ونعوذ بك ربنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونستغفرك اللهم لما نعلم وما لا نعلم. وصل اللهم على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
_______________________________________________
الشكر موصول للأخت "ن.ن" لقيامها بتفريغ الحلقة جزاها الله خيرا ونفع بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق