الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لاشريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى،وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، بلّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيا عن أمته صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحّد الله وعرّف به ودعا إليه اللهم وعلى أله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره و اتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فعنوان الدرس هذا المساء (القريب والبعيد) وهما مفردتان متقابلتان يمكن أن يقال عنهما أنهما ضدان، وردتا كثيرا في كلام رب العزة والجلال تبارك اسمه وجل ثناؤه وفي لقاءين متتابعين -كما مضت طريقتنا في هذه الدروس- نبيّن بعضا من الآيات التي جاء فيها ذكر القريب والبعيد في كلام الله .
/ وتأصيل المسألة أن يقال : إنه في القرآن ورد القرب المكاني و ورد القرب الزماني، وورد القرب بمعانٍ أُخر هذا بيانها :
/ أما القرب الزماني فقد قال الله -عز وجل- (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) ، و قال ربنا (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) فهذا من أي أنواع القرب ؟ القرب الزماني.
ويقع قرب آخر هو القرب المكاني قال الله عز وجل (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) فلئن كان قول الله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قُرب زماني فإن قول الله (فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) هذا قُرب مكاني.
/ ويأتي القرب بمعنى الحضوة والمكانه ودنو المنزلة : قال ربنا (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي ذوو حضوة عظيمة عند ربهم -جل وعلا- ، وتقول الناس في كلامها فلان قريب من -مثلا- من السلطان ،من الأمير ،من الشيخ، من كذا و كذا ، يقصدون الحضوة والمكانة والمنزلة .
/ ويأتي القريب في القرآن بمعنى القرابة في النسب قال ربنا جل ذكره : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، وقال : (بِالْوَالِدَيْنِ) ، وذكر الأقربين ، والمراد هذا قرب النسبة .
وقرب النسبة عظّمه القرآن قال الله عز و جل : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، وقال : (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) ، ففرّق ما بين الجار الذي فيه صفة القرابة والجار الذي لا يحمل صفة القرابة و إن كلا أوصى الله -جل وعلا- بهما خيرا وقال : (وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ) . والمراد هنا أن القرابة لها حق عظيم في الشرع وقد كانت العرب تعرف هذا في طيَات كلامها ، قال طرفة بن العبد في معلقته :
و ظُلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على النفس من وقع الحسام المهند
لأن الظن بالقريب أن ينصر قريبه . والصحابة الأخيار ومن تبعهم من الناس الأطهار الذين يُقتدى بأفعالهم ويُستأنس بأقوالهم ويجري الإنسان في حياته على سننهم ، منهم من عظّم مسألة القرابة وأجلّها ومن أولئك سلمة بن الأكوع -رضي الله تعالى عنه و أرضاه- ، سلمة : صحابي جليل فلما كان يوم الحديبية والنبي -عليه الصلاة والسلام- بعث عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- فكأن قريشا حبست عثمان قليلا في الخبر المشهور الذائع أنه نُودي أن عثمان قد قُتل ، فدعى النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين الذين معه و كانوا أكثر من ألف رجل ، قُرابة ألف وأربعمائة رجل دعاهم إلى البيعة ، لما دعاهم إلى البيعة انخرط سلمة بن الأكوع في أول الناس ، بمعنى أن النبي -عليه الصلاة السلام- تحت ظل شجرة سَمُرة يبايع الناس ، والناس يأتون أفواجا إليه -صلوات الله وسلامه عليه- مِن مَن جاء في الفوج الأول سلمة بن الأكوع فبايع ، فلما مضت برهة مضى وقت جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : يا سلمة ألا تبايع ؟ قال : يا رسول الله قد بايعت في أول الناس ، قال: وأيضا يا سلمة، فبايع -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- في أوسط الناس ، فلما بايعه في أوسط الناس رءاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عَزٍلا ، أي لا سلاح معه ، فأعطاه ترسا من جلد يتقي به لو كان هناك حرب أعطاه إياه حتى يتقي به الأعداء لو وقعت حرب ، فلما أعطاه وجاءت أفواج فلما جاء الفوج الآخِر أي آخر الناس قال -صلى الله عليه وسلم- لسلمة مرة ثانية قال له : ألا تبايع يا سلمة ؟ قال : يا رسول قد بايعت في أول الناس وأوسط الناس . قال : وأيضا يا سلمة ، فبايع -رضي الله عنه وأرضاه- ، فلما بايع رءاه النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا تُرس معه فقال : أين الدرقة التي أعطيتك إياها ؟ قال : يارسول الله لقيت عمي عامرا عزلا -أي لا سلاح معه- فأعطيته إياها . فتبسم -صلى الله عليه و سلم- وقال : أنت حالك كما قال الأول : اللهم ابغني حبيبا أحب إليّ من نفسي ، والمراد هنا أن سلمة -رضي الله عنه تعالى و أرضاه- أُعطي ذلكم الترس ليدافع به عن نفسه فلما رأى عمه -وعم الرجل صنو أبيه- لما رأى عمه عَزِلا لا سلاح معه وهو مُحق لو بقي السلاح معه لأن الحالة واحدة والنفس أولى ، لكن محبته لعمه مع قرابة عمه جعلته يعطي عمه ذلك العطاء . والمقصود بيان حق وحال أهل القرابة ، قال الله -عز وجل- (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ).
فهذه أربعة أحوال يأتي فيها ذكر القرب وبيّنا فيه أنه قد يكون القرب مكانيا ، وقد يكون القرب زمانيا ، وقد يكون في النسب وقد يكون في الحضوة .
/ جاءالقُرب والبُعد في كلام الله جل وعلا كثيرا ، القريب والبعيد جاء في آيات عدة، قال الله -عز وجل- (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) المنادي إسرافيل ، لكن العلماء اختلفوا بالمراد بالمكان القريب وجمهورهم -وظاهر الأمر والعلم عند الله- أن المقصود به بيت المقدس ، من صخرة بيت المقدس ينادي إسرافيل : أيتها العظام البالية ، أيتها الأوصال المتقطعة إن الله يدعوكن لفصل القضاء . فهنا ذُكر القرب المكاني .
/ قال الله عز وجل في خبر نبي الله سليمان مع الهدهد لما تفقّد الطير ولم يجده قال ربنا (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) وظاهر الأمر أن المقصود (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : مضت برهة من الزمن غير طويلة ، فبعض العلماء يُعبّر بالمكان ، لكنني أرجح -والعلم عند الله- أن المراد التعبير بالزمان ، (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي لم تَطُل المدة حتى جاء الهدهد وقال لسليمان (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) هذا كله حول القريب والبعيد في كلام رب العزة والجلال .
/ إذا تجاوزنا مسألة الآيات المنثورة هنا وهناك وأخذنا آيات بمجملها فإن الله -جل وعلا- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ*ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) معنى الآية جملة:
أما أولها فإن الله -جل وعلا- ينعي على الأحبار، على الرهبان ،على علماء أهل الكتاب الذين كتموا ما أنزل الله -جل وعلا- من العلم إما طمعا في عطايا السلاطين أو خوفا منهم أو طمعا في نصرة العامة وإرضاؤهم ، وسيف العامة قريب من سيف السلطان كلا له تأثيره على العالِم إلا أن ينجيه الله فقال الله -عز وجل- هنا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) ، وقال الله -عز و جل- (ثَمَنًا قَلِيلاً) لأنه أي مال يُدفع مقابل أن يكتم الإنسان ما أنزل الله في الكتاب يُسمى قليلا لأنه لا يمكن أن يُقارن البتة بعظيم ما آتاه الله -جل وعلا- من العلم ، (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاًأُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ) لأنهم جعلوا الدين مطية للدنيا .
/ (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ) ثم ذكر الله -جل وعلا- بعض الوعيد قال : (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي ما أجرأهم على الأعمال التي تؤدي بهم إلى النار وكأن لديهم صبرا على النار ومحال أن يكون لديهم صبر على النار (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) .
/ قال الله بعدها : (ذَلِكَ) أي ذلك الوعيد ناجم ، (ذَلِكَ بِأَنَّ) .. الباء سببية (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) فالله -جل وعلا- جعل الكتب السماوية نبراسا للناس بّين الله -جل وعلا- فيها الحق والباطل ومعالم الهداية وطريق الرشاد ، وأوضح فيها السبل وأقام فيها الحجج وأوضح بها المحجة -تبارك اسمه وجل ثناؤه- فإذا جاء آخر، جاء أحد ينتسب للعلم من أي ملّة كان فجعل هذا الكتاب الذي أنزله الله نورا ، جعله يكتمه يقول هذا حق وهذا باطل ، هذا يُقبل هذا لا يُقبل ، هذا يُعقل وهذا لا يُعقل ، وحكّم عقله ، حكّم هواه فيما أنزله الله من كتاب قال الله -عز وجل- (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) فقول الله عز وجل (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) الشقاق : الإختلاف ، والخلاف بعيد عن الحق ، بعيد عن الصراط ، بعيد عن الهُدى ، بعيد عن الرشاد ، بعيد عما أنزله الله -تبارك وتعالى- لتقوم به الحجة وتظهر به المحجة .
/ قال الله عز و جل في سورة سبأ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ*وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) ثم قال تبارك وتعالى (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) فنلحظ أن المفردتين (قريب وبعيد) تظافرتا في هذه الآيات ، فأما قول الله عز وجل (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) "ولو" هذه شرطية عند النحاة وتأتي على طرائق عدة :
تأتي أحيانا للتقليل ، تقول لأخيك تصدق ولو بظِلفٍ محرّق ، فأنت لا تريد شرطا ولا جوابا إنما تريد التقليل .
وتأتي أحيانا للعرض وهي كذلك لا تحتاج إلى جواب ، تقول لأخيك : لو زرتنا حتى نأنس بحديثك .
وتأتي أحيانا حرف شرط غير جازم له جواب كما في هذه الآية فقال الله عز وجل (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) ولو ترى يا محمد وكل من يخاطب بالقرآن إذ فزعوا ، ما الفزع ؟ الفزع: الخوف المفاجئ، ولهذا قال الله عز وجل عن أهل طاعته (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ)، قال هنا (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) أي لا نجاة ولا خلاص ولا منجى ، وهناك محذوفان وفق القواعد النحوية في الآية :
المحذوف الأول جواب الشرط (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) وتقدير الجواب لرأيت شيئا يهول وأمرا يعجز الكلم عن وصفه ، منظرا فظيعا عظيما هذا جواب الشرط محذوف مقدم ، وفي قوله جل ذكره (فَلا فَوْتَ) "لا" نافية للجنس و"فوت" إسمها فالمحذوف خبر "لا" والتقدير فلا فوت كائن، فلا فوت حادث ، فقال ربنا هنا (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) ما معنى (مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) ؟ يحتمل معانٍ عدة منها :
- (مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) أي من بطن الأرض إلى ظهرها ، (وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) أي من بطن الأرض إلى ظهرها ، هذا قول .
- وقال بعض العلماء: إن الآية نزلت في أهل بدر من المشركين فيُصبح (وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) أي من أرض بدر إلى القليب -قليب بدر- لكن هذا رأي مرجوح ، وأرجح الأقوال -والعلم عند الله- (وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) أُخذوا من أرض المحشر إلى جهنم (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا) في أرض المحشر (آمَنَّا بِهِ) آمنا بالقرآن ، آمنا بالله ، آمنا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) قال ربنا (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) التناوش في اللغة: التناول ، ولا يكون التناول إلا إذا قرُب المكان ، وقد كانت الإبل العظيمة الأجساد الطويلة الأعناق يفخر بها صاحبها فيأتي بها على حياض الماء فتمر دون أن تُدني كل مشافرها في الماء ، تتناول الماء تناول ويسمى هذا في اللغة تناوش ثم تمضي كما قال غيلان بن الحريث . فهذا معنى الآية (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) والمعنى: أنتم الآن في الدار الآخرة أين أنتم والحياة الدنيا ، ومتى يكون العمل ، متى يكون السعي ، متى يكون الإيمان النافع ، متى ؟ في الحياة الدنيا وأمس الدابر لا يرجع فقد انقضى الأمر وقام الأشهاد وحُشر العباد فالإيمان هنا لما قال الله (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ) لم يعد مجديا ، لم يعد نافعا ، لا يمكن أن ينفعكم البتة ، (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى) أنى: تعجب بمعنى كيف ، لكن المقام مقام تعجب ، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) فما المراد بالمكان البعيد ؟ أن الحياة الآخرة بعد انقضاء الحياة الدنيا أصبحت الدنيا بعيدة جدا عن الحياة الآخرة لا تعود البتة (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) .
/ يقول ربنا (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ) يوم أن كانت هناك ساعة عمل، يوم أن كان هناك قدرة على عبادة الله تبارك وتعالى فصدوا عنها وارتدوا ، قال ربنا (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) القذف: الرمي ، ومعنى (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) : لو أن إنسانا جعل أمارة ، علامة ، مرجما يرميه ثم جعل هذا المرمى ، هذا المرجم في وادٍ وذهب وقطع مسافات طويلة بحيث لا يرى ذلك الذي يريد أن يرجمه ثم من وادٍ آخر أخذ يرمي ذلكم الذي نصبه أمارة وعلامة وهو لا يراه فقطعا لن يصيب رميه ما أراد أن يرميه ، هذا في اللغة يسمى قذف بالغيب .
قال ربنا -جل وعلا- عن كفار قريش (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) لا علم لهم بالآخرة ، لا علم لهم بالجنة ولا بالنار ولا بما يكون فيها ومع ذلك تجرؤا وأخذوا يقذفون الأقوال ، يقولون لا بعث ، لا نشور ، لا حساب ولا عقاب ولا عذاب ولا جنة ولا نار ، هذا معنىً من معاني الآية .
من معانيها : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) أنهم أتوا لصفوة الخلق وخيرة الرسل -صلى الله عليه وسلم- وهم يعلمون عظيم ما نشأ عليه -صلوات الله وسلامه عليه- ثم مع ذلك ، مع هذا الأمر يقذفونه بما يعلمون أنه بعيد عنه ، فيقذقونه بالسحر والكهانة والجنون وهم على علم ويقين أن هذا رسول رب العالمين وأنه ليس شيء من ما قالوه البتة في شخصه وخَلقِه و خُلقه -صلوات الله وسلامه عليه .
هذه آية كريمة ورد فيها كثيرا القريب والبعيد في كلام الله، قال أصدق القائلين : (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ *وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ*وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) .
هذا ماتيسر إيراده وتهيأ إعداده ، وفي اللقاء القادم إن شاء الله نكمل شيئا حول هاتين المفردتين القريب والبعيد في كلام رب العالمين ، والعلم عند الله ، وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
----------------------------------------------------------
شكر الله لمن قامت بتفريغ الحلقة وجزاها عنا كل خير ونفع بها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق