الخميس، 25 يوليو 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ 15 / مع قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً..)


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن وآلاه .
هذا اللقاء في الجزء الخامس عشر من كتاب رب العالمين -جل جلاله- ولنا معه كما لنا مع غيره وقفات ثلاث .
الوقفة الأولى : مع قول الله -جل وعلا- (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)  وهي صدر سورة الإسراء.
 القرآن أفتتحت سوره بطرائق عدِّة منها:
- القسم : (وَالْفَجْرِ) ،  (وَاللَّيْلِ) ، (وَالضُّحَى) 
- ومنها الدُعا: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) ، (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ)
- ومنها الشرط : (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا) ، (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ) ، (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ)
- ومنها بالجُمل الخبرية : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ)
- ومنها بالنداء : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)
 من الجُمل الخبرية مافيه تنزيه الله -جل وعلا- ولفظ " سبحان" لا يُطلق على غير الله وقد جاء في القرآن بصوره الأربع : (المصدر والمضارع والماضي والأمر) إفتُتِحت السور بهذا كله ، وأول سورة إفتتحت بالتسبيح هي سورة الإسراء وبدأت بالمصدر -لأن سبحان مصدر- وهذا يُرجح قول البصريين فيما بعد أن المصدر هو الأصل لأن الخلاف في المدارس النحوية أيُهما هو الأصل الإسم أو الفعل والبصرييون يرون أن المصدر هو الإسم قال في ملحة الإعراب: "والمصدر الأصل وأيُ أصلِ" لا نريد أن ندخل في عالم النحو نبقى على سبحان. فـ"سبحان" مصدر.
 / وجاء في القرآن ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ) ، وجاء في القرآن ( سَبَّحَ لِلَّهِ) ، وجاء في القرآن لفظ الأمر ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) كل الصور الأربعة.
 هنا قال الله -جل وعلا- (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) فلمَّا جاء التنزيه في الأول دل على أن القرآن يتحدث على أمرٍ عظيم ، و"أسرى" أصلا في اللغة لا تُفيد إلا السير ليلاً ومع ذلك قال الله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) فإذا كان الفعل "أسرى" لا يُفيد إلا الليل لِمَ جيء بليل ؟! قال العلماء: جيء بها بلاغياً والمقصود بُرهة من الليل ، وقيل العكس التعظيم أي ليلٌ وأيُ ليل فيه أسرى الله بنبيه وعرج به إلى سدرة المنتهى ، والحق أن الآية تحتمل هذا وهذا.
 (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) والعبودية هي ذروة الشرف -عُبودية الطاعة- وهي تنقسم إلى أقسام ثلاثة:
- عبودية قهر وهذه كل الخلق فيها سواء (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)
- وعبودية رق وهذا ما ينجم في الحروب (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ)
- وعبودية طاعة وهذه هي التي يتنافس فيها المتنافسون، عبودية طاعة لله فيها يتنافس المتنافسون،وعبودية عياذاً بالله طاعة لغير الله تعِس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وماشابه ذلك.
 هذا المقصود به هنا عبودية الطاعة ، عبودية العبادة لله ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذروتها بلا ريب (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) أخذ بها بعض العلماء القائلين بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُسري به من بيت أمّ هانيء وهذا يدُل على أن حرم مكة يُطلق عليه أيّاً كان المسجد الحرام. (إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) هذا يُشعر أن هناك مسجداً سيكون بينهما وقد كان وهو مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 
هذا الإسراء تم ليلاً ، شُق صدره -صلى الله عليه وسلم- وأُخرج قلبه ووضع في تسطٍ من ذهب وغُسل بماء زمزم ومُلئ إيماناً وحكمة ، وهذا شَقٌ آخر غير الشق في الصِغر، ثم جاءه جبريل بدآبة يُقال لها البراق فركبها ينتهي حافِرها حيث ينتهي طرفها حتى أناخ مطاياه عند المسجد الأقصى ، ربط الدآبة في مقبض كان الأنبياء يربطون فيه دوابهم ثم دخل فصلَّى بالنبيين إماماً والخبر معروف. ثم بعد أن صلَّى بالنبيين إماماً عُرج به إلى سِدرةِ المُنتهى ، لقي في السماء الأولى آدم ، في السماء الثانية ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم ، في الثالثة يوسف ، في الرابعة إدريس ، في الخامسة هارون ، في السادسة موسى ، في السابعة أباه إبراهيم ، وكلهم رحب بهم . من كان منهم في عمود نسبه قال له مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح وهما اثنان آدم وإبراهيم ، ومن لم يكن منهم في عامود نسبه وهم الخمسة الباقون ، أو الستة الباقون زكريا وعيسى وهارون وموسى وإدريس ويوسف هؤلاء الستة كلهم قال له مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، وفيه دليل على أن كلمة مرحباً من أفضل التحايا بعد السلام لأن الأنبياء قالتها للنبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الإسراء وهذا هو المعراج ، الإسراء ذُكر في هذه السورة والمعراج ذُكر في سورة النجم .
/ ( مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)
المسجد الحرام بُني أول بيت وُضع ، والمسجد الأقصى كان بعده بأربعين عاماً . صلاته بهم -صلى الله عليه وسلم- تدُل على أنه أفضلهم وأولهم قدراً وإن كان آخرهم ظهوراً ، صلى بهم وقابلهم في السماء وهذا مُشكل ، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "إن عالم الأرواح لا ينطبق على عالم الأجساد وهذا غيب ولا نعلم كُنهه ولا كيفيته " تجاوز -صلى الله عليه وسلم- إلى مُستوى يسمع فيه صريف الأقلام، والله يقول (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) والمرئي هنا جبريل ، وقوله -جل وعلا- (نَزْلَةً أُخْرَى) يدل على أن هناك رؤيا سابقة وهذه كانت في الدُنيا قال الله -جل وعلا- في التكوير (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ) هذه رحلة الإسراء والمعراج عموماً حيث الإجمال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) اللام لام التعليل (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَاوهذا يدفع قول من قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه لأن المنة برؤية الله أعظم من المنة برؤية آياته والله قال هنا (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) وقال في النجم (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) وإن كان من أجِلَّاء السلف -رحمة الله تعالى عليهم ورضي عنهم- من قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه وأنكرته عائشة -رضوان الله تعالى على الجميع- لكن أنا أقصد الطريقة في الاستدلال (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وهذا الرحلة كانت قبل الهجرة -على الصحيح- بثلاث سنين وفي يومها التالي -يعني في صبيحتها- ظُهراً جاء جبريل فعلَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلوات الخمس فأول صلاة فُرِضت وصلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي صلاة الظهر قال شوقي :
يا أيّها المُســرى بــه جسدا إلى ما لا تنال الشمس والجـــــوزاء
 يتساءلـــون وأنت أطهــر هيكل بالروح أم بالهيكل الإســــــراء
 بهمـــا سمـوت مطهــرين كلاهما روح و ريحــانيــة وبهــــاء
 تغشى الغُيُوبَ من العوالم كلما طُويَـتْ سـماءٌ قٌلّـدَتْكَ سماءُ
أنت الجمالُ بها وأنت المجتلى والكـفُّ والمِـرْآةُ والحـسْناءُ
 أنت الذي نظمَ البريّةَ دِينُهُ ماذا يقولُ وينظمُ الشعراءُ ؟
 المصلحونَ أصابعٌ جُمِعَتْ يداً هي أنت بل أنت اليدُ البيضاءُ
صلَّى عليك الله ما صحِبَ الدُجَى حادٍ وحنَّتْ بالفلا وجْناءُ
 واستقبل الرِّضوانُ في غُرُفَاتِهم بجنانِ عدنٍ آلـك السُّمحَاءُ
 صلوات ربي وسلامه عليه.
 في رحلة الإسراء فوائد جمَّى:
- أعظمها : أن صاحب المكان أولى بمكانه وأحقُ أن يُستأذن عليه بدليل أن النبي وجبريل عليهما السلام استأذنا خازِن السماء أن تُفتح لهم أبواب السماء هذه واحدة.
- الثانية: أنه ينبغي أن يستفيد العاقل من تجربة عاقلٍ مثله قبله ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قبِل قول موسى : "إن أُمتك لن يُطيقوا هذا فارجع إلى ربك وإني قد بلوت الناس قبلك" أي جربت الناس قبلك فقبّل -صلى الله عليه وسلم- نُصح أخيه موسى -عليه السلام- ومازال يتردد ثم استحيا حتى عندما بقيت خمس قال له موسى : "إن أُمتك لن يُطيقوا هذا" قال قد استحييت من ربي ، فلمَّا قال استحييت من ربي قدَّم النية وسكت عن اللفظ أكرمه الله فإذا بمنادٍ يُنادي أتممت فريضتي ورحمت عبادي فهي خمس في العدد خمسون في الأجر ومن هُنا يُفهم أن الحياء به ينال العاقل مطالبه .
- من رحلة الإسراء والمِعراج كذلك يُفهم عُلو مقامه -صلى الله عليه وسلم- إذ جاوز سِدرة المُنتهى -على أقوال العُلماء- وهو منزلٌ شريف وموئلٌ كريم حُظي بهِ -صلوات ربي وسلامه عليه- ورأى الجنة ، ورأى النار ، وعاد من ليلته إلى مكانه في بيت أُم هانئ ثم أصبح يُحدث الناس فصدوه قال الله -جل وعلا- في سورة الإسراء نفسها (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا) الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم ، واعترض عليها المُشركون قالوا كيف شجَرٌ ينبُت في نار هذا لا يتأتَّى عقلاً ، ونسوا أن القضية أن الله خالق الشجر وخالق النار حرَّم الله على النار أن تأكُل الشجر هذا تخريج -وهو الأظهر - وهناك تخريج آخر : أن هذه الشجرة أصلا مخلوقة من نار ، وإن كان التخريج الأول هو المُعتمد، والعلم عند الله وهذه الوفقة الأولى من الجزء الخامس عشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق