الاثنين، 3 مارس 2014

تفسير سورة غافر من (1-31) / من دورة الأترجة

د. ناصر بن محمد الماجد


المجلس الأول
{حم ﴿١﴾ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿٢﴾ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿٣﴾ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴿٤﴾ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴿٥﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضِلّ له ومن يُضلِل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد.
فمع بدء هذا اللقاء الذي يأتي ضمن الدورة العلمية دورة الأترجة مع بدايته أرحب بكم وأسأل الله عز وجل أن يجعله لقاء عامراً بالعلم النافع وأن يجعله لقاءاً شاهداً لنا لا علينا كما أسأله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:18] كما أني أتوجه بالشكر الجزيل للقائمين على هذه الدورة العلمية على ما بذلوه من الجهد والوقت في تنظيم هذه الدورة وإعدادها فأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن لا يحرمهم الأجر وأن يضاعف لهم المثوبة وأن يبارك لهم في أوقاتهم وأعمارهم وذرياتهم.
ثم إننا سنبدأ هذا اللقاء العلمي بمدارسة سورة غافر وقد جرت طريقة أهل العلم عند بدئهم في تفسير سورة من سور القرآن الكريم أن يعرّفوا بهذه السورة تعريفاً مختصراً مجملاً. هذه السورة تسمى سورة غافر لذكر لفظ "غافر" فيها في أولها، كما أنها تسمى "سورة المؤمن" لذكر خبر المؤمن من آل فرعون على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وهذه السورة سورة مكية بإجماع أهل العلم ووقع لبعض السلف استثناء آيتين أو ثلاث منها والصحيح -كما ذكر ابن عطية وغيره- أن هذه السورة كلها سورة مكية من أولها إلى آخرها، بل الذي يظهر أيضاً أن هذه السورة متقدمة في النزول من السور المكية التي تقدم نزولها دلّ على ذلك ما رواه البخاري وغيره في خبر طويل وفيه يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أشد ما لقي من كفار مكة فذكر مرة أنه كان بفناء الكعبة إذ اقبل عليه عقبة ابن أبي معيط -أخزاه الله- فتعرّض للنبي صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه وخنقه وجرّه جرّاً شديداً والنبي لا يستطيع الانتصار منه ولا ينصره أحد حتى جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه مسرعاً إليه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخلصه منه وهو يقول (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) فذكر هذا الجزء من الآية الموجودة في هذه السورة الكريمة. جاء في رواية أخرى عند الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وفيها أن هذه الواقعة وقعت بعد وفاة أبي طالب بثلاث ليال ونحن نعلم أن وفاة أبي طالب تقدمت فهذا يدلك على أن هذه السورة قد تقدّم نزولها.
ثم أيضاً هذه السورة تسمى في ضمن عدد من السور تسمى "الحواميم" وسميت بذلك لأنها ابتُدئت بالحروف المقطعة حم وهي (سورة غافر، وسورة فصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والأحقاف، والجاثية) هذه السور تسمى سور الحواميم وقد ورد في فضلها مجتمعة آثار موقوفة ومرفوعة ولكنها لا تخلو من مقال. فمما ورد فيها أنها "ديباج القرآن" ومما ورد أيضاً أنها "ثمرة القرآن" ولكن كما ذكرت أن هذه الآثار لا تخلو من مقال.
وأما موضوع هذه السورة الكريمة فالحقيقة يظهر عند التأمل في آياتها أنها نزلت والحديث فيها عن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والرد على المشركين في تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وشكِّهم في نبوته عليه الصلاة والسلام وسيظهر لنا عند استعراض هذه السورة الكريمة ما يدل على ذلك. فجانب التسلية فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره وتثبيت فؤاده والربط على قلبه بيّنٌ فيها، كما أن الردّ على المشركين وبيان ضلالهم وانحرافهم حين كذّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وشكّوا فيه وترددوا فيما أنزل عليه سيظهر ذلك إن شاء الله جلياً.
قول الله عز وجل في أول السورة (حم) هذه الحروف المقطعة لعله قد مرّ بكم في أثناء هذه الدورة المباركة استعراض الخلاف بين أهل العلم في هذه الحروف المقطعة فيها خلاف طويل بين أهل العلم يزيد عن ثلاثين قولاً في هذه الحروف بين أقوال وآراء متعددة وكلها جارية مجرى الاجتهاد والنظر ليس فيها شيء عن المعصوم بل هي اجتهاد من المفسرين من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من المفسرين. والله أعلم بمراده من هذه الأحرف إلا أن لذكرها حكمة ولا شك وتلوح هذه الحكمة حينما نعلم أن هذه الأحرف المقطعة قد استُفتحت بها ثلاثون سورة من القرآن الكريم، ثلاثون سورة استفتحت بها هذه الحروف المقطعة وأشير فيها جميعاً إلى القرآن الكريم، فبعد أن تُذكر هذه الحروف يُشار بعدها إلى القرآن الكريم إلا أربع سور منها وهي سورة مريم والعنكبوت والروم والقلم فإنه لم ترد الإشارة إلى القرآن الكريم بعد ذكر الحروف مباشرة وإنما أشير إلى القرآن الكريم في أثناء هذه السور الكريمة. ومما يلوح من هذا المعنى الدلالة على إعجاز القرآن الكريم وتحدي العرب وهم الذين بلغوا الغاية في الفصاحة ولا يدانيهم أحد في الفصاحة وأبلغ ما يفتخرون به وأعظم ما يتنافسون عليه هو فصاحة اللسان وبلاغة المنطق، فتشير هذه الحروف إلى أن هذا القرآن الذي أنزله الله عز وجل على رسوله أنتم أيها العرب يا من بلغتم هذا الشأو في اللغة لا تستطيعون أن تعارضوه وقد تحداهم أن يعارضوه بمثله أو بعشر سور بل بسورة واحدة فما استطاع أحد منهم أن يعارضه مع أنه مكوَّن من هذه الحروف التي تتكلمون بها هذه الحروف التي استفتحت بها هذه السور الكريمة. فإذا من حكمة الإشارة إلى القرآن الكريم بعد هذه الحروف من الحكمة إظهار عجز المشركين وعدم قدرتهم على المجيء بمثل هذا الكتاب العزيز.
  قوله بعد ذلك (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أحب أن أشير إلى أن هذه السورة الكريمة التي سنتدارسها في هذا اللقاء والسورة التي تليها وهي سورة فصلت من السور المكية ويغلب على السور المكية في غالبها أن الخلاف في مسائلها بين أهل العلم من المفسرين قليل، فالخلاف ومسائل الاختلاف بين المفسرين حتى في المعاني قليل، ولهذا سيكون مرورنا على هذه الآيات مروراً سريعاً نمر عليها مرور الكرام وسنقف عند بعض المعاني والفوائد التي تدل عليها هذه الآيات الكريمة.
قوله عز وجل (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) لفظ التنزيل كما يشير بعض أهل العلم إلى أن لفظ "التنزيل" يدل على نزول الشيء شيئاً فشيئاً وهذا حال القرآن الكريم فإنه أُنزِل نجوماً وأُنزِل شيئاً فشيئاً طوال بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، قوله (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وقوله (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) هذا دلالة على أنه حينما يطلق لفظ الكتاب في القرآن الكريم فإن المراد به القرآن، إذا أطلق لفظ الكتاب فإنه ينصرف مباشرة إلى القرآن الكريم الذي ختم الله به كتبه إلا إن دل دليل على تخصيص غيره أو جاءت قرينة في السياق تدل على أن المراد غيره.
قوله (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ختم الآية الكريم بهذين الاسمين الكريمين تعريضٌ بمن شكّ وكذّب بهذا الكتاب وبمن أُنزل عليه فإن هذا الكتاب هو تنزيل العزيز الذي لا يُقهَر الذي به الملك والتصرف والعليم أيضاً بأحوال خلقه بأحوال المؤمنين وأحوال المكذبين.
قوله عز وجل (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) هذه الأوصاف التي ذُكِرت لله عز وجل أيضاً فيها ذكر الشيء ومقابله، الصفة ومقابلها (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) وفي مقابلها (شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيها جانب الترغيب والترهيب وهذا من أحد معاني كون القرآن مثاني أنه يذكر الشيء ومقابله، تذكر الجنة ومقابلها النار، يذكر المؤمنون ومقابلهم الكفار، يذكر النعيم ومقابله العذاب، وهكذا، فهذا من أحد معاني كون القرآن مثاني يعني يذكر الشيء ويثنى ما يقابله.
قوله (ذِي الطَّوْلِ) يعني السعة والفضل سبحانه وبحمده فهو غافر الذنب للمستغفرين وقابل التوب منهم ونلحظ أن الآية الكريمة قدم فيها مغفرة الذنب قبل ذكر قبول التوبة مع أن مغفرة الذنب فرع عن قبول التوبة وهذا التقديم للاهتمام بمعنى مغفرة الذنب لأنه إذا قبل توبتك فقد غفر ذنبك وهذا هو المقصود أن يغفر الذنب ولذلك قُدِّم من باب الاهتمام به.
(ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) هذا الاستفتاح في السورة الكريمة هذا الاستفتاح القوي في ألفاظه، في دلالته، في معانيه، يشير إلى مقصود السورة، ولذلك يقول ابن عاشور -رحمه الله-: "استفتحت السورة بهذه الأغراض والأوصاف وهذا من كمال ما يطلب من فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع والاستهلال" فهذا الاستهلال الذي استُهلت به السورة بالغ القوة، بالغ المعنى والدلالة على ما سيأتي ذكره في أثناء هذه السورة ولذلك جاء بعدها مباشرة قوله (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) فهذا استئناف بياني نشأ عن قوله (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فكأن أحداً يقول إذا كان هذا صفة القرآن وأنه تنزيل من العزيز العليم فما بال أولئك المكذبين؟! ما بال أولئك الشاكين في هذا الكتاب؟! فيأتي الجواب والبيان يقال له (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) هؤلاء فقط هم الذين يجادلون في آيات الله، في هذا الكتاب العزيز. ثم قال عز وجل (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) وهذا إشارة إلى أن المؤمن عليه أن لا ينخدع بما عليه أهل الكفر من زخرف الدنيا، من التقلب فيها، من التمكن من أسبابها ووسائلها فإن ذلك زينة والدنيا كلها غرور (مَتَاعُ الْغُرُورِ) ولهذا فالله عز وجل لأن الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة يعطيها من أحب ومن لم يحب، أما الآخرة فإنه لا يعطيها إلا من أحب، ولذلك لا ننغر حينما نرى أهل الكفر قد تسلطوا في الأرض وأصبحت لهم القوة والمنعة فإن هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولذلك يجب أن لا نخدع وأن لا نُغر حينما نراهم في تسلط وفي قوة وفي تمكن منها، لماذا لا نُغر؟ يقول عز وجل (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) إن تقلب هؤلاء الكفار في الدنيا وتمكنوا من أسبابها ووسائلها فإن من قبلهم من الأمم التي كانت أعظم منهم (قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) كل هؤلاء قد كذبوا رسل الله عز وجل فكان مصيرهم وجزاؤهم أن عاقبهم لله وأخذهم قال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الأحزاب هذا لفظ يطلق على كل أمة كذبت رسولها وتحزبت عليه يعني اجتمعت على تكذيبهم ومعاندتهم تسمى أحزاباً، كل الأمم التي تحزبت على رسلها وكذبت داخلة في هذا اللفظ في لفظ الأحزاب. قوله (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أصل الأخذ من الألفاظ العامة التي يطلق ويراد بها الأسر، ويقال أخيذ بني فلان يعني أسيره، ويطلق ويراد به التعذيب (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) يعني عذبتهم ويطلق ويراد به القتل أيضاً وهذه المعاني كلها مرادة في الآية فأخذتهم بمعنى عذبتهم وبمعنى أهلكتهم فالآية دالة على هذه المعاني كلها. قوله (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) قوله (جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ) لأن هناك جدال لا يكون بالباطل وإنما جدال بالتي هي أحسن، قوله (بِالْبَاطِلِ) الباء هذه تسمى باء الملابسة كأن الباطل وهم يجادلون كأن الباطل أصبح لباساً لهم فهم عارين عن أي صورة من صور الحق عارين عن أي صورة من صور العدل في جدالهم بل جدالهم متلبس بالباطل وهذا معنى باء الملابسة (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) الدحض الإزالة أصل الدحض الإزالة (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) يعني ليزيلوا الحق عن مكانه ويبعدوه. (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) هذا الاستفهام مقصود به التهويل والتعظيم، كيف كان عقاب؟ يعني كيف كان عقوبتي لهم؟ كانت عقوبة عظيمة.
ومن فوائد هذه الآية الكريمة:
/ فيها دلالة على أن غالب الأمم قد كذبت رسلها وأعرضت عنهم ولم تقبل الحق وهذا معنى قوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام:116] .
/ وفيها أيضاً من فوائدها ودلالتها أن من صفة أهل الباطل والتكذيب أنهم يجادلون بغير حق ويجادلون بالباطل وهذا إذا نظرنا في أحوال الناس وفي أحوال أهل الباطل سنجد أن هذه صفة لا تبارحهم، نادراً من يوجد من أهل الباطل من يجادل وهو يريد أن يصل إلى الحق ويهدى إليه، بل الغالب والأصل فيهم أنهم يجادلون وقصدهم الباطل، ولهذا يحرمون من التوفيق فلا يوفقون إلى الحق ولا يهدون إليه مع أن الآيات أمامهم بينة واضحة والحجج ظاهرة ومع ذلك لا يهدون إليه لأن قصدهم الباطل وليس الحق.
/ قوله عز وجل (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذه فيها إشارة إلى أن من قضاء الله عز وجل أن الذين كفروا أن الله قد حكم وقضى بأن العذاب بأنهم أصحاب النار وأنهم يصلون النار وأنهم يدخلونها فيقيمون فيها ويلازمونها لأنه قال (أَصْحَابُ النَّارِ) وأصل المصاحبة الملازمة فهم أصحابها الملازمون لها الذين لا يبرحونها.
  ثم قال عز وجل بعد ذلك (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) لما ذكر حال المكذبين لرسل الله المعرضين عن دينه وما نزل بهم من العقوبة أعقب ذلك بذكر صفة من صفات خلق الله المطيعين له، المخبتين له، المنيبين له، وهم الملائكة ليشير إلى صورة المقابلة فقابل التكذيب والكفر بذكر الملائكة وما هم فيه من العبادة لله عز وجل، ليشير إلى أن الله عز وجل حينما دعاهم إلى الهدى وأمرهم به ودلّهم عليه ليس لحاجة فيهم بل له عز وجل الكمال المطلق والغنى سبحانه وبحمده، ولهذا ذكر أن له من الملائكة الكرام من يعبده ويسبحه آناء الليل وأطراف النهار ولذلك قال (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) وذكر حملة العرش وهم من أكرم الملائكة ومن حولهم، نصّ عليهم لأنهم من أكرم الملائكة وأشرفهم ولهذا نص عليهم في الآية الكريمة، وهم خلق عظيم تبارك الله الذي خلقهم. يعني قد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي وغيره بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِنَ لي ان أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش» يقول عليه الصلاة والسلام: «ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» شحمة الأذن طرف الأذن، إلى عاتقه إلى منكبه مسيرة سبعمائة عام يعني ما يقطعها السائر إلا في سبعمائة عام، فقط هذا القدر الذي بين شحمة أذنه وعاتقه فكيف بخلقه كله؟! فهم خلق عظيم فهؤلاء الخلق العظيم يسبحون الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار فهؤلاء يسبحون الله يعني ينزهونه ويعظمونه هذه أول وظائفهم تسبيح الله وتنزيهه (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وأيضاً من وظائفهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا، وهذا أيها الأخوة مقام عظيم أي أن هؤلاء الملائكة الكرام حملة العرش يستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم بأن يغفر لله لهم بل يدعون لهم ولذريتهم وآبائهم ماذا من دعائهم يقولون (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ) هذه الدعوات الكريمة من هؤلاء الملائكة الكرام تضمنت دعواتهم معاني عظيمة أولاً أنهم يستغفرون للذين آمنوا ويكفي الإنسان شعوره أن يعلم أن هناك ملائكة لله آناء الليل وأطراف النهار يستغفرون لك، أنت نائم في فراشك وهؤلاء الملائكة يستغفرون لك، أنت تكدح في عملك وهؤلاء الملائكة يستغفرون لك. يستغفرون للذين آمنوا ماذا يقولون؟ (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) وهذا من السنن أن المرء يقدم بين يدي دعائه تعظيم الله عز وجل فيذكر بعض صفات الله عز وجل مما يليق بالمقام ومما يتناسب مع حاجته ومطلبه (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) جنات عدن المقصود بها حينما قال (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أصل عدن الإقامة الطويلة والمكث الطويل يعني الجنات التي إذا دخلها أهلها مكثوا فيها فلم يبارحوها (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) ثم قال (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ومن فضل الله عز وجل على المؤمنين أن يُلحِق بهم ذرياتهم وأزواجهم حتى ولو لم يبلغوا مبلغهم في العلم والعمل وهذا من فضل الله عز وجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) يعني نرفع الذرية إلى مقام الآباء وإن كانوا أقل منهم عملاً وإن كانوا أقل منهم درجة وهذا من فضل الله عز وجل ورحمته بعباده.
 (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) كذلك يدعون الله عز وجل أن يصرف المؤمنين عن السيئات وأسبابها الموصلة إليها، لأن من وقي السيئات فقد رُحِم لأنه سيُعصَم عندئذ من أسباب العقوبة وغضب الله عز وجل. ونلحظ هنا أن دخول الجنة ليس بعمل المرء، لا ينال المرء بعمله بل حتى النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق وأدناهم من الله منزلة لن يدخل الجنة بعمله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحدٌ الجنة بعمله» حتى قام أحد الصحابة وقال: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته» فلا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله عز وجل، فنسأل الله من رحمته وفضله وإحسانه. ثم قال عز وجل بعد ذلك وقبل هذا قوله عز وجل (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) دلالة على أن الفوز الحقيقي هو دخول الجنة وتأملوا ذكر الفوز العظيم في مقابل (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ) ذاك غرور ونعيم زائل لكن في مقابله الجنة وهي الفوز العظيم نسأل الله من فضله وكرمه.
/ قال الله عز وجل بعد ذلك (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)
 (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ينادون، النداء هنا تعددت صُوره قد ينادون في الدنيا، وقد يكون النداء في قبورهم، وقد يكون النداء في الآخرة يوم العرض على الله، وذلك كله مناسب لمعنى ندائهم ومقتهم.
وقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ) المقت: أشدّ الغضب فهو أعلى صور الغضب ولماذا ينادون بهذا النداء (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)؟
جاء بيانه قال (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) تُدعون إلى الإيمان بالله عز وجل فتكفرون وتكذّبون ولأجل ذلك استحقوا المقت. وقوله عز وجل (يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) يعني أن سُخْطَ الله عليكم وغضبه عليكم أشد من غضبكم على أنفسكم وذلك يوم القيامة حينما يرون مصيرهم ويرون النار التي أُعدَّت لهم فيمقتون أنفسهم لِمَ لَمْ يقبلوا الهدى لما جاءهم؟! لِمَ لَمْ يؤمنوا بالله ورسله؟! فيأتيهم النداء أن مقت الله -غضب الله- عليكم أشد حتى من غضبكم على أنفسكم.
(قَالُوا رَبَّنَا) يعني قال أهل النار (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) قد وقع خلاف بين أهل العلم في معنى الموتتين وما يلزم عليها من الحياتين على قولين:
- القول الأول: أن المراد بالموتة الأولى حينما كانوا نُطَفاً في أصلاب آبائهم هذا موت والحياة المقابلة لها هي إحياؤهم وهذه الحياة بأن جعلهم في بطون أمهاتهم ثم تدرّجوا في الحياة بعد ذلك وتطوروا فيها، وعلى هذا فالموتة الثانية هي الموتة المعروفة من الدنيا والحياة الثانية هي الحياة يوم القيامة، وهذا القول ينسب إلى جمهور المفسرين
- القول الثاني: الذي قال به السُدّيّ قال إن الموتة الأولى هي الموتة المعروفة التي يموتها كل الخلق وعليه فالحياة بعدها هي الحياة في القبر ويستدل على ذلك بأن المرء في القبر يُعذَّب ويُنعَّم وأنه في القبر كما جاء في الحديث تُردّ عليه روحه ويُسأل الأسئلة الثلاثة المعروفة، قال هذا دلالة أن المقصود بها هذه الموتة والحياة في القبر ثم بعد ذلك إذا سُئل يموت الموتة الثانية في القبر. ما هي الحياة الثانية على هذا القول؟ هي الحياة الثانية التي فيها البعث للجزاء والحساب.
هذان القولان في المسألة والقول الأول هو قول الجمهور وغالب المفسرين على هذا القول.
وقوله عز وجل (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) يقولون نحن أقررنا يا ربنا بأنك قد أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين واعترفنا بخطئنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل؟ يسألون الله عز وجل يريدون الخروج من هذا العذاب الذي هم فيه وتأملوا قالوا (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) يريدون فقط الخروج إلى أين؟ لم يطلبوا وما مصير هذا الخروج وإلى أين يكون وكيف يكون وإلى أي سبيل؟ لم يسألوا، فقط يريدون الخروج عن هذا العذاب الذي هم فيه وهذا يدلك على أنهم في عذاب عظيم حتى لم يفكروا فيما يريدون بعد الخروج فقط يريدون مجرد الخروج (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) لكن هذا يدلك على أن الاعتراف والإقرار بعد فوات محله لا ينفع صاحبه، هؤلاء أقروا واعترفوا لكن بعد فوات محل الاعتراف، العاقل هو الذي يُقرّ ويعترف حينما ينفعه هذا الاقرار وهذا الاعتراف. قال الله عز وجل الآن هم ألم يسألوا سؤالاً قالوا (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) ماذا كان الجواب؟ هل نفى خروجهم أو رد عليهم بما يدل على عدم إجابتهم إلى طلبهم؟ كلا، وإنما قال (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) لم يجبهم إلى طلبهم، لم يردّ عليهم حتى بأن يقول لهم ما يُشعِر بردّ طلبهم هذا وعدم الاستجابة إليهم بل عَدَلَ عن ذلك ليبين سبب العذاب الذي نزل بهم وهم يعرفونه لأنهم قالوا (فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) لكن ذكر هذا مرة أخرى وإعادته من باب التبكيت لهم بسبب كفرهم الذي استحقوا به هذه العقوبة.
ونلحظ هنا أن الله قال (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) التعبير بصيغة المضارع في الآية دلالة على تجدد الكفر منهم، يعني الآية فيها دلالة على معنى كلما يُدعى إلى الله تكذبوا وكلما يُشرك به تؤمنوا ليس مرة ولا مرتين ولا ثلاث بل هذه صفتكم وذاك دأبكم وديدنكم فأنتم استحققتم دخول النار عن جدارة لأنه كلما دُعيَ الله وحده كفرتم وكلما أُشرِك به آمنتم.
قوله عز وجل (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ
(13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) انتقلت الآيات الكريمة إلى ذكر بعض مظاهر فضل الله عز وجل وإنعامه على خلقه وإحسانه عليهم والآيات التي ستأتي بعد ذلك تشير إلى هذه المعاني معاني إحسان الله عز وجل وفضله على خلقه ولعلنا -إن شاء الله- نبدأ بها في اللقاء القادم فإذا كان عند أحدكم سؤال أو نختم هذا المجلس.
إجابة على سؤال من أحد الحضور لم يتضح صوت السائل. هذا وصف كاشف للجنة نفسها هي الجنة لكن من صفة هذه الجنة أنها دار الإقامة الدائمة لأن الإنسان إذا كان في نعيم يعني أصحاب النعيم في الدنيا ما الذي ينغص عليهم نعيمهم؟ أنهم يعرفون أنهم سيتركون هذا النعيم هذا من أعظم ما ينغص عليهم ولذلك من أعظم النعيم في الآخرة أن هذا النعيم لا ينقطع ولذلك قال (عَدْنٍ) يعني دار إقامة دائمة. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
المجلس الثاني
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ﴿١٣﴾ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿١٤﴾ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴿١٥﴾ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿١٦﴾ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿١٧﴾}
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد. فهذا هو اللقاء الثاني ضمن سلسلة الدورة العلمية الأترجة وقد كنا بدأنا الكلام عن تفسير سورة غافر وانتهى بنا الحديث في المجلس السابق عند قول الله عز وجل :
 (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ)
 هذه الآيات الكريمة تشير إلى فضل الله عز وجل وإنعامه على خلقه بأنواع المنن وأنواع الفضل والإحسان، وهذه النعم سيقت أولاً مساق الامتنان على الخلق والأمر الثاني الاستدلال بها على أن الله عز وجل هو المستحق للعبادة وحده دون سواه، فالذي خلق ورزق وأنعم هو المستحق أن يُعبد هو المستحق أن يُشكر وأن يُذكر فلا ينسى وإلا كان من الظلم أن الله هو الذي يخلقك ويرزقك ويعطيك أنواع النعم ثم تعبد غيره وتدعو غيره وتلتجئ إلى غيره ولذلك أظلم الظلم الشرك (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13] ولهذا قال في الآية بعدها (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) يعني فأخلصوا لله وحده الدعاء. ونلحظ هنا أن الله ذكر الدعاء ما قال "فاعبدوا الله" بل قال (فَادْعُوا اللَّهَ) لأن الدعاء هو حقيقة العبادة، ما هي العبادة في حقيقتها؟ الذُلّ، كمال الذل مع كمال المحبة هذه هي حقيقة العبادة، وتظهر جلياً في الدعاء لأن الدعاء وهو طلب يقوم على كمال الذُلّ ولذلك جاء في الحديث «الدعاء هو العبادة» لأنه هو حقيقة العبادة تظهر بها عبادة الإنسان لله عز وجل ولذلك على المؤمن أن يُكثر من دعاء الله عز وجل وأن يظهر له الضراعة فالله يحب عباده الذين يدعونه ويحب من يُلِحّ في العبادة ويفرح أن يسأله عبده بخلاف الخلق حتى ملوك الأرض تسأله مرة مرتين قد يستجيب لك ثم الثالثة لكن بعد ذلك يملّ وقد ينهرك لكن الله عز وجل كلما ازددت سؤالاً ازداد عطاء لك لأنه عز وجل هو الغني.
قوله عز وجل (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) قوله (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ) يعني هو تعالى رفيع الدرجات الذي ارتفعت درجاته ارتفاعاً بيّناً عن خلقه فارتفع عز وجل عن خلقه وعلا عن خلقه ذاتاً وصفة وقهراً وقدراً عز وجل (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) وهو أيضاً مع ارتفاعه عن خلقه وعلوه عليهم فهو (ذُو الْعَرْشِ) والمقصود بذو العرش هنا عرش الرحمن عز وجل وهو أعظم المخلوقات بإطلاق العرش هو أعظم المخلوقات.
(ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) وقوله (يُلْقِي الرُّوحَ) المقصود بالروح هنا الوحي وتأملوا أن الله عز وجل سمّى وحيه لرسله سمّاه روحاً لأنه هو الحياة الذي تحيا به الأرواح هو الحياة الحقيقة ولهذا قال الله عز وجل (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام:122] ويقول في الآية الأخرى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) [الشورى:52] روح يحيا بها القلب وتحيا بها النفس فمن اهتدى إلى هذا الروح وإلى ما جاءت به الشريعة فهو الحيّ ومن أعرض عنها فهو الميت. ولهذا هذه الشريعة هي في حقيقتها رحمة ومنّة من الله عز وجل ولذلك يسميها الله روحاً ويسميها هدى ويسمي ما أنزله شفاء ورحمة هذه هي معاني هذه الشريعة أنها هدى وروح ورحمة.
يقول عز وجل (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) هو الذي يشاء عز وجل وهذا يدلك على أن بلوغ منزلة النبوة والرسالة ليست في قدرة أحد، يعني لا يستطيع الإنسان أن يُربي نفسه وأن يريضها الرياضة الروحية حتى يصل إلى مقام النبوة فيختاره الله بل هي اصطفاء، محض اصطفاء من الله عز وجل يصطفي من يشاء ويختار من يريد (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) فهو الذي يصطفي وهو الذي يختار قال (مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) وهذه الآيات أيضاً فيها إشارة إلى ما لله من صفات الكمال والجلال حيث يقول (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ).
قوله عز وجل (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) يوم التلاق يعني يوم تلاقي الخلق جميعاً، تلاقي الخلق كلهم منذ أن خلق الله الخلق إلى أن تقوم الساعة فيلتقون عربهم، عجمهم، أبيضهم وأسودهم، شريفهم ووضيعهم، إنسهم وجنّهم، كلهم يلتقون في ذلك اليوم ولذلك سُمي يوم التلاق يعني يلتقي الناس كلهم. ومنهم من قال: إن يوم التلاق المقصود به أن تلتقي الروح بالأجساد وهذا معنى أيضاً، ومنهم من قال: يلتقي الإنسان بعمله، ومنهم من قال: يلتقي بمُشاكِله وزوجه المشابه له، وكل هذه المعاني صحيحة لأنها كلها فيها معنى اللقاء فكلها صحيحة وكلها من الأمثلة على معنى اللقاء في ذلك اليوم.
يقول عز وجل بعد أم ذكر هذا اليوم ذكر صفته فقال (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ) يعني البروز الظهور على مكان مرتفع عالي وهذا إشارة أن الخلق كلهم بارزون ظاهرون والظهور هنا ظهور تام بكل معانيه فهم ظاهرون عياناً بيّنين وأعمالهم أيضاً ظاهرة بيّنة لا يخفى على الله منهم شيء ولذلك قال (لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) يعني أيّ شيء وهذه نكِرة في سياق النفي وهي قاعدة تفسيرية: "النكرة في سياق النفي تفيد العموم" يعني لا يخفى على الله منهم أيّ شيء مهما كان صغيراً وهذا يدلك على كمال إطلاع الله عز وجل وعلمه بأحوال خلقه وعبيده. ولهذا قال عز وجل بعد ذلك (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) هذا الاستفهام وقد جاء في الأثر ما يدل على هذا المعنى على معنى أن الله عز وجل يسأل الخلق جميعاً في ذلك اليوم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فلا أحد يجيب، لا أحد يجيب لأنه لم يبق إلا هو عز وجل فيقول الله عز وجل (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) وانظر هذا الختم العظيم للآية الكريمة حينما يرد السؤال (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) وهذا المناسب فهو الواحد الذي انفرد في ذلك اليوم بالمُلك وهو القهّار الذي قهر الخلق بمُلكه عز وجل لهم، وتخصيص المُلك في ذلك اليوم لله مع أن الله مالك ذلك اليوم وسائر الأيام تخصيص ذلك اليوم لأن في ذلك اليوم يظهر كمال مُلك الله عز وجل الذي لا يشاركه فيه أيّ أحد في الدنيا كلٌ يملك بحسبه فقد يملك الانسان منزلاً وقد يملك متاعاً وقد يملك دياراً وقد يملك بلاداً فكل الناس لهم نوع مُلك لكن في ذلك اليوم لا يبقى أي صورة من صور الملك لأحد ولذلك يظهر تمام الملك وكماله لله في ذلك اليوم ولهذا ناسب أن يرد السؤال (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
  قال عز وجل أيضاً في صفة ذلك اليوم (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) في ذلك اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر فإن عملت خيراً جزيت به وإن عملت شراً جزيت به، وهذا يدلك على كمال عدل الله عز وجل فإنه يجازي كل إنسان بعمله إن خيراً وإن شراً. وهذا أيضاً فيه تربية الخلق على مبدأ المسؤولية الفردية في الجزاء فكل إنسان يتحمل جزاء أعماله إن عمل خيراً جزي بخير وإن عمل شراً جزي على شرّه.
ثم قال عز وجل (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) وأنذرهم أصل الإنذار الإخبار بمخوف إذا أخبرت بأمر مخوف فيسمى ذلك إنذاراً والتبشير إخبار بما يسُرّ ومهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي النذارة والبشارة لكن لم يرد ذكر البشارة هنا بل اقتصرت الآية على ذكر الإنذار (وَأَنْذِرْهُمْ) وهذا مراعاة لحال المخاطبين فإن الذين خوطبوا من كفار مكة كانوا على كفر وعناد وصدّ وهؤلاء الذي يناسب من حالهم أن يُنذروا لا أن يُبشروا لأن البشارة للذين آمنوا (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس:2] فالبشارة للذين آمنوا وأما النذارة فهي للمكذبين. وأنذرهم بأيّ شيء؟ أنذرهم يوم القيامة (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) الآزفة هي اسم فاعل من أزَفَ الأمر إذا قَرُب فالآزفة هنا صفة لموصوف محذوف مقدّر بما يناسب، يقال الساعة الآزفة أو اليوم الآزف يعني الساعة القريبة أو اليوم القريب والمراد بها يوم القيامة. وسميت آزفة لقربها فهي قريبة إما لأنها قريبة باعتبار ما مضى من عمر الدنيا فقد مضى من عمر الدنيا الآف السنين وما بقي منذ نزول هذه الآيات إلى أن تقوم الساعة قليل باعتبار ما قُضي هذا وجه بمعنى أن الساعة قريبة. والوجه الآخر يقولون إن كل آتٍ قريب حتى ولو كان بيننا وبينه مئات السنين ما دام أنه سيأتي فهو قريب وهذا وجه آخر في معنى وصف الآخرة بالقُرب. إما إن القُرب نسبي يعني باعتبار أن ما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب أو على اعتبار أن كل آتٍ قريب حتى ولو كان بقي عليه آماد طويلة. قوله (إِذِ الْقُلُوبُ) يعني في ذلك اليوم تكون القلوب (لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) وهذا الوصف العظيم الذي يصف أحوال الناس في ذلك اليوم يقول (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) وهذا كناية عن شدة الخوف والهلع الذي يصيب الناس في ذلك اليوم، في ذلك اليوم العظيم الشديد حتى قبل أن يُقضى بين الناس عندما يجمع الناس في المحشر يعني هول عظيم جداً حتى إن الناس يأتون إلى الأنبياء يستشفعون بهم الواحد تلوا الآخر يستشفعون ليس لدخول الجنة يستشفعون لأن يُقضى بينهم حتى يروا سبيلهم إما إلى جنة وإما إلى نار يظنون أن ما هم فيه من الشدة ما بعده لن يكون مثله، فقط في مجرد انتظار الحساب فكيف بالحساب؟ ثم كيف بالعذاب بعده؟! -نسأل الله عز وجل أن يجيرنا ووالدينا وجميع المسلمين- ولذلك (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) يعني بلغ بهم الحال من شدة الهلع والخوف مبلغاً عظيماً. (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) قوله كاظمين هذا اسم فاعل من كظم كظوما والمقصود به من حبس النَفَس عن الهواء حبسه فلم يخرجه مع الغضب يسمى ذلك كظم فهم ساكنين لا يستطيعون كلاماً (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) يعني بلغت قلوبهم الحناجر من الخوف وأطبقوا على أفواههم فلم يستطيعوا الكلام.
ثم قال عز وجل (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) في ذلك اليوم ليس للظالم حميم، الحميم هو القريب سواء كان قرابة نسبية أو قرابة صحبة ومحبة وخُلّة، ما لهم في ذلك اليوم (مِنْ حَمِيمٍ) من صاحب ولا قريب (وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) فنفى عنهم كل أنواع النفع لا من القرابة ولا من الشفاعة لا توجد في ذلك اليوم. وهذه الآية -الحقيقة- تدل على عظم ذلك اليوم، هذا اليوم الذي تبلغ به أحوال الناس هذا المبلغ ولا يوجد في ذلك اليوم من يعينك أو ينصرك، كلٌ يقول نفسي، نفسي، حتى من يريد أن يشفع مهما كانت منزلته ومقامه لا يشفع إلا بإذن الله، الأنبياء الكرام على رفعة مقامهم وجلالة قدرهم لا يشفعون إلا إذا أذِن الله لهم.
قال عز وجل (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) سبحانه يعلم خائنة الأعين يعني ما تختلسه الأعين من النظر الذي تختلسه دون أن يعلمها أو يراها أحد، نظرات العين واختلاساتها التي لا يطّلع عليها أحد فهو عز وجل يعلمها.
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) فجمع بين أكثر أمرين مما يخفى على الناس: اختلاس العين فيما يسمى خائنة الأعين وما يخفي الصدر. والنصّ على هذين المعنيين لأنهم أعظم ما يخفى على الناس فإذا كان الله عالماً بهذا الحال فما دونها أولى أن يكون عليماً به، فالله عز وجل مُطّلع على عبده يعلم خطرات نفسه وساوسها ويعلم لحظات عينه وتصرفها وهذا يدلك على كمال علمه عز وجل واطّلاعه على خلقه. ومما ورد عن السلف -رحمهم الله- ما يشير إلى معنى خائنة الأعين ما يدلك على الفهم الدقيق لكلام الله عز وجل، ابن عباس رضي الله عنه ورد عنه في الأثر قال: "هو الرجل يكون جالساً مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر" بمعنى إن التفتوا عنه نظر إليها فإن التفتوا إليه صرف نظره قال فيسارقهم النظر إليها، هذا خائنة الأعين مسارقة النظر. وجاء عنه في لفظ آخر قال: "هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه صرف نظره عنها فإذا صرفوا نظرهم عنه نظر إليها" قال فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر فإذا نظر إليه أصحابه غضّ بصره وقد علِم الله عز وجل -هذا ما تخفيه النفس- وقد علم الله عز وجل منه أن بودِّه لو نظر إلى عورتها هذه من خيانة العين ومما تُخفي النفس وهذا من دقيق المعاني عن السلف رحمهم الله ورضي عنهم.
 قال عز وجل بعد ذلك (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) إذا كان يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو سيقضي بالحق لكمال علمه وكمال قدرته. القضاء الحق متى يكون؟ بشرطين: كمال العلم مع كمال القدرة، لأنه قد تكون عالماً وتعرف أن هذا يستحق العقوبة لكنك لا تستطيع أن تنفذ العقوبة لعجزك، وقد تكون قادراً لكنك ما تعلم أين المخطئ من المصيب. ولهذا فالله عز وجل يقضي بالحق لاتصافه بصفتين بصفة كمال العلم مع كمال القدرة ولذلك يقضي بالحق.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) وهذا يشير إلى العجز المفظع الذي عليه الآلهة التي يعبدون من دون الله أنهم لا يقضون بشيء وانظروا لا يقضون بأي شيء حتى على أنفسهم هم، وهذا من أظهر الأدلة التي يُردّ بها على المشركين في عبادتهم لآلهتهم، يقال لهم: هذه الآلهة التي تعبدونها هذه الأصنام هذه الأحجار هؤلاء الأولياء هل لهم قضاء يقضونه في أنفسهم فضلاً أن ينفعوا غيرهم؟! وهذا من أظهر ما يرد به على أهل الشرك أنكم تعبدون ما لا ينفع ولا يضر بل حتى لا يضر نفسه لو أراد أن يضر نفسه ما يستطيع.
 (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) في قوله (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقف عند هذه بعض أهل العلم ويستدلون بهذا الموضع على أن القاضي يجب أن يكون مكتمل الحواس يعني سميعاً بصيراً قالوا إن الأعمى أو الأصمّ أنه لا يصح للقضاء هذا قول لبعض أهل العلم استدلالاً بهذه الآية لأن الله قال (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) هذا تعليل لمعنى قضائه بالحق فمن شروط من يتولى القضاء أن يكون سليم الحواس وهذا على كل حال محل نظر لكن هذا منزعهم في الآية الكريمة.
قال الله عز وجل بعد ذلك (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ). قوله عز وجل (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)
هذه دعوة للكفار الذين كذّبوا وشكّوا أن يسيروا في الأرض ليس سفر نزهة وقضاء الوقت وانما سفر سير اعتبار وتأمل ولذلك قال (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) وهذا هو الذي يجب على الإنسان حينما يسير في الأرض أن ينظر في آثار قدرة الله عز وجل في الخلق آثار قدرته وما حلّ بالسابقين المكذبين. هذا السير هو الذي يورِث العبرة والعظة وينتفع بها الإنسان في حياته.
قال (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) يعني هؤلاء كفار مكة الذين كذبوا الله وكذبوا رسله لم يكونوا أشد من قوم نوح ولا أشد من عاد ولا أشد من ثمود هؤلاء الذين نحتوا الصخور نحتاً عظيماً غاية في الدقة وغاية في الدلالة على القوة هؤلاء لم يكونوا أشد منهم وإذا حلّ بهم العذاب وأهلكم الله وأنتم تعلمون أن الله أهلكهم فكيف تعرضون وتكذبون (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) يعني الآثار التي خلّفوها في الأرض أعظم وأشدّ من آثاركم ومع ذلك أهلكهم الله.
(فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) لم يكن لهم من أحد يقيهم من عذاب الله وعقوبته، وهذا دعوة ألا يغترّ الانسان بقوته فإن الذي أعطاك هذه القوة قادرٌ على سلبها منك وإذا كنت شاكّاً في قدرة الله على أن يسلب منك قوتك فانظر إلى من سبقك من كان أقوى منك هل بقي على قوته أم سلبت منه؟
بعد هذه المقدمة في السورة الكريمة التي ذكر فيها المكذبين وأحوالهم وبعض مظاهر قدرة الله عز وجل وما حلّ بالأمم السابقة ستنتقل الآيات إلى الحديث عن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وسيكون التركيز فيها على قصة مؤمن آل فرعون وهذه القصة من حيث معانيها وألفاظها واضحة الدلالة ولذلك سنمر عليها سريعاً ونقف عند بعض المعاني والهدايات التي تدل عليها.
 يقول الله عز وجل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) قوله عز وجل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا) الآيات هي الحجج البينة الواضحة (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) السلطان هو الحجة الواضحة، فمعنى الآيات هنا المراد بها الآيات الشرعية والسلطان المبين الحجج البينة الدالة على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. ومن البينات والحجج التي جاء بها موسى تسع آيات كالعصا والجراد والقُمّل والضفادع والدم الآيات التي نزلت عليه وأُرسل بها إلى فرعون فهذه من الحجة (بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) هكذا كان موقفهم من دعوة موسى عليه السلام.
(إِلَى فِرْعَوْنَ) الملك (وَهَامَانَ) وزيره (وَقَارُونَ) صاحب الأموال والكنوز (فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) استكبروا عن الإيمان وقالوا وصفوه بهذا الوصف، يقول عز وجل (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا) لما يأتي الإنسان بالحق ماذا يكون على العاقل أن يفعل؟ على الأقل أن ينظر في هذا الحق وأن يتبصّر فيه فينظر هل هو حق أم لا، لكن هذا مباشرة كذبوا وانتقلوا إلى التعذيب وإلى مواجهة هذه الدعوة بالشِدّة والغِلظة فقالوا (اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) قال (اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ) استحياء النساء يعني استعبادهنّ واتخاذهنّ خَدَماً لهم.
وقد يستغرب الإنسان حينما يقول عز وجل (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) ما علاقة ذكر الكيد في هذا الموقف الذي وقع منهم؟
 لأن فعلهم هو فعل كيد أرادوا به أن يوهنوا من عزيمة موسى في دعوته، هذا الإيهان يكون بإخافة كل من يتبعه بقتلهم، بإيذائهم، باسترقاقهم واستحيائهم، فهذا كيد يراد به أن يضعف موسى عن دعوته وأن يضعف أتباعه عن الاستمساك بدعوته فسماه الله عز وجل كيداً قال (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) لأن المؤمن إذا آمن ودخل الحق في قلبه لا يمكن أن يخرج منه أبداً. وهذا ما قاله عظيم الروم قال: "وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ما يمكن يرجع عنه"، ولذلك كان من حيلة اليهود -قاتلهم الله- في المدينة أن يؤمنوا أول النهار ويكفروا آخره من أجل أن يشككوا الناس لأنهم ما وجدوا أحد يؤمن ويرجع, قال -والحظوا- أن هنا لم يكتفوا بالتكذيب بل تجاوزوه إلى البغي والعدوان على غيرهم بالاستحياء والقتل، قال فرعون (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) قال فرعون لأشراف قومه وملئه (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) هو لا يستأذنهم في الحقيقة وإنما يريد الموافقة، موافقتهم له على هذا الأمر وإلا لا أحد يمنعه ولا أحد يقف في وجهه.
(ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) فرعون الطاغية، فرعون الجبار الذي استعبد الناس وأذلّهم حريصٌ على أديان الناس، خائف عليهم ممن؟! من موسى عليه السلام ولذلك يقول (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) فرعون يخاف على الناس من إضلال موسى لهم ويخاف عليهم أيضاً من أن يظهر موسى الفساد في الأرض وهذه طريقة الطغاة على مدى التاريخ، دائماً إذا جاءهم رسل الله إذا جاءهم دعاة الحق دائماً يظهرون حرصهم على الناس، حرصهم على أديان الناس، حرصهم على حفظ أمن البلاد وألا تصاب بالفساد الذي لن يكون هذا الفساد إلا بدعاة الحق، أما إفسادهم في البلاد هم وطغيانهم وتجبرهم وتفرعنهم في البلاد فذلك لم يكن فساداً وهذا يصدق عليه أن يقال "رمتني بدائها وانسلّت". (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) فعاذ موسى عليه السلام بربه، والعَوْذ الالتجاء بمن يعين (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) وانظروا وصف التكبر هو الوصف الدقيق الذي يكشف عن حالة فرعون أنه كان متكبراً هذا الذي منعه من الإيمان.
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)
 (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) كان هذا الرجل من قوم فرعون هذا هو الصحيح أنه كان يشهد مع فرعون ويجلس معه ويستمع لفرعون وعنده مكانة بحيث أنه يناقش ويتكلم وهذا لا يكون إلا إذا كان من قوم فرعون لأنه قد قال بعض المفسرين أنه كان من قوم موسى والصحيح أنه من قوم فرعون لأن هذا الوصف لا يكون إلا إذا كان من قوم فرعون. ولذلك قال (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) كان يكتم إيمانه، آمن بموسى لكن خاف من بطش فرعون، كتم إيمانه فترة لكن بعد أن علم من فرعون عزمه على قتل موسى وأنه بدأ يتكلم ويتشاور مع الملأ على ذلك ما استطاع أن يكتم إيمانه فجهر بالإيمان وأعلنها وصاح بها صيحة مدوية فقال (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) يعني هذه ما هي جريمة يستحق الإنسان عليها أن يقتل إنما الذي يُقتَل المجرم القاتل المعتدي على الناس أما من يقول ربي الله فهذه ليست جريمة، ليست جريمة يؤذى عليها الناس أو يُتعرَّض لهم فضلاً عن أن يُسعى إلى قتلهم. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) وليس فقط هو يقول ربي الله وانتهى، لا، (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني جاء ببينات وأنتم لم تردوا عليها وعندئذ قال -هو أراد فقط أن يتكلم عن نجاة موسى- قال (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) هذه الآية فيها إشارة إلى ثناء الله على هذا الرجل حيث قال عز وجل (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ) فشهد الله له بالإيمان هذه واحدة. فالآيات فيها ثناء بالغ على هذا المؤمن من آل فرعون فهو مؤمن وأيضاً وقف موقفاً عظيماً وهو أن تكلم بالحق عند هذا الطاغية فرعون وتعلمون قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر». وفي لفظ «كلمة حق» هذا من أعلى منازل الشهداء ولذلك قال :أكرم الشهداء حمزة والآخر من هو؟ ورجل قام إلى إمام أو إلى أمير فأمره ونهاه حتى قتله. فلأجل هذه المنزلة العالية التي بلغها هذا المؤمن ولموقفه العظيم الذي وقفه أثنى الله عليه بهذه الآيات بقرآن يُتلى إلى قيام الساعة هذه واحدة.
في قوله (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) وقع خلاف بين أهل العلم أو بحثوا مسألة وهي مسألة صحة إيمان من كتم الإيمان، صحة من كتم الإيمان فلم يتلفظ به فبعض أهل العلم قال: هذه الآية دلالة على صحة إيمان الإنسان حتى ولو لم يتلفظ بالإيمان لأن الله قال (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) لم يتلفظ بإيمانه إلا في هذا الموضع أما قبل ذلك فلم يتلفظ به. وضحت المسألة؟ هم يقولون صحح الله إيمانه دون أن يتلفظ بالإيمان لكن انعقد عليه قلبه جازماً به فبنوا على ذلك مسألة أخرى وهي من عزم على شيء عزماً جازماً هل يؤخذ به أم لا؟ صورة ذلك لو عزم إنسان على طلاق امرأته عزماً جازماً ولم يتلفظ به، وكذلك لو عزم على الكفر عزماً جازماً ولم يتلفظ به هل يؤخذ بأحكامه أم لا؟ وقع فيها خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة والحقيقة أن الاستدلال بهذه الآية على هذا المسألة محل نظر لأن المقصود بكتم الإيمان هنا عدم إظهاره لا عدم التلفظ به وفرق بين أني لا أُظهر إيماني للناس فلا يعلموا أني مؤمن وبين أني لا أتلفظ بإيماني، فقد يتلفظ بإيمانه مع نفسه وقد يتلفظ به مع خاصته من المؤمنين فكونه يكتم إيمانه عن هؤلاء معلوم السبب أنه خائف لكن لا يلزم منه أنه كتمه فلم يتلفظ به.
  يقول الله عز وجل ذاكراً تمام كلام هذا المؤمن (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) يقول لهم يا قوم إن لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض لكم التسلّط والغلبة وهذا حق يوجب شكر الله عز وجل والاعتراف بفضله لا الطغيان في الأرض ولهذا قال (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) من يحمينا، من يعصمنا من بأس الله وغضبه إذا نزل بنا وحلّ؟. فرعون لم يعتد على مثل هذا الخطاب ولا على أن يتكلم بين يديه بما يخالف رأيه وهواه ولهذا ماذا قال؟ قال كلاماً عجيباً (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) يعني بلغ مرحلة من الغرور لا توصف في الحقيقة ويكفي أنه قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) فعندئذ ما قاله بعد ذلك فهو أهون! هنا ماذا يقول؟ قال (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) يعني لا أريكم أنتم أيها الناس إلا ما أراه لنفسي فأنا أنزلتكم منزلة نفسي فكل الذي أراه وأعتقده لنفسي أراه لكم، فعطّل عقول الناس كأن يقول قد كفيتكم المؤونة فأنا الذي أرى وأنتم ما لكم إلا اتّباع ما أقوله. إذا كنت لا أريكم إلا ما أراه فما النتيجة؟ (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) يعني يقول لا يمكن أني أنا أرى لكم رأياً إلا ما أراه لنفسي ولا يمكن أن يكون رأيي إلا رشاد، قمة في الطغيان، قمة في الغرور، انخداعه بالنفس! وهو بهذا الكلام أيضاً يعرّض بكلام المؤمن وكأنه يقول أن هذا الرأي الذي رآه خارج عن رأيي وهو أيضاً خارج عن أي شيء؟ عن سبيل الرشاد ولأجل ذلك فاتبعوا قولي واسمعوا له. وهذا هو الذي جعل المؤمن وهو شعر بما يقوله فرعون شعر به فجعله ينتقل إلى درجة أعلى في الكلام فقال (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) هذا الترقي في الخطاب يبدأ في تهديدهم وتخويفهم ليس بتهديدهم بأعيانهم وإنما بذكر أحوال من سبقهم (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ) وستلحظون أن الآيات كلها يبدأ كلامه بقوله (يَا قَوْمِ) فهو يقول أنا مثلكم وواحد منكم، أشعر بشعوركم وأنتم مني وأنا منكم، يهمني ما يهمكم والخير الذي يصيبكم أنتفع به وكذلك الشر الذي يصيبكم يسوؤني أيضاً فأنا واحد منكم.
(يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ) قلنا إن الأحزاب من التحزّب وهو التجمع وهي الأمم التي تجمعت على أنبيائها تكذيباً وشكّاً وإعراضاً وضرب لهم مثالاً (مِثْلَ دَأْبِ) الدأب هو: العادة والطريقة (مِثْلَ دَأْبِ) مثل عادة (قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) دأب هذه الأمم المكذبة ما هو؟ دأب الله عز وجل في هذه الأمم المكذبة الإهلاك، دأبه عز وجل الإهلاك ولذلك قال مما يدل على أن المقصود بالدأب هنا الإهلاك أنه قال (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) يعني أهلكهم وإهلاك الله لهم ليس فيه ظلم لِمَ؟ لأن الله لا يريد ظلماً للعباد فهو يخاف عليهم مثل مصير هؤلاء الأمم السابقة التي كذّبت رسل الله فأهلكها، والآية أيضاً تدل على عدل الله عز وجل وأنه لا يُعذِّب إلا من يستحق العقوبة ولا يُظلَم عنده أحد سبحانه وبحمده. نقف عند هذا القدر ونكمل إن شاء الله في المجلس القادم هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
------------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق