السبت، 26 أكتوبر 2013

تفسير سورة طه من الآية (115) إلى نهاية السورة / محاسن التأويل


الحمدُ لله الذي بنعمتهِ تتمُّ الصالحات وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ خلق فسوى وقدّر فهدى وأخرج المرعى فجعلهُ غُثاءً أحوى ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدا عبدهُ ورسُولهُ صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين . لعل هذا هو اللقاء الأخير بالنسبةِ لسورة طه فأرجوا الله -جل وعلا- أن يوفقنا اليوم لإنهاءِ ما تبقى من آيات هذهِ السورة الكريمة .
 قال الله -جل وعلا- فيما وقفنا إليهِ (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) هذا المقطعُ من السورة يتكلمُ عن عهد اللهِ -جل وعلا- لأبينا آدم ، وأدم قبلُ أن أتكلم عن قصتهِ هنا يجبُ أن نستصحبَ ما منّ الله -جل وعلا- بهِ عليهِ وفائدةُ هذا الاستصحاب أن الإنسان أحياناً إذا رأى كلام اللهِ عن أحدٍ أنهُ وقع منهُ خلاف الأولى أو وقع منه المعصية يقع في نفسهِ شيء من غير أن لا يشعر من ذلك المذكور فسداً لهذا الباب واتباعاً لسُنّة النبي -صلى الله عليهِ وسلم- يقول (لا يقُلُ أحدٌ أنا خيرٌ من يونس بن متّى) من هذا الباب . نقول : إن آدم -عليهِ السلام- فضّلهُ الله بأمور لم يُعطِها أحدا من الخلق لا نبينا -صلى الله عليهِ وسلم- ولا غيره هذهِ الأمور منها:
- أن الله -جل وعلا- خلقهُ بيده وهذهِ خصيصة لهُ من دونِ سائرِ بني آدم ، ونفخ فيهِ من روحهِ ، وأسجد له ملائكته وعلّمه الأسماء كُلها وهي أربعُ خصالٍ لم تُعطَ لأحدٍ غيرهِ -عليه الصلاة والسلام- هذهِ واحدة .
 - الأمر الثاني : أن وجهه -وهذا مرّ معنا- وجه آدم مُنتهى الكمال البشري وقُلنا إن يُوسُف أُعطي شطر الحُسن أي شطر الحُسن مِن مَن ؟ من آدم -عليهِ السلام- شطر حُسن آدم . هذا آدمُ -عليه السلام- قال الله (وَلَقَدْ عَهِدْنَا) كلمة (عَهِدْنَا) "عهد" لفظ يُستخدم في التعظيم والتفخيم ولا أُحبُ أن يقوله الفرد من الناس عهدتُ إلى فُلان أن يفعل كذا وإن كان مُستخدماً في اصطلاحات المؤرخين لكن أرى أن لا يُستخدم وأنهُ يتعلّق بذات الله لكني لا أجزمُ أنهُ لا يجوز . والله يقول (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ) أي من قبل موسى ، من قبل خبرهِ ، من قبل هذا كُلهِ الذي قصصناهُ عليك (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) عبّر الله هنا بالنسيان وقال بعد آيات (وَعَصَى) وهذا أشكل على العُلماء هل تُنسب المعصية لآدم أو لا تُنسب مع أن الله صرّح بها ؟ لكنني أقول فيه كلام لابن العربي في أحكام القرآن جيدٌ عظيم فحواهُ أراد أن يقول ذلك العالم الجليل " أن كلام الله عن آدم غيرُ كلامنا نحنُ عن آدم فكلامُ الله -جل وعلا- عتابٌ فيهِ شيءُ من التثريب لكن خطابُ ربٍ لعبدهِ ،أما نحن أبناء لآدم فنتكلمُ عن أبينا النبي آدم بأدب " ونبوةُ آدم ثابتة قيل يا رسول الله أكان آدمُ نبيا قال (نعم نبيٌ مُكلّم ..) الحديثُ صحيح . الله هنا يقول (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)  ما العهدُ الذي عهدهُ الله لآدم ؟ بالاتفاق أن لا يأكُل من الشجرة .
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى) امتنع كِبراً ، والخطايا -يا بُني وقد مرّ معك- اُصولها ثلاث، أصول كُلُ خطيئة ثلاث : الكِبر والحسد والحرص ، فوالله ما عصى اللهَ أحد إلا من باب هذهِ الثلاث ، من واحدة من هذهِ الثلاث الكِبر، أو الحسد ، أو الحرص .فالحِرص بابٌ للشهوات ، والحسد بابٌ للبغي ، والكِبر بابٌ للبغي والشهوات وبابٌ لردّ ما جاء الله -جل وعلا- بهِ ، ولا يُعصى الله إلا بإحدى هذهِ الثلاث ، كلُ المعاصي تندرج في هذا الباب .
 يقولُ ربُنا : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى* فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا) أي إبليس (عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ) ولم يقُل ولزوجتك والأفصح أن يُقال في المرأة زوج ، زوجه، لا يُقال زوجتهُ يُقال زوجه ، (إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا) آدم وحواء (مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) وقول الله من الجنة إحدى الأدلة على أن المقصودُ بها جنةُ عدن لأنهُ لا يستقرُّ في الذهنِ هُنا إلا جنةُ عدن (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) وجاءت (فَتَشْقَى) بلفظ الإفراد وهذا يدلُ على أن المرأة تبعٌ للزوج وأن الإنسان -الرجُل- هو المُكلّف بالشقي . ومعنى الآية : أن الجنة يا آدم كُفيت أن تعمل فيها وتكُد على أهلك فخُروجك منها سيدفعُك إلى الكد والسعي في طلب الرزق وقوتِ أبنائك وأهلك فلا يُخرجنّك الشيطانُ منها فتشقى ويُصبح تبحث -كما يُقال عرق الجبين- وتذهبُ وتكُد ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حق جُليبيب (اللهم لا تجعل عيشهُما كدا وصُبّ عليهم الخير صبا) والمقصود لم يقل الله فتشقيا لأن الرجُل هو الأصلُ في الكد (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) .
قال الله : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى) شجرة الخُلد هذا باب الحرص . قبلها قال الله -جل وعلا- يُرغِّبُ آدم في الجنة (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) [واضح] (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) قال الله بعدها (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ)
 نقف عند هذهِ (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) نفُك المُفردات ، "الجوع" معروف عدم الأكل الأصل ماذا يُقابل الجوع الأصل ماذا ؟ يعني قرين لهُ العطش يُقال فلانٌ جائع وفُلان عطشان (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى) لم يقُل اللهِ ولا عدمُ الظمأ ، أتى بالعُري وقال (وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا) تعطش (وَلا تَضْحَى) ضحي الإنسان بمعنى برز لشمس ولهذا يُقال لوقت ظهور الشمس واشتدادها ضُحىً . هذا عند البلاغيين يا أُخي يُسمّى تطابُق تضاد ، يُسمّى تطابُق تضاد والمعنى أنهم يقولون : إن الله عدل عن قول أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ، ما قال لا تجوع فيها ولا تظمأ ، ولم يقُل تعرى مُقابل الظهور في الشمس قالوا لأن العُري جوعُ الظاهر وعدمُ الأكل جوع الباطن ، وعدمُ الشُرب حرُّ الداخل والظهور لشمس حرُّ الظاهر [ واضح] ، الجوع -عدمُ الأكل- جوع الباطن ، عدمُ الأكل جوع الباطن ، والعُري جوع الظاهر ، وعدمُ الماء -الذي هو الظمأ-حرُّ الداخل والظهور للشمس حرُّ الظاهر فهذا يُسمّى تطابُق تضاد . وأهلُ اللُغةِ إذا ذكروا هذا في القرآن يُعرّجون على بيتين للمُتنبي ، المُتنبي شاعرٌ عباسي كان مشهوراً بالإغراق في الغرور والكِبر -عياذاً بالله- وهو القائلُ عن نفسهِ :
 أيَّ مَحَلٍّ أرْتَقي ** أيَّ عَظيمٍ أتّقي
وَكُلّ مَا قَدْ خَلَقَ اللّـ   **   ـهُ وَما لَمْ يُخْلَقِ
مُحْتَقَرٌ في هِمّتي **  كَشَعْرَةٍ في مَفْرِقي ِ
ومن دوّن لهُ سيرة -ولا أتحمّلُ وزر نقل- يقول إنهُ لم يسجُد لله قط لا يُعرف لهُ أنهُ كان يُصلي . هذا الرجُل كانت فيهِ أنفة عجيبة فكان يُنشد شعرُه بيني يدي سيف الدولة الحمداني وهو جالس وودّعهُ بقصيدة بعد أن أشتد عليهِ خُصومهُ:
 وا حرّ قلباه ممّن قلبهُ شبمُ ** ومن بجسمي وحالي عندهُ سقمُ
 مالي أُكتّم حُباً قد برى جسدي ** وتدعي حُب سيف الدولةِ الأُممُ
 إن كان يجمعُنا حُبٌ لغُرّتهِ *** فليت أن بقدرِ الحبُ نقتسمُ
الآن هذا يتكلم بين يدي أمير فبدلاً أن يصرف الكلام إلى مدح الأمير صرفهُ إلى نفسهِ :
 أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ** وأسمعت كلماتي من بهِ صممُ
 أنام ملأ جفوني عن شواردها ** ويسهر الخلقُ جرّها ويختصمُ الخيل
 والليل والبيداء تعرفُني ** والسيفُ والرمحُ والقرطاس والقلمُ
 ما أبعد العيب و النُقصان عن شرفي ** أنا الثُريا و ذان الشيبُ والهرمُ
هذهِ جُملة أبيات قالها بين يدي الأمير ترك حلب -ديار بني حمدان- وأتجه إلى مصر أيام حُكُم كافور الإخشيدي ، كان كافور فطناً سياسياً هذهِ الفطنة جعلت كافور يُقرّب المُتنبي بالقدر الذي يستفيد منه وكان المُتنبي يُلحّ عليهِ -يطلبُ الولاية- فلا يُعطيهِ فلمّا سأل بعضُ خواص كافور عن سبب منعهِ الولاية للمُتنبي قال: هذا أنظُروا ماذا يراه في نفسهِ وهو شاعر فكيف لو أُعطي ولاية ماذا سيفعل ؟ سيطغى. والمُتنبي أصلاً قال:
 ومن يجعل الضرغام بازاً لصيدهِ ** تصيّدهُ الضرغامُ فيما تصيّد
والعاقلُ لا يستخدمُ من هو أعظم منهِ ، لأنهُ قد ينقلبُ عليك فيأكلك ،،
 نعود للقضية ما دخلُ المُتنبي بالآيات؟ قُلنا هذا التضاد في التطابقُ ، وقف المُتنبي ذات يومٍ في حربٍ تُسمّى الحدثُ الحمراء لسيف الدولة الحمداني انتصر بها فقال قصيدهُ الشهيرة التي مطلعُها :
 على قدرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ ** وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
 وتعظمُ في عين الصغير صغارُها ** وتصغر في عين العظيم العظائمُ
حتى وصل إلى بيت يمدح ممدوحهُ قال:
 وقفت وما في الموتِ شكٌ لواقفٍ ** كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
 تمرُّ بك الأبطال كُلمى هزيمةً ** ووجهك وضاحٌ وثغرُك باسمٌ
فقالوا إن الحمداني استدرك على المُتنبي هذا البيت فأفهمه المُتنبي بمُرادهِ الذي هو بين أيدينا الآن بما يُسمّى تطابُق التضاد فجعل كُل مصرعي بيتٍ بما يُلائمهُ وهذا مأخُوذٌ من نسق القرآن حتى يُعلم أن القرآن في المرتبة الأعلى من الفصاحة وما جاء أحدٌ بأسلوبٍ ولن يأتي -كما قال الله- يرقى على أسلوبِ القرآن فكُلّهم أصلاً مُغترفٌ من أسلوب القرآن أنكر ذلك أو أعترف.
 نعود إلى ما نحنُ فيهِ (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى*فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) هذا حرص لأن كُل ثمار الجنة أباحها الله -جل وعلا- لآدم بقيت شجرة فدخل إبليس على أبينا آدم من باب الحرص (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى) طبعاً وافق لأن ما بعدها يدُلّ عليها قال الله (فَأَكَلا) ألف التثنية آدم وحواء (فَأَكَلا مِنْهَا)  أي من الشجرة (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) وتُسمّى العورة سوءة لأنهُ يسوءُ المرءَ إظهارها ، الإنسان العاقل لا يرضى بظهُورها (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا) طفقا أي بمعنى بداء ، من أفعال الشروع عند النحويين تعملُ عمل كان إلا أنهُ يُشترطُ في خبرها أن يكون جُملةً فعليهِ (يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ). قال الله (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) فهذا نص قال بعضُهم : خلاف الأولى ، خرّجهُ بعضُهم: قبل أن يُنبأ ، قال بعضُهم: صغائر تقع من الأنبياء ، الصغائر بكُلٍ قال العُلماء -وأنا أُجنّب نفسي- لكن أقول : إذا تكلّمنا عن الأنبياء نتكلم بنفس طريقة القرآن ولا نُقحمُ أنفُسنا في الكلام عن أنبياء الله -جل وعلا- إلا بما حكاهُ الله -جل وعلا- عنهم تأدُباً مع أبينا آدم -عليه الصلاة والسلام- ومع غيرهِ من إخوانهِ وأبنائهِ من الأنبياء .
 نعود فنقول قال الله (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) ثُمّ قال الله (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى* قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) هنا لا تفهم أن الأمر بالهبوط عاقبة للتوبة وإنّما قدّم الله التوبة حتى يُبين لك لا تسترسل فيما بعد ترى هذا النبي تاب الله عليهِ [واضح] ، فقال (اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا)  ليست مُفرّعة على التوبة مُفرّعة على المعصية لكنّ جعل الله التوبة قبلها والاجتباء والهداية حتى يُريحُك في تلقي الخبر وأنّ هذا النبي الصالح تاب الله عليهِ . كمن تُريدُ أن تُخبرهُ بأن قريباً لهُ أصابهُ مكروه فقبل أن تُخبرهُ أن ابنهُ دهمتهُ سيارة -مثلاً- قُل لهُ ترى الابن بخير وعافية ولله الحمد الآن ثُمّ ممكن أن تقُصّ عليهِ كيف دهمتهُ السيارة لكن لا تبدأ بالأول فإن هذا يجعله في رُعب ينتظرُ النتيجة . فأسلوبُ القرآن قدّم النتيجة الله يقول لنبيهِ (عَفَا اللَّهُ عَنكَ) ثُمّ أعطاهُ العتاب (لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) لكن لا تخشى من هذا العتاب فقد قدّمنا (عَفَا اللَّهُ عَنكَ) . هنا (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) فرفع الله مقامه وغفر الله خطيئتهُ وقبِل الله توبته . لكن قال بعدها : (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى*وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)  ضيقاً في العيش يكونُ في القبر ، يكونُ في الحياة الدُنيا لا يشعرُ بلذة ما هو فيهِ ولو كثرُت أمواله وأولادُهُ ، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا) وقد قال الله أنهم يُحشرون عُمياً وصُماً وبُكما (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا) بتركها (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) بأن تُترك وإلا النسيان لا يجوزُ على الله لكن هذا يُسمّى عند البلاغيين مُشاكله ، (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى*وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) وهذهِ ظاهرةُ المعنى مرّت معنا كثيرا .
 ثُمّ أمر الله بالتدبُر فيما سبق: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ)  الخطابُ في المقام الأول لكُفّار قُريش (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) يقول الله عن قوم لوطٍ وحِجر صالح (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ) واضحة ، وقال (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ) ما زالت أثار باقية تدلُ على أصحابها حتى يتعظ الخلق وحتى يتنبّه من كتب الله -جل وعلا- لهُ النجاة (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) وقد مرّ معنا قبل لقاءين أو أكثر أن كلمة "أُولي النُهى" لم ترد في القرآن إلا مرتين كلاهُما في سورةِ طه هذا موضع والموضعُ الذي قبله (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) ذكر الله -جل وعلا- إنزال السماء والمطر وأخبر أن في ذالك آيات لأُولي النُهى وهنا تكرّر نفس المعنى ، وأُولي النُهى أهل العقول وهذا يدلُ على أن الإسلام عني كثيراً بالعقل البشري ، ومن أعظم الدلائل على عناية الإسلام بالعقل أن الله -جل وعلا- ذكر العقل مُغيباً ، ومؤقتاً ، ومُغيباً تغييباً جُزئياً .فالمُغيب كامل يُسمّى مجنون ، والمُغيب عارض نائم ، والمُغيب مؤقت الصغير لم يصل عقلهُ إلى النُضج ، مُغيب كامل هذا المجنون ،، ومُغيب بعارض هذا النائم ،، ومُغيب عقلهُ مؤقتاً هذا الصغير ، وفي كلا الثلاث الأحوال رفع الله قلم التكليف ، إذاً ما مناطُ التكليف؟ العقل، والعقلُ أصلاً يدلُ على وجود الله لكن لا تقوم الحُجة بالعقل وحده .
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) ثُمّ قال الله -جل وعلا- (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) التسبيح هنا الأظهر أنهُ بمعنى الصلاة وقد ذكر اللهُ في هذهِ الآية المواقيت الخمس (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) الصبر قرين الصلاة في كلام الله (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ، (أرحنا بها يا بلال) عند المصائب ، (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) من تكذيبك ورد رسالتك وقدحهِم في إلهك وزعمهِم أن الأصنام تنفع وتضُر جُملة ما قالوهُ .
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) الصلاة ، متى؟ (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهي صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)
صلاة العصر (وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ) صلاةُ العشاء (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) للنهار طرفان بعد زوال الشمس عندما تتوسط في كبد السماء ، وعندما تجب وتسقُط -وقت الغروب- ، فالأُولى يتعلّقُ بها وقت صلاة الظُهر ووقت سُقُوطها يتعلقُ بهِ صلاة المغرب .
 فإن قال قائل كيف عبّر الله بأطراف ولم يُعبّر بطرفي ؟ قُلنا إن هذا أسلوبٌ عربيٌ معروف وإنّ العرب إذا أمنت اللبس تُعبّرُ بالجمعِ عن الإفراد أو عن التثنية إذا أُمن اللبس كما في هذهِ الآية ونظيرهُ قول الله -جل وعلا- (إِن تَتُوبَا) بالتثنية (إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) جمعها (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) فجمع قلوب وليس لعائشة وحفصة إلا كلاهما لها قلب لهما قلبان لكنّ هذا أسلوبٌ عربي . ولهذا نقول إن من أهم الطرائق إلى معرفة كلام الله معرفة أساليب العرب في كلامها .
 قال الله -جل وعلا- (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) هذه (لَعَلَّكَ تَرْضَى) يحسنُ الوقوف عندها والمعنى : أن هذهِ الصلوات سببٌ في رضوان الله عنك فإذا رضي الله عنك أرضاك. ولهذا قال بعضُ أهل الفضل : "ليس الشأن في أن نُحب ربُنا فهذا حقٌ له ولكنّ الغاية والمطلب أن يُحبّنا ربُنا جل جلالهُ" بلغنا الله وإياكُم ذالك (لَعَلَّكَ تَرْضَى).
 ثُمّ أدب الله (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) هذهِ الآية تُبينُ أن من أعظم ما يحولُ بين العبدِ وبين ربهِ النظر في ملذّات الدُنيا ، وهذهِ الدُنيا من حقارتها على الله أنهُ لم يأذن بالمعصية إلا فيها ، من حقارتها على الله أنهُ لم يأذن بالمعصية إلا فيها ولو كانت تزنُ عند الله -جل وعلا- جناح بعوضةٍ لما سقى منها كافراً شربة ماء ، وهي على اسمها دُنيا أي نازلة والتعلّقُ بها تعلّقاً كاملاً وجعلها في القلب من أعظم ما يحول ما بين العبد وما بين ما يُريده عند الله من الشرف العظيم والجنة والمآل الكريم ، وقد حمى الله -جل وعلا- أنبياءه ورُسُله منها فمن أعطاهُ اللهُ منها كسُليمان وداود -عليهما السلام- جعلها لهُما عوناً على طاعتهِ كأصحاب المال والثراء من أصحاب نبينا -صلى الله عليه وسلم- لكنّها في الجُملة لا ينبغي أن يستقرّ محبتُها في القلب ، ونبيُنا -عليه الصلاة والسلام- خُيّر ما بين أن يكون نبياً ملِكا أو أن يكون نبياً عبدا فاختار الثانية واختياره للثانية يعني أنهُ سيُبتلى فيلتزم بها فلمّا كانت تأتيهِ الغنائم لم يكُن لهُ منها حظٌ ولا نصيب -صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ- إلا بقدرِ ما يقوتُ بهِ أهلُهُ وإذا جلس يقول (اجلس كما يجلس العبد) ويأكل يأخُذُ الذراع فينهسُها نهساً فعل من هو مُتشوقٌ إليها لا من هو متعود عليها ، ويدخُلُ عليهِ عُمر وقد أثّر الحصير فيهِ فيحزنُ شفقةً عليهِ فيذكرُ كسرى وقيصر وماهُما فيهِ فيقولُ (أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب أُولئك أقوامٌ عُجّلت لهُم طيّباتهُم في الحياة الدُنيا) . والتعلّقُ بالدُنيا يحولُ بين المرء وبين حتى معالي الأمور لأن من يرومُ مجداً لا ينبغي لهُ أن يتعلّقُ بالدُنيا لأن التعلّقُ بالدُنيا يُورث أمرين : يُورث الجُبن ،، ويُرث الحِرص وهو الطمع ، ومن كان حريصاً أو جباناً لا يُمكن أن يسود
 لولا المشقةُ ساد الناس كلهُمُ ** الجود يفقر والإقدام قتّالُ
 لكن من طلب معالي الأمور لابُد أن ينزع الدُنيا من نفسهِ ، يجعلُها مطية لما يُريد لا يجعلُها في ذاتها غاية وانظُر لمن عبد الدينار والدرهم وتعلّق بهما كيف أحولهُما وانخفاض سوق الأسهُم في المال في الزمن القريب من لقائنا هذا أكبر دليل على تعلّقُ فئامٍ كثيرٍ بالدُنيا ، صحيحٌ أن الإنسان لا يتحملُ الخسارة إذا وقعت ، لا يُلام الناس يعني لوماً وعتباُ قاسيا لكن لا ينبغي للعاقل أن يتعلّق بها تعلُّق مَن -والعياذُ بالله- يصلُ في مراحل حياتهِ إلى أن الرزق لهُ طريقٌ واحد والله يُعلّم عبادهُ ويُؤدبهُم ويقول (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) ومن عرف الله -جل وعلا- حق المعرفة علم أن أسباب الرزق والعطاء ليست أبداً محصورةً في طريقٍ واحد لكنّها من رازقٍ واحدٍ هو الله فاللهُ يقول لنبيهِ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) وهذا يلزمُ من خلالهِ أن لا يُقلّب الإنسان طرفهُ كثيراً في متاعِ أهل الحياة الدُنيا قدر الإمكان (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ولماذا قال اللهُ زهرة ؟ لأن الزهرة يراها السامعون التالون للقرآن فيرون أنها ما تلبث أن تظهر حتى قليلاً ثُمّ تذبُل وتنتهي . وقد قال بعضُ الصالحين : " إنما الدُنيا زهرةٌ حائلةٌ ونعمةٌ زائلة " إنما الدُنيا زهرةٌ حائلة يعني تحولُ إلى ذوبان وذبول ونعمةٌ زائلة وهذا أمرٌ مُشاهدٌ محسوس.
 (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) ولا ريب أن الرزق كُلهُ من الله لكنّ الإضافة هُنا إضافة تشريف والمقصودُ بـ (رِزْقُ رَبِّكَ)  أن الرزق قسمان :
/ رزقٌ لأهل الكُفر وهو من الله لكن لا يُضافُ إلى الله إضافة تشريف لماذا؟ لأنهُم يشوبونهُ بطرائق مُحرّمة ، أهلُ الكُفر والفجورِ والمعاصي يشوبون رزقهُم بطرائق مُحرّمة فلا يُنسبُ إلى الله .
/ وأهلُ الصلاح وفي مُقدّمتهم نبيُنا -صلى الله عليهِ وسلم- إنّما رزقهُ مُباحاً حلالاً طيبا فلذلك أُضَيف إضافة تشريفٍ إلى الله (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) فبعد أن طمأن الله -جل وعلا- نبيهُ على الرزق وأن ما كان لك سيأتيك على ضعفك وما لم يكُن لك لن تنالهُ بقوتك قال لهُ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) والاصطبار: حبسُ النفس على شيءٍ مُعين . ومن أعظم ما يُمكن أن تراهُ عيناك شخصٌ قد أحدودب ظهرُهُ وظهر الشيب في مفرقهِ يتكأُ على عصاه يطوفُ في حيهِ وفي مقّر سكنهِ يأمُر أهلهُ بالصلاة هذا المنظر إذا رأيتهُ يفيءُ إلى ذهنك قول الله -جل وعلا- عن نبي الله إسماعيل (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) وقد كان هذا المنظرُ تراهُ كثيراً في الأحياء القديمة وفي المشايخ الكبار سنّاً ولو يكُون شيخ سناً ليس شيخ علم تراه يُذكّر من حولهُ بالصلاة في غدوهِ ورواحهِ وهذا فيهِ دلالة وأمارة على القُرب من الرب تبارك وتعالى .
(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) وقولهُ -جل وعلا- (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أن الصلاة تحتاجُ إلى نوعٍ من المُصابرة ولهذا قال الله (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) نقول (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)  نحنُ نسألُك العبادة كلّفناك بأن تعبُدنا ووعدناك بأن نرزُقك فلا تنشغل بما وعدناك فيهِ عمّا طلبنا منك .
 أُعيد الله -جل وعلا- وعد عبادهُ الرزق وطلب منهُم العبادة فلا ينشغلوا بما وعدهم عمّا طلبهُم وإنّما أنشغل بما يُعينك على آخرتك وهي العبادة عمّا تكفّل الله جل وعلا لك بهِ . ولا يعني هذا أن الإنسان قعيداً في بيتهِ لكن إذا يسعى يسعى بقدر وإذا أُعطي من الدُنيا لا ينبغي أن تقع في قلبهِ موقعاً مُتأصلاً جداً يُخرجهُ عن طاعة الله جل وعلا . 
قال الله -جل وعلا- : (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) عاقبةُ كُل شيءٍ مآلُه لكنّها تُذكر في كلام الله في الغالب في الخير ومعنى (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) أي أن التقوى سبيلٌ للعاقبة الحسنة ومعنى قول الله (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) أي أن التقوى سبيلٌ وطريقٌ للعاقبة الحسنة .
ثُمّ قال الله -جل وعلا- : (وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ) "لولا" هنا بمعنى الحظ وليست امتناعٌ لوجود معنى "لولا": هلاّ ، وهذا قالهُ الكُفّار -عياذاً بالله- كأنهُ لم يكفيهم القرآن ولهذا قال الله (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ) والمقصود: أنهم يقولون نُريدُ بيّنة ، فالله -جل وعلا- يقول (وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى) ما هو الذي فيهِ بينة ما في الصُحف الأولى؟ القرآن ، فالله -جل وعلا- جعل القرآن مُهيمناً على الكُتب التي سبقته فكُلها أخبرت بنزولهِ والقرآن حوى مُجملها وما دلّت عليهِ وما أرشدت إليهِ وهو المُهيمنُ عليها فإذا كان لم يكفيهِم القرآن لن يكفيهم شيئاً أبداً وإنما يقولون هذا عنتا بل القرآنُ هو خاتمُ الكُتب السماوية المُنزّلة وهو المُهيمنُ عليها نعتهُ اللهُ -جل وعلا- بقولهِ (أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى) الصُحف الأولى: ما سبق من التوراة والإنجيل والزبور وبينتُها والحجة المُهيمن عليها هو القرآن .
 ثُمّ قال الله (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) هذهِ الآية تُبين أن الحُجة في بعث الرُسُل وأنهُ لولا أن الله أرسل الرُسُل وأنزل الكُتب لكان للناس حُجة على ربهم ولهذا قطع الله المعاذير وألقم الله -جل وعلا- الحُجج ما ألقمها بإرسالهِ للرُسُل وإنزالهِ للكُتب (لقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) ذكر الرُسُل قال الله -جل وعلا- (مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىفطالبوا بالرُسُل قبل أن يقع عليهم الذل والخزي وقد أرسل الله الرُسُل فلم يبقَ لهؤلاء القوم أيُ حُجة .
 ثُمّ قال الله على لسان نبيهِ يختمُ هذهِ السورة المٌباركة (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) والآية من أعظم دلائل التوحيد لماذا من أعظم دلائل التوحيد؟ فالنبيُ -عليه الصلاة والسلام- جعل نفسهُ ومن ءامن معه مثل هؤلاء في الانتظار (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ) أنا وأنتُم ننتظر ، أنا وأنتُم مُتحفزٌ للنهاية ، أنا وأنتُم مُترقبٌ لما سيكون ولا يترقبُ لما سيكون ويتحفزُ لما سيقع إلا من كان لا يملُك من الأمرِ شيئاً و إلا لو كان يملكُ من الأمر شيئاً لقضاهُ وانتهى ، لقضاهُ وانتهى . تدخُلُ داراً أنت ورفقتُك وليس مع أحدٍ منكُم مفتاح فكُلكُم مُشتركون تنتظرون صاحب المفتاح ليُدخلكُم ولو كان مع أحدكُم مفتاحا لفتح الباب وانتهى الأمر. فهذا النبيُ يقول أنا عبدٌ مثلكُم ، أنا بشرٌ مثلكُم ، أنا أنتظر كما تنتظرون (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ) حتى يبقى الكمال المُطلق للرب -جل جلالهُ- (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) فإذا انتظرتم وانتظرنا 
(فَسَتَعْلَمُونَ) يقيناً (مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) لا يُفهم أن أصحاب الصراط السوي مُغاير لمن أهتدى ، الله لا يتكلّم عن فريقين ، يتكلّمُ عن طريقٍ وسالكيهِ .
أُعيد قول الله -جل وعلا- (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) لا يتكلّمُ الله -جل وعلا- عن فريقين إنّما يتكلمُ عن طريقٍ وسالكين لذالك الطريق. والمعنى : أحياناً يُوجد طريقٌ سالكٌ صحيحٌ مُستقيم ولا يوجد سالكون لهُ فالله -جل وعلا- يقولُ لهؤلاء الكُفّار على لسان نبيهِ ستعلمون الطريق السوي الحقيقي الذي هو طريقُ الإيمان والسالكين لهذا الطريق الحقيقي الذين هم أهلُ الإيمان فمن يُعبّر بها للعاقل وإنّما كُسرت هُنا لالتقاء الساكنين (وَمَنِ اهْتَدَى) كُسرت لالتقاء الساكنين لأن الهمزة التي بعدُها همزة وصل لا تُنطق والهاء ساكنة .
 فنعود فنقول الله -جل وعلا- لا يتحدثُ عن فريقين وإنما يتحدثُ عن طريقٍ ومن سلكهُ . قد يأتي في الأنفُس -وهذا من ربط سور القرآن بعضُها ببعض- قد يأتي في النفس الذين يقرأون القرآن متى ينتهي هذا التربُص ، إلى متى هذا الانتظار ، متى سيكون ، أسئلة ترد ( (فَسَتَعْلَمُونَ) متى نعلم ، ما السورة التي بعد طه ؟ ــ أجيبواـ الأنبياء . ما فاتحةُ الأنبياء ؟ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) جواب للأخير هنا ، ليس ببعيد هذا التربُص ، ليس ببعيد هذا التحفُّز ولهذا قال الله بعدها في الأنبياء (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) وهذا من التناسُب مابين ما بين سور القرآن الكريم تناسُب ما بين سور القرآن الكريم .
هذا جُملة ما يُمكن أن يُقال إجمالاً عن هذهِ السورة المُباركة.
 جُملة الفوائدِ فيها : 
/ أن يُعلم أن القرآن مُعجزٌ في ذاتهِ وهذا الإعجاز ذكرهُ الله -جل وعلا- هنا تشويقاً في ثلاث مراحل :
- ذكرهُ في أول السورة (طه*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) 
- وذكرهُ قبل النهايات (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)
- وذكرهُ هنا (أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)
 في الثلاث المواضع ذكر الله -جل وعلا- القرآن ليُبين رفيع قدرهِ وعظيم شرفهِ وقد قال في نصّ شرف القرآن (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) أي لشرفٌ لك ولقومك وسوف تُسألون عنه ِ . هذهِ واحدة .
 / ذكر الله -جل وعلا- في هذهِ السورة إجمالاً خبر كليمه موسى ونبيه آدم -عليهما الصلاة والسلام- ولم يذكُر الله في هذهِ السورة قصّة أحدٍ من الأنبياء غيرِ موسى وغيرِ آدم والعجيب أنهُ ليس في القرآن سورة اسمُها سورة موسى رغم أن موسى -عليهِ السلام- ذُكر في أكثر من موضع وهذا إن صحّ التعبير يدخُل في ما قُلناه سابقاً إن الله -جل وعلا- لا يُعطي أحدا كُل شيء إنما...، ذكر يونس لأنه عاتبه عتاباً شديداً فسُمّيت سورة باسم يونس [ واضح] ،، ذُكر موسى كثيراً في القرآن لكن لم تُسمَّ سورة باسمهِ -عليهِ السلام- ،، سُمّي نبيُنا -صلى الله عليه وسلم- سُميت سورة باسمه سورة مُحمد تُسمّى أحياناً سورة القتال لكن هذا يجعلك ..، طبعا إذا قُلنا طبعا تسمية القرآن هذه تسمية توقيفية مبنية على فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فهي مبنية -يعني- على أمر اللهِ من حيث الجُملة لكن عموماً ثمّة ملحوظات يقعُ عليها المرء تُبين كيف أن الله -جل وعلا- يُوازن بين عبادهِ والله يقول (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ) والمقصود أن حتى الناس لو تأملتهُم تجد من أُعطي عافية ومال يُحرم من أشياء أُخر قد لا تظهرُ لك ، ومن أُعطي قلّة مال قد يُعطى أولاد ، وقد يوجد أحدٌ عنده أموال يتمنى الولد ، وقد يُوجد مُبتلىً لكنّهُ يُعطى أُمور أُخر غير التي فيها بلاءُهُ ، وقلّما ترى عبد إلا وفيهِ أثر نعمة وأثر ابتلاء -لا نقول نقمة- يبتليهِ اللهِ -جل وعلا- بها فإن لم يُحسنِ التعامُل مع ذلك الابتلاء انقلب إلى نقمة ، وإن أحسن التعامُل انقلب إلى عافية ورفع درجات . لكن من العبد الخالص الذي أرادهُ الله ، الذي يستحق أن يفوز بجائزة (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)؟ هو من كان قلبُهُ -بصرف النظر عن مالهِ وولدهِ ومسكنهِ وجاههِ وعلّمهِ- من كان قلبهُ مُعظِّماً للهِ ، من كان قلبهُ مُعلّقاً باللهِ ، لا يوجد أحدٌ حي ما يملك قلب ، يتفاوت الناس في المال في الولد في العلم في الطول في القِصر لكن لا يوجد أحد حي لا يملكُ قلباً .
 نُريدُ من كُل من يُشاهدُنا ويسمعُنا ويقراُ دُروسنا -ونحنُ في المقام الأول يعني نتعظ- في أن الغاية من خلقنا أن تعترف قلوبنا بخالقها وتذعن لهُ وتعبدهُ وحدُه (ألا وإنّ في الجسد مُضغة إذا صلُحت صلُح الجسدُ كُله) (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فلا يوجدُ أحدٌ ساد وعندهُ ما ليس عندك ، عندهُ قلب وعندك قلب ، وهو مقام التحاكُم وموطنُ العبادةِ وهو موضع محبةُ الله وبُغضُهُ عند أهل الكُفر وطاعتهُ ومعصيتهُ عند العُصاة فكلُ الأمور مُعلّقة بمدى اتصال الخلق بالخالق وما الجوارح إلا شواهد ودلائل وقرائن على مدى اتصال القلب بالخالق .
علّمنا الله وإياكُم ما ينفعُنا ونفعنا الله وإياكُم بما علّمنا وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ وأرجوا أن يكون فيما قُلناه في سورة طه نفعاً لمن سمعنا وشاهدنا أسأل الله لنا ولكُم التوفيق وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ للهِ رب العالمين.
-----------------------------------
مصدر التفريغ مكتبة الشاملة (بتصرف)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق