الخميس، 2 أكتوبر 2025

| الدرس الخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٥٤) (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم…)

 


الحمد لله رب العالمين وصلى الله  وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
 ن/ فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم*وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون* ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون*وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفى الله عنكم بسبب ذلك لعلكم تشكرون الله.
(وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله، (فأخذتكم الصاعقة) إما الموت أو الغشية العظيمة، (وأنتم تنظرون) أي وقوع ذلك كل ينظر إلى صاحبه، (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) ثم ذكر نعمته عليهم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق فقال (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ) وهو اسم جامع لكل رزق يحصل بلا تعب ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك، والسلوى طائر صغير يقال له السماني طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم، (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين فلم يشكروا هذه النعمة واستمروا على قساوة القلوب، وكثرة الذنوب، (وما ظلمونا) يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله تعالى لا تضره معصية العاصين، كما لا تنفعه طاعات الطائعين، (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) فيعود ضرره عليهم"
ت/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. أما بعد: قول الله عز وجل (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل)، (وإذ قال موسى لقومه) أي: واذكروا يا بني اسرائيل لأن السياق كله في خطاب بني إسرائيل، واذكروا يا بني إسرائيل حين قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم، والآية فيها الصفة التي بها تاب الله عليهم من عبادتهم للعجل واتخاذهم للعجل معبودا من دون الله بعد أن أظلهم في ذلك السامري كما ستأتي قصته في سورة طه، فذُكر في هذه الآية صفة التوبة التي أُمروا، أو الأمر الذي أُمروا بفعله ليتوب الله عليهم من هذا الجرم العظيم، والذنب الكبير الذي هو أعظم الذنوب وأكبرها وهو اتخاذ معبود من دون الله سبحانه وتعالى. وقوله (لقومه) (إذ قال موسى لقومه) اللام هنا لام التبليغ، أي قال لهم مبلغا عن الله سبحانه وتعالى، وفائدة قوله (لقومه) لأنه إذا قيل: وإذ قال موسى يا قوم، عُرف أن الخطاب للقوم لكن فائدة هذه اللفظة (لقومه) أنها تفيد أن خطاب موسى لهم كان مشافهة مباشرة، خاطبهم بنفسه بذلك عليه السلام، (وإذ قال موسى لقومه يا قوم) وهذا فيه من التلطف في الخطاب، الآن هو يخاطب من ارتدوا عن الدين وعبدوا الأوثان، عبدوا عجلا، ارتكبوا جرما، فيخاطب ناس هذي حالهم فيقول (يا قوم) هذا في تلطف في الخطاب، يعني ما قال يا مجرمين، يا كذا، قال (يا قوم) تلطف في الخطاب وهذا فيه إعانة للمتلقي والسامع على قبول ما يُلقى إليه، ويبين له.
(وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) أي اتخاذكم العجل معبودا من دون الله، لأن السامري لما صنع ذلك العجل قال هذا إلهكم وإله موسى. واحتال عليهم حتى عبدوا هذا العجل من دون الله عز وجل. وقصة عبادتهم للعجل جاءت بعد نجاتهم من فرعون وهلاك فرعون ورؤيتهم لآية الله العظيمة الدالة على كمال اقتداره، وعظيم تدبيره سبحانه وتعالى، مع هذه الآية العظيمة بعدها بوقت ليس بطويل اتخذوا هذا العجل معبودا من دون الله عز وجل. وهذا فيه تنبيه أن الأصنام والأوثان فتنة عظيمة جدا ولا ينجو منها ومن التعلق بها إلا من نجاه الله وهداه، وسلّمه ووقاه، ولهذا تعجب تجد في الناس أذكياء وعلى مستوى من الذكاء وتجد عنده مثل هذه التعلقات بأشياء متخذة يعلق قلبه بها من دون الله سبحانه وتعالى، وكان من دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام، (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) قال بعض السلف: "ومن يأمن البلاء - يعني الافتتان بها- بعد إبراهيم عليه السلام".
 (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) وهذا فيه أن اتخاذ المعبودات، اتخاذ الأوثان أيا كانت هو من الظلم للنفس بل هو أعظم الظلم للنفس، لأن الظلم للنفس مراتب أشدها وأنكاها وأعظمها عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وفي وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه قال (لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) وقال جل وعلا (والكافرون هم الظالمون) فالشرك هو أشد الظلم، هو أكبر الكبائر وأعظم الموبقات.
قال (ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) يعني ارتكبتم ظلما عظيما وجرما كبيرا باتخاذكم العجل أي اتخاذه إلها لأن السامري قال هذا إلهكم وأضلهم، وقبلوا ما دعاهم إليه فعبدوا العجل
متى كانت هذه  العبادة؟
في فترة ذهاب موسى -كما مر معنا قبل آيتين أو ثلاث- قال (وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده) أي ذهاب موسى إلى الوعد الذي وعده الله سبحانه وتعالى، فاتخذوا العجل في تلك الفترة، اتخذوا العجل معبودا من دون الله عز وجل في تلك الفترة قال (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) ثم دعاهم إلى التوبة وبيّن لهم الصفة التي يفعلونها حتى يتوب الله عليهم من هذا الجرم العظيم قال (فتوبوا إلى بارئكم) انظر ذكره لهذا الاسم من أسماء الله الحسنى (البارئ) أي الذي أوجدكم من العدم، لم تكونوا شيئا مذكورا، توبوا إلى بارئكم، توبوا إلى من خلقكم، إلى من أوجدكم، حيث اتخذتم عجلا معبودا من دونه، من دون البارئ، الخالق سبحانه وتعالى. وهذا فيه التنبيه لعظم الجرم بقوله بارئكم، هذا فيه تنبيه على عظم الجرم الذي ارتكبوه، كأنه يقول لهم كيف تتخذون عجلا معبودا من دون البارئ الخالق لكم ولها ولهذا الخلق العظيم؟! كيف تتخذون عجل معبود مثل قول إلياس لقومه (تدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين* الله ربكم ورب آبائكم الأولين) أين عقولكم؟ فتوبوا إلى بارئكم، توبوا إلى الله. توبوا إلى بارئكم أي توبوا إلى الله عز وجل الذي أوجدكم الذي خلقكم الذي أمدكم بالصحة والعافية والمال، والمسكن وغير ذلك، توبوا إلى الله من هذا الوثن المتخذ والمعبود المتخذ من دون الله؟ فتوبوا إلى بارئكم. ما صفة التوبة؟
قال (فاقتلوا أنفسكم) هكذا كان مطلوبا منهم في التوبة من عبادة العجل، هذا الذي طُلب منهم أن يقتلوا أنفسهم، ومعنى (اقتلوا أنفسكم) أي ليقتل بعضكم بعضا، أُمروا بهذا العمل ليكون كفارة لهذا الجرم العظيم عبادة العجل من دون الله.
كم كانت العبادة للعجل؟ هل هي سنوات طوال؟ 
فترة ذهب موسى الموعد الذي وعده ربه في تلك الفترة، كانت التوبة المطلوبة من هذه العبادة في تلك الفترة أن يقتلوا أنفسهم، ولا تكون توبتهم إلا بهذا. ولهذا جاء في الآثار عن غير واحد من السلف عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وجماعة من المفسرين، لما قال لهم موسى عليه السلام توبوا إلى بارئكم سألوه قالوا وما توبتنا؟ يعني ما الشيء الذي نفعله ليتوب الله علينا؟ وبيّن لهم وفهموا الجرم الذي ارتكبوه ودعاهم إلى التوبة، فتهيئوا للتوبة وسألوه قالوا كيف ما توبتنا؟ ما الذي نفعله حتى يتوب الله علينا؟ يقتل بعضكم بعضا، فجعل بعضهم يقتل بعضا، حتى جاء في عدد من الآثار أنه قتل منهم سبعون ألف في هذه التوبة، فأوحى الله عز وجل لموسى أن يرفعوا أيديهم عن قتل بعضهم لبعض، وكان هذا توبة عليهم، تاب الله عليهم، تاب بهذا عليهم.
(فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم)
(ذلكم) الإشارة هنا (ذا) إما إلى القتل أو التوبة، كلاهما مر ذكره، (ذلكم خير لكم عند بارئكم) ذلكم: أي التوبة خير لكم عند بارئكم، لأنكم بهذه التوبة تنجون من النار والخلود فيها لأن هذا شرك موجب للخلود في النار، تنجون من النار خير لكم عند بارئكم خير لكم عند الله عز وجل، (ذلكم خير لكم عند بارئكم)، أو (ذلك) أي القتل الذي أمروا به ليكون مكفرا وتوبة.
(ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم) (فتاب عليكم) المعنى واضح من السياق أي ففعلوا ما أُمروا به، وما أمروا به من القتل فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم، فسيقت هذه الآية فيها التذكير لبني إسرائيل بتوبة الله على أسلافهم وأوليهم من هذا الذي الجرم الذي وقعوا فيه، فنصحهم وعلمهم موسى فقالوا كيف نتوب إلى الله من هذا العمل؟ فأرشدهم بوحي من الله أن يقتل بعضهم بعضا.
ثم قوله (تاب عليكم) هذا يتناول من؟ الآن بعد هذه الاستجابة منهم بقتل بعضهم بعضا أصبحوا قسم أموات قتلوا وقسم أحياء، فالتوبة شاملة للقسمين لأنهم كلهم استجابوا بفعل هذا الذي أُمروا به طالبين بذلك توبة الله عليهم، وأن يتوب الله عليهم، فغُفر لمن قتل منهم، وتيب على من بقي، غفر الله لمن مات منهم وتاب سبحانه وتعالى على من بقي. وجاء في بعض الآثار أن من مات عُدّوا شهداء، فهذا معنى قوله (فتاب) أي الله سبحانه وتعالى (عليكم) تاب عليكم.
(إنه هو التواب الرحيم) يعني انظر الفرق بين ما جاء في شريعتهم التوبة من الشرك أن يقتل بعضهم بعضا حتى يُتاب عليهم وفي شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام من وقع في الشرك ماذا عليه وتقبل توبته؟ أن يتوب صادقا إلى الله عز وجل من الشرك الذي فعله فيتوب الله عليه، كما قال الله في سورة الزمر (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) يعني حتى الشرك، لا تقنطوا، لا تيأسوا، توبوا إلى الله من أي ذنب، واصدقوا مع الله في توبتكم فإنه سبحانه وتعالى يتوب عليكم. (إنه هو التواب الرحيم) وهذان إسمان لهما تعلق بالسياق الذي جاء في الآية لأن الله عز وجل تاب عليهم وتوبته عليهم تتناول المعنيين في دلالة اسمه التواب توفيق للتوبة وقبول التوبة، وتوفيقهم للتوبة وهدايتهم لها هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بهم ولهذا قال (إنه هو التواب الرحيم) (وإذ قلتم) أي: اذكروا يا بني إسرائيل حين قلتم لموسى أي حين قال بعض أسلافكم لموسى يا موسى (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وهؤلاء الذين قالوا هذا الكلام هم جماعة من بني إسرائيل، من خيارهم، اختارهم موسى عليه السلام وكان عددهم سبعين كما في قوله عز وجل (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) اختار سبعين من خيار قومه لميقات ربه حتى يطلبوا من الله سبحانه وتعالى العفو عنهم وعن قومهم في هذا الذي حصل منهم، فاختار منهم سبعين وذهب بهم موسى عليها السلام إلى الميقات، إلى المكان الذي حُدد، والوقت الذي عُين وخاطبه الله عز وجل، وأخبرهم بما خاطبه الله سبحانه وتعالى به فقالوا (لن نؤمن لك) لن نصدقك في هذا الذي تخبرنا به عن الله حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا هؤلاء السبعين أجمعين بتلك الصاعقة، قيل الصاعقة نار من السماء نزلت، قالوا (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) فماتوا هؤلاء الأجمعين. فأخذ موسى عليه السلام يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى يقول في لجوئه إلى الله ماذا أقول لقومي وقد هلك خيارهم؟ هؤلاء خيارهم انتقيتهم انتقاء، خيار بني إسرائيل انتقيتهم لينوبوا عن قومهم في طلب التوبة، ومعرفة صفة التوبة، فماذا أقول لقومي؟ يسأل الله سبحانه وتعالى، فلم يزل يدعو ويلح على الله سبحانه وتعالى حتى أحيا الله هؤلاء السبعين من بعد موتهم،  احياهم واحد تلو الآخر فقاموا أحياء بعد أن أماتهم سبحانه وتعالى قال: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) هذه نِعم، نِعم عظيمة أنعم الله بها على أسلافكم، تذكروها الخطاب لبني إسرائيل، تذكروها يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله ونِعم الله المتنوعة عليكم مع عظم ما كان يحصل منكم من جرم، من مخالفة، من عصيان لموسى عليه السلام.
(ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام) وظللنا عليكم الغمام) الغمام: السحاب، وهذا كان في مدة التيه التي كتب عليهم في منطقة بقوا تائهين فيها أربعين سنة،. أربعين سنة وهم يحورون ويكورون في مكان واحد، ما يهتدون إلى طريق ولا يجدون سبيلا.
قال (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) المن والسلوى نوعان من الطعام، بعضهم قال الكمأة الذي هو المنّ، وجاء في الحديث إن الكمأة من من المن، والمنّ مِنّة، يعني منة الله عليكم، والسلوى قالوا نوع من الطير.
 (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا) أي قلنا لهم كلوا (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا) أي قلنا لهم (كلوا من طيبات ما رزقناكم)  واحمدوا الله عز وجل على هذا الإِنعام، على هذا الفضل (واذكروا نعمة الله عليكم).  قال في ختم هذا السياق (وما ظلمونا) بمخالفاتهم، بعصيانهم، بما ارتكبوه من جنايات هذه الفعلات التي فعلوها، والأمور التي حصلت منهم، هذه كما قال الله عز وجل (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) لأن الله سبحانه وتعالى لا يضره معصية من عصى كما لا تنفعه طاعة من أطاع بل الأمر كما قال الله سبحانه وتعالى (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)، وفي الحديث القدسي يقول الله عز و جل: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم  كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو أنه أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا) فهو جل وعلا لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا عصيان العاصين، ولا ظلم الظالمين، ولا إجرام المجرمين، ولا شرك المشركين، ولا كفر الكافرين (وما ظلمونا) وإنما ظلموا أنفسهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي كانوا ظَلَمة لأنفسهم، ظلموا أنفسهم وهذا الذي فعلوه هو من الظلم للنفس الذي لا تعود مضرته إلا عليهم هم (ومن ضل فإنما يضل عليها).
قال الشيخ رحمه الله: "ثم إنه أمركم أي يا بني إسرائيل بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا" كما تقدم (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) "فعفى الله عنكم -أي فعلتم هذا الذي أُمرتم به أي فعله أسلافكم حين طُلب منهم ذلك- فعفا الله عنكم بسبب ذلك لعلكم تشكرون الله" (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) قال: "وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم" يقولون ما نقبل ما تقول وتدعونا إليه وقد عرفوا أنه نبي، ورأوا الآيات، ورأوا البراهين، ورأوا الدلائل البينات، ومع ذلك كانوا بهذه الجرأة، وعرفنا أن القائلين لهذا كانوا خيارا من هؤلاء. سبعين رجلا اختارهم اختيارا موسى عليه السلام. فقال: (فأخذتكم الصاعقة إما الموت أو الغشية العظيمة (وأنتم تنظرون) وقوع ذلك، كل ينظر إلى صاحبه، (ثم بعثناكم) أي من بعد موتكم (لعلكم تشكرون) هذا كله تعداد لنِعم، تفصيل لنِعم حصلت لأسلافهم. ثم ذكر نعمته عليهم في التيه، أي لما كانوا في التيه. يفسره بقوله "فالتيه والبرية الخالية" في الصحراء الخالية البرية: الصحراء الخالية، أي في الصحراء الخالية الذي لا طعام فيه ولا ظل، يعني هم في مشكلتين في هذه هذا الصحراء، في هذه البرية صحراء يقال أنها صحراء سيناء. منطقة محدودة. وتاهوا فيها أربعين سنة، أربعين سنة ما يعرفون أين الطريق، أربعين سنة ليست أربعين يوما، أربعين سنة وهم تائهون لا يعرفون أين الطريق، في صحراء يحورون ويكورون في مكان واحد تائهين. هذه آية من آيات الله. الآن يعني لو قُدر أن شخصا يمشي إلى اتجاه واحد، قل يمشي في هذا الاتجاه الواحد شهرا ثم إذا ما كان الطريق يمسك اتجاه آخر شهرا مثلا، لكن كانوا في مكان واحد يحورون ويكورون ضرب عليهم الله عز وجل التيه؟ يعني ضياع ما يعرفون الطريق ولا يهتدون إليه. قال (وظللنا عليكم الغمام) ثم ذكر نعمته عليهم في التيه والبرية الخالية من الظلال، (ظللنا عليكم الغمام) السحاب وسعت في الأرزاق الطعام الذي ينزل عليهم كل يوم المنّ والسلوى. وسيأتي معنا أنهم أيضا ما رضوا بذلك قالوا لن نصبر على طعام واحد، يعني المن والسلوى هذا ما نصبر عليه، وسيأتي معنا.
 (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك، يعني هذه أسماء لأطعمة سماها بعض المفسرين، والسلوى قال: طائر صغير يقال له السماني طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم، ويقيتهم، كل يوم يجدون حاجتهم وكفاياتهم من المن والسلوى.
(كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين فلم يشكروا هذه النعمة واستمروا على قساوة القلوب، وكثرة الذنوب.
قال: "(وما ظلمونا) - يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا -لأن الله عز وجل لا تضره معصية العاصين، كما لا تنفعه طاعة الطايعين كما قال سبحانه (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)- قال: "(ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي فيعود ضرره عليهم" ضرر ظلمهم عائد عليهم، مضرة ظلمهم عائدة عليهم.

ن/ قال رحمه الله: "قوله (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين* فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون).
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما.. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزاكم الله خيرا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق