السبت، 17 نوفمبر 2012

الأسباب المعينة على تدبر القرآن الكريم

1- معرفة الله تعالى وتعظيمه :
 فإن معرفة الله سبحانه وتعظيمه هي الباب العظيم لتدبر كلامه جل وعلا، فإن مَنْ امتلأ قلبُه معرفة بالله وتعظيماً له؛ عَظَّمَ كلامه، وتمعَّنَ فيه، وأصغى إليه متأملاً متدبراً.
 وقد أخبر سبحانه أن المشركين ــ وهم الذي لا يعرفونه حَقَّ المعرفة ــ لا ينتفعون بهذا الكتاب الكريم، قال تعالى: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور) [فاطر: 22].
 قال ابن جرير الطبري: " وما أنت يا محمد بمسمع من في القبور كتابَ الله، فتهديَهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا تَقْدِرُ أن يَنْفَعَ بمواعظ كتاب الله وبينات حججه، مَنْ كان ميت القلب من أحياء عباده، عن معرفة الله، وفهم كتابه وتنزيله"(1).
 وبين سبحانه أن سبب تكذيب المشركين؛ عدمُ معرفتهم لله حق المعرفة كما قال تعالى: (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين) [الأعراف: 64]. قال ابن عباس: "عميت قلوبهم عن معرفة الله وقدرته وشدة بطشه"(2).
 وقال السعدي: "فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل"(3). وقال: "فهذه الغاية المقصودة من الخلق والأمر: معرفة الله وعبادته، فقام بذلك الموفقون من عباد الله الصالحين، وأعرض عن ذلك، الظالمون المعرضون"(4).
 ولا شكَّ أن مطالعة التفاسير لا تكفي وحدها في تدبر القرآن ما لم ينضم إلى ذلك الإحساس والإيمان العميقان بأن هذا الكلامَ كلامُ الله تعالى (5).
 قال سَلْم بن ميمون الخوَّاص: "قلت لنفسي: يا نفسُ، اقرئي القرآن كأنك سمعتيه من الله حين تَكَلَّمَ به، فجاءت الحلاوةُ!"(6).
 ولا شكَّ أن تعظيم القرآن من تعظيم الله تعالى، فكما أنه سبحانه عظيم في ذاته، فإنه عظيم في صفاته ومنها كلامه القرآن، وقد سماه سبحانه برهاناً، ونوراً، وهدىً، وفرقاناً، وشفاء لما في الصدور، فعظمه عند المؤمنين؛ ليُعَظِّموا قدره ويفهموه، لينالوا شفاء قلوبهم (7).
 قال الحارث المحاسبي: "فإذا عَظُمَ في صدْرِك تعظيمُ المتكلِّم به، لم يكن عندك شيءٌ أرفعُ، ولا أشرفُ، ولا أنفعُ، ولا ألذُّ، ولا أحلى، من استماعِ كلام الله عزَّ وجلَّ، وفهمِ معاني قوله، تعظيماً وحبَّاً له وإجلالاً، إذ كان تعالى قائله، فحبُّ القولِ على قَدْرِ حُبِّ قائله"(8).
 وقد أحسن الإمام الغزالي في تصوير أثر ذلك التعظيم حيث يقول:
 "ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله. فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار، وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد، وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعد له، وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمى والتعالي. فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام"(9).

 2- التمهل والتأني عند القراءة :
 قال تعالى: (ورتل القرآن ترتيلاً) [المزمل: 4]، قال ابن كثير: "أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره"(10).
والتمهل في قراءة القرآن أدعى للفهم والتدبر، وهذه صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كما وَرَدَ ذلك في عدة أحاديث منها:
 - عن حفصة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعداً، حتى كان قبل وفاته بعامٍ، فكان يصلي في سبحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها (11).
 - وعن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كانت مدًا، ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) يمد بـ ( بسم الله) ، ويمد بـ (الرحمن) ، ويمد بـ (الرحيم) (12).
 - وعن أم سلمة: أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية، (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) [الفاتحة: 1 – 4 ](13).
 - وعن ابن مسعود أنه قال: "لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذّوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة" (14).
 - وعن أبي وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذَّاً كهذِّ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المُفَصّل سورتين من آل حم في كل ركعة (15).

 3- فهم القرآن:
 فهم القرآن هو أساس التدبر الصحيح، وذلك بفهم المراد من كلام الله تعالى، وفهم القرآن شامل لفهم معنى الآيات ــ بحيث يفهم القارئُ معاني الكلمات، ويقرأ تفسيرها ــ ولفهم المقصود من إيراد الآيات: وبهذا يفهم القارئُ مقاصد القرآن.
 قال ابْنُ جرير الطبري: "وفي حَثِّ الله عز وجلّ عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات... ما يدلّ على أنَّ عليهم معرفةَ تأويل ما لم يُحجب عنهم تأويله من آيه. لأنه محالٌ أن يُقال لمن لا يفهمُ ما يُقال له ولا يعقِل تأويلَه : "اعتبرْ بما لا فَهْم لك به ولا معرفةَ من القِيل والبيان والكلام"- إلا على معنى الأمر بأن يفهمَه ويفقَهَه، ثم يتدبَّره ويعتبرَ به. فأما قبلَ ذلك، فمستحيلٌ أمرُه بتدبره وهو بمعناه جاهل. كما محالٌ أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلامَ العرب ولا يفهمونه"(16).
 وينبغي للقارئ أن يبتعد عن موانع الفهم كالتكلف في القراءة والانشغال بها عن الفهم، واتباع الهوى فإنه من أعظم موانع تدبر القرآن الكريم.

 4- تحسين الصوت عند القراءة :
 وللصوت الحسن أثرٌ كبيرٌ في تدبر كلام الله تعالى،وقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على تزيين الصوت عند القرآن فقال صلى الله عليه وسلم:( زينوا القرآن بأصواتكم )(17).
 وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن) (18).
قال ابن كثير: "قد فهم من هذا أن السلف ــ رضي الله عنهم ــ إنما فهموا من التغني بالقرآن: إنما هو تحسين الصوت به، وتحزينه، كما قاله الأئمة، رحمهم الله"(19).
وقال: "والمراد من تحسين الصوت بالقرآن: تطريبه وتحزينه والتخشع به"(20).
 وقال النووي: "أجمع العلماء ــ رضي الله عنهم ــ من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار أئمةِ المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، وأقوالهم وأفعالهم مشهورةٌ نهاية الشهرة، فنحن مستغنون عن نقل شيء من أفرادها، ودلائل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مستفيضةٌ عند الخاصة والعامة"(21 ).
 والمطلوب من تحسين الصوت الوصول للخشوع والتأثر، قال السندي: "المطلوب من تحسين الصوت بالقرآن أن تنتج قراءته خشية الله فمن رأيتم فيه الخشية فقد حسن الصوت بالقرآن المطلوب شرعاً فيعد من أحسن الناس صوتاً"(22).

 5- فهم لوازم النص ومقاصده :
 وهذا من أعظم أسباب تدبر القرآن الكريم، فإن القرآن كثيراً ما يذكر في القصص مواطن العبرة، ويترك للفؤاد والعقل مطلق التأمل والتدبر في ما لم يذكر، وقد يختم الآية بعلة لم تعلق بشيء، ليتأمل العقل، كما قال تعالى: (ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر) [التكاثر: 1 – 2 ]قال الشوكاني: "ولم يقل عن كذا ، بل أطلقه؛ لأن الإطلاق أبلغ في الذمّ؛ لأنه يذهب الوهم فيه كلّ مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، كما تقرّر في علم البيان"(23).
 ويدخل في هذا السبب معرفة مقاصد سور القرآن وآياته، وهو باب عظيم لتدبر القرآن الكريم، وتطبيقاته في كتب التفسير كثيرة. وهذا السبب مؤثر جداً في التدبر، خاصة في القصص القرآني، والأمثال القرآنية.
______________________________
(1) جامع البيان: ( 19 / 359 ).
(2) تفسير البغوي: ( 3 / 242 )، زاد المسير: ( 503 )، وانظر: الوجيز للواحدي: ( 399 ).
(3) تيسير الكريم الرحمن: ( 813 ).
(4) السابق: ( 872 ).
(5) تدبر القرآن الكريم : ( 46 ).
 (6) سير أعلام النبلاء : ( 8 / 180 ).
(7) انظر: فهم القرآن : ( 282 ).
(8) فهم القرآن : ( 302 ) وله كلام جميل في هذا الموضع.
 (9) إحياء علوم الدين: ( 1 / 281 ).
(10) تفسير القرآن العظيم: ( 1427 ).
 (11) رواه مسلم في صلاة المسافرين: باب جواز النافلة قائماً وقاعداً: ( 793 ) رقم (733).
(12) رواه البخاري في فضائل القرآن: باب مد القراءة: ( 437 ) رقم : ( 5046 ).
(13) رواه أحمد في مسنده: ( 44 / 206 ) رقم : ( 26583 ) قال الأرنؤوط في تخريجه: "صحيح لغيره وهذا سند رجاله ثقات رجال الصحيحين"، ورواه أبو داود في سننه في الحروف والقراءات: ( 1516 ) رقم (4001)، والترمذي في سننه في فضائل القرآن: باب كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (1945) رقم ( 2923 ) وفي أبواب القراءات: باب في فاتحة الكتاب: ( 1945 ) رقم ( 2927 ).
(14) رواه البغوي في تفسيره: ( 8 / 251 )، والآجري في أخلاق حملة القرآن: ( 10 ـ 11 )، وأصله في الصحيح: فقد روى البخاري في الأذان: باب الجمع بين السورتين في ركعة: ( 61 ) رقم ( 775 ) عن أبي وائل: جاء رجلٌ إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصَّل الليلة في ركعة، فقال: هذَّاً كهذِّ الشعر!، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهنَّ، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين من آل حم في كل ركعة. ورواه أيضاً في فضائل القرآن: باب الترتيل في القراءة: ( 437 ) رقم ( 5043 ). وروى مثله مسلم في صلاة المسافرين: باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ: ( 806 ) رقم (822).
(15) رواه البخاري: ( 61 ) رقم ( 775 ).
(16) جامع البيان: ( 1 / 76 ـ 77 ).
(17) رواه أبو داود في سننه في الوتر: باب كيف يستحب الترتيل في القراءة: ( 1332 ) رقم ( 1468 )، والنسائي في سننه في الافتتاح: باب تزيين القرآن بالصوت: ( 2153 ) رقم (1016 ) و ( 1017 )، وابن ماجة في سننه في إقامة الصلوات: باب في حسن الصوت بالقرآن: (2556) رقم ( 1342 ) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وانظر: السلسة الصحيحة للألباني: ( 2 / 401 ) رقم ( 771 ).
(18) رواه البخاري في التوحيد: باب قول الله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير): ( 628 ) رقم ( 7527 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
 (19) تفسير القرآن العظيم: ( 1 / 60 ) طبعة دار طيبة.
 (20) السابق: ( 1 / 63 ) طبعة دار طيبة.
 (21) التبيان في آداب حملة القرآن: ( 109 ).
 (22) نقله عنه في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: ( 7 / 587 ).
(23) فتح القدير: ( 1970 ).

----------------------------------------------
 * من بحث بعنوان : تدبر القرآن الكريم (مفهومه ـ أساليبه ـ أسبابه ـ آثاره)
 المصدر / موقع الد. فهد بن مبارك الوهبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق