السبت، 14 سبتمبر 2013

الحلقـــ الثالثة ـــة / دار السلام



الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق اﻹنسان من طين وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين أما بعد:
عنوان اللقاء لهذه الحلقة دار السلام .وقد جاء هذا اللفظ القرآني المبارك في سورتين كريمتين اﻷنعام ويونس وسنتحدث عن آية اﻷنعام قال ربنا -عز وجل- في آيتين متتابعتين (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ*لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) .
/ فأما قول الله -عز وجل- (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) "هذا" اسم الإشارة للأمر المعهود قد يكون المراد به الدِّين ، وقد يكون المراد به القرآن ، وقد يكون المراد به جملة بعثته -صلى الله عليه وسلم- ولا تعارض في هذا كله ﻷن كل أحد من هذه الثلاثة تبع للآخر فيقول رب العزة (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) "مستقيما" هنا تعرب حال ، لكن الحال عند النحويين أنواع ، وحتى تفقه اﻵية سآتي بمثال سلس يمكن أن تفهمه -إن شاء الله- ثم تطبقه على اﻵية: عندما ترى رجلا اسمه -مثلا- خالد فتقول وأنت تُخبر صاحبك : هذا خالد راكبا، فهم -أي النحاة- يعربون كلمة "راكبا" حال مبينة حال خالد ، لكن ألا يعقل بعد قليل نزل خالد من العربة وأخذ يمشي فأنت عندما تريد أن تُعرّف ذلك الرجل أو شخصا آخر بخالد ستقول هذا خالد ماشيا ، وإعراب "ماشيا" حال ، ما الذي بينته كلمة "ماشيا"؟ بينت حال خالد فهو مرة كان راكبا ومرة كان ماشيا ، ظاهر هذا؟ هذه الحال يسمونها حال مؤسسة ، حال مُبينة . 
نأتي للآية : يقول رب العزة (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) ما إعراب كلمة مستقيما؟ حال ، لكن مُحال أن تكون حالا مؤسسة مثل اﻷولى ،مُحال ، لماذا محال؟ ﻷن خالد يُعقل أن يكون مرة راكبا ومرة ماشيا ، أما صراط الله في كل أحواله لا يقبل إلا الاستقامة ، فما يمكن أن يأتي وهذا صراط ربك معوجا محال ، لا يمكن أن يكون صراط الله معوجا . واضح. فيُقال عنها حال لكن لا يقال عنها إنها حال مؤسسة مبينة ، بل يقال عنها حال مؤكدة لا تقبل الانتقال. (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فأهل الطاعة ، أهل اﻹيمان ، أهل التذكر فصّل الله -عز وجل- لهم القرآن فهم مقبلون عليه ينهلون من معينه ويردُون إليه فلذلك زكت نفوسهم ، وصلحت أعمالهم ، واستقامت طريقتهم ﻷنهم على صراط مستقيم فقال رب العزة (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) .
ثم قال (لهم) هذه "لهم" للقوم الذين تذكروا (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أهل اﻹيمان (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ) يوجد مضاف ومضاف إليه ، المضاف: دار ، المضاف إليه: السلام ، نبقى اﻵن في كلمة "السلام" ﻷن كلمة "دار" واضحة أن المراد بها الجنة بإجماع العلماء أن كلمة "دار" هنا المراد بها الجنة لكن اﻹشكال الذي اختلف العلماء فيه ما المراد بكلمة "السلام"؟ قال بعض أهل العلم : إن "السلام" هنا اسم من أسماء الله الحسنى فيصبح إن الله -عز وجل- أضاف الدار التي هي الجنة لنفسه ، أضافها لذاته العلية ، ولا ريب أن السلام اسم من أسماء الله الحسنى بنص القرآن (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) فالسلام اسم من أسماء الله ومن معانيه : أن عباده سلموا من ظلمه ، ولذلك يقول بعض الصالحين إذا دعا "اللهم يا من صدق في ميعاده وتعالى عن ظلم عباده" فالله يقول (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) فهذا منه أخذ القائل "صدق في ميعاده" ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث القدسي إن الله -عز وجل- يقول (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) فتعالى الله عن ظلم عباده ، فالسلام من معانيه : أن عباده سلموا من ظلمه ، يعني أمنوا أن يظلمهم (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) هذا قول من أقوال العلماء أن السلام اسم من أسماء الله الحسنى . فيصبح (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ) أضاف الدار إلى ذاته العلية .
 وقال آخرون : إن السلام بمعنى السلامة ، وقالوا إن السلامة تكون ظاهرة وتكون باطنة ، فأما السلامة الظاهرة: منها قول الله -عز وجل- في الحديث عن بقرة بني إسرائيل (مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا) أي لا عيب فيها. والباطن: قال الله -عز وجل- عن خليله إبراهيم (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) هذه سلامة باطن .
قالوا : وإن السلامة من اﻵفات كلها ظاهرة وباطنة لا تكون إلا في الجنة ، محال أن تكون هناك سلامة كاملة تامة إلا في الجنة فإن في الجنة -أدخلنا الله إياها وإياكم- غنى بلا فقر ، وحياة بلا موت ، وعز بلا ذل ، وحياة بلا موت ، وصحة بلا سقم ، وهذ كله لا يمكن أن يكون إلا في الجنة قال ربنا (عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هنا قال(لَهُمْ دَارُ السَّلامِ) عند من؟ عند ربهم ، اﻵن انظر إلى المعنى المراد في اﻵية : أنت لو قدر أنك اشتريت عربة حسنة ودفعت بها مالا كثيرا ثم جاءك طارئ سفر لم يجعلك تتمتع بما اشتريت ، فأخذت هذه العربة -السيارة- وأودعتها صديقا لك تعرفه وذهبت في سفرك وكلما أصابك نصب أو تعب في السفر تذكرت أنك ستعود وأنك ستركب ما اشتريت جديدا فينسيك ذالكم العناء . بالعقل ، بالفطرة ، ما الشيء الذي تخاف منه؟ تخاف أن الذي أودعته السيارة فرط فيها ، أصابها عطب ، أصابها ضياع ، أصابها شيء ، لم يستطع أن يحفظها ، هذا شيء يتردد في صدرك ويجعلك خائفا متوجسا كلما تذكرت ما دفعته فيها من مال خفت أن يكون في غيابك قد أصابها شيء من الضياع. ظاهر هذا؟
 اﻵن المسلمون -وأنتم منهم بحمد الله- عندما يصيب اﻹنسان نصب ، ظمأ ، شدة صوم ، عناء ، كدر ، نقص في اﻷموال ، نقص في اﻷنفس ، نقص في الثمرات ، ما الذي يُعزيه؟ أمله في أنه يدخل الجنة ، الهاجس الذي كان عند اﻷول عندما أودع السيارة عند صاحبه منتفي عنك، لماذا؟ ﻷنك أودعت السيارة بشرا مثلك أما الجنة فهي وديعة عند الله فلا يمكن أن يكون ذلك الذي كان يتوجس منه اﻷول واقراً في قلبك ولهذا قال الله -عز وجل- (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ) عند من؟ (عِندَ رَبِّهِمْ) فقوله (عِندَ رَبِّهِمْ) يدل على أنها مأمونة ، مضمونة إلا أن يؤتى اﻹنسان من قِبل نفسه ، مُحال أن يُؤتى من قبل الله ، لكن يؤتى اﻹنسان بمعاصيه من قِبل نفسه .
قال ربنا (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ) وهذه ولاية خاصة تتعلق بالجنة ، فحتى يشعر أولئك العباد أنهم في حاجة لله في هذا اﻷمر وفي غيره قال رب العزة (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) في هذا الشأن وفي غيره (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فالباء هنا سببية ، ومن كان الله واليه فإنه لا يضيع أبدا. إذا كان عمر بن ربيعة شاعر غزلي يريد أن يصف امرأة يعشقها فيقول أنها تعيش في بيت نعمة وأن أباها لديه مال وثراء وخدم فهي ﻷنها تعيش في بيت ثراء وخدم ونعمة لا يمكن أن تستيقظ من نومتها إلا ضحى ﻷنها لا تخدم ولا تصنع شيئا قال :
 ووالٍ كفاها كل شيء أهمها ** فليست لشيء آخر الليل تسهر
 من الذي يسهر؟ -على اﻷقل في الزمن اﻷول- من لديه هم ، لكن هو يقول عن معشوقته "ووال" يعني لها وال ، سيد ، أب ، عم ، خال ، متربية في حجره
 ووال كفاها كل شيء أهمها ** فليست لشيء آخر الليل تسهر
 هو يتكلم عن تمام حال معشوقته ، هذا يتكلم عن امرأة تشبب بها ، تغزل بها فرأى أن قدرة واليها المالية والمعنوية جعلتها تعيش في رغد من العيش فكيف -ولله المثل اﻷعلى- من يتولاه الله ؟! والله لا يمكن أن يضيع طرفة عين ، وﻷمر ما علَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- سِبطه الحسن وهو من أحب الناس إليه أنه إذا قام في الليل أن يقول في قنوته (اللهم اهدني في من هديت وعافني قي من عافيت وتولني في من توليت) ولو أنك -وأنت تفعل ذلك إن شاء الله- إذا قمت بين يدي الله تستحضر المعنى العظيم لهذا الدعاء وأنت تقول (اللهم اهدني في من هديت وعافني قي من عافيت وتولني في من توليت) إذا كنت على يقين بأن رب العالمين سيتولاك إذا أصبحت ستصبح وقد انشرح صدرك واستضاء طريقك ومهما رأيت من الكُرب فإنك تعلم أن لك ربا يحميك منها ويقيك إياها ويضاعف لك اﻷجر والمثوبة إن ابتليت بها فقال ربنا -عز وجل- هنا (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وقلنا إن الباء سببية والمعنى أن أعمالهم الصالحة ، الزاكية كانت سببا في ولاية ربنا -تبارك وتعالى- لهم .
 يوجد في اﻷرض مدينة يقال لها دار السلام فما هي؟ بغداد ، أبو جعفر المنصور لما بنى بغداد أسماها دار السلام ، وإنما بغداد ليس اسما عربيا وإنما هو مأخوذ من كتابات وجدت في أيام حامورابي عندما كان يحكم العراق فبُنيت دار السلام.على أنقاض بغداد القديمة فعلب بعد ذلك اسم بغداد عليها ، وإلا أنت لو ذهبت في معاجم اللغة ما معنى كلمة بغداد ، ليس لها معنى ﻷنها ليست عربية أصلا ، لكن المنصور أبو جعفر الخليفة العباسي عندما بناها سماها دار السلام واﻻسم يرتبط بالمُسمى ، لم يمت خليفة عباسي في بغداد ، إذا خرجوا منها ماتوا أبو العباس السفاح -طبعا كان قبل بغداد- أبو جعفر المنصور ، والمهدي والهادي ، وهارون ، والأمين والمأمون ، والمعتصم ، هؤلاء الثمانية اﻷقوياء من بني العباس كلهم ماتوا بعدما خرجوا من بغداد لكن وهم في بغداد لم يمت أي خليفة عباسي في بغداد ، أكتسبت اسما من مُسماها ، سمّاها المنصور دار السلام وجعل لها أربعة أبواب باب الكوفة ، وباب البصرة ، وباب الشام ، وباب خراسان ، باب الكوفة تلقاء الكوفة ، باب البصرة تلقاء البصرة ، وباب الشام تلقاء الشام ، وباب خراسان تلقاء خراسان -عقلا- لكنه -أي المنصور- سمى باب خراسان إضافة إلى اسمه باب خراسان سماه باب الدولة ﻷن دولة بني عباس أصلا قامت من جهة خراسان ،عندما خرجت الرايات السود على يد أبي مسلم الخرساني خرجت من خراسان فأسقطت الدولة اﻷموية وقامت الدولة العباسية فسمى الباب الذي هو تلقاء خراسان باب الدولة ﻷن دولة بني العباس ابتدئت ، بنيت من أرض خراسان على يد أبي مسلم الخولاني.
نستطرد في قضية اﻹسم والمسمى ونعيد شيئا ربما قلناه في بعض الدروس .
 قلنا الارتباط الوثيق بين الاسم والمسمى : حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه وأرضاه- قتله وحشي . أنت عندما تقول أشعر بوحشة مامعنى وحشة؟ عدم أنس .يعني عندما تكون منفردا يشعر بوحشة لكن اﻹنسان عندما يكون بين أهله لا يشعر بوحشة .
 إذا ما اسمه اﻵن؟ وحشي ، قتل من؟ قتل حمزة ، لما أسلم قال له صلى الله عليه وسلم: أوحشي؟ قال : نعم ، قال : كيف قتلت حمزة؟ فأخذ يذكر كيف قتل حمزة ، ماذا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال : (غرب وجهك عني) ، أي لا أريد أن أراك ، ﻻ أستطيع أن أرى قاتل حمزة ، حمزة عمي وأخي فلا أستطيع أن أراك بشريا ، فأصبح وحشي يعيش في المدينة والنبي -صلى الله عليه وسلم- حي ولا يستطيع أن يجلس معه ، بالله أي وحشة أعظم من هذه؟! النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وهذا يعيش في زمنه ، في حياته ، في مدينته ، ويصلي في مسجده ولا يستطيع أن يجلس معه ، تأمل الوحشة التي في قلب وحشي وهو لا يقدر أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، اسمه ماذا؟ وحشي ، كتب الله هذا من اﻷزل .
 أبو لهب كان وسيما وجنتيه فيهما حمرة ، كان باﻹمكان أن يسمونه أبو النور ، أبو الضياء ، أبو اﻹشراق ، سموه أبو لهب فأرداه الله باسمه (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) وإن كان هذا اﻷمر ليس على إطلاقه لكن هناك ارتباط بين الاسم والمسمى . أحسن الله ظاهرنا وباطننا ، وظاهركم وباطنكم وأسماءنا وأعمالنا وجعلنا من الموفقين أينما كنا وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق