السبت، 22 ديسمبر 2012

تفسير سورة المائدة (50 - 81 ) / من دورة الأترجة



بسم الله الرّحمن الرَّحيم،الحمدلله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبَارك على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصَحبه أجمعين.
هذا هو المجلس الخَامس من مجالسِ تفسيرِ سورة المائدة، هذه السُّورة العَظيمة التِّي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُوفِّقنا وإيَّاكم للفِقه في معانيها، وأن يرزقنا العمل بما فيها، وأن يجعلها حُجّةً لنا لا حُجّةً علينا.
 وقد وقفنا عند الآية رقم خمسين من هذه السُّورة العظيمة، ونَستأنف الكَلام في هذا المَجلس بإذن الله تعالى عن قوله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء) وقد تَحدَّثنا فيما سَبَق عن جَانب من صفات اليَّهود والنَّصارى وما ذكر الله سبحانه وتعالى من انحرافهم وتحريفهم لكتُبُهِم، وخُذلانهم لأنبيائهم، وجَاءت الآيات التِّي سَبقت أيضاً أمرُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم المَيل، وعدم اتِّباع أهواءَهم، وأنَّهم يَتمنَّون أن يَميل النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ولو شيئاً يسيراً .  ثم يأتي الحديثُ الآن في هذا المَقطع والذِّي سوف نتحدَّث عنه في هذا المجلس عن مسألةٍ خطيرة وهي مسألة مُوالاة الكُفَّار وحُكمُ من يفعلُ ذلك، وهي مسألة خطيرة لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول – كما تقدَّم معنا في الآيات السَّابقة - (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) أيّ بين هؤلاء اليهود إذا جَاؤكَ (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) نهيٌ واضح للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - (لِكُلٍّ جَعلنا مِنكم شِرعةً ومِنهاجاً) ثُمَّ يقولُ الله في الآية التي بعدها (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) وكُلُّ هذه آيات واضحة أيُّها الإخوة تحذيرية بعدم المَيل أو الطَّاعة أو التَّنازل بأيِّ شَكلٍ من الأشكال.
 يأتي الآن الحديث عن مسألة تَولِّي هؤلاء، والتَّولي هو النُّصرة لأنَّ الوِلاية مَأخوذةٌ من النُّصرة، والوَليّ سُمِّي وليّاً لِشدةِ قُربِه من وَليِّه، ولذلك يُسَمُّون الوَلِيّ هو المَطَر الذِّي يأتي سَريعًا مُباشرة، فيقولون "هذا مَطَر، وهذا وَليّ" يعني جَاءَ بعد الأوَّل مُباشرةً كأنَّه مُلاصقٌ له، فالله يقول في هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) وهذه من نِداءَات السُّورة بوصف الإيمان، فكأنَّ الذِّين يتَّصفون بهذه الصِّفة لا يَنبغي لهم أن يتَّخِذُوا اليهود والنَّصارى أولياء. أولا : هُناك احتكاك واختلاط بين المُسلمين، وبين اليهود،وبين النَّصارى في مَواطن كثيرة في العالم وجَاءَت هذه الآيات لِكَي تُبيِّن كيف يكونُ موقف المُسلم في التَّعامل مع هؤلاء .
• فيجوز للمُسلم أن يَتعامل معهم، وأن يَتعايش معهم، وأن يتبايع معهم، ويشتري معهم. وهذه مَسألة لا تَدخُل في مَوضوع الوِلاية.
• أمّا أن يتَّخِذ المُسلم اليَّهود أو النَّصارى أولياء يتولاَّهم من دون المؤمنين، ويُناصِرهُم من دُونِ المؤمنين فهذا هو الذِّي وَرد النَّهي عنه في هذه الآية فإذا كان يتولاَّهُم، ويُناصرهم محبةً لدينهم، وبُغضًا للإسلام، فهذا لا شَكّ في كُفره. وهذه واضحة لا تَحتاج إلى تَكَلُّف. ولكنَّ الحَديث حول من يتولاَّهُم، ويُناصرهم لِمَصلحةٍ دُنيوية، ولكنَّه في قَـرارة قلبه لا يُحِبّ إلاَّ الإسلام ويُبغض ما هُم عليه فهَذا الذِّي وَقـَع فِيه الخِلاف، والنِّقاش بين الباحثين هل يُحكم بكفره، أو لا يُحكم بكفره. ولا نُحِبّ أن نُسَارع ونتجرأ على تكفير من يَصنع ذلك بعينه، ولكن لا شَكّ أيُّها الإخوة أنَّ في تحذير النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه الشَّديد عن المُوالاة، أو التَّولي، أو المَيل، أو اتِّباع أهواءهم، أو أنَّه يَفتتن بهم تحذير شديد لأمته - عليه الصَّلاة والسَّلام - من أن يكون هُنَاك أدنى تَنازل في التَّعامل مع اليَهود والنَّصارى من باب المُوالاة والمُناصرة، وهذه مسألة ينبغي أن تكون واضحة في أذهاننا جميعًا. ودعُونا نقرأ الآيات ونتأمَّل فيها يقول الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) أيّ بعض اليهود والنَّصارى أولياء بعض، بمعنى أنَّ بعضهم ينصُرُ بعضًا على المُسلمين، وهَذه تَكادُ تكونُ سُنَّة مُضطردة في التَّاريخ في تعامُل المسلمين مع (اليَهُود والنَّصارى) أنه يجتمع النَّصارى واليَهُود دائمًا على محاربة المسلمين بل إنّ كُلَّ الطَّوائفُ الكَافرة تجتمع على مُحاربة المسلمين حتى أهلُ الكتاب مع المُلحدين والشُّيُوعين،والسِّيخ،والهُندوس وغيرهم، فإنَّهم كُلَّهم يَجتمعون على مُحاربة المسلمين .
(وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) هَذا الجُزء من الآية هو الذِّي حَوله النِّقاش لأنَّ هل معنى قوله سبحانه تعالى (وَمَن يَتَوَلَّهُم) يعني ومن يتولَّ منكم أيُّها المؤمنون اليهود أو النَّصارى بمعنى يَتَخذهم أولياء من دون المؤمنين (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فإنَّه منهم في ماذا؟ في الكُفر,وهذا يَستدِلُّ به من يقول بتكفير من يفعل ذلك، من يأتي الآن وهو مُسلم ولكنَّه يُناصِر اليهود والنَّصارى على المسلمين، ويُحارب المسلمين مع النَّصارى ومع اليهود، هل يُحكم بكفره أو لا بدلالة هذه الآية ؟ هناك خلافٌ بين العلماء: منهم من يُكفِّره ، ومنهم من لايُكفِّره لأنَّ الله قال (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) والحَقيقة أنَّ الآية تميل إلى تكفيره يعني (فإنَّه) له حكمه، ويأخذ حُكمُهُم، ولكن تبقى تَنزيل الحُكم على الأعيان مسألة خطيرة تحتاج إلى تأنِّي كبير، ولا يُقدِم عليها إلاَّ أهل العلم ، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
 ثم ذكر الله سبحانه وتعالى فئةً من المُسلمين تنتسب إلى الإسلام، ولكنَّها تُحاوِل تبرير هذه العَلاقة مع الكُفَّار،مع اليَهُود والنَّصارى بأنَّها مسألة سِياسية، وأنَّها مسألة دُبلوماسية، وأننَّا نحن نفعل ذلك مع اليَهود والنَّصارى لأنَّه رُبَّما تميل الكَفَّة لصالحهم فإذ بنا لدينا خَطّ رَجعَة  - كما يقولون - فيقول الله سبحانه وتعالى هنا (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) والمَرض إذا أُطلِـــقَ في القرآن الكريم في مواضِع خاصَّة في سِياق النَّصارى والمُنافقين ونحوهم فإنَّه يُقصد به (النَّفاق والكُفُر) (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ)  يعني يُسارعون، ويُبادرون إلى مُناصرة وتولِّي اليهود والنَّصارى، ولاحظوا التَّعبير بِقَوله (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) إشارةً إلى أنَّهم مُندَمجين معهم في عَلاقةٍ وطيدة، لِذَلك جاء التَّعبير بقوله (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) ، و"في" تَدُلُّ على الظَّرفية كما تعلمون. (يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) قد تنقلب الأُمور وتُصبِح الغَلَبَة لهؤلاء اليهود والنَّصارى فنحن نتَّخذ عندهم يَدًا.
 قال الله سبحانه وتعالى (فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) أيّ بالنَّصر وبالتَّمكين  (فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) وهذا يَدُلّ أيُّها الإخوة على أنَّ مسألة المُوالاة، ومسألة المُناصرة جزء منها ظَاهِر وهو المُوالاة والمُناصرة (الحِسِّيَة) ، وجزءٌ كبير منها قَلبي (معنوي) فلا يَعلم الإنسان بِما في قلوب الناس، أو لماذا يفعلون هذا مع اليهود والنَّصارى . فيقول الله سبحانه وتعالى  (فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) أيّ عَلى ما أَسَرُّوا من النِّفاق، وما أَسَرُّوا من التَّكذيب، وما أَسَرُّوا من اتِّخاذِ هؤلاءِ أولياء من دون المؤمنين.
 ثم يقول الله (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ) ثم يأتي النِّداء في الآية التِّي تَليها فيقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ألا تُلاحِظُون مَعِي أيُّها الإخوة كيف جاء الحديث بعد الموالاة عن الرِّدة ، أليس في هَذا إيحاء إلى أنَّ الفِعل الذِّي يَفعله من يُوالي هؤلاء اليهود والنَّصارى أنَّه قد ارتكب شيئًا من هذا وهو الرِّدة عن الدِّين، فيقول الله - سبحانه وتعالى - كأنَّه يأتي فيُحدِّثنا عن ما هو حُكم هؤلاء الذِّين يفعلون ذلك، فقال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ما هي صفتهم؟ قال (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) فيقول بعض العُلماء ليس الغَريب أنَّهم يُحِبُّونه لأنَّه هو المُتفضِّل عليهم سبحانه وتعالى ولكن العَجِيب هو أن يحبهم سبحانه وتعالى.
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) بمعنى أنَّهم مع إخوانهم المُؤمنين ليِّنِي الجَانب، يُوالُـونهم، ويُناصرونهم (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) لا يَرونَ منهم إلا المُعاداة،والشِّدة والحَزم .
(يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) وهذه الآية فيها ضَمان بأنَّ الله سبحانه وتعالى حافظٌ لهذا الدِّين، وأنَّ الله سبحانه وتعالى ناصرٌ دِينه بِعزِّ عزيز، أو بِذُلّ ذَليل، سواءً نَاصرته أو لم تُناصره هو سينصر دينه لكنّه إذا لم ينصُره بك فسينصُرُهُ بغيرك فاحرص أنت أن تكون أنت الذِّي يَنصر الدِّين، وأن تكون من أنصارِ الدِّين ولذلك الله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) الآية. فالله يقول في هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ولاحظوا كيف يَصِفُهُم بِوَصفٍ عَظِيم وهو وَصف الإيمان ثم يقول (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ) مِمَّا يُشير أيُّها الإخوة إلى أنَّ القُلُوب بين اصبعين من أصابع الرَّحمن فمن شاء أقامه ومن شاء أزاغه. الله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يَصفهُم بِوصفِ الإيمان فيقول (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ) يعني بالرَّغم من أنَّه يَتصف بهذه الصِّفة الرفيعة، ولكنَّه يقع منه هذا الفعل القبيح والشَّنيع وهو أنَّه يرتد عن الدِّين (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) إشارةً إلى أنَّ الله ضَامن بأنَّه نَاصرٌ دينه وسوف يأتي بَدلَ هؤلاء النَّاكصِين، المُرتَدِين بالنَّاصرين، المُؤمنين، الصَّادقين، المُجاهدين . فالمُفسِّرون في كُتُب التَّفسير يَتحدَّثُـون عن هؤلاء فيقولون: يَقصد بِهم الذِّين آمنوا من الفُرس، أو الذِّين آمنوا من الأُمَّة الفُلانية ولكن الذِّي يبدو - والله أعلم - أنَّ الآية عامة، وأن الله سبحانه وتعالى يقول أنَّ من يتخاذل عن نُصرة دينه فسوف يُقيِّض الله لِنُصرة دينه من غَيرِهم من يقوم بِرفعة دينه، ولذلك التَّاريخ الإسلامي مليء بالشَّواهد في ذلك، فعندما تخلَّى العرب قام الأكراد بالإسلام فخرج منهم أئمة وقادة عِظام فنصَرَ الله بهم الإسلام نصرًا عظيمًا منهم :   صلاح الدِّين الأيَّوبِي ، محمود بن سَبَكتَكِين ، نـُور الدِّين محمود ، عماد الدِّين زِنكي . فَكُلّ هؤلاء أكراد. أيضا تَخلَّت هذه الأُمَّة نصره الله بالأتراك - العثمانيين - فنصر الله بهم الدين وانتشر الإسلام في أصقاع الأرض، وانتشر الإسلام على يَد الفُرس والتَّتار، فهذا مِصداقٌ لهذه الآية فإذا تخلَّت أمة من الأمم عن دِينها، وارتدَّت، وتخاذَلت فإنَّ الله سبحانه وتعالى سينصر هذا الدِّين بأُمَّة أخرى، يَأتون فينصر الله بهم الدِّين، ويُعزِّهم ويَرفعهم بهذا الدِّين.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) هذه الإشارة أيها الإخوة فيها معنىً عظيم وهو أنَّ الذِّين يُجاهدون في سبيل الله يتعرَّضُون للوم اللائمين وعَذَل العاذِلين، وأنَّ هذه سُنَّةٌ مَاضية يتعرَّض لها المجاهدون في سبيل الله في كل زمن فينبغي على المسلم المُجاهد أن يكون مُوقنًا بما عند الله سبحانه وتعالى ويَصبر، ويحتسب ويثبُت كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم في مواطن كثيرة عندما ذكر الحديث عن الفئات المؤمنة عندما تتقابل مع الفئات الكافرة .
 / مثلا : الحديث عن طالوت عندما ذكر الله سبحانه وتعالى جيش طالوت، ثم عندما وصلوا إلى النَّهر انهزم كثيرٌ منهم قال الله (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) قال (فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) فأكثر الجيش رَسَب في هذا الاختبار، قال (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ) هذه الصَّفوة التي تجاوزت تعرَّضَت لاختبارٍ ثاني (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) مُشكلة (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ) هذه الصَّفوة من الصَّفوة (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء). كل هذا جزاء الصبر ، انظروا لثمرة الصبر  قال (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء)
 / مثالٌ آخر: قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) ثم قَال الله (وَكَأَيِّن) بمعنى ما أكثر القَصص التِّي من هذا النَّوع (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) يعني حتى الجيش الذين معه ليسوا بأُناس عاديين ، علماء. قال الله (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)(فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ) ، (ما استكانوا) هَذِه (وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)
 (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)
فالشَّاهد أنَّ الذِّي يَسلُك طريق الإيمان، القرآن الكريم جاء واضح أنَّهم يتعرَّضُون لأذىً، ولابتلاء، ولِعَذَاب، ولمُحاربة، فجاءت التَّوجيهات صريحة وواضحة ليس فيها لبس لذلك قال الله في سورة العنكبوت (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا) هكذا فقط (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) لا يُمكن هذا (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ، وقال (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُوا) ليسوا بالنَّاس العَاديين (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) يعني أَبطأَ عليهم (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) فالمسألة ليس فيها كما يَذكر أحدُ العُلماء رحمهم الله في حَفل تَخريج بعض الدُّعاة في الجَامعة الإسلامية قديمًا فقال في الاحتفالية قال "أَبشُروا فإنَّ طَرِيقُكُم مَفروشٌ بالوُرُود – يَقصد بذلك الخِرِّيجيين- في الدَّعوة إلى الله" فقام الشِّيخ محمد الأمين الشَّنقيطي – رحمه الله تعالى- وقال: "أَنَا أَحببت أَن أُعلِّق على مَقالة الشِّيخ الذِّي يَقول أنَّ طريقهم مَفروشٌ بالوُرُود فأنا أقول: هذا ليس صحيحًا بل إنَّ طريقكم مفروشٌ بالشَّوك وبالورود أيضًا فالدَّاعية والمُؤمن في حياته مُبتَلَى"، فيأتي البَلاء على قَدرِ إيمان الشَّخص ولذلك قال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (أَشَدُّ النَّاس بلاءً الأنبياء) هُم أَشَدّ النَّاس بلاءً، وهم أكمل الناس إيمانًا وهم أعلى النَّاس رتبةً - (ثم الأمثل فالأمثل).
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سبحان الله العَظيم، اُنظُروا إلى خِتام هذه الآية يقول الله (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ويذكُر هذه المُعاناة، وهَذِهِ الصِّفات وطبعًا هذه صفات لَيسَت في كُلِّ أَحَد، وهذا يَحتاج إلى صَبر على البَلاء، ثم يَصِف هذا الصَّبر، وهذا الابتلاء فيقول (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
 ثم يُعقِّب فيقول أنا نهيتُكُم عن تولِّي الكُفَّار واليَهُود والنَّصارى لماذا؟ لأنَّ وليُّكُم أيُّها المُؤمنون هو اللَّه و رسوله صلى الله عليه وسلم و المؤمنون. ولا ينبغي للمُؤمن أن يتولَّى إلا المُؤمن، وأن يكون في نفسِ الوَاحد منَّا من الإِيمان ما يَمنعه من أن يَتولَّى غيرَ المُؤمن، ولا يُحبُّهُ، ولا يُواليه، ولا يَميل إليه بقلبه . ونحن في زمان يا إخواني زمانُ الشُّبهات تُوزَّع علينا توزيعاً. وتأتينا وتَصلنا إلى عُقرِ دَارِنا ويُرادُ لنا أيُّها الإخوة أن تُزعزَع هذه العَقائد في نفوسنا بطريقة أو بأخرى ويُريدون لك أن تمشي وأنت بلا دِين وبلا هَوِية.
 فيقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ولاحِظوا أيُّها الإخوة كيف يَصِف الله المؤمنين الذِّين ينبغي عليك أن تتولاَّهم، بأنَّهم المُؤمنون الذِّين يَعملون بإيمانهم وليس مُجرَّد أنَّهم يَدَّعُون الإيمان لأنَّ فِينا لِلأَسَف كَثيرون يَدَّعُون الإيمان ولكنَّهم لا يُصلُّون، ولا يُزكُّون ولاحِظُوا حتى أنَّه يقول (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ثم يقول في آخر الآية (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) وهذه الآية من الأدَّلة التي تَدُل على وُجُوب صلاة الجماعة وأنَّ الصَّلاة مع الجَمَاعة ليست تَرَف، إن شئتَ تُصلِّي مع الجماعة وإلاَّ فلا حَرج عليك، لا ، بل قال الله (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) وختم الآية بقوله (وَهُمْ رَاكِعُونَ) وأمَّا من يَدَّعي أنَّه مُؤمن، ولا يُصلِّي مع جماعة المسلمين، ولا يُؤدِّي الفرائض التي افترضها الله عليه - وهذا حالُ كثيرٍ من المُسلمين في زماننا اليوم - للأسف أنهم يدَّعُون الإسلام ثم لا يُصلُّون، فينا - أيُّها الإخوة - من لا يُصلِّي إلاَّ يوم الجُمُعَة ، وبعضُ النَّاس لا يُصلِّي إلاَّ كُلُّ جُمعَتَين ، وبعضُهُم لا يُصلِّي إلاّ في رمضان ، وبعضُهُم لا يُصلِّي إلاّ العيد، ويقول أنَّهُ مُسلم . فتأمَّلُوا وطابقوا هذا مع القُرآن الكريم تكتشف أنَّه لا ينطبق عليه وصفُ الإيمان.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) لأنَّه قد يقولُ قَائِل المُسلمون ضُعفَاء، ومُوالاةُ المُسلمين تَزيدُني ضَعفًا، ليس لديهم إمكانيات، ليس لديهم قُدرات، ليس لديهم كذا، ليس لديهم كذا. فيقولُ الله سبحانه وتعالى ردَّاً على هذه الشُّبهة التي تُثارُ كثيرًا، ويُستشهد بِضَعف المُسلمين على أنَّ الإسلام لَيسَ دينَ حَقّ في زماننا هذا، ويُفتَن النَّاس عن دينهم بِقُوَّة المُخالِفِين فيقولُ الله سبحانه وتعالى (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) يُؤكِّد الله سبحانه وتعالى أنَّ العاقبة لِحزبِ الله، وأنَّهُم هُمُ المُفلحون, ولكن السُّؤال هو:
 ما المقصود بالفَلاح؟ ما المقصود بالغَلَبَة؟ هل من الضَّرورة أنَّ الغَلَبة تكون في الدُّنيا؟
 لا، ليس بالضَّرورة يا إخواني أنَّ المسلمين دائمًا ينتصِرون في الدُّنيا، قد تَمُرّ على المسلمين فتنٌ كثيرة، يعيش، ويموت، وهو مَهزومٌ ومَغلوبٌ على أمره ولا يستجيب له أحد ، لذلك بعض الأنبياء لم يتبَعُهُم أحد،وهم أنبياء، فلا شَكَّ أنَّ دعوتُهُم حَقّ، ولكن لم يُستجَب لهم ولذلك تأمَّلوا في قول الله - سبحانه وتعالى - في سورة البُرُوج - وهذه آية عظيمة - يقول الله - سبحانه وتعالى - عندما ذكَر الذِّين فَتنوا المُؤمنين والمؤمنات قال جلَّ جلاله (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) ثم يقول (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أينَ الفوزُ الكَبِير وقد قُتِلُوا جَميعاً؟ فقال العَلماء : الفَوزُ الكَبير ليس هو الفَوزُ في الدُّنيا أبدًا. الفوز الحقيقي هو في الآخرة. ولذلك قال الله في سورة آل عمران (فمن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) هَذا هُوَ الفَوزُ الحَقِيقي . وقالَ في سُورةِ الحَشر (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) هذا الفوزُ الحَقيقي، وهو الفوزُ الذِّي ينبغي أن نطلُبَهُ وليس الفوزُ الحقيقي هو الفَوز في الدُّنيا.
 قد يفوزُ المُسلمون في الدُّنيا، ويَنصُرهم الله سبحانه وتعالى ويُمكِّن لهم ابتلاءً لهم ، وقد لا يَنالُهُم شيءٌ من هذا ويُقتَلُون وهم مَظلومين، لكنَّهم يَموتُون على دينهم فيفوزُون. ولذلك قال الله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) ولم يذكُر الله سبحانه وتعالى الوصف بـ (الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) إلاَّ في هذه الآية مع أنَّ الذِّين وُصِفوا به ماتوا، وقُتلوا بسبب تَمَسُّكِهِم بدينهم .
/ ثم يقولُ الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوالاحظوا يا إخواني المَسألة كيف أنَّ الله فصَّل فيها فيَنهانا عن مُوالاة الكافرين، واليهود، والنَّصارى ثم يُحذِّرنا من فئةٍ داخلِ الصَّف المسلم تُحاول أن تُبَرِّر هذا التَولِّي،ويحذِّرنا من الارتداد عن الدِّين ثم يقول الوَليّ الحقيقيّ لَكُم هو الله، ورسوله، والمؤمنون. ثم يَرُدّ على الشُّبهة التي تقول أنَّ المسلمين ضُعفَاء فالذِّي يتولاَّهُم يَنهزِم ، وهذا غير صحيح، بل (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) ثم يأتي فيقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء) الآيات التِّي تَقدَّمت فيها وُضُوح، لكنَّه يُريد أن يُحرِّض المُسلم ويستثير في نفسه الغَيرة الإيمانية ، ويقول له أنت يا أَخي تفكَّر، هَؤلاء يَسخرون من دينك، ويتخذونه هزوًا ولعبًا، كيف تُوالِيهم؟ قد يقول قائل: يا أخي ولكنَّ هؤلاء الذِّين أُصاحبهموأواليهم لا يفعلون ذلك!
 بل هُم يَفعلون ذلك لأنَّهم يُكَذِّبون بِدينك.وقد جَاءَهم الأَمر باتِّباع النَّبي صلى الله عليه وسلم في كِتَابهم. فالمُؤمن الحَقِيقي مِن أَهل الكتاب هو مؤمن بالضَّروة بِالنَّبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال الله (وإذ أَخَذَ اللهُ ميثاقَ الذِّين أُوتُوا الكتابَ لتُبيِّنَنَّهُ للنَّاسِ ولاتَكتُمُونَه) وممَّا جَاءَ فيه أَيضاً البِشارة بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام قال الله (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) هل هُنَاك شَيء آخر أكثر من هذا التَّصريح؟ فالمُؤمن الحقيقي بالتَّوراة والإنجيل هو مؤمنٌ بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم  - تِلقائيًا كما صَنَع عَبدالله بن سَلام رضي الله عنه عندما جاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فَأَسلم بين يَدَيّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال هَذه صِفته التِّي في التَّوراة وأسلم مباشرة. أمَّا الذِّي يُكذِّب بِهَذا الدِّين ويَزعُم أنَّ عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام إله، ويُكذِّب بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذِّين يتبِّعُـون النَّصرانية واليهودية في زماننا هذا أيُّها الإخوة فهم يُكذِّبون محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وماذا تريدُ أكثر من تَكذِيبهم للنَّبي صلى الله عليه وسلم استهزاءً بِديننا وسُخريةً منه، هل بِالضَرورة أن يأتي كُلَّ واحد منهم، ويصرِّح، ويَستهزئ، ويَرسم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ليس هذا بالضَّرورة ولا يقول هذا إلاَّ من لم يَفهم الفِكرة.
(وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) حتى في خِتَام الآية (وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) تحريضٌ واستثارة للمُؤمن بهذه الصِّفة - صِفَة الإيمان - يعني إن كُنتَ مُؤمنًا فلا تَفعَل هذا الفِعل، وإن فعلته فأنت لسَت كَذَلِك. 
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى مُشيرًا إلى هؤلاء الكُفَّار الذِّين يَتولاَّهُم بعضُ المسلمين قال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ) هذه الآية ذكر القرطبي فائدة فقهية فيها، طبعًا تُلاحِظُـون أننّا نَتحدَّث عن مسألةٍ عَقَدِية،يقول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء) فهؤلاء اليَهُود والنَّصارى أولياء، لأنَّ من صفتهم أنَّهم يستهزئون بكم، ويَسخرون من دينكم ويُكذِّبون بِنَبيِّكُم (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) يعني إذا سَمِعُوا صوتَ الأذان (اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) فيه إشارة أيُّها الإخوة إلى أنَّ الاستهزاء بالدِّين، أو بأَيّ شعيرةٍ من شَعائره فهي كفر وهذه الآية ذكر القرطبي فيها فائدة فقهية : قال "هذه الآية هي أَصرح آية في القرآن الكريم، في الدِّلالة على مَشروعية الأذان للصَّلاة". لأنَّه قَال (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) ففيها دَلالة على أنَّ الأَذان مَشروع. 
 آية أخرى أشارت إلى الأذان في القرآن الكريم في سُورة الجُمُعَة يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) لكن هذه خَاصَّة بالأذان يوم الجُمُعة ، أمّا الآية التِّي في سورة المائدة هُنا فهي عَامّة (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) وهذه من الأحكام التِّي انفردت بها سُورةُ المائدة كما ذكر ذلك الإمام القرطبي في كتابه الجَامِع لأحكام القرآن.
قال (اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ) ثم يُلقِّن الله سبحانه وتعالى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حُجَّته وكيف يَسأل هؤلاء فيقول (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) يعني قُل لهُم يا محمد، لِمَاذا تَسخَرُون منَّا أيُّها اليهود والنَّصارى نحنُ آمنَّا بموسى، وآمنَّا بعيسى، وآمنَّا بالقُـرآن، وبمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام أمَّا أنتم فكذَّبتم بهم جميعًا. وتُلاحظُون في القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى يقول (كذَّبَت قومَ نوحٍ المُرسلين) وقال (كذَّبَت عادٌ المُرسلين) لم يكن هناك مُرسلين قبل نوح عليه السّلام فلماذا قال (كذَّبت قومُ نوحٍ المُرسلين)؟
قال العُلماء لأنَّ تكذيبهم لِنوح تكذيبٌ لِكُلِّ الأنبياء فكذلك هُنا تكذيبهم للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - تكذيبٌ لمُحمد، وتكذيبٌ لعيسى وموسى، لأنَّ دَعوة الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام واحدة، فتكذيبُ واحد منهم تكذيبٌ لهم جميعًا، ولذلك لو آمنتَ الآن بمحمد، وبِكُلِّ الأنبياء، ولكنَّك لا تُـؤمِن بأنَّ عيسى نبي الله فَأَنت كافر، لا يَصِح إيمانُك وَهَذا كُفر, أليس كذلك؟ فنحن نُؤمن بِكُلِّ الأنبياء، ونؤمن بموسى، وبعيسى، وبإبراهيم، وبمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام. ولذلك كتب أحد المَشايخ أظنه الشِّيخ محمد عبده رحمه الله أو غيره كتاباً بعنوان (رَبِحتُ مُحمدًا ولَم أخَسَر المَسيح) فالمُسلم مؤمنٌ بمحمد، ومؤمنٌ بعيسى، ومؤمنٌ بموسى بالضَّرورة، لكنَّ هؤلاء اليَهُود والنَّصارى يَكفرُونَ بِمَن بَعدهم فيكفُرُون بمحمد، ولا يُؤمنونَ به، لأنَّهم لو آمنوا به لتَركوا نصرانيَّتَهُم، ودَخَلُوا في الإِسلام. فالرَّسول صلى الله عليه وسلم يقول لهؤلاء (هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا) بمعنى ما الذِّي دَفَعَكُم إلى كُرهِنا وبُغضنا، وماذا الذِّي تَنقمُونه منَّا (هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) ولاحِظُوا أيُّها الإخوة كيف قَدَّم الإيمان بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم  - وبالقرآن على الإيمان بالكُتُب السَّابقة لأنَّه هو المُهيمن عليها، كما تقدَّم في صفاته في الآيات السابقة .
 ثم يقول سبحانه وتعالى (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) وَهَذه صفةُ اليَهُود الذِّين غَضِبَ الله عليهم، ولَعَنَهُم، وأَضلَّهم عن سواء السَّبيل وجَعَل منهم القِردةَ والخَنازِير جَزاءَ تَكذيبهم، ومخالفتهم لأنبيائهم، فهؤلاء أضلُّ مكاناً ، فالنَّبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لهؤلاء اليهود هل أُنَبِئُكُم من هو الذِّي يَستِحقّ الاستهزاء الحقـيقي، أنتم تستهزئون بِنا وتَسخرون منَّا، وتَسخرون منَّا إذا سمعتم الأذان، قال الله (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ) فأنتم يا معشر اليهود قد لعنَ الله طائفةً منكم، وغَضِبَ عَليكم، وجعل منكم قــِرَدة، وجعل منكم خنازير، وجعل منكم من يعبدُ الطَّواغيت بأنواعها وهذا لاشَك أنَّه دليلٌ على غَضَبِه سبحانه وتعالى على هذه الأمة  (أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ).
 ثم يقولُ الله (وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ) فهذه صِفةُ بعض المنافقين الذِّين كانوا يُظهرون للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان ويُبطنُونَ الكُفر، ويذهبون إلى اليهود فيقولون إنَّا معكم، إنَّما نحنُ مُستهزئون، ويَأتُون إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فيَقولون نحن معك يا محمد فَفَضَحَهُم الله سبحانه وتعالى في هذه السُّورة، وفي غيرها من السُّور مثل سورةُ التــَّوبة وسورةُ المُنافقون، فيها فضحٌ لهذا النَّوع من النَّاس الذِّين كانوا يعيشون في المجتمع الإسلامي في المَدينة النَّبوية، وكــَانوا أَضَرَّ ولا زَالوا إلى اليَوم على المجتمع الإسلامي، من (اليهود، والنَّصارى،والكُفَّار) المُظهِرِين لِعَداوتهم، لأنَّ هؤلاء المُنافقين يَعِيشُون بيننا فهُم يَنخَرُون الصَفَّ من الدَّاخل فيقول الله يقول في صِفتهم (وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ) بِمعنى أنَّ الكُفر مُلازمٌ لَهم لم يُفارِقهم (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ) لاحِظُوا في خِتام الآيات أيُّها الإخوة وهذا كثير في القُرآن الكريم (والله عليمٌ بذاتِ الصُّدور)، (والله عليمٌ بما يكتمون) ونحو هذه الآيات، فحتى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلمه. وهناك كلمة جميلة قالَها أحدُ العُلماء يقول: "أنت تقرأ في كتاب من كُتُب البَشر فتكتشف شخصية المُتحدِّث من خلال كتابه تقرأ قصيدة من قصائد الشُّعراء فتعرف شخصية هذا الشَّاعر وأسلوبه في الكَلام وتكتشف نوازع هذا الكاتب إن كان غَضِب، إن كان يُحب، إن كان يَمدح، إن كان يهجو، أمَّا القرآن الكريم فهو كتابٌ لا تَقِف وراءَه شخصيةٌ بشريةٌ أبدًا". اقرأ القرآن الكريم من أوَّله إلى آخره هل تَجد فيه كلام محمدٍ صلى الله عليه وسلّم؟ هل تجد فيه شخصية محمد صلى الله عليه وسلّم ؟ نحن نعرف الحديث النبوي،أليس كذلك؟ فإذا قرأ القارئ مثلًا في صحيح البخاري فإنّه يعرف أنَّ هذا هو أسلوبُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم  . قولُ النَّبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه) ، وقول النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة ، وصوم رمضان،وحجُّ البيت) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس). فهذا نسجُ كلام محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلم - . لكن عندما تأتي: (هل أتَاكَ حديثُ الغَاشية. وُجُـوهٌ يومئذ خاشعة.عَاملةٌ ناصبة.تَصلى نَارا حامية.) ، و قوله سبحانه وتعالى (كَلاّ إذا دُكَّتِ الأرضُ دكًّا دكًّا. وجَاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفّاً صَفاًّ وَجِيءَ يَومئِذٍ بِجَهنَّم يَومئِذٍ يَتذكَّرُ الإنسانُ وأنَّى لَهُ الذِكرى يقول يا ليتني قدَّمتُ لحياتي) فهذه أشياء غيبية لا يعلمُهُا البَشر، هذا كلام الله.
 قال الله (تِلكَ من أنباءِ الغيب نوحيها إليك ما كُنت تَعلمُها أنتَ ولا قَومُكَ من قبل هذا فاصبر إنَّ العاقبة للمتقين) هذا كَلامُ الله ،(ومَا كُنتَ لديهم إِذ يُلقُون أَقلامهم أيُّهُم يكفلُ مريم وما كُنتَ لَديهم إذ يَختَصمون) هذا من علم الغَيب نوحيه إليك.  ( وكَذلِكَ أَوحينا إليك رُوحاً من أَمرنا ما كُنتَ تَدري ما الكتابُ ولا الإيمان ولكن جعلناهُ نُوراً نَهدي به من نَشاءُ من عِبادنا) فانظر إلى الفرق بين كلام الله ونَسجه، وبين كلام البشر وأعلاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم - مُختلف تمام.
 / ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فيه إشارة إلى بَعض اليَهُود الذِّين يُسارِعُونَ في أكل الرِّبا وأكل أموالِ النَّاس بالباطل،ثم يقول مُعاتبًا لعلماء بني إسرائيل فيقول (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ) فَالمَلامة واللَّوم الشَّديد يَتوجَّه إلى العُلماء فيهم، لماذا لا يَنهَـونَهُم عن هذا الظُّلم، وعن هذا السُّحت، ولكن لأنَّهم قصَّروا فعمَّتهُم اللَّعنة، وعمَّهم العِقاب، وعمَّهم الإِثم, فيقول (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) تَ وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي على العالِم - والله يصفه هنا قال  (الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ)  وتحدَّثنا في الجَلسة المَاضية إلى أنَّ الرَّبَاني هو العَالم الذِّي يُربِّي بِعلمه فَيجمَع مع العِلم التربية، وأما الحَبر فهو العَالِم فقط. فالله يَعيبُ على العُلماء من بني إسرائيل أنَّهم لا يَقومون بواجب النَّصيحة، وواجب الأَمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر بين قومهم ولذلك يَذكُر الله سبحانه وتعالى عن فئة مؤمنة من بني إسرائيل أنَّهم كانوا يأمرون بالمعروف ويَنهَون عن المنكر، فقال لهم النَّاس وبعض العُذَّال، والعَاذِلين أنتم تُضيِّعون أوقاتكم بالأمر بالمعروف والنَّهي لهؤلاء عن المنكر، والله سبحانه وتعالى لن ينفع بما تفعلون. فقال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف (وإذ قَالت أُمَّةٌ منهم لِمَ تَعظُون قوماً اللهُ مُهلِكُهُم أو مُعذِّبُهُم عَذاباً شديداً) بمعنى اُتركُوا هؤلاء فهُم هالكُون (قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ثم قال الله سبحانه وتعالى في الآيات التي بَعدها في سورة الأعراف (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) فالأَمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يَنبغي أن يقوم به العُلماء والأحبار والرَّبانيون وأنَّهم هُم أوَّلُ من تَنصَبُّ عليهم المسؤولية في هذا الأمر. إلى هنا ينتهي المجلس الخامس ،وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 المَجلس السَّادس
 بسم الله الرَّحمن الرَّحيم،الحمد لله والصَّلاةُ والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. هَذا هو المَجلس السَّادس من مَجالس تفسير سورةِ المائدة في هذه الدَّورة المُباركة دورة الأترجة القرآنية والتي تُــقَام في هذا الجَامع المُبارك جَامع الشِّيخ محمد بن عبد الوهاب بمدينة بُريدة. وقد وَصلنا إلى قولِ الله سبحانه تعالى في وَصف اليهود (لولا يَنهَاهُم الرَّبانِيُّون والأَحبارُ عن قـَولهم الإثمَ وأَكلِهِم السُّحت لَبِئسَ ما كانُوا يَصنعُون ) ولا يَزالُ الحديث مُتَّصلًا عن اليَهُود وقد تقدَّم معنا في المَجالِسِ الماضية، عن سبب الإكثار من ذِكر اليَهود في هذه السُّورة، مع أنَّ السُّورة تتحدَّث عن الوَفاءِ بالعُقُود، وتتحدَّثُ عن الحَلال والحَرام، فما هي عَلاقةُ دخولِ بني إسرائيل واليهود في هذا ؟ الجواب: لأنَّهم أكثرُ الأُمَم نَقضًا للعُهُود، فهؤلاء مثالٌ حيّ لمن يَنقُض العُهُود، والله سبحانه وتعالى يَذكُرُهُم حتى يُجتَنب ما يَفعلون.
 فيقولُ الله سبحانه وتعالى عن اليهود (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) هَذه وقَاحةُ اليهودِ المَعروفة، تعدَّوا على الله سبحانه وتعالى فوَصَفُوه بأقبح الصِّفات (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) يعني أنَّه بخيل - سبحانه وتعالى- فقال الله تعالى في الرد عليهم (غُلِّت أَيديهم ولُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَل يَداهُ مَبسوطَتان يُنفِقُ كيف يَشاء) وفي هذه الآيات إثباتُ صفة اليَدين لله سبحانه وتعالى على ما يَلِيقُ بِجَلالِه سُبحانه وتعالى. نُثبِت لله هذه الصِّفة دُونَ تَكييف، ولا تَمثيل، ولا تَشبيه، ولا تَعطيل كما ذكرها الله سبحانه وتعالى.
 (ولَيَزِيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزِلَ إليك من ربَّك طُغياناً وكُفراً) بعضُ النَّاس أيُّها الإخوة لا تـَزيدُهُ الحُجَج إلاَّ إعراضاً وتكذيباً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى طَبَع على قَلبِه، وفي النَّاس من يَهديه الله سبحانه وتعالى بأيسرِ سَبيل لأنَّ الله فَتَحَ عليه، ولذلك قال في الآيات التِّي مَرَّت مَعنا (أولئك الذِّين لَم يُرِد الله أن يُطهِّر قُلُوبهم) فنَسأل الله سُبحانه وتعالى أن يُطهِّر قُلوبنا أيُّها الإخوة من النِّفاق، الواحدُ مِنَّا أحياناً يَسمع هذا الكلام، ويقرأ كثيرًا ولا يُراجِعُ قلبَه، ولا يُعالِجُ قلبه،ويَظن أنَّه بِمنأى عن ذلك، والصَّحابة رضي الله عنهم كَانوا من أَشَدِّ النَّاس خَوفًا من النِّفاق،يَخافُ الواحد منهم أن يكونَ في قلبه شيئًا من النِّفاق وهو لا يَدري. ومنهم عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه,فحذيفة بن اليَمان رضي الله عنه هو أمينُ سِرِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فكان يُخبره صلى الله عليه وسلم بأسماء المُنافقين ولا يُخبِر أحداً غيره. فقال عمر بن الخطاب لحذيفة: يا حُذيفة سألتُك بالله هل عَدَّني رسولُ الله من المُنافقين؟ فاجَأه بالسُّؤال فقال: لا، ولا أُخبِرُ أحدًا غيرَك. فالشَّاهدُ أنَّ الصَّحابة - رضي الله عنهم - الكُمَّل كانُوا يَخافُون من النِّفاق، ولذلك يَنبغي علينا أيُّها الإخوة أن يُحاسِبَ الإنسانُ نفسه دائمًا، نسأل الله أن يُطهِّر قُلوبنا من النِّفاق لأنَّ الإنسان قد يَعتريه العُجُب، ويعتريه الضَّعف، ويعتريه ثَناءُ النَّاسِ، أو الغُرور فَيَدخُل في نفسه هذا المَرض، والعِياذُ بالله. فيقول الله سبحانه وتعالى (وَلَيزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليكَ من رَبِّك طَغيانا وكُفراً) فهذا الحقُّ الذِّي يــُؤمنُ بِه المُؤمنون، لا يــَزيد هؤلاء المُكذِّبين إلاَّ طُغيانًا، وكُفرًا بِكَ، وتكذيبًا ولذلك أذكرُ قصَّةً لِصَفية رضي الله عنها زوجةُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأُمُّ المُؤمنين وهي بِنتُ حُييّ بن أَخطب اليَهودي فتقول هي: "لا أزال أتذكرُ أولّ ما جاء النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فذَهبَ والِدِي لِكَي يَرى صِفَة محمد هذه، وكان من عُلماء اليهود فذهب إليه ورَجِع. فقال له عمِّي: أَهُــوَ هُــو؟ بمعنى هل هي الصِّفة التي عندنا، المكتوبة في التوراة ؟ قال: نعم نفس الصفة . قال: فماذا ترى؟ . قال: عداوتُهُ ما بَقيِت" . فَهَذا هُو مَعنى قَولُهُ تَعالى (وَلَيَزيدَنَّ كثيراً منهُم ما أُنزلَ إليك من ربِّكَ طُغياناً وكُفراً) . (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
 *هل المَقصود هنا ألقينا بين اليهود فيما بينهم العداوة والبغضاء؟ الآية تحتمل ذلك.
 *وألقينا بينهم العداوةَ والبغضاء بين اليهود والنَّصارى, الآية تحتمل ذلك.
 ولاحظوا في التَّعبير هُنا قال (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) وقال في الآية التي سَبقَت معنا (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) وقلنا أنَّ المقصود بـــ (أغرينا) هنا نفس المعنى الذِّي في (ألقينا) لأنَّ الإغراء (الإلزامُ،والإِلصاقُ،والمُلازمة) وجاء هُنا فقال (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) في إشارةٌ إلى ولَع اليهود على مرّ التّاريخ بإشعال الحُروب والِفتن، فهُم مُتخصِّصين في هذا، وقِصَصُهُم كثيرة في التَّاريخ، وكثيرٌ من الفِتن التي وقعت في أوروبا في القُرونِ المُتأخرة كالحُروب التِّي وقَعت في أوروبا الشَّرقية،والغَربية،والحَربُ العالمية الثانية كان اليَهود لهم سبب رئيسي في إذكاءِ هَذِه الحروب. ولذلك انظروا، كيف عبَّر الله سبحانه وتعالى فقال (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) صفاتٌ عجيبة الحقيقة يَصِف الله بها اليَهود، في القرآن الكريم لو أردتَ أن تُفرِدَ حديثَ القرآن الكريم عن اليَهُود لَظَهَر لك كتابٌ ضخم خاصٌّ بكشف شخصية اليهود ، مع أنَّ اليَهُود في التَّاريخ قِلَّة، لكنَّهُم خُبثاء، قِلَّة مُؤثرة ولاحِظُوا إلى يومنا هذا وهُم كذلك. مرَّت عليهم فترات في التَّاريخ لم يَكُن لهم حضورٌ ظاهر، لكنَّهم كما قال الله (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا) لاحظُوا اليوم عددهم قليل، ودولتهم صغيرة لكن أفسدوا العَالم الآن مثل الأَخطَبُوط.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى لأَهلِ الكِتاب (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وقد قال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) وذكَرَ منهم : (من آمن بنبيه وآمن بي) فإنه يؤتى أجره مرتين ، يعني اليهوديّ الذي يُؤمِن بموسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ثم يُؤمِن بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم - فإنّه يُؤتَى أَجره مَرَّتين ويُضاعَف له الأجر وهذا ترغيبٌ لهم بدخولهم في الإسلام. لو أردت الآن أن تَدخُلَ في دين اليهودية فهذا غيرُ مقبولٍ منك، الدين اليهودي مُغلق وليس ديناً مفتوحاً، لا يقبلون في اليهودية - وكأنها جنسية - لابد أن تكونَ أُمُّكَ يهودية حتى تُقبَل في الدخول في اليهودية. النَّصارى - بالرغم من أن النصارى دينٌ خاص - لأنَّ عيسى ابن مريم أُرسِلَ إلى بني إسرائيل فقط، لكنَّهم حَرَّفُوا دينه، وجعلوه ديناً عالميِّاً، وأصبحوا يُروِّجُون ويُبشِّرون بالنَّصرانية، وأَدخلوا فيها العالم الآن ، فأصبح النَّصارى عددُهم ضخم جِدّاً، وهذا خلافُ شريعة عيسى - عليه الصّلاة والسّلام - لأنَّه يقول في الإنجيل قال (إنُّما بُعثتُ لِخرَاف بني إسرائيل الضَّالة). والوَحيد الذِّي أُرسِلَ إلى النَّاس كافَّة هو محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -  ولذلك يقول عليه الصَّلاة والسَّلام (أعطيتُ خمساً، لم يُعطهُنَّ أحدٌ قبلي - وذكر منها - وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة) . فالله سبحانه وتعالى في هَذِه الآية يُغرِي أهلَ الكتاب بالدُّخول في الإسلام ويقول لهم لو دَخلتم في الإسلام لكانَ لكم مَزيَّة (ولو أنَّ أهل الكتاب آمنوا واتَّقوا لكفَّرنا عنهم سيئاتهم ولأَدخلناهم جنَّاتِ النَّعيم ولو أنَّهم أقامُوا التَّوراةَ والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربِّهم) اُنظروا التَّحبيب للدُّخول في الإسلام (لأَكَلُوا من فَوقِهم ومن تَحت أرجلهم ) يعني لأنزلنا عليهم السَّماء بالمَطر، وأنبتنا لهُم الأرض،وأدررنا لهم الأرزاق كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) وهذا إشارة أيُّها الإخوة إلى رحمةِ الله سبحانه وتعالى بخلقه، وأنَّ الله سبحانه وتعالى يُحبُّ أن يُؤمنَ النَّاس وأن يَدخُلَ النَّاس في الدِّين وأن ينقادوا لأوامره ولذلك قال في سورة النِّساء (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) . قال (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) إشارة هنا أيضًا إلى ما تقدَّم معنا من عدلِ الله سبحانه وتعالى في حكمه على هؤلاء، وأنّهم ليسوا كُلُّهم أَهلَ كُفر، وعناد، وتكذيب، ولكن منهم أمةٌ مُستجيبة تستجيب للدَّعوة وتدخُل في الدين .
/ثم يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) لاحظوا هذا النِّداء الثاني بصفة الرَّسُول والخِطاب للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - يعني (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) تعظيمًا لِهذه المكانة التي أنت فيها وهي صفة الرسالة (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وهذه الآية من الأدلة الصَّريحة على أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قد أكمل إبلاغَ الرِّسالة لأنَّه لو لم يُكمِل إبلاغَ الرِّسالة لوَقَع في المَلامَة، فهذه الآية تقول (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) لكنَّك قَد فَعَلت وبلَّغت الرِّسالة وقلت لكم أنَّ هذه السُّورة من أواخر ما نَزَل على النَّبي صلى الله عليه وسلم .
((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أيّ ما بلَّغتها على وَجهِهَا (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وهذه الآية يقول العلماء كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يَتخِذُ حُرَّاسًا يَحرسُونَه حتى لا يَغدِر به أَحد فلمَّا نَزَلت هذه الآية صرف الحُرَّاس وحَمَاهُ الله سبحانه وتعالى فقال (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولذلك كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يومًا، ومعه عدد كبير من المسلمين في الجيش، لكنَّهم تفرَّقوا تحت الشَّجر يَنامُون وكان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نائِمًا تحت الشَّجرة فجاء أحد المشركين ووقف بالسَّيف على رأس النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذه فرصةٌ سانحة لقتل محمد. فقام النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعُكَ مِنِّي يا محمد الآن؟ كأنّه يقول (السَّيف على رقبة النَّبي صلى الله عليه وسلم،وَسَيفُكَ مُعلَّق بالشَّجرة ) فقال: اللَّـــــــه . فَسَقَط السَّيف من يَدِ الأعرابي خوفاً، وهيبةً، وحفظاً من الله، وكاد أن ينخلع قلبُه. فالشَّاهد أنَّ هذا من معاني قوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) بمعنى يَحفظك ويَمنعك .
 (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) ولاشَكَّ أيُّها الإخوة أنَّ للمؤمن المُتَّبِع للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - من الحِفظ، ومن العِصمة بقدر إيمانه، وتصديقه، ويقينه، والله سبحانه وتعالى يحفظ المؤمنين، ويدافع عن المؤمنين بقدر إيمانهم، وبقدر صدقهم وإخلاصهم نسأل الله من فضله .
 ثم يقول (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) لاحِظُوا أيُّها الإخوة كيف أنَّ القرآن الكريم يَذكُر قواعد عامة (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) لماذا؟ بِسبب كُفرِهِم، أليس كذلك؟ فَكُلّمَا كان لَهُم نَصيبٌ أوفر من هذه الصِّفة كُلمَّا زَاد ضَلالُهُم، ولذلك لا تستغرب أنَّك ترى الكافر في ضَلالٍ مُبين، وفي عَمياء، وفي جَهالة ويتخبَّط، وأمراض وكَوارِث، وخُطَط فاشلة ،لا تَستغرب، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أضلَّهُم وقال (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، وقال (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) .
 المُؤمن أيُّها الإخوة يُنوِّر الله بصيرتَه بنور الإيمان. المُؤمن يَهديه الله سبحانه وتعالى،يُيَّسر أموره. يفتح له أبواب الخَير والرِّزق من حيث لا يَحتَسِب بسبب إيمانه. الكافر يُضيِّق الله عليه، صَدرُهُ يَضيق، حياته تضيق، خُططه تفشل، بسبب كفره، وبالرَّغم من ذلك ترى التَّقدم عندهم. وهذا ليس دليلًا على الهِداية أبدًا.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) الآيات التي ستَأتي معنا الآن فيها حِوارٌ مع أهل الكتاب، وسيتكرَّر لفظة ( قُل) وهذا يسميه المُفسِّرون أُسلُوب التَّلقِين. فالذِّي يُلقِّن هُو الله سبحانه وتعالى، والمُلَقَّن محمدٌ عليه الصّلاة والسّلام ماذا تُريد أَكثر مِن ذلك؟ يقول الله سبحانه وتعالى للنَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : قُل لَهُم كَذَا ، قُل لَهُم كَذَا ، وأنا أقول أحيانًا في بعض هذه السُّور: عندما يأتي الأستاذ الذِّي يُدَرِّسُك فيُغَشِشُكَ في الاختبار، سوف تَأخُذ هذا التَّلقين على مَحمَل الثِّــقة، لأنَّ الذِّي يُعطيك المَعلومات أستاذُك، ولله المَثل الأعلى، فكيف إذا كان الله سبحانه وتعالى يُلقِّن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - الحُجَج ويُلِّقنه الرُّدُود عَلى هَؤلاء المُكذِّبين، وهؤلاء الكُفَّار، فيقولُ الله سبحانه وتعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) أنتم على باطل (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) تلقائيًا لو أَقــَاموا التَّوراة، والإنجيل وما أُنزِل إليهم من ربِّهم، لآمنوا بالنَّبي - صلَّى الله عليه وسلم -،وسبحان الله العظيم التَّوراة والإنجيل المُحرَّفة الموجودة بين أيدينا اليوم فيها إشاراتٌ كثيرةٌ جِدًا إلى النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - بعد التَّحريف، هم حاولوا أن يُزيلُوا كُلَّ إشارةٍ إلى مُحمّد عليه الصَّلاة والسَّلام، وبالرَّغم من ذلك بَقِيَت إشارات كثيرة تَدُلُّ على محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، فإقامةُ التَّوراة والإنجيل تستلزِمُ الإيمان بمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقال الله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أيّ لا تَحزن على القَومِ الكَافرين ولا يزيدُك تكذيبُ المُكذِّبين وإعراض المُعرضين إلا إيمانًا وثباتًا ويَقينًا بصدقِ ما جئتَ به والحقِّ الذِّي بين يديك يا محمد .
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ) وتأمُّلوا معي في هذه الآية  (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ) الذِّين هادُوا يعني اليَهود (وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى) الصَّابِئُون في القرآن الكريم فيها كلامٌ كثير للمُفسِّرين قالوا :
- المَقصُود بهم كَمَا قَـالُــوا الذِّين لا دين لهم.
- وبعضهم يقول الذِّين يَعبُدون الكَواكب.
 لأنَّ الصَبَأة في اللُّغَة تأتي بمعنى مَالَ وانحرف، فكانوا يقولون للمُسلم إذا أسلم لقد صَبَأتَ عن دينك، يعني انحرفت عن دَينك إلى دِينٍ جديد.
 فالصَّابئون بعضُهم يقول هُمُ الذِّين يَبحثون عن الحَقّ فلا يَستَــقِرُّون على دين إذا عرفوا أنَّ غيرَهُ أصلَحَ منه . ونَحو ذلك من التَّــعريفات لكن على كُلِّ حَال هُم من غير المُؤمنين فئةٌ من الفِئات التي كانت قبل الإسلام، ولا يزالُ بعضَ من يُسمِّي نفسه أنّه من الصابئة في العِراق، لكنَّهم أقلِّية ، فيقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني الآية تقول الذِّين آمنوا بِكَ يا محمد، والذِّين كانوا يُؤمنون بِمُوسى من اليهود ثم آمنوا بك، والذِّين كانوا من الصَّابئة ثم آمنوا بِك، والذِّين كانوا من النَّصارى ثمّ آمنوا بك وعملوا عملًا صالحًا فلا خَوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. فيه إشارة إلى أن الإسلام يَجُبُّ ما قَبلَه من الكُفر ومن الأديان,ولهذا أدلةٌ كثيرة.
 ثم يقول الله تعالى (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) سُبحان الله، هذا أسلوبُ بني إسرائيل ، اليَهُود (كُلَّما جَاءَهُم رَسُولٌ بِمَا لا تَـهوَى أَنفسُهُم فريقاً كذَّبوا وفَريقاً يَقتُلُون) ولذلك بَلَغَ من عُتُوِّهِم وإِجرامِهِم أنَّهم تَجَرَأُوا فقَتَلُوا بعض الأنبياء، ولا شَكَّ أنَّ هَذا لم يَقع لأيّ أُمَّة من الأُمم إلاَّ لليَهُود - بَني إسرائيل - تَجَرَأُوا أنَّهم يَقتُلون الأنبياء، فقوم صالح قَتَلُوا النَّاقة ولكن لم يقتُلُوا صالح، وقوم نوح، وقوم عاد، لكن اليهود قَتَلُوا الأَنبياء. وهذا أيُّها الإخوة يُعطِينا دَرساً في أنَّ هؤلاء لا يُمكن أن يُـقَام معهم صُلح، ولا يُقَام معهم سلام، ليسَ معقولاً أن تترك كُلّ هَذِه الآيات الوَاضحة الصَّريحة التي يفهمها من لا يفهم ، وتَتركها إلى مثل هذه التُّرهات، فينبغي أن يكون لكتابِ الله من الحُرمة ومن التَّعظيم في نفوسنا ما يَنهانا عن سُلُوك مثل هذا الطريق .
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ) أيّ عليهم (فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) إشارة أيُّها الإخوة إلى كثرة اختلاف واضطراب اليَهود، وكثرة إيمانهم ثم عودتهم إلى الكُفر، وكثرة دُخُولهم ثم خُرُوجهم على أنبيائهم، ولذلك يقول النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (إنَّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم) ومن هذا الاختلاف هذا السُّلُوك (ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) بعد فتنتهم، ويقولون القول فيغضب الله عليهم، ثم يستغفر لهم موسى فيتُــوب الله عليهم (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) ، (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ) تَجِدُون هذا في سِيرة بني إسرائيل وبالرَّغم من ذلك لايَزيِدهم هذا العَفو وهذا الصَّفح وهذا التَّسامح الذِّي يُحلِّهُ الله سُبحانه وتعالى عليهم ويُعطِيهِ لهُم إلاَّ عُتوًا وعُدواناً .
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ومرَّت معنا آية مماثلة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ثم تأتي فتَسمَع من يقول: لا يَجُوز أن تقول لهؤلاء أنَّهم كفار!. لماذا؟ يقول لك : هذا لا يَصلُح هذا الكَلام. نعم لا يُقال لليُهود والنَّصارى أنَّهم كُفَّار. ولكن الله سُبحانه وتعالى كَفَّرهم، فقال (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ). اُنظر الفَرق بين قول عيسى، وبين قول هؤلاء الكُفَّار  (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وتُلاحِظُون في آخر السُّورة (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) نفس الكلام هنا (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ما أَوضح هذه الآية ولا تَحتاجُ إلى شَرح ولكنَّها في غاية الوُضوح والصَّراحة في أنَّ من يُشرِك بالله سبحانه وتعالى، ويَمُت على الشِّرك، فإنَّه لا يدخل الجنَّة ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) ولاحِظُوا أنَّه يَقول (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) هذا دليلٌ على أنَّ أعظم الذُّنوب هُو الشِّرك بالله، وأنَّ أيَّ ذَنبٍ غيرَهُ فهُو دُونه،ولِذَلك قال (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) فكأنَّ هذا أَعلى ذنب (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) ولذلك يَنبغي أيُّها الإخوة أن لا يَمَلَّ المُسلم من التَّحذير من الشِّرك والتَّنبيه عليه والمُلاحظة حتَّى في كَلمَاتِنا، وفِي عِبَاراتِنا، وفي زلاَّت أَلسنتنا، أحياناً يقُول الإنسان بعض العِبارات التِّي تُـوهم معنى الشِّرك لا ينبغي أن نتساهل فيها وينبغي أن نَتَواصَى في التَّحذير منها، والنَّهي عنها حتى يَصفُو لك دِينُك وعقيدتك. لِهَذا القُرآن الكريم لو قَسَّمناه رُبَّما يَزِيدُ عن الثُّلث أو النِّصف حديثٌ عن التَّوحيد، والنَّهي عن الشِّرك، وحديثٌ عن الأُمم كُلَّها من لَدُنِ قومِ نوح، عاد، ثمود، شُعيب ،عيسى، مُوسى، مُحمَّد، كُلُّه نَهيٌ عن الشِّرك، وتَحذيرٌ من الشِّرك، وذَكَرَ لقِصص المشركين وعاقبة المُشركين في هذا . اُنظُروا هُنَا في كَلام عِيسى عليه الصَّلاة والسلام (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ثم يأتي أتباعُه والذِّين يَزعمُون أنَّهم يتبَعُونه فيقولون أنَّهُ ابنُ الله، ويُشركُون به مع الله سبحانه وتعالى، ولذلك يَتبرأ منهم عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام يوم القيامة.
ثم أيضا يقول الله (لَقَد كَفَرَ الذِّين قَالُوا إنَّ الله ثالثُ ثَلاثَة) النَّصارى ليسوا طائفة واحدة
* مِنهم (اليَعقوبية) الذِّين ذكرتُ لكم في درسٍ سَابِق الذِّين يقولون إنَّ الله - تَعالى الله عمَّا يقولون عُلُّوًا كبيرًا- حَلَّ في عيسى فيزعُمُون أنَّ الله حَلَّ في عيسى، ولذلك يُأَلِّهُون عِيسى.
* وفئةٌ أخرى يقولون لا، الله ما حَلَّ في عِيسى، لكن عيسى ابنُ الله فَيَرون أنَّهُم ثلاثة (الأب، والابن، ورُوحُ القُدُس) ثلاثة في واحد، هذا الدِّين لا يَقتنع به أغبى النَّاس، ولذلك دائمًا لا يُجادِلُــون، ولا يُحبُّون المُجَادلة في هَذا. إذا سَألته كيف ثلاثة في واحد؟ وضِّح لي، لا تَدخُل العَقل. فقالوا لا نُناقش في هذا ، نقبَلها هكذا كهيئَتِهَا . بالله تخيل عقيدة الذين يتبَّعُونها يمررون النقاش فيها ، يعني مسألة عجزوا عن فهمها ولم نفهمها بشكل جيد ولذلك نحن نؤمن بها جيلا بعد جيل هكذا . ولذلك سألتُ أحد القسِّيسن يومًا قلت له: كم مرَّة قرأتَ التَّوراة - وهو الكتابُ المُقَدَّس وهُو مجموعٌ في كتابٍ واحد - فقال لي: مرَّة واحدة . فقلتُ له : ولكنَّك مُتَخَصِّص، المُفترض أن تَحفظه. فقال لي: ليس فيه ما يَدعوني إلى قراءته مرةً أخرى. تخيَّل نحن كيف يقرأ الواحدُ منَّا القرآن ويُعاتِبُ نفسه أنَّه لا يــقرأه بشكل مُستمر.
 فيقول الله سبحانه وتعالى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) في هذه الآيات عتابٌ شديد، فليس المقصود بقوله (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أنَّ فيهم مَن ليس بِكَافر وهو مُقيم على ما هُو فيه من الضَّلال، وإنَّما المقصود بها لَيَمسَّن الذِّين يُصِرُّون على البَقاء على هَذا الكُفر منهم عذابٌ أليم، فيه إشارة إلى أنَّ منهم من يستجيب ويدخُل في الإسلام، وهذا الواقع قديمًا وحديثًا هُناك من يَستجيب منهم ويدخلُ في الإسلام، وفيها إشارة أيضًا وهي أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب إلا لِسبب وهو (الكُفُر). فَكُلُّ من خَرَجَ من هذا الكُفر بالإيمان وانقاد وسلَّم فإنَّه يخرج من هذا العِقاب.
 ثم يقولُ الله سبحانه وتعالى (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) ولاحظوا أيُّها الإخوة حديثُ القُرآن الكَريم عن المَسيح حديثٌ عجيب، تُلاحِظُون الحَديث عن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام في القرآن الكريم أكثر عن محمد، أليسَ كذلك؟ والحديث عن عيسى أكثر من الحديث عن محمد، وهذا أمرٌ مُستغرب. ولذلك يقول أحدُ علماءِ النَّصارى أخذتُ القُرآن الكريم وكانَ في ذِهني أنَّه سيكونُ حديثٌ عن خَديجة، وعائشة، ومحمد، وأبي بكر لأنَّهم هؤلاء هُمُ الذِّينَ قَامَ عليهم الإسلام قال : فلمَّا قرأتُ القرآن فإذا هو حديثٌ عن عيسى، ومريم، وموسى وليس فيه ذكرٌ لعائشة ولا خديجة, حديثُه عن النَّصارى، وعن دينهم وعن بُطلانِ ما هُم عليه، وعن عيسى، وعن حقيقة عيسى. فدخل في الإسلام وأسلم، فعلًا هذه من الأشياء التي رُبَّما لا ننتبه لها نحن المسلمين ونحن نقرأ القرآن الكريم، ولا يلتفت أحدُنا لماذا أكثر الله من ذكر عيسى وذكر موسى؟ لتَفنيد هذه الشَّبهات، والردّ على هذه الأخطاء وهذه العقائد الباطلة حتى يجتنبها المسلم.
 ثم يَذكُر اللهُ حقيقة عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، ومريم عليهما الصَّلاة والسَّلام فيقول (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) مَثَلُه مَثَل الرُّسُل الذِّين سَبَقُوه، وأُمُّه مريم (وأُمُّهُ صِدِّيقة) لا أَقَلّ ولا أكثر ، ليسَت نَبِيــــِّة، وليسَت من خَوارِق العادة ، هي امرأة صِدِّيقَة صَالحة، جعل الله لها آية فوُلِدَ لَها عيسى من غيرِ أَب، كما وُلِدَ آدم من غير أَبٍّ ولا أُمّ، وكما خُلِقت حوَّاء من غير أُمّ، فكذلك عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام هو بَشر، فليس بإله ، ولا بابن إله. هذه حقيقة عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، ولِذَلِك حتَّى تُلاحظون في سورة آل عمران فيها هذا المَعنى، الله سبحانه وتعالى سمَّاها سورةُ آل عمران، من هُم آل عمران ؟ عائِلة من العَوائِل الصَّالحة من بني إسرائيل، وُلِدَ لِهَذه المرأة الصَّالحة امرأة عمران بنت، وسمَّتها مريم، ثم وُلِدَ لِمَريم هذه ابن، وسمَّتهُ عيسى فَهُم أسرة مثلها مثل أَيِّ أُسرة لا فيهم أُلــوهية ولا شيء، فيقول الله (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) سَبَقه موسى، وسَبَقه زكرِّيا، وسَبَقَه يَحيى، ومجموعةٌ كبيرة من الأنبياء وتعرفونهم كذلك. (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) ما أجمل هذه الكِناية في القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى حَيِّي كريم، يُكنِّي في القرآن الكريم عن المَعاني التي قد يُستحيَا منها، فبَدلَ أن يقول الله سبحانه وتعالى إنِّ عيسى عليه الصلاة والسلام ومريم كانا يأكلان الطعام ثم يحتاجان إلى ما يحتاج إليه البشر من إخراج هذا الطعام فقال (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) فقط وأنت تفهمها، وهذا الحقيقة في غايةِ البَلاغة وعندما يقول الله سبحانه وتعالى (أو لامستم النِّساء) عبارة جميلة فهي كناية عن ما يقع بين الرَّجُل والمَرأة مِمَّا يَنقُضُ الوُضوء أو نحو ذلك، فانظر إلى هذا الأسلوب الرَّائع في الكلام، تستطيع أنَّ تقول ما تريد بعبارةٍ جميلة، وبأدب ، والقرآن الكريم يُعطيك مثال رائع جدًا في هذا الجَانب. فالله يقول في هذه الآية بِكُلِّ وُضوح عيسى من البَشَر، مثلُهُ مثلُ أيّ بشر، إلاّ أنَّ الله قد اصطفَاهُ وجعَلَهُ نبيِّاً، وجَعَلَهُ آية (وأمُّه صِدِّيقة) امرأةٌ عابدةٌ قانتة،كانا مثل غيرهم يأكلون الطَّعامَ، ويعيشُونَ كما يعيشُ غيرُهُم، ولذلك كان المشركون يَستغربون من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يَرونَهُ يمشي في الأسواق فيقولون (مَالِ هذا الرَّسولِ يأكُلُ الطَّعامَ ويَمشِي في الأسواق) ماذا تُريدون إذاً، مَلَكاً؟ قال الله (وَلـَو جَعلناهُ مَلكًا لَجَعلناهُ رجلاً) فلا يُمكن أن نُرسِلَ لكُم مَلَكاً في هيئَتِهِ المَلائِكية، لأنه لا يُمكن التَّواصُل مَعه، ولِذلك سَنُحوِّله إلى رجل. فرجعنا إلى نفس الأمر. ولذلك كان جبريل عليه الصّلاة والسّلام يأتي للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - في هيئةِ رَجُل، فَيَلتَبِسُ ذلك على الصَّحابة فيقولون: من هذا يا رسول الله؟ فيقول عليه الصّلاة والسّلام: إنّه جبريل أتاكم يُعلِّمُكُم دينَكُم.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (اُنظُر كيف نُبيِّنُ لهُم الآياتِ ثم انظر أنَّى يُؤفكُون) أي تَأمَّل يا مُحمِّد في هؤلاءِ اليهود، وهؤلاء النَّصارى، كيف نُبيِّن لهم الحقائق، ونذكُرُ لهمُ الحوادث ونذكُرُ لهُمُ التَّاريخَ الصَّحيح، وبالرَّغم من ذلك كيف يُؤفَكُون، ويُصرَفون عن هذا الحقّ وعن هذا العِلم الذِّي جِئتَ به. إشارةً إلى أنَّ الله لم يُرِد أن يُطهِّرَ قُلُوبَهُم مِن هذا الكُفر والتَّكذيب.
 ثم يقولُ الله (قُــل) يا مُحمَّد (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فلا ينبغي لكَ أن تَعبُدَ من دون الله سبحانه وتعالى، فالله هو السَّميع، هو العليم، هو البَصير، هو القادر إلى آخره من صفاتِ الكمال، فتَترُكَهُ وتعبُدُ ما لا يَملِكُ لكَ نفعًا و لا ضَرًا، كيف تَعبُدُ حَجَرًا، لا يَنفَع، ولا يَضُرّ، كيفَ تعبُد بَشَرًا لا يَنفَع ولا يَضُرّ، هذه بالعقل لا يستقيم لك الأمر، ولذلك قال الله عن إبراهيم في دعوته لأبيه (إذ قَالَ لأبيهِ يا أبتِ لِمَ تعبُدُ ما لا يَسمعُ ولا يُبصِرُ ولا يُغنِي عنكَ شَيئاً) فلا يستقيم الأمرُ بالعقل، لأنَّك إذا كُنتَ ستتخذُ إلهاً فلابُدَّ من أن تَتَّخِذَ إلهاً قويِّاً يُدافعُ عَنك. ولذلك لمّا سأل رسول الله أحد مشركي قريش فقال له :كم إلهًا تعبد يافلان . قال :أعبد عشرة،تسعة في الأرض وواحد في السماء، فقال:فمن لِرغَبك ورَهَبك. قال:الذي في السماء،فهذا دليلٌ على تناقُضِ المُشرك، فالشِّركُ بالله سبحانه وتعالى هو خَللٌ في التَّفكير، وإشراكُ أحدٍ مَعهُ في العِبادة هو خَللٌ في التَّفكير، فلا يُمكن أن يستقيمَ هذا مع العقل ولذلكَ كيفَ تعبُد صنماً، لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ ولا يُغني عَنك شيئًا، ولذلك إبراهيم عليه الصَّلاةُ والسَّلام استغل هَذه الثَّغرة في مَنطق الكُفر، فلمَّا جاء إلى الأصنام انهالَ عليها تكسيرًا وتَرك أكَبَرَهُم، وعلَّق فيه الفأس - كما قيل ذلك في الآثار- فَلمَّا جاؤوا : (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا) فَلمَّا جِيءَ بإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام قال: (فعلَهُ كبيرُهُم هذا فَسئَلُوهُم إن كَانُوا يَنطِقُون*فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ) طبعًا كيف نَسأَل الكَبير هذا ؟ فقال: أسألوه ( أيّ الكبير) فهو الذِّي كسَّر الأصنام الصِّغيرة ، فلاحظ - سبحان الله - مشهد مضحك - كيفَ تعبُدونَ هذه الأحجار ثم تأتُونَ إليها فَلا تعرفُونَ من الذِّي كسَّرها،على الأقل لو كانت أخبرتكم بمن فَعَل هذا الفعل لكن منطق الكُفر واحد (قالوا حَرِّقُوهُ وانصروا آلهتكم) ولو كانوا استجابوا له لكان هذا خيرًا لهم .  ثم يقولُ الله سبحانه وتعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ)
 وهذا فيه إشارة أيُّها الإخوة إلى أنَّ أهلَ الكتاب كان فيهم طائفة يَغلُون في دينهم، كما أنَّه في كُلِّ دين من يغلوا في دينه فهناك من المُسلمين من يغلوا في دينه وقد نُهينا عن الغلو في الدين ، وهناك من أهل الكتاب من يغلوا في دينه ويتنطَّع فنُهُوا عن ذلك والنَّبي صلى الله عليه وسلم قال (هَلَكَ المُتنطِّعُون) فالدِّين دينُ الوَسط والله سبحانه وتعالى قال (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وغيرها من الآيات والأحاديث التي تَدُل على وُجوب سلوك الوسطية في الدين ، والاستقامة والوسطية : هي السَّماحة التي جاءَ بها النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدِّين.
 فالله تعالى يقول (وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) هذه الآيات أيُّها الإخوة المُتتابعة كُلَّها تؤكد هذا المعنى وهو معنى الحذر الشَّديد من الانحراف وراء ضَلالات اليهود والنَّصارى، وأنهم يُسوِّلون لك، ويُحاولون أن يُلبِّسُوا عليك دينك، ورُبما كان هذا التَّلبيس قديمًا أهون منه حديثًا فإنَّ اليومَ قد كثُر تلبيس اليهود والنَّصارى علينا في ديننا بشكل لم يَسبق له نظير. تدخل الآن على الشبكة العنكبوتية فتجد المواقع الكثيرة التي تُلبِّس عليك دينك، وتَصِلُكَ الآن على البريد الالكتروني كثيرًا من رسائل التَّشويه، والتَّشكيك في الدِّين التي يقف وراءها اليهود والنَّصارى وغيرهم، وتجد في القنوات الفضائية الآن، قنوات تَبُثّ النَّصرانية، وتُبشِّر بالنَّصرانية فيقع فيها كثيرٌ من المُسلمين ممن يكونُ دينُه ضعيفاً، وعلمُه ضعيفاً، فيقعون فريسةً لهؤلاء الذين يُضلِّون النَّاس، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ) هؤلاء اليهود والنَّصارى (قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا) فليسوا بضُلّالٍ فقط، وإنَّما أيضًا يُصَدِّرُون هذا الضَّلال إلى غيرهم، قال الله  (وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) .
 نسألُ الله سبحانه وتعالى أيُّها الإخوة أن يُثبتنا وإيَّاكم على الحَقّ، وأن يرزقنا الفِقه في كِتابه، وإلى هُنا ينتهي هذا المَجلس السَّادس من مَجالِس الحَديث عن تفسيرِ سورة المائدة نتوقف عند هذه الآية، ونُكمِل في المجلس السَّابع إن شاء الله تعالى، وصلَّى الله وسلَّم على سَيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 المجلس السَّابع:
 بسم الله الرحمن الرَّحيم، الحمدلله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.. فهَذا هو المَجلس السَّابع من مَجالسِ تفسيرِ سورةِ المائدة.
 وقد وصلنا إلى قول الله تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) قال الله (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) اللهُ المُستعان، لاحظوا أيُّها الإخوة هذه الصِّفة (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر من أَوثَقِ عُرَى دِينِنَا، ولذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول (والذِّي نفسي بيده ؛لتأمُرُنَّ بالمعروف،ولَتَنهُونَّ عن المنكر؛ ولتأطُرُّنَّ السَّفيه على الحقّ أطراً، أوليأخذُنَّكُمُ الله بعذابٍ من عنده) . والأحاديثُ في أهميِّة الأَمر بالمعروف، والنَّهي عن المُنكر كثيرة، لأنَّه يَحفظ الله به المُجتمع وهو ابتلاءٌ لِبَعضنا ببعض، يَقع أحدهم في المُنكر فيَبتلي الله أخَاهُ به، فيَنظُر هل يَنهاهُ عن المنكر أم لا؟ والبعضُ مِنَّا يَتحرَّج ويقول: أَستحي أن أنهاهُ عن المُنكَرِ الآن، سأترُكُ أمرَ النُّصح إلى ما بعد، وآتيه بأسلوبٍ آخر.ثُمّ لا يفعلُ من ذلِك شيئاً. أنا أقول فعلاً إذا كنت تريد أن تأتي بأسلوبٍ مُناسب فهذا ممتازٌ جدًا، صحيح نحنُ لا نَدعُـوا إلى أن تَكونَ سَيِّءَ الخُلُق مع النَّاس،لكن لا تكُن أيضًا نائِماً مُمَيِّعاً لِدينك، حتى أنَّك تتخلَّى عن الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر تمامًا، فهذا من دواعي سَخطِ الله وغضبه. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) ثم ذَكَرَ صفةً من صفاتهم، فقال (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) . وقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (كان الرَّجل من بني إسرائيل يرى أَخاه َعلى المنكر فينهاه فلا يمنعه أن يكونَ أكِيله وشَريبه). فيرى أخاهُ على المُنكر وينهاهُ ولا يَستجيبُ له، وبالرَّغم من ذلك يغدو ويرجع معه، وكان من المفترض أن يهجُرَهُ وأن يكون شديدًا عليه حتى يَنتهي عن هذا المُنكر، وقد ذكر الله في سورة الأَعراف - كما مَرَّ معنا في المجالس السَّابقة - أنَّ الذِّين يأمرون بالمعروف وينهَون عن المُنكر، يُنجِّيهم الله سبحانه وتعالى إذا أخذ أولئك بالعذاب، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ثُمَّ قال بعدها بآيات (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) فالله سبحانه وتعالى ما أضاع جهد أولئك في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وإنَّما أنجاهم عندما حَلَّ بهم العذاب وهذا قد حدث مع قومِ صَالح أليس كذلك؟ * صَالحٌ عليه الصَّلاة والسَّلام كانَ يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلمَّا حَلَّ العذابَ بقومه أنجاه الله.
 لُوطٌ عليه الصَّلاة والسَّلام وبناته أنجاهُ الله وأهلَكَ قومه.
هودٌ عليه الصَّلاة والسَّلام أنجاهُ الله، وقِس على ذلك .
 فعاقِبَةُ الله في الآمرين بِالمعروف،والنَّاهين عن المُنكر حميدة، وأنَّ الله يَرفَع عن الأُمَّة العذاب بِسَببهم، ويَحفظَ المُجتمع بسببهم، ولا يَنبغي لنا أن نتهاوَنَ في شأنه أبدًا، والله سبحانه وتعالى ذَكَرَ هنا أنَّ من أسوأ أَسباب غضبه ولعنته لِبَني إسرائيل أنَّهم كانوا لا يَتناهَونَ عن مُنكرٍ فَعلُوه.
 (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) هُنا حديثٌ عن بني إسرائيل، وكيف أنَّهم يتوَّلَون الذِّين كفروا حتَّى أيامَ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وأيَّام عيسى. لذلك يَذكرون في تَاريخ النَّصرانية في عهد عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام أنه كان اليهُود يُمَالــِئُون الرُّومان الوَثَنِييِّن على عِيسى، والحَوارييِّن، وأرادوا أن يَقتلوا عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام. وفعلاً جاءَ جنودُ الرُّومان وقبضُوا على عددٍ من الحَوارييِّن وقتلوهم، وأرادوا أن يقتلوا عيسى، ولكن الله سبحانه وتعالى حَفِظَه فقال الله سبحانه وتعالى (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) فهُم كانوا يُسارِعون في ذلك، ويتوَّلون الذِّين كفروا في زمانهم. وفي هذا إشارة أيُّها الإخوة إلى الآية التي تقدَّمت معنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) ثم يأتي الحديث بعدها ليُبيّن أنّه كان في بني إسرائيل من يتَّخذ الكُفَّار أولياء، فلا تكونوا مثلهم. فعندما يَقُصُّ الله علينا مثل هذه القَصص فهي مسألة تحذيرية.
 ثم يقول (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) كان جزاءهم على هذا الفعل (أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) , فلا يقول الله سبحانه وتعالى أنَّهم في العذاب خالدون، إلاَّ لأنَّهم قد ارتكبوا فعلا مُكفِّرًا، لاشك أنَّ هذا هو الحق، أن الله تعالى لم يحكم عليهم بالخلود في النَّار، إلا لأنَّهم قد ارتكبوا فعلاً مُكفِّرا بتولِّيهم للكافرين
 ثم قال الله (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) هاتان الآياتان فيها إشارة واضحة إلى أنَّ من تولَّى الكافرين من دون المؤمنين فهو كافر، والآية واضحة في ذلك لقوله (وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) ثم قال (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).
 وإلى هنا ينتهي نصيبُ هذا المَجلس من هذه السُّورةِ العظيمة، والحديثُ عن بني إسرائيل. ولا يزال في بقية دروسنا- والتي سوف تكون في المجالس القادمة إن شاء الله - إشاراتٌ واضحة لكثير من صفات اليهود وعداوتهم للمؤمنين وذلك كله من أجل الاحتياط والحذر من هؤلاء اليهود الذِّين لايــَفتؤن يكيدون للمسلمين، ويحاربونهم ويسعَون في الأرض فسادًا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم فهم كتابه، وأن يرزقنا العمل به، على الوجه الذي يُرضيه عنا سبحانه وتعالى وصلى الله وسلم على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
لحفظ الملف الصوتي :





________________________________
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق