الثلاثاء، 25 مارس 2014

تفسير سورة الأحقاف -دورة الأترجة-

د. أحمد بن محمد البريدي


المَجْلس الأوَّل
 
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، الحمد لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبَارَكَ على نبيِّنا مُحمَّد وعلى آله وصَحْبِهِ أجمعين.
نَبْدَأُ بتفسيرِ سورة الأحْقَاف: وسُورةُ الأحقاف سورَةٌ مَكِيَّة، وقَدْ قَرَّرْنا أكْثَر من مَرَّة:  أنَّ السُّوَر المَكِيَّة على القَوْل الصَّحيح: أنَّها هِي التِّي نَزَلَت قبل هِجْرَة النَّبي صلى الله عليه وسلَّم. والسُّوَر المَدَنِيَّة: هي التِّي نَزَلَت بعد هِجْرة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم. ولِكُلِّ واحِدٍ خَصائِصْ ومُمَيِّزات. وَسُورةُ الأحقاف سُورةٌ مَكِّيَّة.
ومُحوَرُهَا: مُعالَجَة قضِيَّة الإيمان بوحدانِيَّة الله، ورُبُوبيَّتِه المُطْلَقَة، والإيِمانِ بالوحي والرِّسالة، وهي تِلْك القَضَايا والمعاني التِّي تَدُور عليها غَالِبْ السُّوَر المَكِيَّة.
وهي تَدُورُ على أرْبَعَةِ مواضِيع:
المَوْضُوع الأوَّل: الحديث عَن القُرآن، وخَلْقِ السَّماوات والأَرْض للوُصُولِ إلى عَرْض العقيدة، وإنْكار ما عَلَيْهِ الشِّرْك.
المَوْضُوعُ الثَّاني: عَرْضُ نَمُوذَجَيْن للفِطْرَة البَشَرِيَّة المُستقيمة، والمُنْحَرِفَة في مُواجَهَة العقيدة.
/ المستقيمة: تَتَمثَّل في قَوْل الله عَزَّ وجل (رَبِّ أوْزَعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتِكَ عَلَيَّ وعلى والِدَيّ) إلى آخر الآيات.
/ والمُنحَرَفَة: تَتَمثَّل في قَوْل الله عَزَّ وجل (والذِّي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدَانِني أْنْ أُخْرَج وقَدْ خَلَتْ القُرُون من قَبْلي) إلى آخر الآيات.
المَوْضُوعُ الثَّالث: الحَديث عَنْ مَصْرَعِ عَادْ، عِنْدَما كَذَّبُوا بالنَّذَير.
وأما الحديث الرَّابع: فَيَدُورُ حَوْلَ أَحَدِ مَخْلُوقات الله عَزَّ وجل وهُو (الجِنَّ) وقِصَّة اِسْتِماعِهِم للقُرآن.
هذه المَواضِيع التِّي تَناولَتْها سُورةُ الأحْقاف.
افْتُتِحَت سُورةُ الأحْقاف بقول الله عَزَّ وجل (حَم) وقُلْنا أنَّ هذه تُسمَّى سورة (الحَواميم) وهي قَدْ بَدَأَتْ بسورة (غافِر) وخُتِمَتْ بسورة (الأحْقاف)، كُلُّها افْتُتِحَتْ بقَوْلِ الله عَزَّ وجل (حَمْ). ثُمَّ قال الله سُبْحانَهُ وتعالى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) كَمَا قَال ذلك في سورة (الجاثية) فأخْبَر سُبْحانه أنَّه نَزَّل الكتابَ عَلى عَبْدِه ورسُولِه مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بالعِزَّة التِّي لا تُرام، والحِكْمَةِ في الأَقْوال، والأَفْعال.
ثُمَّ قال سُبْحانه (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ومَطْلَعُ سورة الأَحْقاف يُشْبِهُ إلى حَدٍّ كبير مَطْلَعَ السُّورةِ التِّي قَبْلَها سورة (الجَاثِية).
 (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) أيَّ لا عَلى وَجْه العَبَثِ والبَاطِلْ، (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أيّ إلى مُدَّةِ مُعَيَّنَةٍ مَضْرُوبة لا تَزيدُ ولا تَنْقُصْ، والأجَلُ المُسَمَّى هو: يومُ القيامة، فإنَّه في ذلك اليَوْم تَنْتَهي السَّماواتُ والأَرْض، تنتهي السماوات وتُبَدَّلُ الأرْضُ غيرَ الأَرْضِ والسَّماوات، كَمَا جَاءَ ذلك في آيَاتٍ أُخْرَى.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أَيّ لاهُونَ عَمَّا يُرَادُ بهم، وقَدْ أَنْزَلَ الله سُبْحانه وتعالى إليهم كِتاباً يُتْلَى عليهم ورَسُولاً بينَ أظْهُرِهِم، ويتكَلَّم بلسانهم، ومع ذلك هُمْ مُعْرِضُون، لاهُونْ.
ثُمَّ قال الله سُبْحانه وتعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أَيّ قُلْ يا مُحَمَّد لهؤلاء المُشْركِين العابِدينَ مع الله غَيْرَه (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أنا خَلقْتُ السَّماوات والأرْض، فأَرُوني ماذا خَلَقُوا مِنَ الأَرْض: أيّ أَرشِدُوني إلى المَكَان الذِّي اسْتَقَلُّوا بِخَلْقِهِ من الأَرْض. وقَولِه (مِنَ الْأَرْضِ) "مِنْ" تَبْعِيضيَّة، لأَنَّ كُلَّ مَا عَلى وَجْه الأرْض من حَيَوانٍ ونَحْوَه فَهُو من الأرْض.
(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) هَلْ خَلَقوا أو اسْتَقَلُّوا بِشَيْءٍ مِنْ خَلْق الأَرْض، أم هُمْ شُرَكَاء في السَّماوات والأَرْض، أَشَارَكُوني في السَّماوات، هَؤُلاء لا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمير، وكانَ الأَوْلَى بِكُم والأَجْدَى وأَنْتُم أهْلُ العَقْل أنْ تَصْرِفُوا العِبادةَ إلى الخَالِقْ، الرَّازِق، لا إلى هؤلاء الذِّين لَمْ يَفْعَلُوا شَيئاً، لمْ يَسْتَقِلُّوا بِشَيْءٍ مِنْ خَلْق الأَرْض، ولَيْسُوا شُرَكَاءَ في السَّماوات فَضْلاً عَنْ أن يَكُونُوا هُمْ الذِّين يَمْلِكُونِها، لَيس لَهُم أيُّ شِرْك، أيُّ مُشَارَكَة ولو قَليلة.
(ايتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا) أيَّ هَاتُوا كِتاباً من كُتُبْ اللهِ المُنَزَّلَةِ على أنبيائِه، يَأْمُرُكُم بعبادَة الأَصْنام (مِنْ قَبْلِ هَذَا) الإِشارَة إلى القُرآن فإنَّهُ صَرَّحَ بِبُطْلانِ الشِّرْك، فالآية تُقَرِّر وتقول إنَّ القُرآن الذِّي أُنْزِلَ عليكُم الآن يُقَرِّرُ بُطْلانَ الشِّرْك، هَلْ عِنْدَكُم كِتابٌ من نَبِيٍّ سَابِقْ، يُعَارِضُ مَا قَرَّرَهُ القُرآن؟ أو أَتَى بِحُجَّةٍ غَيْرَ حُجَّة القُرآن؟.
 (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أيّ دَليلٍ بَيِّن عَلى هَذا المَسْلَكْ الذِّي سَلَكْتُمُوه.
 قال مُجاهِدْ: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أوْ أَحَدٌ يَأثُرُ عِلْماً.
وقال ابْنُ عَبَّاس: أو بَيِّنَةٍ من الأَمْر. 
وقال أبُو بَكْر بن عَيَّاش: أو بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْم.
وقال الحَسَنُ البَصْرِيّ: (أَوْ أَثَارَةٍ) شَيْءٌ يَسْتَخْرِجُهُ فَيُثِيرُهْ.
وقال ابن عَبَّاس، وأبُو بَكْر بنُ عَيَّاش، ومُجَاهِد: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) يَعْني الخَطّ.
وقال قَتَادَة: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) يعني خَاصَّةً مِنْ عِلْم.
وكُلُّ هَذِه الأقْوال مُتقارِبَة وتَعُودُ إلى مَعَنَىً واحَد: أيَّ ليسَ لَكُمْ دَليلٌ بَيِّن.
 قَال ابْن العَرَبِيّ - رحمه الله - حَوْلَ قَوْله (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) "إنَّ الله سُبْحانه وتعالى لم يُبْقِ من الأسْبَاب الدَّالة على الغَيْب التِّي أَذِنَ في التَّعَلُّقِ بِهَا أَوْ الاسْتدلال مِنْها إلاَّ الرُّؤْيا فإنَّه أَذِنَ فيها وأَخْبَرَ أنَّها جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّة وكذلك الفَأْل، وأمَّا الطِّيَرَةُ والزَّجْر فإنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا". 
 وقال القُرْطُبي - رحمه الله تعالى - عن هذه الآية: "هذه الآية فيها بَيَانُ مَسَالِكِ الأدِّلّة بِأَسْرِها: فأوَّلُها: المَعْقُول: وهُو قَوْلُه تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) هذا دليلٌ عَقْلِيّ، وهُو احْتِجَاجٌ بِدَلِيل العَقْل. ثُمَّ قال (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) فيه بيانُ أدِّلَةِ السَّمْع".
لأنَّ الأَدِّلَّة - أيُّها الإخْوة - تَنْقَسَمُ إلى قِسْمين: أدِلَّةٌ مَعْقُولة - أو أَدِلَّةٌ مَنْقُولة
ففي هذه الآية إبْطالٌ لِكُلُّ ما يَدَّعُون سَوَاءً كانَ بالدَّليل العَقْلِيّ ليسَ عِنْدَهُم دليلٌ عَقْلي يسْتَنِدُونَ عليهِ في شِرْكِهِم، وليْسَ عِنْدَهُم دليلٌ نَقْلِيٌّ يعْتَمِدُون عَلَيْه في شِرْكِهِم وكُفْرِهِم بالله عَزَّ وجل. فهذه الآية قَدْ أبْطَلَتْ كُلّ الأَدِلَّة التِّي رُبَّما يتعَلَّق بها، لَكِنْ بَقِيَ عليهم دليلٌ واحِد - الذِّين يَسْتَدِلُّون- (إنَّا وَجَدْنا آباءَنَا على أُمَّة)[الزّخرف:23] التَّقْليد، أمَّا اسْتدلالٌ حَقيقيّ فَليْسَ للمُشْركين أيُّ دليل، هذه الآية أبْطَلَتْ كُلَّ الأدِّلة التِّي يُمْكِن أنْ يَسْتَدِلَّ بها أهْل الشِّرْك على شِرْكِهم. وقَدْ جَاءَ في الحَديث: «كانَ نَبيٌّ من الأَنْبياء يَخُطّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فذاك» ذَكَرْتُ هذا الحديث لأنَّ بعض أهل العِلْم ذكَرَ في قَوْله (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) قال: أنَّهُ الخَطّ، أيّ: الخُطُوط في الأَرْض وهذا الحديث في مُسْلم. لَكِنْ أَجَابَ عَنْهُ القاضي عِياض بِقَوله: "الأَظْهر مِنَ اللَّفْظ تَصْويبُ خَطّ مَنْ يُوافِق خَطَّ النَّبيّ". لَكِنْ مِنْ أين تُعْلَم المُوافَقَة، والشَّرْعُ مَنَع من التَّخَرُّصِ وادِّعاء الغَيْبِ جُملَة، وبالتَّالي فالله سُبْحانه وتَعالى في هذه الآية أبْطَلَ أَدِّلَة المُشْركين جملةً وتفصيلا (أَدِلَّتهُم النَّقْلِيَّة - وأَدِلَّتْهُم العَقْلِيَّة) أصْلاً ليس لهُم أَدِلَّة، وإنَّما دليلُهُم تَقْليدُ الآباء، والتَّقْليد لا يَعْجَز عَنْهُ أحَدْ. هل التقليد يا إخواني دليل؟ لا ليس بدليل.
ثُمَّ قال الله سُبْحانه وتعالى (وَمَنْ أَضَلُّ) أيَّ لا أحَد أَضَلّ (مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ) أيَّ مِمَّن يَدْعُو أصْناماً، ويَطْلُبُ منها ما لا تسْتَطيعُهُ إلى يوم القيامة.
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) لَوْ ظَلَّ يَدْعُو هذا الصَّنَمَ، وَيُكَلِّمُ هذا الحَجَرَ إلى يَومِ القيامة مَا أجَابَه، يقول الله عَزَّ وَجل: لا أحَدْ أَضَلّ، لا أحَدْ أَضَلّ مِمَّن يَدْعُو هذا الحَجَر الذِّي أصْلاً لَيْسَ لَهُ شِرْك في السَّماوات، لَمْ يَخْلُق شيئاً من الأَرْض، بَلْ فَضْلاً عَنْ ذلِكْ لا يتَكَلَّم، لا يَسْمَع، لا يُبْصِر، يعني ليس له أيّ مُقَوِّمات، عَنْ أنْ يَكُونَ شَيْئاً، فَضْلاً عَنْ أنْ يَكُون إلهاً يُعْبَد.
  ثم قال سبحانه (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) أيّ وهِيْ غافلة عَمَّا يَقُول لا تَسْمع، ولا تُبْصِرْ، ولا تَبْطُشْ لأنَّها جُمَاد.
كما قال سُبْحانه (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً) أيّ إذا حُشِرَ النَّاس يوم القيامَة (كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) أيّ كانَتْ الأَصْنام المَعْبُودَة المُدَّعَاة أنَّها آلهة أعداء لِعَابِديها. إذْ يَتَبَرَّأ بعضُهُم مِنْ بعْض: وقَدْ قِيل: إنَّ الله سُبْحانه وتعالى يَخْلُقُ الحَياةَ في الأَصْنَام، فَتُكَذِّبُهُم. وقيل المُراد: تَكْذيبُهُم بِلسان الحَال، لا بِلسان المَقَال. وسَواءً هذا أو تِلْك فهي أحْجَارٌ لا تَضُرُّ، ولا تَنْفَع، لا تَسْمَع، ولا تُبْصِرْ.
(وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)
الضَّمير الأوَّل: للأصْنام
والثَّاني لِعَابديها
 والمعنى: والأَصْنام التِّي يَدْعُونها عَنْ دُعائِهِمْ إيَّاها غَافِلُون عَنْ ذلك، لا يَسْمَعُون، ولا يَعْقِلُون لِكَوْنِهِم جَماداتٍ، والجَمْعُ في الضَّميرين باعْتِبارِ مَعْنى (مِنْ) وأَجْرَى على الأصْنامِ ما هُو للعُقلاء لاعْتقاد المُشركين أنَّها تَعْقِل وهِي لا تَعْقِلْ، فَخَاطَبَهُم بما يعْتَقِدُون. ثُمَّ قال سُبْحانه وتعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) يُخْبِرُ سُبْحانه وتعالى عَنْ المُشركين في كُفْرهم وعِنادِهم أنَّهُم إذا تُتْلى عليهم آياتُ الله بيِّنات أيّ في حَالِ بَيانِها ووضُوحِها وجَلائِها يقولون (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أيّ سِحْرٌ واضِحْ. وقَدْ كَذَبُوا، وافْتَرَوْا، وضَلُّوا، وكَفَرُوا.
(أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ) أم يقُولون افْتَرَى مُحمَّدٌ القُرآن.
(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أيّ لو كَذَبْتُ عَليْكُم، وزَعَمْتُ أنَّه أرسَلَنِي، وأَنْزَلَ إليَّ هَذَا القُرآن -ولَيْسَ كذلك- لَعَاقَبَنِي أَشَدَّ العُقُوبَة، ولَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الأَرْض لا أَنْتُم ولا غَيْرُكُم أنْ يُجيرَني منه كقوله سُبْحانه (قُلْ إنِّي لَنْ يُجيرَني مِنَ الله أَحَدٌ ولَنْ أَجِدُ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إلاَّ بلاغاً من الله ورسالاتِه) [ الجِنّ:22]
 وقال في موْضِعٍ آخَر (ولَوْ تَقَوَّلَ علينا بعض الأَقَاويل. لأَخَذَنا مِنْهُ باليمين. ثُمَّ لَقَطَعَنا مِنهُ الوَتين. فَمَا مِنْكُم من أَحَدٍ عَنهُ حاجِزين) [الحاقة:44-47]
ولهذا قال (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ)
تُفيضُونَ فيه: مِنَ الإفاضَةِ في الشَّيْء والخَوْضِ فيه، والانْدِفاع فيه، أيّ تَخُوضُون فيه من التَّكْذيب، أيّ الله سُبْحانه أعْلَمُ بما تَخُوضُون فيه من تَكْذِيبكُم إيَّايّ.
(وكَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أيّ: فإنَّهُ يَشْهَدُ بأنَّ القُرآن مِنْ عِنْدِه، ويَشْهَدُ عليكُم بالتَّكْذيبِ، والجُحُود، وكَفَى بالله سُبْحانَهُ وتَعَالى شهيداً. وفي هذا وعيدٌ وشَديدٌ لهؤلاء المُكذِّبين للنَّبي صلى الله عليه وسَلَّم الذِّين يَدَّعُون أنَّه يَفْتَرِي القُرآن.
ثُمَّ قال سُبْحانه (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) أَيّ لَسْتُ بأَوَّلِ رسُولٍ طَرَقَ العالَم، بل جاءَتْ الرُّسُلُ من قبلْي والنَّبي صَلَّى الله عليه وسلَّم خَاتَمُ الأَنْبياء فليْسَ أوَّل رسُول حتَّى تُكَذِّبُوه، ويكُونُ شيئاً مُسْتَغْرَباً عِنْدَكُم.
 (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)
 اخْتَلَفَ السَّلَف والمُفَسِّرُون في معْناها على قَوْلين:
 القَول الأَوَّل: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) فقال بعضُ أهْل العِلم: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، ومَنْ قال هذا القَوْل قال إنَّ الآيةَ منْسُوخة بقوله عَزَّ وجل (لِيَغْفِرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرْ) [ الفَتْح:2] وهذه الآية في سورة الفَتْح والفتح سورة مَدنية، وهذه السورة سورة مَكِيَّة، هُمْ يقُولون إنَّ هذه الآية نَزَلَتْ في أول حياة النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة ثم نزل في آخِرِ عهده صلّى الله عليه وسلَّم (لِيَغْفِرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرْ) [الفَتْح:2]. ولِذلك لمَّا نَزلَت هذه الآية: قال رَجُلٌ من المُسلمين: هذا قَدْ بيَّنَ الله لَكَ ما هُو فاعِلٌ بِكْ أنَّه قَدْ غُفِرَ لَكْ، فما هُو فاعِلٌ بِنا؟ فأَنْزَل الله: (لِيُدْخِلَ المُؤمنين والمُؤمنات جَنَّاتْ) [الفتح:5].
وفي الصَّحيحين: أنَّ المُؤمنين قالُوا: هنيئاً لَكَ يا رَسُول الله فما لَنَا؟ فأنْزَل الله عَزَّ وَجَلّ هذه الآية.
القَول الثَّاني: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) المُرَاد بِهِ في الدُّنيا ولَيس في الآخرة.
قال الحَسَنْ البَصْرِيّ: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) قال: "أمَّا في الآخرة فَمَعَاذَ الله قَدْ عَلِمَ أنَّه في الجَنَّة، ولَكِنَّه قال: لا أدري ما يُفعَلُ بي ولا بِكُم في الدُّنيا: أُخْرَجْ كَمَا أُخْرِجَت الأنْبياء من قَبْلي، أمْ أُقْتَل كما قُتِلَت الأنْبياء من قَبْلي، لا أدري أيُخْسَفُ بِكُم أوْ تُرْمَوْنَ بالحِجارة" وهذا القَوْلُ هُو الذِّي عَوَّل عليه ابْنُ جرير - رحمه الله-.
 فما رأَيْكُم يا إخْوَاني: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)
  القَوْل الأوَّل: أنَّها في الآخرة.
القَوْل الثَّاني: أنَّها في الدُّنْيا. وأنَّ المُراد: لا أدْري ما يُفْعَلُ بي: إمَّا أنْ أُقْتَلْ أوْ أُخْرَجْ كَما كانَتْ الأَنْبياء إمَّا أنْ يُخْرَجُوا أو يُقْتَلُوا، ولا بِكُم: كذلك أنتُم إمَّا أنْ يُرْسَلُ عليكم عذاب، أو يُخْسَفَ بكم... إلى آخره. فأيُّهُما أرْجَح؟
الحُضُور: الثَّاني.
الشِّيخ: اتَّفَقْتُم على الثَّاني وهذا هُو الصَّحِيح - يا إخْواني- لأنَّه بِقَوْلنا في الثَّاني تكُون آيةُ الأحْقاف مُحْكمَة وليْسَت بمَنْسوخة. والأصْل دائماً ألاَّ نصير إلى النَّسْخ في حَالْ الجَمْع، فالآية - يا إخْواني- مُحْكَمَة ولَيْسَت بِمَنْسُوخَة.
قال النَّحَّاسْ -تَعْلِيقاً-: "مُحَال أن يكُونَ في هذا ناسِخٌ ومَنْسُوخ مِنْ جِهَتَيْن - يقول: مُحال أن نجعل الآية في الآخرة، وإنَّما هي في الدُّنيا- أحَدُهُما أنَّه خَبَرْ وأنَتُم تَعْلَمُون أنَّ الأخْبار لا يَدْخُلُها النَّسْخ. والآخَر: أنَّهُ مِنْ أوَّلِ السُّورة إلى هَذا المَوْضِعْ خِطابٌ للمُشْركين، واحْتِجَاجٌ عليهم، وتَوْبيخٌ لَهُم فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هذا أيْضاً خِطَاباً للمُشْركين كَمَا كَانَ قَبْلَه ومَا بَعْدَه، ومُحالٌ أنْ يَقُولَ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم للمُشْركين ما أدري ما يُفْعَل بي ولا بِكُم في الآخرة وهُوَ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أوَّل ما بُعِثْ وهُو يقُول: «مَنْ أطاعَني دَخَل الجَنَّة، ومَنْ عَصاني دَخَل النَّار» فلا يُمكن أن يكُونَ معنى قول الله تبارَك وتعالى (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) أنَّه في الآخرة، وإنَّمَا المُراد على الصَّحيح: أن المراد به في الدُّنيا لا في الآخرة". لأنَّه صَلَّى الله عليه وسَلَّم كَانَ يَدْعُو قُرَيْشاً وهُو جَازِمْ بما يدْعُو إليه، فلا يُمْكِنْ أنْ يَكُون النَّبي يَدْعُو ولا يَدْري ما يَفْعَل الله به ولا بِهم، هل يَصيرُ هو للجَنَّة ويصيرُون إلى النَّار. ولِذلك هذا القَوْل ضعيف جِدَّاً أيُّها الإخْوة والصَّحيح - كما قُلْتُ لَكُم - أنَّ المُراد به في الدُّنيا وتَبْقَى الآية مُحْكَمَة غَيْرُ مَنْسُوخة.
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) أيَّ إنَّما أَتَّبِعُ ما يُنَزِّلُه الله عَلَيَّ مِنَ الوَحِي.
(وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أيّ بَيِّنُ النِّذَارَة، وأَمْري ظاهِرٌ لِكُلِّ ذِيّ لُبٍّ، وعَقْل.
ثُمَّ قال الله سُبْحانه وتعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) يقُول الله سُبْحانه وتعالى: قُلْ يا مُحَمَّد لهؤلاء المُشْركين، الكافِرين بالقُرآن (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ) هذا القُرآن مِنْ عند الله (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) أيَّ ما ظَنُّكُم أنَّ الله صَانِعٌ بِكُم إنْ كَانَ هذا الكِتاب حَقَّاً مِنْ عِنْد الله سُبْحانه وتعالى؟.
  (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) أيّ وقَدْ شَهِدَ بِصِدْقه، وصِحَّتِهِ الكُتُبْ المُتَقَدِّمة المُنَزَّلَة على الأنْبياء قَبْلي إذْ بَشَّرَتْ به، وأخْبَرَت بالنَّبي صلّى الله عليه وسلَّم، وبِأُمَّتِهِ، وأَخْبَرَت بِما يَدْعُو إليه (فَآمَنَ) أَيّ هذا الذِّي شَهِدَ بِصِدْقِه من بني إسْرائيل (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أنْتُم عَنِ اتِّباعِه أيّ: فَويْلٌ لَكُم. أيَّ: فَآمَنَ هذا الشَّاهِد بِنَبيِّهِ، وكِتَابِه وكَفَرْتُم أنتُم بِنبيِّكُم، وكِتَابِكُم (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
والشَّاهِد اخْتَلَفَ فيه أهْل العِلْم على أَقْوال:
 القَوْل الأوَّل: منهم من قال: أنَّه عبدالله بن سَلام، فَقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ الصَّحيح: عن سَعْد بن أبي وقَّاص قال: ما سَمِعْتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم يَقُولُ لأحَدٍ يَمْشي على الأَرْض إنَّه مِنْ أهْل الجَنَّة إلاَّ لِعَبْدِ الله بن سَلام وفيه نَزَلَتْ: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ).
 وعَبْدالله بن سَلام متَى أسْلَم يا إِخْواني؟ في المدينة. والسُّورة قُلنا أنها مَكِيَّة فَتَكُون هذه الآية -على هذه الرِّوَاية- نَزلَتْ في المدينة على هذا القول.
القَوْل الثَّاني: أنَّ الآية مَكِيَّة، إذاً ما الجَواب على قَوْلِه في الحديث الصَّحيح: (وفيه نَزَلَتْ)؟ أنْتُم تَذْكُرون - يا إخْواني- أنَّه لَمَا شَرَحْنا في مُقَدِّمَة التَّفْسير ذَكَرْنا أنَّ أسْباب النُّزُول تَنْقَسِمْ إلى أسْباب نُزُول صريحة وغِير صَريحة، هذا السَّبَب صَريح وإلا غير صَريح؟ غير صَريح لأنَّه قال (وفيه نَزَلَ) ما قَال: حَصَل كَذا فَأَنْزَل الله. فيكون قوله (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) أنَّ عبدالله بن سلام مِمَّنْ نَزلَتْ فيه هَذه الآية، يَصْدُق عليه هذه الآية.
وقال بعضُ أهل العِلْم: إنَّ الشَّاهِدْ عبدالله بن سَلام وهي آيَةٌ مَكِّيَّة، لَكِنَّها تَضَمَنَّت غَيْباً حَصَل في المدينة.
القَوْل الثَّالث: وقيل إنَّ الشَّاهِدْ رَجُلٌ من بني إسْرائيل، كَانَ بِمَكَّة غَير عبدالله بن سَلام.
هذه الأقْوال الثَّلاثة بمعنى أنَّ الشَّاهِد كانَ على وقْت النَّبي صَلَّى عليه وسَلَّم.
/ فَمِنْهم من قال أنَّه عبدالله بن سَلام، وتكُون السُّورة مَدَنِيَّة 
/ ومِنْهُم مَنْ قال: أنَّه عَبْدالله بن سَلام، والسُّورة مَكِيَّة لَكِنَّها أَخْبَرَت عَنْ غَيْب.
/ وَمِنْهُم مَنْ قَال: إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بني إسْرائيل، كانَ في مَكَّة.
القَول الرَّابِع: وقال الجُمهُور: إنَّ الشَّاهِدْ هُوَ مُوسَى بن عِمْران عليه السَّلام، والآيَةُ مَكِّيَّة، فيكُونُ المعْنى (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) أيّ بالمِثْل التَّوْراة، والضَّمير يَعُودُ إلى القُرآن، أيَّ جَاءَ شَاهِدٌ مِنْ بني إسْرائيلَ بِمِثْله وشَهِدَ أنَّهُ مِنْ عِنْد الله تعالى، وهذه المِثْلِيَّة هي باعْتِبَارِ تَطَابُقِ المعاني وإنْ اخْتَلَفَتْ الأَلْفَاظ.
 وقَدْ رَجَّحَ أنَّ الشَّاهِدَ هُنا - يا إخْواني - مُوسَى بن عِمْران الطَّبَرِيّ إمَامُ المُفَسِّرين. وهُو الأَقْرَب. فَتَكُون هذه السُّورة بِجُمْلَتِها مَكِيَّة (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُم). قَوْلُه (وفيه نَزَلَت): أيّ في حُكْمِه، فيُحْتَمَل - كما قَال شيْخ الإسلام - أنَّه سَبَبْ نُزُول، ويُحْتَمَل أنَّ الآية تَشْمَلُهُ.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) هَذِهِ من حُجَجِهِمْ البَاطِلَة، يقول: لَو كَانَ هذا الإسلامُ خير ما سَبَقَنا إليه الضُّعَفَاء، ونَحْنُ الصَّنادِيدْ أَهْلُ المَعرفة والعَقْل يَعْنُونَ بذلك بلالاً، وعَمَّاراً، وصُهَيْباً، وأشْباهِهِمْ، وَأضْرابِهِم من المُسْتَضْعَفين والعَبيد والإِمَاء، وذلك أنَّهُم يعْتَقِدُون أنَّ لَهُم عِنْد الله وَجاهَة، ولهم به عناية وقَدْ غَلَطُوا في ذلك غَلَطاً فاحِشاً.
(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أيّ بالقُرآن (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ) أيَّ كَذِبْ (قَدِيمٌ) أيّ مَأْثُورٌ عَنْ الأَقْدَمِين فَيَنْتَقِصُون القُرآن وأهْلَه. وقُلْتُ لَكُم - يا إخْواني - أنَّ الأحْقاف تُشْبِه إلى حَدٍّ كبير سُورة الجاثية فهُنا قالُوا عن القُرآن (إِفْكٌ قَدِيمٌ) ورَدُّوا الحَقّ الذِّي جَاءَ بِهِ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم، كما في سُورة الجاثية (يُصِرُّ كَأَنّ لَمْ يَسْمَعْها) أو (يَتَّخِذَها هُزُواً) .
  ثم قال الله سبحانه (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى)
 (وَمِنْ قَبْلِهِ) أيّ من قَبْل القُرآن (كِتَابُ مُوسَى) وهُو التَّوراة، (إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ) أيّ القُرآن، (مُصَدِّقٌ) لِمَا قَبْلَهُ من الكُتُبْ، (لِسَانًا عَرَبِيًّا) أيّ فَصيحاً، بَيِّناً، واضِحَاً، (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ).
قال ابنُ عَطِيَّة عند قوله تعالى: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) اللِّسان: مُحَمَّد، فَكَأَنَّ القُرآن بإعْجازِه، وأَحْوالِه البَارِعَة يُصَدِّقُ الذِّي جَاءَ به، وهو قَوْلٌ صحيحُ المَعْنَى جَيِّد.
ثُمَّ قال الله سُبْحانَهُ وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) وقَد تَقَدَّم تفسيرُهَا في سُورة فُصِّلَتْ. وهؤلاء قَدْ جَمَعُوا بين التَّوحيد والاسْتقامة. (رَبُّنَا اللَّهُ) تَوْحِيد (ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
(فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أيّ فيما يَسْتَقْبِلُون (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) كَذلِكْ. فالخَوْف: الهَمَّ بِما يُسْتَقْبَل. والحُزُن: هُو الهَمّ مِمَّا مَضَى. وقَدْ يُسْتَعْمَل فيما يُسْتَقْبَل -استعارَة- لأنَّه حُزْنٌ لِخَوْفٍ ما. قال الشَّوكاني -رحمه الله-: "في هَذِهِ الآية من التَّرغيب أمْرٌ عَظِيم فإنَّه نَفَى الخَوْفَ، والحُزْنَ على الدَّوَام، والاسْتقرار في الجَنَّة على الأَبَد ممَّا لا تَطْلُبُ الأَنْفُسُ سِواه، ولا تَتَشَوَّفْ إلى مَا عَداه".
ثُمَّ قال سبحانه (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أيَّ الأَعْمال سَبَبٌ لِنَيْل الرَّحْمَةِ لهُم، وسُبُوغِها عليهم.
وقَوْلُهُ (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) أيَّ اسْتقامُوا بالطَّاعات، والأعْمال الصَّالحة.
وقال أبُو بكر: داوَمُوا على الإيمان، وتَرَكُوا الانْحِرافَ عَنْه. قال ابن عَطِيَّة: وهذا القَوْل أَعَمُّ رَجاءً، وأوْسَعْ.
  ثُمَّ قال سُبْحانه وتعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)
مُناسَبَة هذه الآية لِمَا قَبْلَها: أنَّ الله سُبْحانه وتعالى لمَّا ذَكَرَ في الآية الأُولى التَّوحيد لَه، وَإخْلاصِ العبادة، والاسْتقامة إليه، عَطَفَ بالوَصِيَّة بالوالدين كَمَا هُو مَقْرُونٌ في غَيْرِ ما آية من القُرآن: كَقَوْلِه سُبْحانه (وقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاه وبالوالدين إحساناً) [ الإسراء: 23] وقال في آيَةٍ أُخْرَى (أنِ اشْكُر لي ولِوالِدَيْك) [ لُقمان:14] وقَدْ رَوَى أبُو دَاود الطَّيالِسي عَنْ سَعَد بن أبي وقَّاص أنَّ أُمَّ سَعْدٍ قالَتْ له: أليْسَ قَدْ أَمَرَ اللهُ بطاعَة الوالدين، فلا آكُلُ طَعاماً، ولا أشْرَبُ شَراباً حتَّى تَكْفُرَ بالله، فامَتْنَعَت مِنَ الطَّعام والشَّراب حتَّى جَعَلُوا يَفْتَحُونَ فَاهَا بالعَصَا، ونَزَلَتْ هذه الآية (وَوَصَيَّنا الإنْسَان بوالَديْهِ حُسْنَاً) [العنْكبُوت: 8] (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا) أيَّ قَاسَت بِسَبَبِهِ في حَالِ حَمْلِه مَشَقَّةٍ، وتَعَبْ مِنْ وِحَامٍ، وغَشَيانْ، وثِقَلٍ، وكَرْبٍ وغَير ذلك (وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) أيّ بِمَشَقَّةٍ كَذلِكْ مِنَ الطَّلْقِ وشِدَّتَه. ولِذلِكْ كانَ رَجُلٌ يَطُوفُ بِأُمِّهِ وهُوَ حَامِلٌ لها عَلى كَتِفَيْه فَرأَى ابْن عُمُر فقال لَهُ: يا ابْن عُمَرْ أرَأَيْتَ أنِّي قَدْ جَازَيْتُها؟ قال: ولا بِطَلْقَةٍ من طَلَقاتِها. فالحَمْل فيه مَشَّقَة، والوَضْعُ كذلِكَ فيه مشَّقَة، وكَمْ من الأُمَّهَات لَفَظَت أنْفاسَهَا قَبْل تَطَوُّر الطِّبْ عِنْد وَضِعِها لِوَلَدِها، كثيرٌ من الأُمَّهات تتعسَّر ولادتها قبل تَطوِّر هذا الطِبّ فَتَمُوت قَبْل أنْ تَضَعَ جَنِينها.
  ثُمَّ قال سُبْحانه (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) اسْتَدَلَّ بعْضُ أهل العِلْم أنَّ مُدَّة الحَمْل سِتَّةَ أشْهُر بهذه الآية لأَنَّ الله تعالى قال (والوَالِدَاتُ يُرضِعْن أولادَهُنَّ حَولَيْن كَامِلين) [البقرة: 233] والحولين: أربَع وعشرين شهْر، وبَقِي: سِتَّةُ أشْهر.
وقال الله سُبْحانه هنا (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) وفِصَالُهُ: إرْضَاعُهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّة - رحمه الله -: "وبِرُّ الوَالدين واجِبٌ بهذه الآية وغَيْرِها، وعُقُوقُهُما كَبيرَةٌ من كَبائِر الذُّنُوبْ".
وقَال ابْن عَطِيَّة: "ذَكَر الحَمْلُ للأُمّ، ثُمَّ الوَضْع لها، ثُمَّ الرَّضَاع الذِّي عَبَّرَ عَنْهُ بالفِصَالْ، وهذا يُناسِبُ ما قال الرَّسُول صلَّى الله عليه وسلَّم حيْثُ جَعَل للأُمَّ ثلاثَةَ أرْباع البِرّ، والرُّبُع للأَبْ". لأنَّه ذَكَرَ في هذه الآية الحَمْلُ والوَضْعُ والرَّضاع.
  ثُمَّ قال الله سُبْحانه وتعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أيّ قَوِيَ، وشَبَّ، وارْتَجَلْ.
  وبُلُوغُ الأَشُّدّ :
 قيل: أربعين سَنة لِتَفْسير مَا بَعْدَه (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) .
وقيل: ثمانِيَةَ عَشَرَ عامَاً.
وقيلَ: ثلاث وثلاثين.
وقال الجُمهُور: سِتٌّ وثلاثُون. وقَوَّاهُ ابْن عَطِيَّة. ورأَى أنَّ الأَرْبَعين ليْسَ تفْسيراً لِبُلُوغ الأَشُّدْ، وإنَّما هو حَدٌّ للإنْسان في صَلاحِه، ونَجَابَتِهِ.
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) أيّ في المُسْتَقبَل. (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أيّ في نَسْلِي وعَقِبَي (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
  قال ابْن كثيرٌ – رحمه الله-: "هذا فيه إرْشَادٌ لِمَنْ بَلَغَ الأرْبعين أنْ يُجَدِّد التَّوْبَةَ، والإنابَة إلى الله عَزَّ وجَل، ويَعْزِمْ عليها".
وقال الشَّوكاني – رحمه الله-: "يَنْبَغِي لِمَنْ بَلَغ الأربعين أن يُكْثِرَ من تِكْرَارِ هذا الدُّعَاء".
  ثُمَّ قال الله سُبْحانه وتعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) أيّ هَؤلاء المُتَّصِفُونَ بِمَا ذَكَرَنا، التَّائِبُون إلى الله، المُنيبُون إليه المُسْتَدْرِكُون مَا فَاتَ بالتَّوْبَة والاسْتغْفار هُمُ الذِّين يَتَقَبَّل الله سبحانه وتعالى عَنْهُم أحْسَنَ ما عَمِلُوا،ويَتَجاوَزُ عَنْ سيِّئاتِهِمْ.
(فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) أيّ في جُمْلَتِهِم وهذا حُكْمُهُم عند الله سُبْحانه وتعالى (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) أيّ هذا هُو الوعْد الصِّدق الذِّي لا يَتَخَلَّفْ.
وَبِهذا نكُون قد اْنْتهَيْنا من هذا المجلس، ونَقِفُ عند الصِّنْف الثَّاني وهو قَول الله عَزَّ وجل (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) وصَلَّى الله وسَلَّم وبَارَكَ على نَبيِّنا مُحَمَّد وعلى آله وصَحْبِه أجْمعين.

المجلس الثاني
(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19))
  بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة عطف بحال الأشقياء العاقّين فقال (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) وهذا عام في كل من قال لوالديه. وقال بعض المفسرين: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر وهذا قول ضعيف ضعّفه ابن كثير رحمه الله وضعّفه كذلك القرطبي، ومن أدلة تضعيفه قول عائشة رضي الله عنها حينما قال مروان: إن هذا الذي أنزل فيه يقصد عبد الرحمن بن أبي بكر (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) قالت عائشة: من وراء حجاب ما أنزل الله فينا أي آل بكر شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري.
 كما أن سياق الآيات يُضعّف نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر حيث قال (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) وأما عبد الرحمن فقد أسلم وحسن إسلامه.
 (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي أبعث (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر، أي القرون الماضية لم نرى بعثا ونحن قررنا أكثر من مرة أن البعث محله يوم القيامة فلا حجة للمشركين في طلب بعث آبائهم ولا برؤية القرون السابقة قد بعثوا كما في هذه الآية.
 (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ) أي يسألان الله عز وجل أن يهديه ويقولان لولدهما (وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) فيرد عليهما بقوله (مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
قال الله عز وجل (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي لكل عذاب خاص بحسب عمله (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها، وقال الله عز وجل (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) "ولكل" الضمير يعود إلى من؟ أصحاب الجنة وأصحاب النار لكن لاحظوا أن اللفظ (دَرَجَاتٌ) الجنة فيها درجات لأن الدرج هو ترقي إلى أعلى لكن النار دركات، لكن الله سبحانه وتعالى قال هنا في هذه الآية (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ) فما وجه ذلك؟ قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: درجات النار تذهب سفالاً ودرجات الجنة تذهب علواً.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) يقال لهم ذلك توبيخاً وتقريعا (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) أي تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات والمعاصي.
وقيل: أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي. فالطيبات هنا الشباب والقوة مأخوذ من قولهم ذهب أطيباه أي شبابه وقوته. قال القرطبي: والقول الأول أظهر.
 قال ابن العربي -رحمه الله- تعليقاً على هذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) "إن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره له الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات -وهذا وجه ذم الاستمتاع بالطيبات- حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء" إلى أن قال: "والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه على المرء أن يأكل ما وجد طيباً كان أو قفاراً ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد ويصبر إذا عدم ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ويشرب العسل إذا اتفق له ويأكل اللحم إذا تيسر ولا يعتمد ذلك أصلاً في حياته ولا يجعله ديدنَّا ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة وطريقة الصحابة منقولة في هذا الباب وقد قيل من الحكم: لا تكن أسير عادة".
(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) فالجزاء من جنس العمل فكما استمتعوا بالطيبات جوزوا بعذاب الهون وعذاب الهون العذاب الذي اقترن به الهوان وهو عذاب العصاة المواقعين لما نهوا عنه والهون والهوان بمعنى واحد.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ) قال ابن عطية: الأخوة هي أخوة القرابة، لأن هود عليه السلام كان من أشراف قبيلة عاد وكان أخاهم في النسب لا في الدين كما قال القرطبي.
(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ) أي هود وهذا من باب تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حينما أعرض عنه المشركون بعثه الله عز وجل إلى عاداً الأولى وكانوا يسكنون الأحقاف جمع حُقُف وهو الجبل من الرمل، الجبل المستطيل المعوج من الرمل. قال ابن عطية: إن بلاد عاد كانت في اليمن ولهم إرم ذات العماد.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي قد أرسل الله عز وجل إلى من حول بلادهم من القرى مرسلين ومنذرين (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي عاد والنُذُر التي قبله والرُسل التي قبله واللي بعده قضيتهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا) "لتأفكنا" فيها وجهان:
 أي لتزيلنا عن عبدتها بالإفك بالكذب.
وقيل: لتصرفنا عن آلهتنا بالمنع. ويصح كل المعنين
(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) استعجلوا عذاب الله عز وجل وعقوبته (قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي الله أعلم بكم أن كنتم مستحقين لهذا العذاب أو لا؟ (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أي لا تعقلون.
 (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) لما رأوا العذاب مستقبل أوديتهم رأوا السحاب (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) لأنهم كانوا أصابهم الجدب مدة ففرحوا بهذا السحاب (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) فردّ الله عز وجل عليهم (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي هو العذاب الذي قلتم (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (تُدَمِّرُ) أي تخرب (كُلَّ شَيْءٍ) من بلادهم مما شأنه الخراب، أي لا تدمر كل شيء معناه تزيل كل شيء، أي تدمر ما من شأنه الخراب (بِأَمْرِ رَبِّهَا) أي بإذن الله عز وجل يشهد لهذا قوله سبحانه وتعالى (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء البالي فتدمر كل شيء (بِأَمْرِ رَبِّهَا) أي تدمر كل ما أُمرت بتدميره.
 (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي هذا حكمنا فيما كذب رسلنا وخالف أمرنا.
 روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم. قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهة؟ قال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا» يقصد قوم عاد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تخيل في السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مُطرت سري عنه فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) وقد جاءت قصة قوم عاد مفصلة في سورة الأعراف وفي سورة هود.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) هذا خطاب لقريش فيقول تعالى ولقد مكّنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد وأعطينهم منها ما لم نعطكم مثله بل ولا قريباً منه (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي أحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه كما كان قوم عاد يفعلون أي فاحذروا يا كفار قريش أن تكونوا مثلهم.
قال الله عز وجل (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ) "ما" هنا نافية ويقوي ذلك دخول "من" في قوله تعالى (مِنْ شَيْءٍ). وقال بعض أهل العلم: إنها استفهام بمعنى التقرير فتكون (مِنْ شَيْءٍ) تأكيد. قال ابن عطية: عدد الله عليهم نعم الحواس والإدراك، وأخبر أنها لم تغنِ حين لم تستعمل على ما يجب.
  ثم قال سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى) يقصد أهل مكة، قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد وكانوا بالأحقاف بحضرة موت في اليمن، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن، ومدين وكان في طريقهم وممرهم إلى غزة، وكذلك بحيرة قوم لوط، فالله سبحانه وتعالى يُذكّرهم وهم قد أطلعوا على هؤلاء الأقوام (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ) أي بيّناها ووضحناها (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يعودون إلى الله سبحانه وتعالى ويؤمنون به.
ثم قال سبحانه (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) أي هلا نصروهم إذا احتاجوا إليهم هؤلاء المعبودات (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم (وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ) أي كذبهم (وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي افتراءهم في اتخاذها آلهة من دون الله عز وجل قد خسروا في عبادتهم واعتمادهم عليها.
  ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) وهذا هو الموضوع الرابع من موضوعات هذه السورة (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) قال القرطبي -رحمه الله-: "هذا توبيخ لمشركي قريش" أي أن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم مصرون على الكفر. والمناسبة بين هذه الآية والتي قلبها: كما قال الشوكاني رحمه الله: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن أن من الإنس من آمن ومنهم من كفر، بيَّن أيضاً أن ذلك في الجن.
 وقد جاءت الروايات -أيها الإخوة- مختلفة في استماع الجن للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت روايات عن ابن مسعود، وجاءت روايات عن ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه من هذه الروايات ما رواه البخاري ومسلم عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقاً من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك - يعني ابن مسعود - أنه آذنته بهم شجرة.
ومن العلماء من قال: إن هذا حصل بعد ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف. ومنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحسّ بهم وعلم بوجودهم.
ومنهم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم.
وكل هذه الروايات يا إخواني صحيحة، والجمع بين هذه الروايات: أنه قد حصل ذلك مرات متعددة فمرة صُرف إليه نفر من الجن، ومرة وفدوا إليه، ومرة استمعوا له ولم يشعُر بهم.
 جاء عند الإمام أحمد -رحمه الله- عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: هل صحِب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد، ولكننا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا: اغتيل؟ استطير؟ ما فعل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح - أو قال: في السحر - إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله - فذكروا له الذي كانوا فيه - فقال: «إنه أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم». قال: فانطلق، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم - قال: وقال الشعبي: سألوه الزاد - قال عامر: سألوه بمكة، وكانوا من جن الجزيرة، فقال: «كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان عليه لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم - قال - فلا تستنجوا بهما، فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه الإمام مسلم.
 فهذه الرواية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم قصداً، والرواية السابقة عن ابن مسعود تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر بهم وإنما أخبرته بهم شجرة. وقلت لكم أن الجمع بين هذه الروايات أنها كلها صحيحة وأنها مرات متعددة.
 (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) وذلك أنه أحس الجن أن السماء قد حرست فقالوا: اضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتعلموا ما الذي حبس خبر السماء عليكم؟ فلما أتوا إلى مكة وفد نصيبين وسمعوا القرآن قالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.
قال الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) أي طائفة من الجن وصرفنا أي وجهنا إليك وبعثنا (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) أي استمعوا وهذا أدب منهم. والنفر يقتضي أن المصروفين رجال لما قال (نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) يقتضي أن المصروفين رجال لا أنثى معهم فالنفر والرهط والقوم الذين لا أنثى فيهم.
 (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي حضروا القرآن (قَالُوا أَنْصِتُوا) قال ابن عطية: "فيه تأدب مع العالم وتعليم كيف يتعلم"  وهو أن الإنسان ينبغي له أن ينصت في مجلس العلم.
 (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرِغ كقوله (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ) وقوله (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) وقوله (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ)، (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) هؤلاء النفر جمعوا بين أمرين -وهذا كله تعريض بكفار قريش- :
الأول: أنه لما سمعوا القرآن أنصتوا وآمنوا.
الأمر الثاني: أنهم أصبحوا دعاة إلى هذا القرآن.
 أما أنتم يا كفار قريش فأنتم لما استمعتم القرآن أعرضتم وفي المقابل صددتم عن القرآن. فهؤلاء خيرٌ منهم، فهذا تعريض بكفار قريش.
 (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ) أي من بني الجن (مُنْذِرِينَ) فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد استُدِل بهذه الآية على أنه في الجن نُذر وليس فيهم رسل لأنه قال (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ولم يقل مرسلين ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً لقوله سبحانه وتعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)، (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) وهل هذه حال الجن؟ لا. أما قول الله عز جل (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الأنس كقوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وهو يخرج من أحدهما.
ثم فسر سبحانه وتعالى إنذار الجن لقومهم بقوله (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) أُنزل من بعد موسى أين عيسى؟ الأصل أن يقول أنزل من بعد عيسى، لأن عيسى هو الذي قبل النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا قالوا أنزل من بعد موسى؟
 قال ابن عطية جواباً عن هذا: يحتمل أن هذه الطائفة من الجن كانت تتدين بدين اليهود، أو لأنهم كانوا يعرفون أن موسى عليه السلام قد ذكر محمد وبشر به فأشاروا إلى موسى من حيث كان الأمر مذكوراً في توراته كما قال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. بمعنى أنه هذا الذي بشر به موسى.
 وقال بعضهم مثل ابن كثير رحمه الله جوابا عن عدم ذكر عيسى -من باب الفائدة-: أن عيسى عليه السلام أُنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحريم والتحليل وهو في الحقيقة كالمُتمم لشريعة التوراة لأن الله عز وجل قال (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) فالعمدة هو التوراة ولذلك هؤلاء الجن ذكروا موسى دون ذكر عيسى عليه السلام.
(مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المنزلة على الأنبياء (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) أي بالاعتقاد والإخبار (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) في الأعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب، فخبره صدق وطلبه عدل. (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) في الاعتقادات (وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) في العمليات. (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) من داعي الله؟ محمد صلى الله عليه وسلم.
 وفي هذه الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الثقلين الجن والإنس، وقد دلت على ذلك جملة من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) "مِن" هنا قال بعض المفسرين: إنها زائدة وفيه نظر والصحيح أنها تبعيضية على با بها، لأن غفران الذنوب هل كل الذنوب تغفر يوم القيامة؟ تغفر ما بينك وبين الله عز وجل، أما حقوق العباد فلا بد أن يُقتصّ منك ولذلك (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي الذنوب التي لا تتعلق بحقوق العباد.
 (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) أي يقيكم من العذاب الأليم. وقد استدل بعض أهل العلم أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة وإنما جزاء صالحيهم أنهم يجارون من عذاب النار. وقالوا: لأنه لو كانوا يدخلون الجنة لذكرهم هنا وقال لدخلوا الجنة ولم يخصّ فقط إجارة من العذاب الأليم. وهذا قولٌ ضعيف، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الأنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف. وقد استدل بعض أهل العلم بقوله سبحانه وتعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) وذلك أن الله امتن على الثقلين بأن جعل جزاء مُحسنهم الجنة. وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس حينما قالوا: "ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد" فلم يكن الله عز وجل ليمتن عليهم بشيء لن يحصلوه. وهذه يا إخواني من المسائل التي يذكرها بعض المسفرين حول هذه الآية.
  ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ) أي بل قدرة الله سبحانه وتعالى شاملة له ومحيطة به (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ) أي لا يجيرهم منه أحد (أُولَئِكَ) أي هؤلاء الذين لا يجيبون داعي الله سواء كانوا من الجن أو من الإنس (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) وهذا مقام تهديد وترهيب فدعَوا قومهم بالترغيب والترهيب ولهذا نَجَع في كثير منهم وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفوداً، وفوداً، يعني هؤلاء الذين استمعوا للقرآن ذهبوا وأنذروا قومهم وبدأوا يأتون بوفودهم من الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
  ثم قال الله سبحانه وتعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) الرؤية هنا رؤية قلبية، والضمير يعود إلى قريش وهذه الآية مَثل واحتجاج لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن أن تبعث ولا تعاد وهم مع ذلك معترفون بأن الله سبحانه وتعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) فأُقيمت عليهم الحجة من أقوالهم وهذه إحدى طرق إثبات البعث، من طرق إثبات البعث بيان خلق السماوات والأرض (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ولهذا قال الله سبحانه وتعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) أي ألم يرى هؤلاء المنكرون للبعث أن الله عز وجل (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) أي لم يكترث به بل قال لها سبحانه وتعالى كوني فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة بل أتت طائعة مجيبة لله سبحانه وتعالى، أفليس ذلك (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) ثم أجاب الله سبحانه وتعالى فقال (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ثم قال سبحانه وتعالى متهدداً ومتوعداً من كفر به (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) أي يقال لهم: أما هذا حق؟ أفسحر هذا؟ أم أنتم لا تبصرون؟ (قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) هل ينفعهم ذلك؟ لا ينفعهم ذلك ولا يسعهم الاعتراف (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
ثم قال سبحانه وتعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على هؤلاء الكفار المعاندين المكذبين الذين آذوا نبيه صلى الله عليه وسلم واستكبروا عن دعوته واستهزئوا بكتابه الذي جاء به من ربه (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما قرر الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ) وأولو العزم من الرسل اختلف في تعدادهم على أقوال: منهم من قال إنهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال: هم المنصوص عليهم في آيتين من سورة الأحزاب والشورى.
ومنهم من قال: أن أولي العزم من الرسل المراد به جميع الرسل.
ولذلك قال (مِنَ الرُّسُلِ) و"من" هنا تكون على هذا القول لبيان الجنس. إذا قلنا: أن أولو العزم هم كل الرسل فالمراد بـ "من" هنا بيان الجنس، وإن قلنا: أن أولو العزم هم خمسة فمن هنا تبعيضية.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لا تستعجل لهم حلول العقوبة. وقارنوا بين هذه وبين أهل عاد فالمذكورين في هذه السورة كقوله سبحانه وتعالى (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) وكقوله سبحانه وتعالى (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).
 (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) كما قال في آية أخرى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ).
 (بَلَاغٌ) قال ابن جرير: قول الله عز وجل (بَلَاغٌ) يحتمل معنيين:
 أحدهما: أن يكون تقديره: وذلك لُبْثَ بلاغ. قوله (بَلَاغٌ) أي هذا اللبث (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) أي هذا اللبث (بَلَاغٌ) أي ساعة هذه الدنيا بلاغ. ويحتمل: أن يكون تقديره: هذا القرآن بلاغ. أي بدأ بالحديث عن القرآن، أي هذا القرآن بلاغ. أيهما أصح يا إخواني؟ الأول.
 طيب يا إخواني أنتم تذكرون في سورة الجاثية ما قلنا أنها ختمت كذلك بالحديث عن القرآن وقلنا الأحقاف تشبه سورة الجاثية فلما لا نحمل بلاغ على القول الثاني وأن هذا القرآن بلاغ أي ما نحكيه ونقصه عليك يا محمد بلاغ لهؤلاء لأن البلاغ في الآخرة هل ينفع؟ هل يفيدهم؟ إنما يفيدهم البلاغ الحالي.
 (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) قال ابن عطية: هذه الآية وعيد محض وإنذار بيّن.
 وقال الثعلبي -رحمه الله-: قوله تعالى (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) أرجى آية في كتاب الله للمؤمنين. يقول: إن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله للمؤمنين. وأنتم تعلمون أن المفسرين كثير منهم يقول: أرجى، أخوف، أشد.... إلخ، فما وجه هذا الرجاء؟
 فسره الزجاج بقوله: إن معنى (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) أي لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون فمن لم يفسق لا يُهلك، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى. ولذلك جعل الثعلبي -رحمه الله- أن هذه الآية هي أرجى آية فإنهم لا يُهلكون لأنهم لم يتصفوا بالفسق.
  هذا ما يتعلق بسورة الأحقاف، نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لنا زللنا وخطأنا، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
المصدر / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق