الثلاثاء، 4 مارس 2014

تفسير سورة غافر (٣٢- ٦٦) / من دورة الأترجة

د. ناصر بن محمد الماجد


المجلس الأول
{وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ﴿٣٠﴾ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴿٣١﴾ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ﴿٣٢﴾ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٣٣﴾} السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تولاه وبعد.
 فهذا هو الدرس الثالث ضمن الدورة العلمية الأترجة وقد كنا في الدرس السابق بدأنا بدراسة الآيات الكريمة التي تضمنت خبر المؤمن من آل فرعون وما جرى بينه وبين فرعون وملئه من محاورة حول ما عزم عليه فرعون من قتل موسى وقد وقفنا عند قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31)).
ثم قال (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)) لا زال كلامه في موعظة قومه وتذكيرهم وتخويفهم من سوء العاقبة وذكر هنا تحذيرهم من يوم القيامة فقال (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) وسمّى الله عز وجل هذا اليوم يوم التناد لأنه في ذلك اليوم يحصل التنادي، يحصل أنواع متعددة من التنادي مثل: المناداة التي تكون بين أصحاب الأعراف، ومثل المناداة التي تكون بين أصحاب الجنة وأصحاب النار (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) [الأعراف:44]، ومثل نداء أهل الجنة بأسمائهم، ونداء أهل النار بأسمائهم، لأجل ذلك سمّى الله عز وجل ذلك اليوم يوم التناد، قال (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) في ذلك اليوم من شدته وهول المطلع يدبرون ويولون خائفين هاربين لكن إلى أين؟ لا مفرّ، ولذلك قال (مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) يعصمكم ويقيكم من العذاب الذي يتوعدكم ولهذا قال (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) كأن الضلال الذي كانوا فيه في الدنيا سيورثهم ضلالاً في الآخرة فيهربون لكن إلى غير سبيل ولا إلى رشد، ولهذا قال (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). وهذا يشير إلى أن الله عز وجل إذا خذل العبد فلم يوفقه إلى الهداية لأن الهداية نوعان: هداية دلالة وبيان، وهداية توفيق وإعانة
 فأما هداية الدلالة والبيان فهي حصلت بأيدي رسل الله والكتب التي أنزلها الله تعالى على الناس وهذه لا تخصّ أحداً من الخلق بل هي شاملة للخلق جميعاً فالله عز وجل قد هدى الخلق جميعاً بمعنى بيّن لهم سبيل الرشاد (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:3]، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:10] طريق الحق وطريق الضلال وهذه للخلق جميعاً. وأما الهداية الأخرى وهي الهداية الخاصة بمعنى التوفيق والإعانة فالمقصود بها أن يوفَّق الإنسان إلى قبول الحق وأن يُعان على ذلك فأما من خذلهم الله بأن لم يوفقهم إلى قبول الحق ولم يُعنهم عليه فأولئك الذين ليس لهم هادي (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
ثم قال (وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35))
فهو يشير إلى ما حصل منهم في زمن يوسف عليه السلام حيث حصل منهم الشكّ في نبوته والاعراض عنه حتى إذا هلك (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ) مما جاءكم به من الحق والهدى والرشد (حَتَّى إِذَا هَلَكَ) بمعنى مات (قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا) لأنهم أصلاً في شك من هذا الرسول الذي بعثه الله وفي تردد فظنوا أن الرسالة قد انقطعت ولن يبعث الله من بعده رسولاً.
 ثم قال عز وجل (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ) الإسراف: مجاوزة الحدّ في كل شيء فإذا جاوز الإنسان حدّ القصد وحدّ الاعتدال يسمى ذلك إسرافاً فهم أسرفوا في شكِّهم وأسرفوا في تكذيبهم ولذلك قال (مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ) فجمعوا بين مجاوزة الحدّ وبين الإسراف وهذه صفة من صفات المكذبين المعرضين عن سبيل الله أنهم يجمعون بين صفة الإسراف، مجاوزة الحد في الظلم، مجاوزة الحد في التكذيب، مجاوزة الحد في العداوة وأيضاً أنهم أصحاب إرتياب وشكّ. وإذا تأملت أصحاب الضلال وجدت أن هذه الصفة لا تبارحهم ،صفة مجاوزة الحد وصفة الارتياب. ولهذا قال الله عز وجل في بيان أصحاب هاتين الصفتين (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) يجادلون بالباطل ودليل مجادلتهم بالباطل أنه قال (بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) يعني بغير حجة واضحة جاءتهم من الله ولذلك قال (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ) وذكرنا أن المقت هو: اشد الغضب (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني كبر مقتاً هذه الحال حال الإسراف وحال مجاوزة الحد وحال الارتياب وحال المجادلة بغير سلطان فالله يمقت هذه الحالة ويُبغضها وكذلك المؤمنون من عباده يُبغضون مَنْ هذه صفته وتلك حاله ولهذا قال (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ) يعني مثل هذا الضلال الذي وقع فيه هؤلاء المتقدمون وإعراضهم عن الهدى مثل هذا الضلال يُضلُّ الله كل متكبر جبار (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) الطبع المقصود به: الختم والمقصود بالختم الغلق وجاء مرة تفسيره بالطبع ومرة بالران ومرة بالإغلاق والإغلاف كل هذه المعاني تشير إلى غلق القلب بحيث لا يقبل المعروف ولا ينكر المنكر كما أخبر الصادق المصدوق في الحديث الصحيح "كالكوز مجخّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه" فلا يقبل المعروف ولا يتلقاه لأنه انغلق قلبه. وتأملوا ماهي صفة القلب الذي يغلق عليه، صفتين قال "متكبر جبار" فمن كان فيه هاتين الصفتين فإن قلبه يغلق عن الحق فلا يهتدي إليه ولا يقبله مهما كانت العظات، مهما كانت العبر والآيات يُغلق على قلبه. وتأملوا حال الناس فإن الذين صدوا عن سبيل الله وأعرضوا عنه ولم يتبعوا الحق هذه صفتهم، الصفة الأولى التكبّر والتجبّر لا يبارحون هاتين الصفتين بحال من الأحوال. في الآية أيضاً دلالة على أن أهل الإيمان ومن صفات المؤمنين كراهية الإسراف والارتياب في الحق، كراهية التكبر، كراهية التجبر، هذه الصفات المذمومة ذكرها الله عز وجل وذكر أن أهل الإيمان يمقتوها حيث قال (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا) فمن صفات أهل الإيمان أنهم يمقتون هذه الصفات وإذا كانوا يمقتونها فلا شك أنهم سيحذرون من الوقوع فيها أو التخلّق بها.
ثم قال عز وجل بعد ذلك (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) الآن فرعون بعد هذا الكلام القوي الواضح من ذلك المؤمن شعر بأن الموقف ليس في صالحه وأن دعوة ذلك المؤمن دعوة تتميز بصفات أولاً الإشفاق والنصح والصدق وأيضاً المنطق ما يتكلم به ذلك المؤمن يتميز بهذه الصفات بأنه ناصح وصادق وأيضاً منطقي في كلامه لأنه يطلب منهم أن يستمعوا إلى هذا الحق وأن يروا ما فيه من الصواب وأن لا يعرضوا عنه مع ما فيه من النصح والشقفة. فماذا فعل فرعون عندئذٍ؟ احتال بحيلة فأراد أن يصرف ملأه والناس من ورائهم عن دعوة موسى، يصرفهم عنها إلى أمر آخر غاية في البُعد وهي من الحيل التي يحتال بها أهل الضلال والفساد، ماذا قال؟ (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا(37)) الآن فرعون أراد أن يُظهِر للناس أنه طالبٌ للحق وأنه باحثٌ عن الحقيقة وأنه يهمه مصلحة الناس ولذلك هو سيجتهد في التأكد من صدق دعوة موسى يقول أنت يا موسى تزعم أن هناك إلهاً غيري وتقول إنه في السماء عز وجل، إذاً سأبني أنا صرحاً وهو البناء الشاهق العالي برجاً عالياً سأبنيه وأصعد إلى السماء وأنظر هل يوجد هذا الإله الذي تزعمه أم لا؟ فإن وجدته أخبرتكم واتبعناه وإلا علمنا أنك كاذب. بهذه العقلية الدالة على الخداع وتسفيه الناس وتسفيه عقولهم يمارس هذا الطاغية هذا الأسلوب طبعًا سيبني صرحاً عظيماً بدل أن يناقش ما جاء به موسى، بدل أن يستمع، بدل أن ينظر إلى البينات والأدلة التي جاء بها، لا، سنبني صرحاً صرح عظيم والقصد منه إشغال الناس. سنبني هذا الصرح كم طول هذا الصرح؟ كم عرضه؟ كم حجمه؟ كيف سيُبنى؟ كم إرتفاعه؟ فيشغل الناس بهذا الأمر عن النظر في دعوة موسى. فبدل أن يتأملوا في هذه الدعوة وبدل أن يهتدوا لها ينتظرون حتى يصعد فيتأكد وانظر من الذي سيصعد؟ فرعون وليس أحد سواه! فهو الأمين الصادق الباحث عن الحقيقة فيُشغل الناس بهذا الصرح كم طوله؟ كم عرضه؟ ومن سينجزه؟ كيف ستكون هندسته؟ وما هذا البناء الشامخ؟ وهو نوع أيضاً من استعراض القوة على الناس فيبني هذا الصرح. ومع ذلك يقول فرعون أنا سأخسر هذه الخسائر وأتكلف هذا التكلف كله مع أني موقن أن موسى كاذباً ولذلك قال (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) والظن في اللغة: من الأضداد يأتي الظن بمعنى اليقين. أصل الظن التردد بين أمرين وهو يأتي بمعنى اليقين ويأتي بمعنى الشك، فمن اليقين قوله عز وجل (فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:87] وهذه الآية دالّة على اليقين يقول أنا متيقن أن موسى كاذب فيما يزعم لكنني من باب الأمانة والانصاف والعدل والتحري سأصعد إلى السماء وأتأكد (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) وانظروا هذا التعقيب الذي جاءت به الآيات على هذا العمل الذي عمله فرعون، قال الله عز وجل (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) تأملوا قول الله عز وجل (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) مثل هذا الضلال الذي وقع فيه، مثل هذا الانحراف، مثله التزيين لفرعون سوء عمله فأصبح يرى عمله حسناً وأنّا نحن خاصة ما نتابعه من الأحداث التي تقع في العالم نرى أفعالاً يفعلها بعض الناس كل القلوب كل العقول كل الناس مؤمنهم وكافرهم برِّهم وفاجرهم يرون أنها غاية في القبح وغاية الشناعة وغاية في الظلم ومع ذلك ترى أصحابها يزينون لأنفسهم فعلها ويعتقد أنه حق وهذا معنى قول الله عز وجل (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) فيراه عمله حسناً مثل قوله عز وجل (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر:8] وهذه من أبعد صور الضلال لأن الإنسان قد يقع في الذنب ونفسه تلومه ثم درجة أعلى من ذلك يقع في الذنب وهو فرح به ثم يقع في الذنب وليس فقط يفرح به بل يرى أنه حق فيصل إلى درجة التزيين وهذا في الغالب أنه لا يُهدى ولا يوفّق للتوبة الذي وصل إلى مرحلة التزيين أن زُين له سوء عمله فرأه حسناً. قال الله عز وجل (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) ولا شك أنه إذا زُين له سوء عمله فقد صُدّ عن سبيل الحق.
وقال عز وجل بعد ذلك (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) التباب: الخُسران والهلاك، فرعون يكيد ويمكر لكن كيده في خسار وفي هلاك. عندما رأى هذا المؤمن هذا التلاعب من فرعون وهذا الاحتيال والمكر والكيد ارتقى درجة أعلى في النصح وبعبارة أشد وأقوى وأوضح قال الله عنه (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ) إذاً أنتم على أي سبيل هنا بهذه الصورة؟ لستم على سبيل الرشاد .
(يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)) فيصبح كلامه أكثر وضوحاً، في الآيات السابقة هو يدعوهم إلى التفكر دون أن يحكم على أفعالهم وعلى ما هم عليه لكن هنا صرّح بأنهم على ضلال وأنه يدعوهم إلى أيّ شيء؟ إلى الرشاد وذلك في مواجهة كلام فرعون الذي تلاعب وخادع الناس ومكر بهم. فقال (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ) أصل المتاع في اللغة: ما يُنتفع به مدة ممتدة من الزمن يسمى ذلك متاعاً، ما يُنتفع به مدة ممتدة من الزمن طالت تلك المدة أو قصرت يسمى متاعاً ولا يكون متاعاً إلا إذا كان له مدة محددة وعليه فالدنيا كلها متاع، لِمَ؟ لأنها مهما كانت هي لها مدة تنتهي به ولأجل ذلك تسمى متاعاً، من صفة المتاع أنه لا يبقى ومن صفة المتاع أنه زائل ولهذا قال (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ) صحيح أنتم في جنات ونهر في أنواع من النعيم والقوة لكنها متاع والمتاع سينتهي، وفي مقابلها (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) واقتصر فقط على قضية أنها دار قرار اقتصر على هذا المعنى ولم يذكر معه صفة أخرى لأن هذا من أهم النعيم أو ما يطلبه الإنسان في النعيم أن يكون دار قرار يقر فيه الإنسان ويسكن فيه ويطمئن ولا يزول عنه ولا يبارحه ولذلك تجدون كثيراً ما توصف الجنة والنار بأنها دار الخلد، خالدين فيها، والخلد المُكث الطويل. خَلَدَ في المكان أي مكث فيه فترات ومدد طويلة لأن أعظم- كما تقدم- أعظم ما ينغِّص على أهل النعيم نعيمهم أن هذا النعيم سيزول ولذلك دائماً توصف الجنة أن نعيمها باقي وأنها جنات عدن وأنهم خالدين فيها أبداً وأنهم لا يبغون عنها حولاً ولذلك ذكر من النعيم أن الموت يؤتى به على هيئة كبش فيُنحر بين الجنة والنار ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت فهذا أعظم النعيم على أصحاب النعيم وأعظم العذاب على أصحاب العذاب.
 الآية في قوله (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) هذه تشير إلى مبدأ المسؤولية الفردية في الجزاء أن من عمل سيئة سيجزى عليها هذه واحدة، وهي تشير أيضاً إلى أمر آخر وهو المساواة في مبدأ التكليف والجزاء بين الرجل والمرأة ولهذا قال (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ففي مبدأ التكليف ومبدأ الجزاء على التكليف الذكر والأنثى في ذلك سواء وإنما يتفاوتون بفضل أعمالهم لكن الآية دالة على أن الرجل والمرأة يستويان في أصل التكليف ويستويان في الجزاء، نعم الرجل كُلِّف بأمور قد يختص بها والمرأة كُلِّفت بتكاليف تختص بها وقد يشتركان في شيء من التكاليف لكن المقصود هو مبدأ المساواة في أصل التكليف.
ثم أيضاً يواصل كلامه لكن يزيد أيضاً في النصح والإرشاد فيقول لهم (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44))
هذه أعلى، الآن أوضح لهم أنهم على ضلال وأنه يدعوهم إلى سبيل الرشاد وأن الذي هم عليه شرك وكفر بالله وضلال فأصبح الأمر عنده واضحاً لم يكن كما بدأ حديثه بل أوضح لهم ما هم فيه من الضلال وما هم فيه من الانحراف فقال (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) الذي عزّ وقهر العباد ومع ذلك فهو الغفّار فجمع بين الترغيب والترهيب.
(لَا جَرَمَ) يعني لا شك ولا ريب (أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ) ليس له دعوة يعني ليس أهلاً أن يُدعى وأن يُلتجأ إليه لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة لعجزه لأنه عاجز عن أن ينفع أو عن أن يضر. (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) وتقدّم معنا أن الإسراف هو مجاوزة الحد وإسرافهم هنا بتكذيبهم وإعراضهم عن الحق أولئك (هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها.
وبعد أن أقام الحجة عليهم ونصحهم وصدقهم في النصيحة والموعظة والذكرى على نحو يعني خاطَرَ بنفسه من أجل ذلك قال لهم (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) قد نصحتكم غاية النصح وبيّنت لكم غاية البيان وستذكرون ما أقول لكم يعني صِدق ما أقول لكم، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) لأنه يعلم أنه قد نازع فرعون في دعواه كلها فوصفه بمقتضى كلامه وصفه بالضلال، بالانحراف، بالشرك وهذه لن يرضاها فرعون فلا يدري ما الذي سيأتيه بعد ذلك لذلك قال (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) يعني أعتصم وألتجئ إلى الله عز وجل وأفوض أمري إليه فهو عز وجل البصير بالعباد العليم بهم. ولهذا قال الله عز وجل (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) فوقاه الله سيئات ما مكروا يعني فوقاه الله السيئ من مكرهم وحاق بمعنى حلّ ونزل (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) يعني أشد العذاب ما هو هذا العذاب؟ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) آل فرعون يعني فرعون ومن تبعه من الملأ، كل من تابعه على ما هو عليه فهم منه ولذلك قال الله عز وجل قد لا يكون هؤلاء فعلوا ما فعله فرعون لكنهم وافقوه على فعله ولهذا ذمّ الله عز وجل قوم فرعون ولذلك قال الله عز وجل (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف:54] فوصفهم الله بالفسق لمَ؟ لأنهم عاونوا الظالم على ظلمه وتابعوه على ظلمه ولم ينكروا عليه ويزجروه أو يردعوه أو على الأقل يتخلوا عنه بل مالؤه على الظلم وكثيراً الطاغية لماذا يطغى؟! لأن الناس هم الذين يُطغونه، الحقيقة الناس هم الذين يطغونه، ضعفهم وخورهم وجبنهم هو الذي يجعل الطاغية يطغى ويجعله يتكبر ولذلك الله عز وجل ما عذرهم بل ذمهم على متابعتهم لفرعون فقال (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)) [الزخرف] فأغرقه الله وأغرق قومه وأدخلهم النار كما ستوضّح ذلك الآيات.
 قال (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) قوله (يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الغدو: أول النهار، والعشي: آخر النهار، فمعناه يعرضون عليها في أول اليوم وفي آخر اليوم.
وهذه الآية قد وقع بين أهل العلم خلاف في معنى العرض هنا:
 فمنهم من قال: إن العرض هو في الآخرة وهو نوع العذاب الذي يُعذّبون به .
وقال بعض أهل العلم: أن هذا العرض هنا في القبور، في قبورهم يُعرضون على النار غدواً وعشياً وهذا من أشد التعذيب يُعرض لهم مقعدهم في النار يقول هذا إذا قامت القيامة هذا هو موضعك في النار وهذا هو مقعدك فيها وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه الآية هو ظاهر الآية لأنه لو كان فعل العذاب لقال يُعذّبون وما قال يُعرضون لأن العرض غير العذاب وتشهد له النصوص الأخرى التي دلّت على أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وبهذه الآية يستدل بعض السلف على عذاب القبر وأن في القبر حياة برزخية خاصة ليست كحياة أهل الدنيا لأن الله أثبت أنهم يُعرضون عليها غدواً وعشياً ولذلك قال بعد ذلك (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) أشد أنواع العذاب يُدخل له آل فرعون. وبهذا تنتهي قصة مؤمن آل فرعون وهي الحقيقة دالة على معانٍ كثيرة وفوائد جمّة وهي فيها ثناءٌ عظيم على هذا المؤمن وتخليدٌ لذكره. ونختم بالإشارة إلى أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يذكر فضل أبي بكر الصديق وتقدّمه ونُصرته للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أشرنا في أول كلامنا عن هذه السورة إلى موقف أبي بكر حينما قام مدافعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه أبي طالب. يذكر علي بن أبي طالب فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيقول ذاك مؤمن كان يكتم إيمانه وأثنى الله عليه هذا الثناء العظيم في هذه السورة قال فكيف بمؤمن لم يكتم إيمانه؟ يعني به أبو بكر الصديق لأنه قام فدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصره بنفسه وماله وأهله ولذلك لا يوجد أحد من الصحابة يبلغ منزلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإجماع أهل العلم حتى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يرى له هذا الفضل وتلك المنزلة.
بعد أن ذكر الله عز وجل خبر مؤمن آل فرعون وخبر فرعون وقومه انتقلت الآيات إلى اليوم الآخر يوم يعرضون على النار قد أخبر الله عز وجل أنهم يعرضون على النار فماذا مصيرهم إذا عرضوا ودخلوا النار؟
 قال الله عز وجل (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ 
(49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50))
هذه صورة تعطي شيئاً من حال أولئك المكذبين، من حال الملأ الكافر، من حال الرؤساء المُضلّين الكُبراء حالهم يوم القيامة مع أتباعهم والجدال الذي يحصل بينهم، قال (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء) المقصود بالضعفاء المستضعفين من الكفار الذين تابعوا رؤساءهم فعطلوا فكرهم وعطلوا نظرهم وأسلموا قيادهم لهؤلاء الكفار، للرؤساء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) يعني في الدنيا نتابعكم وصدقنا كلامكم وموعودكم (فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ) النصيب: الجزء والحظّ، يعني قالوا ولو نصيب من النار أيّ نصيب ولذلك قال (نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ) فجاء بصيغة النكرة الدالة على التقليل أيّ شيء من النار فقط في مقابل تلك الوعود في مقابل ذلك الضلال الذي فعلتموه ولو نصيباً من النار.
 (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) نحن وأنتم في هذه النار وقد حكم الله بين العباد، حكم لأهل الجنة بالجنة ولأهل النار بالنار لا نستطيع أن نتحمل عنكم حتى لو أردنا -وهم قطعاً لا يريدون ذلك- لأن الله قد حكم بين العباد.
 فلما يئسوا وتبرأ بعضهم من بعضهم وأعظم من ذلك ما جاء في براءة إبليس من الخَلْق جميعاً خطبة إبليس التي سيخطبها في النار (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) [إبراهيم:22] وهو صادق جاءتكم دعوة لله وجاءتكم دعوتي فتركتم دعوة الله واتبعتم دعوتي (مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ) بمغيثكم (وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) يعني بمغيثيّ وناصريّ. فلما يئس الكفار من بعضهم ومع شدة العذاب توجهوا إلى خزنة جهنم والمراد بخزنة جهنم: الملائكة القائمين على النار يحفظونها (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ) قد يئسوا من الخروج لأنهم سألوا الخروج فلم يُجابوا إليه فتمنّوا أن يُخفّف عنهم فقط يوماً من العذاب يرتاحون فيه، هل قيل لهم نعم أو لا؟ لم يأت هذا الجواب لأنهم لا يستحقون الإجابة أصلاً بل لُفِتَ نظرهم إلى سبب دخولهم النار وهذا على ما تقدم ذكرناه في أول الدرس أن ذلك من باب التبكيت سألتهم الملائكة (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا) استمروا في دعائكم، استمروا في طلبكم (وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) أنتم الذين تركتم الحق وأعرضتم عنه فهذا مصيركم وهذا جزاؤكم (وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ) يعني استغاثتهم وطلبهم وسؤالهم (إِلَّا فِي ضَلَالٍ) يعني ضائع ذاهب لا أثر له ولا فائدة.
ثم قال عز وجل بعد ذلك (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52))
 هذا التعقيب يأتي بعد ذكر مصير أهل النار وبعد دخولهم النار ليبيّن عز وجل أن ذلك هو نصرٌ للمؤمنين فقال عز وجل (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا) وهذه الآية مليئة بالمؤكِّدات فذِكر (إنّا) مع المُعظِّم نفسه ودخول اللام (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) كل هذه مؤكدات دالة على أن الله عز وجل وعد عباده بنصر رسله ونصر أتباعه (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)) [الصافات] فوعد الله عز وجل بنصر المؤمنين الرسل وأتباعهم فقال (وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). (يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) يعني اعتذارهم (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) إذاً وعد الله عز وجل المؤمنين بنصرهم وبنصر رسله (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) أما يوم يقوم الأشهاد يوم القيامة فهذا واضح لأن الله يُدخل المكذبين النار ويدخل المؤمنين الجنة وذلك غاية النصر والفوز والفلاح. لكن النصر في الدنيا كيف يكون وهناك من الأنبياء من قُتِل وهناك من الأنبياء من أوذي وهناك من المؤمنين من قُتِل وضُيِّق عليه وحورب؟ وفي تاريخ المسلمين هزائم كثيرة هزموا من أعدائهم ولهذا وقع إشكال عند بعض المفسرين في فهم معنى النصر فقال بعضهم إن النصر جاء هنا بلفظ العموم وأريد به البعض دون البعض يعني إنا لننصُر رسلنا في الحياة الدنيا يعني بعضهم فيُنصر بعض ولا يُنصر بعض لكن هذا الأمر يُشكل عليه قوله (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) ففي الآخرة كل أهل العلم يتفق على أنها كل أهل الإيمان منصورن فكيف تجعل النصر وتفرق فتقول في الدنيا بعضهم وفي الآخرة كلهم مع أن الآية ليس فيها هذا التفريق؟ سبب هذ القول فهم حقيقة النصر قد يكون النصر نصراً حسياً وقد يكون نصراً معنوياً فأما النصر الحسي فهو الظهور والغلبة على الأعداء بأن يظهر الدين وأن يُتمّ وأن يُغلب الأعداء هذا نصر حسي، وأما النصر المعنوي فهو ظهور الحق والعلو على أهل الباطل فيه واستبانته وظهور معالمه ومعرفة الناس أن هذا حق وهذا ضلال عندئذ يكون هذا نوع من أنواع النصر. فقد يكون النصر حسياً وقد يكون معنوياً وكل منهما نصر وأحدهما لم يخلُ منه نبي أو رسول ومؤمن لأننا إما أن نُنصر حسياً في ساحة الوغى أو ننصر بأن يظهر الحق الذي معنا لأننا معنا الحق ومهما جادلنا الناس وأرادوا الصدّ فإنهم لا يستطيعون لأن الحق أبلج والباطل لَجْلَج. نُكمل إن شاء الله في الدرس القادم هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المجلس الثاني
(وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ﴿٥٣﴾ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿٥٤﴾ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿٥٥﴾)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تولاه.
كنا في المجلس السابق قد وقفنا على خبر مؤمن آل فرعون وما جرى بينه وبين قومه من حوار ثم العاقبة التي انتهى الأمر إليها ثم ذكرت الآيات الكريمة صورة من صور العذاب الذي يناله أهل النار ثم خُتِم الكلام عن قصة موسى ومؤمن آل فرعون بقوله عز وجل (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) هذا التعقيب لأن الله عز وجل قد أهلك فرعون وقومه ونصر موسى وقومه فجاء هذا التعقيب كالفائدة والعبرة من هذه القصة.
ثم قال عز وجل (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)) وهذا أيضاً من أنواع النصر التي نصر الله بها موسى وقومه أن الله عز وجل أهلك فرعون وقومه ونجّى موسى وقومه وأورثهم الهدى وأورثهم الكتاب. (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى) أي البيّنات الواضحات ما يهدي إلى الحق من التوراة، من الأدلة، من المعجزات، من البراهين (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) من أتباعه ممن آمن به (الكتاب) يعني التوراة فورثوها بعد موسى. (هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) يعني في التوراة وهي كتاب الله المنزّل فيها الهدى وفيها الذكرى يعني تهدي وتذكِّر لكن لمن؟ لأولي الألباب يعني أصحاب العقول.
وعندئذٍ بعد أن ختمت قصة موسى والتعقيب عليها يأتي ذكر العبرة التي تستخلص من هذه القصة وهي قوله عز وجل (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) لما كان مساق هذه السورة مساق تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كذبه قومه والرد على قومه في تكذيبهم له جاء هذا التعقيب بعد قصة موسى قال (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما أمره بأن يصبر على تبليغ رسالة الله ثم يصبر على الصدّ والإعراض الذي يلاقيه من أولئك المشركين ويتعزّى ويتسلّى بما حصل للأنبياء قبله ولذلك قال عز وجل (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود:120] فمعرفة السِيَر الصالحين سِيَر الأولين من الرسل وأتباعهم السائرين على دربهم من أعظم ما يورِث في النفس الصبر على الشدائد التي تعرض للإنسان. يورثه الصبر وفيه تسلية أيضاً للإنسان لئن أصابك البلاء وأصابتك المحن فقد أصاب قبلك من الأنبياء والرسل الكرام وأتباعهم من الربانيين أصابهم مثلما أصابك وهذا يجعل الإنسان يتعزى ويصبر على هذا السبيل الذي هو طريق الأنبياء. هذا طريق الأنبياء من سلكه سيصيبه مثل ما أصاب الأنبياء ولهذا الصحابة لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد الكعبة قالوا ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم وضرب لهم مثالاً على ما يلاقيه مَنْ قبلهم قال كان الرجل قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد وينشر من رأسه إلى مفرقه ما يصده ذلك عن دين الله والله ليُتِمنّ الله هذا الأمر. فالمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط الصحابة بما حصل لمن قبلهم أولاً لتسليتهم والأمر الآخر لتصبيرهم وأن يتعزوا به ولذلك كل انسان مبتلى كل إنسان مصاب كل إنسان يصيبه نوع من البلاء فليتعزى بمن تقدّم من الصالحين وفي رأسهم ومقدمتهم أنبياء الله ورسله.
ومما يعزّي النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال له (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ) يعني بعد إهلاك فرعون ومُلْكه وقومه من ورثهم بعد ذلك ورثهم قوم موسى مع أنهم كانوا أذلّة لا يؤبَه لهم وقد سامهم فرعون سوء العذاب لكن الله عز وجل أورثهم بعد ذلك الأرض فهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة من بعده.
في قوله عز وجل (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) وقع خلاف بين المفسرين في مثل هذه الآية واستشكلوها فيما يسمى آيات المعاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي عائدة إلى مسألة أخرى تتعلق بالاعتقاد هل الأنبياء معصومون عن الذنوب والخطايا أم لا؟ وهذه المسألة فيها تفصيل وكلام طويل لأهل العلم ومحل إجماع أهل الإسلام على أن الأنبياء معصومون بعد النبوة عن كبائر الذنوب هذا محل إجماع بين أهل العلم. أما قبل النبوة فقد وقع الخلاف ولكن قول عامة أهل العلم أنهم معصومون عن الشرك وعن الكبائر قبل النبوة، وأما بعد النبوة فهم معصومون -محل الإجماع- على الكبائر واختُلِف في الصغائر. وأما ما يتعلق بالبلاغ والرسالة فإنهم معصومون لا يمكن أن يقع منهم خطأ فيها وإن وقع خطأ لا يُقرّون عليه، على كل حال هذه مسألة يطول فيها الكلام.
 أما قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) هنا هل النبي وقع منه ذنب؟ وقع في ذلك خلاف بين المفسرين مع إجماع المفسرين على أن النبي لم يقع منه ذنب يستغفر الله منه، مع إجماعهم على هذا فقد اختلفوا في توجيه هذا الأمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار على أقوال عدة:
/ فمنهم من قال أنه على تقدير محذوف يعني استغفر ذنوب أمتك.
/ وبعضهم قال إن هذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول، كيف يكون التقدير؟ أي استغفر ذنب أمتك في حقك. الأول ذنوب أمتك وهذا ذنبهم في حقك واضح الفرق بين القولين.
 والحقيقة هذان القولان -مع أن كثير من المفسرين قال بأحدهما- لكنه في الحقيقة عدول عن ظاهر الآية الله عز وجل يقول (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) وأنت تقول استغفر لذنب أمتك أو استغفر لذنب أمتك في حقك يعني هذا عدول عن الظاهر، والأصل والقاعدة التفسيرية: أن لا يُعدَل عن ظاهر نصوص الكتاب والسنة إلا لقرينة قوية دالة عليه. طبعاً هم يقولون أن القرينة أن النبي معصوم من الذنوب.
/ القول الآخر قالوا أن الذنوب المقصود بها ذنوبك قبل النبوة .
وهذا القول مع أنه قد يكون حسن في ظاهره لكن الأصل أن يقال قبل النبوة غير مؤاخذ بالذنوب فليس ذنباً يستغفر منه لأنه غير مؤاخذ عليه الصلاة والسلام.
/ منهم من قال إن المقصود بالذنوب هنا على ظاهرها وهي صغائر الذنوب وهؤلاء هم قول من يجيز أن يقع من النبي صغائر الذنوب.
/ وقول آخر قالوا إنما هو طلب الدوام على العصمة من الذنوب.
/ ومنهم من قال الذنب هنا ترك الأولى وليس فعل المعصية وإنما ترك الأولى.
 على كل حال هذه أقوال ذكرتها مختصرة مع أن كلام أهل العلم فيها طويل ولكني اختصرتها للوقت.
والذي يظهر أن الاستغفار هنا لا يلزم منه وقوع الذنب بل المقصود: الاستغفار عن كل ما يقعد بك عن بلوغ الكمال وعن كل ما يكون سبباً لغضب الله تعالى فهو من محض التعبّد لله والتواضع له عز وجل ولذلك المؤمن إذا صلّى يستغفر الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره عز وجل أن يختم يقول (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)) [النصر] مع أنه حياة طويلة من الجهاد والقيام برسالة الله والبلاغ ومع ذلك يأمره بالاستغفار. فلا يلزم أن يكون الاستغفار من ذنب وقع بل هو بمعنى الاستغفار عما يُقعِد عن بلوغ درجات الكمال الاستغفار عما يُقعِد عن عبادة الله حق عبادته، الاستغفار الدال على تواضع الإنسان تواضع العبد المؤمن لله عز وجل الذي يظهر في معنى الآية والعلم عند الله. ولهذا عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه فعجبت من ذلك فقالت تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ما الحاجة؟ قال (أفلا أكون عبداً شكوراً) فهذه مقامات من العبودية عالية.
قال الله بعد ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
 يقول عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ) يعني يحاجّون فيها ويمارون بغير سلطان يعني بغير حجة واضحة لا يحملهم على ذلك إلا كِبْرهم عن الحق (إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْر) أي ليس في صدورهم طلبٌ للحق ولا قصدٌ لبلوغه بل ليس في صدورهم إلا الكِبر الذي يمنعهم عن سماع الحق ويمنعهم عن القبول والانقياد إليه. (كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ) يعني كِبرٌ يحملهم عليه حسدهم لما أنت فيه من شرف النبوة وتكريم الله لك. فهم يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما أكرمه الله به فاصطفاه للنبوة فيمنعهم الحسد والكِبر عن ذلك، وإذا كان المانع للإنسان الكبر والحسد فما تستطيع أن تفعل به شيئاً ليس لك إلا أن تعتصم بالله عز وجل وتستعيذ به ولهذا قال (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) فلأنهم يجادلونك بغير سلطان إنما الكبر والحسد فليس لك بعد ذلك إلا أن تستعيذ بالله منهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
 ثم الآية فيها الإشارة إلى أعظم ما يتعوّذ به الإنسان من الحسد والكبر وهو الاستعاذة بالله. والحقيقة إن هذا هو دواء الحسد أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم إن كان الحسد خرج منه أو يخاف من غيره فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فهذا من أعظم الأدوية التي يُتّقى بها الحسد والكِبر.
ثم قال الله عز وجل (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الآيات التي ستأتي فيها ذكر بعض مظاهر قدرة الله عز وجل ومظاهر قوته ومظاهر إنعامه على خلقه بما يُستدل بها على توحيده وأنه مستحق للعبادة وحده دون سواه وهذا من أظهر الأدلة في القرآن الكريم على العبودية أن يُستدل بالخلق والإيجاد والإنعام على العبودية وهذا هو الصحيح لأن من خلقك ورزقك وأنعم عليك هو المستحق أن يُعبد وحده دون سواه.
يقول عز وجل (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) في هذه الآية ردٌ مُفحِم لمن شكّ في قدرة الله عز وجل على البعث فيقول عز وجل (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) هذه السموات بأفلاكها بأجرامها بسعتها التي لا تخطر على بال -يعني يذكر أهل الاختصاص في هذا المجال أشياء لا يكاد الإنسان يُصدِّقها من سعة هذا الكون وعِظَمه يعني الإنسان فيه كالهباءة في هذا الكون- فالذي خلق هذا الكون بمجرّاته بأفلاكه بنجومه يعجز عن أن يعيد الخلق؟! ولذلك قال (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فلأنهم لا يعلمون يقعون في الضلال والانحراف وهذا من أعظم الأدلة التي ذُكِرت في القرآن الكريم الدالّة على البعث متعددة متنوعة منها:
/ الاستدلال بالخلق الأول الذي يقدر أن يخلق مرة قادر على أن يعيد الخلق بل الإعادة أهون عليه.
/ الاستدلال بمظاهر الحياة في الكون مثل إنزال المطر وإحياء النبات (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى) [فصلت:39].
/ الاستدلال بمظاهر القدرة في خلق الكون لأن القادر على أن يخلق هذا الكون خلقا متقناً لا عوج فيه ولا اضطراب في غاية الدقة والإحكام القادر خلق على هذا لن يعجزه أن يخلق هذا الإنسان الضعيف.
هذه الأنواع الثلاثة من أبرز الأدلة على البعث مما ورد في القرآن الكريم وهي أدلة تجمع بين الحس والعقل فكلها محسوسة الكون كلهم يراه العالِم الكبير والجاهل الصغير كلنا نرى الكون أم لا؟ فهي محسوسة ومُدركة لا نحتاج إلى مختبر حتى نصل إلى هذه الأدلة ولا إلى مجهر فهي موجودة مبثوثة في الكون الكل يراها وهذه ميزة أدلة القرآن الكريم أنها مأخوذة من واقع الناس كل الناس يراها العالِم في مختبره والعامل في معمله والمزارع في مزرعته كل الناس يستطيعون أن يروا هذه الأدلة وهذه ميزة مما يميز أدلة القرآن الكريم ومع سهولتها إلا أنها تحوي أعظم البراهين على ما وردت عليه من مسائل وقضايا.
قال عز وجل (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ) بعد أن ذكر هذا الدليل بيّن اختلاف الناس فهناك الأعمى وهناك البصير وهذا ضربُ مثلٍ للمؤمن والكافر فضرب مثلاً للكافر بالأعمى الذي لا يبصر فكيف تريد شخصاً لا يبصر تريده أن يبصر الحقائق؟! وذلك مثل الكافر.
 ومثال المؤمن مثال المبصر ولذلك قال (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) وقدّم ذكر الأعمى لأنه هو المقصود، لماذا هو المقصود؟ لأن الحديث مع أناس قد عموا عن الحق من أجل ذلك يقدّم ذكرهم مع أن البصير أشرف من الأعمى لكن لأن المقصود ذكر مثالهم هم قدّم ذكر الأعمى. ولهذا لما جاء في المقارنة بين المؤمن والمسيء قدّم ذكر المؤمن لأنه مقام تشريف، ذاك مقام ضرب المثال فقُدِّم من يخاطب، من هو الأهم وهو الضالّ فقال الأعمى ولكن لما جاء إلى التشريف قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ) والحقيقة أن هذا المثال غاية من الانطباق على حال الناس فإنك ترى المؤمن والمستقيم على دين الله على نور وبيّنة من ربه بخلاف الضالّ المنحرف عن دين الله فإنه لا يزال أعمى حتى وإن كان مبصراً، لا يزال أعمى حتى وإن كان عالِماً، لا يزال أعمى حتى وإن وصل إلى أعلى الشهادات ونالها فهو أعمى عن الحق، أعمى عن الهدى، يكفي من عماه أنه عمي عن أعظم حقيقة وهي وجود الله عز وجل وتوحيده. والمؤمن يكفيه بصراً وبصيرة أنه أبصر أعظم حقيقة وهي عبادة الله وتوحيده حتى ولو كان أقل الناس علماً وتحصيلاً للشهادات ولذلك كل من اتبع الحق فهو مبصر وكل من أعرض عنه فهو أعمى حتى لو كان أعلى الدرجات وأرفع المناصب.
ثم قال عز وجل (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) بعد أن ذكر الله عز وجل مثال المؤمن ومثال الكافر أعقب ذلك بقوله (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا) والساعة المقصود بها يوم القيامة (لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا) أي لا شك فيها ولا امتراء (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون ولا يوقنون بمجيئها.
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) قوله داخرين أصلها من دَخَرَ بمعنى ذلّ وصغُر ولهذا يقول عز وجل (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) يقول عز وجل لعباده ادعوني والمقصود بالدعاء هنا الدعاء الدال على توحيده عز وجل والخلوص له من أنواع الشرك فمن دعا الله عز وجل وحده خالصاً من الشرك فإن الله يستجيب له. وتأملوا ماذا قال (الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) ما قال يستكبرون عن دعائي بل عن عبادتي وما قال للمؤمنين اعبدوني بل قال ادعوني ليدلك على أن العبادة هي الدعاء وقد قدّمنا ما يشير إلى هذا المعنى. فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) سيدخلون جهنم مع ذلٍّ وحقارة وصَغَار وهذه الآية دالة على شرف الدعاء وعلو منزلته وأنه هو العبادة وكيف كان الدعاء هو العبادة؟ لأن الدعاء فيه طلب، تطلب خيراً أو تطلب دفع ضر وهذه الحال توجِب ذل وخضوع ولذلك هذه حال العبودية لأن حقيقة العبودية كمال ذلّ مع كمال خضوع وهذه هي صفة العبودية وهذه حال الداعي ولذلك سمى الدعاء عبادة وسمى العبادة دعاء لأن الدعاء هو حقيقة العبادة. قال الله عز وجل (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) هذه الآيات الكريمة جاءت الآن تذكر كما قدّمنا قبل قليل أنواعاً من الأدلة التي تتضمن نِعَم الله عز وجل على خلقه منها قوله عز وجل (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) في الليل قال (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) فذكر الوظيفة التي تكون في الليل وهي السكن، وفي النهار قال (مُبْصِرًا) ما قال في الليل "مظلماً" كما قال في النهار "مبصراً" ولم يقل في النهار "لتعملوا فيه" كما قال في الليل "لتسكنوا فيه" لمَ؟
قوله (لِتَسْكُنُوا) نصّ على السكن في الليل لأن الليل لا يكون إلا لهذا فقط، الليل لا يكون إلا للسكن تسكن فيه الأرواح والنفوس تنام فيه وهذا ما يؤكده الطب الحديث أن إعادة بناء خلايا الجسم الميتة يكون في حالة النوم وفي الليل على وجه الخصوص لمعنى خاص في الظلمة فسماه الله سكناً تسكن فيه النفوس، وسماه في الآيات الأخرى سباتاً تنقطع فيه الحياة السبت القطع، ولكن في النهار قال (مبصراً) ولم يقل تعملوا فيه شيء من هذا ولكن قال مبصراً لمَ؟ لأن هذا النهار مبصر فاعمل ما شئت من أراد أن يعمل يعمل، من أراد أن يتجر يتجر، ومن أراد أن يتعلم يتعلم، مختلف الحاجات والأغراض لأنه مبصر فتعمل ما تشاء لأنه وقت العمل دون أن يحدد صفة العمل التي تكون فيه.
 ثم قال بعد ذلك (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) لا يشكرون الله عز وجل على نِعَمه. ونحن قبل أن نغادر هذه الآية نشير إلى أن من سنة الله أن جعل الليل سكناً والنهار معاشاً كما جاء في الآية الأخرى وجعله مبصراً وهذه سُنّة الله وللأسف أن كثيراً من كثير من المسلمين خالفوا هذه السنة وكثير من مجتمعات المسلمين خالفت هذه السنة فتأخر إنتاجها وتأخر تقدمها وتطورها بينما الدول الصناعية المتقدمة إذا غابت الشمس يتوقف العمل وتغلق المحلات ويأوي الناس إلى بيوتهم وقبل طلوع الفجر يبدؤن في العمل تصبح نسبة الانتاج في المجتمع عالية وتُحفَظ أوقات الناس، أما في كثير من بلاد المسلمين انقلبت الآية وعُكِسَت فالنهار أصبح وقتاً للنوم والليل أصبح وقتاً للانتشار والتحرك وهذا قَلْبٌ للفطرة وانتكاساً لها.
قوله عز وجل (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63))
 قوله (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يعني هذا الذي أنعم عليكم بهذه النعم هو ربكم انظروا هذا التدرج الذي في الآية قال (ذَلِكُمُ اللَّهُ) فبدأ بلفظ الجلالة الذي هو عَلَم على الله عز وجل (الله)، (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) ثم ذكر صفة الربوبية (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلأنه الرب فهو خالق كل شيء وليس فقط خالقكم بل خالق كل شيء، ماذا بنى على هذه الأوصاف؟ قال (لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) لأنه الخالق فإذاً هو الذي يستحق أن يُعبد دون سواه.
ثم قال (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) كمثل تكذيبكم يا أهل مكة وإعراضكم يؤفك يعني يُصرَف (الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) يجحدونها ويكذّبونها ويُعرِضون عنها.
وفي قوله (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ) فيها دلالة على أن من كانت عادته الإعراض والصدّ عن سبيل الله أنه يُصرَف عن السبيل ولا يهتدي إليه ويَضلّ ويُضل عنه ولذلك قال (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ) يعني بمعنى يصرف، من هم هؤلاء الذين يُصرفون؟ الذين كانوا بآيات الله يجحدون.
ثم قال عز وجل (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65))
لا زالت الآيات في تقرير ألوهية الله عز وجل مع الاستدلال بمظاهر القُدرة والإنعام في هذا الكون قال (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا) أصل القرار من قرّ مصدر قرّ إذا سَكَن. ومعنى القرار هنا ذكر المفسرون فيه قولان:
/ الأول: أن الأرض في ذاتها قارّة ساكنة لا تضطرب
/ والمعنى الثاني: أنكم أنتم تسكنون فيها (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا) يعني سكناً تسكنون فيها، أو جعل لكم الأرض قراراً أي لا تضطرب.
  والحقيقة هذين القولين بينهما تلازم فإن كانت الأرض ساكنة فإن ذلك يورث قرارنا فيها ولا نستقرّ فيها إلا إذا كانت ساكنة فلا تعارض بينهما بل هو من ذِكر بعض أفراد العام مثل قول الله عز وجل في معنى محل القرار (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون:50] يعني محل إقامة، ذات إقامة ومعين، وهي كما ذكرت لا تعارض بين المعنيين على الصحيح.
(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء) يعني سقفاً مبنياً محيطاً بكم في أكمل صورة وأحسن هيئة فهي مثل السقف ولذلك سماها بناءً.
ثم قال (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) الحقيقة إذا تأملت في خلق الله عز وجل هذه الكائنات تجد أن خلق الإنسان هو في أكمل الصور وأشرفها. وتأملوا هذه الكائنات تروا أن الإنسان خُلِق على أكمل وأشرف صورة من استواء القامة والقدرة على التحرك فضلاً عن العقل الذي ميّزه الله عز وجل ووهبه للإنسان فجعله بذلك يسخر ما في الكون لخدمته (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) خلقكم في أحسن تقويم كما قال الله عز وجل في الآية الأخرى (وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) هذه أنواع المنن في الآية الكريمة.
 ومن تأمل هذه المنن التي امتن الله بها على خلقه فإنه لا شك يقود إلى الإيمان بالله عز وجل، هذه المنن يمكن أن نجملها في نوعين في هذه الآية وفي غيرها:
 امتنان الله على عباده على نوعين: إعداد وإمداد يمكن أن نقول نعم الله على خلقه في إعدادهم وإمدادهم. أما الإعداد فإنه أعدّهم وأعطاهم كل أسباب البقاء، خلق الإنسان سمعياً، بصيرا،ً السمع والبصر والفؤاد والعقل والإدراك والقدرة فأعده إعداداً يقدر معه على الحياة هذا يسمى بالإعداد.
وأما الإمداد فإنه أمده بأسباب البقاء قد تكون أنت قادراً وقوياً لكن ليس بين يديك أسباب البقاء فتموت لكن الله عز وجل أعده وأمده فنعمه على عباده بإعدادهم وإمدادهم.
هذا الكون كله مسخّر لنا أمدّنا الله به حتى نستطيع أن نحيا في هذا الكون، فنعم الله عز وجل تدور على هذين البابين.
ثم قال عز وجل (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قوله (الحيّ) هذه الألف واللام دالة على الاستغراق ومعنى الحيّ هنا الذي اتصف بكمال الحياة التي لا نقص معها.
 من صور نقص الحياة الموت، ومن صور النقص النوم، ومن صور نقص الحياة النعاس فالله عز وجل هو الحيّ الحياة التامة التي لم يسبقها عَدَمٌ ولم يلحقها فناء سبحانه وبحمده، وأما الخلق كلهم فعلى ضد ذلك فسبقهم العدم ويلحقهم الفناء أما الله عز وجل فهو الحيّ. وهذا المعنى دليل من الأدلة التي يستدل بها على أن الله هو المستحق للعبادة وحده وما عداه مما عُبِد من دون الله لا يتصف بهذه الصفة التي ذكرها الله عز وجل هو الحيّ ولذلك قال (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) لأنه الحيّ فهو الإله الذي يُعبد (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أمر بدعائه مع الإخلاص له. وانظر التأكيد على مسألة الدعاء في ثلاث مواضع في هذه السورة كلها يؤكد على الدعاء ويجعله هو العبادة ويجعله هو الدين (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وهو عز وجل له الحمد المطلق ولذلك قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الألف واللام دالة على الاستغراق في الحمد يعني المستغرِق كل أنواع المحامد لأنه هو المنعم بكل أنواع النعم فالمحامد كلها له عز وجل له المحامد بأفعالنا بحركاتنا بسكناتنا بجوارحنا كلها عز وجل محمودٌ عليها وبها (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). ثم قال (رَبِّ الْعَالَمِينَ) لأن الله عز وجل هو الذي ربى الخلق وتعهدهم بالتربية قبل خلقهم إلى أن يموتوا وهو يربيهم عز وجل وينعم عليهم. (العالمين) يعني من الإنس والجنّ.
ثم قال الله عز جل (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) هذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين بعد ذكر الأدلة وبعد هذا التطواف في أنواع من الأدلة وأنواع من الآيات وأنواع من الحجج والبراهين وأنواع من القصص السابقة يصل إلى الهدف فيقول (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي) البيّنات التي جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم نوعان:
 أولها وأعظمها الوحي، ثم المعجزات التي أُيّد بها النبي صلى الله عليه وسلم وكلها بيّنات، بيّنات في نفسها تبين عما فيها وأيضاً بينات تبين عن الحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم.
(لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الاسلام: الخضوع والانقياد لله ظاهراً وباطناً، هذا هو أعلى معاني الإسلام أن تُسلم ظاهراً وباطناً لله فتُسلم جوارحك لله ويُسلم باطنك لله وهذا هو المعنى المراد في الآية وليس فقط إسلام الجوارح بل حتى الباطن اسلام الباطن (أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
بهذا نتوقف عند هذه الآية ونكمل إن شاء الله في الدرس القادم. سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك.
-------------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق