الحمدلله الذي خلق آدم من طين وأسجد له ملائكته المقربين ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وبعد :
أيها المباركون نستأنف معكم دروسنا في هذا المسجد المبارك ولقاء اليوم يحمل عنوان الملائكة ، والملائكة قبل أن نذكر ماجاء في القران عنهم نُبيّن أن الله - جل وعلا - خلقهم من نور قال - عليه الصلاة والسلام - (خُلقت الملائكة من نور) وقد جاء ذكرهم في القران كثيرا ، ومثل الحديث عن الملائكة لا يحسن معه أن نتبع الطريقة التي كنا نتبع الطريقة سلفا من أننا نختار آيات لكننا نتكلم عن دلالات نستشهد عليها بالآيات :
الأولى منها : أن الملائكة الكرام عليهم السلام ذو رفعة عظيمة ومنزلة جليلة عند الله قال الله تعالى (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ*لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ*يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ
خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)
فهم عليهم السلام في درجة عالية عند الله - تبارك وتعالى - ويكفيهم قُربا أنهم سكنة أو خزنة السموات .
الأمر الثاني : أن الله - جل وعلا - جعل لكل طائفة أو فرد منهم أمرا خاصا به قال ربنا عنه (وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ
مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) لايتجاوزه ولا ينقص عنه ، من هذه المقامات ما فصله الله - جل وعلا - في كتابه إلا أننا
قبل أن نأتي للتفصيل نتكلم أولا عن علاقة هؤلاء الملائكة بآدم ، ثم قبل ذلك نتحدث عن هيئتهم الخلقية .
هيئتهم الخلقّية دل القرآن على أنها عظيمة قال الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء)
وقال الله - تبارك وتعالى - (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ
الْمُبِينِ) أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جبرائيل - عليه السلام - ، وقد جاء في الخبر الصحيح أنه قال : رأيت له ستمائة جناح قد سدّ ما بين المشرق والمغرب ، وهو أينما ذهب - أي جبريل - فهو خلق من مخلوقات الله وقد قال - عليه الصلاة والسلام - مررت ليلة أُعرج بي وجبرائيل كالحلس البالي من خشية الله .
كما آتاهم الله - جل وعلا - هذه الصفات في أن خلقهم عظيم جعل الله - جل وعلا - قلوبهم منكسرة له قال - عليه الصلاة والسلام - (أطت السماء وحق لها أن تئط والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى) والأصل أن السموات هي موطنهم قال ربنا عن أهل الكفر (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ
رَبِّكَ) والمقصود بـ
(الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ) الملائكة ، إذا وصلنا إلى هذا في الذين عند ربك نبدأ بالأعلى وفق مادل عليه القرآن بالأعلى مكانا ، والله أعلم أيهم أقرب إليه ، فأعلاهم طائفتان : حملة العرش ، ومن هم حول العرش ، فأما حملة العرش : فالعرش أصلا سرير ذو قوائم تحمله الملائكة لأن العرش في اللغة هو : السرير ، (ذو قوائم) لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال (فإذا بموسى آخذ بقوائم العرش) لما ذكر النفخ ، (تحمله الملائكة) لأن ربنا قال (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) وهؤلاء حملة العرش قلنا في المقام الأعلى ، وهناك ما يُقال له - حسب أقوال أهل التفسير - بالكروبيين ، والكروبيون الذين كُتب الله لهم أن يكونوا حول العرش يطوفون قال الله تعالى عنهما - أي عن الطائفتين - في سورة غافر (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) هذه طائفة، (وَمَنْ حَوْلَهُ) هذه الطائفة الثانية
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ومرّ معنا كثيرا أن الله قدم هنا التسبيح لأنهم وهم يحملون العرش ويطوفون حوله يسبحون بحمد ربهم حتى إذا رآهم الرائي علِم أنهم وإن كانوا يحملون العرش إلا أنهم هم ومن يطوف والعرش فقراء الى الله ، والله - جل وعلا - غني عنهم وعن العرش وعمن يطوف حول العرش وعن كل خلقه أجمعين بلا استثناء ، فكل أحد على كرسي ملك أو في قعر بحر مفتقر إلى الله ، والله - جل وعلا - مستغني عن كل أحد من حملة العرش إلى ما يدب في البحر ، عن كل موجود . فهاتان الطائفتان من أعلى الملائكة مقاما عليهم السلام قال ربنا عنهم (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا) وقال آيات أُخر كثيرة يذكر فيها - جل وعلا - علو منزلتهم عنده - تبارك اسمه وجلّ ثناؤه - هؤلاء حملة العرش .
ومنهم - عليهم السلام - من أوكل الله - جل وعلا - إليهم - وهذا ما يتعلق في بني آدم - كتابة أعمال العباد قال الله - جل وعلا - (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ*كِرَامًا كَاتِبِينَ*يَعْلَمُونَ مَا
تَفْعَلُونَ) وقد مر معنا أن أي أحد يلفظ بلفظ فإنما يُمليه على الملكين والملكان يرفعانه إلى الله ، نسأل الله أن يرزقنا الحياء منه فكم رُفع لنا مما لا نقبل ، لا نرضى أن يُرفع إلى الله لكن نسأل الله الذي ستر أن يغفر إن ربي غفور رحيم .
نعود لذكر الملائكة الكرام ، فأما الذي على اليمين فيكتب الحسنات وأما الذي على الشمال فيكتب السيئات وكلاهما يُصّدق الآخر ويشهد له وهما من الشهداء يوم القيامة قال ربنا (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) على بعض أقوال أهل التفسير.
/ من الملائكة : أهل العلم يقولون إن رؤساء الملائكة أربعة (جبريل وإسرافيل وميكال وملك الموت).
فأما جبريل فقد أوكل الله - جل وعلا - إليه حياة القلوب فهو الذي ينزل بالوحي قال الله - جل وعلا - (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ*نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ
مِنَ الْمُنذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُّبِينٍ) وقال ربنا (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ*ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي
الْعَرْشِ مَكِينٍ*مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) وهذا كله في وصف جبريل عليه السلام .
وهذا الملك المبارك - عليه السلام - هو ولي نبينا - عليه الصلاة والسلام - من الملائكة وكان نبينا يحبه حتى قال له ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فأنزل الله (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ
بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ
وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) .
وهو عليه السلام - أي جبريل - كان إذا اشتكى نبينا - صلى الله عليه وسلم - مرضا رقيه فيقول (بسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك والله يشفيك...) الخ رقياه.
وإذا أشكل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسألة علمية سأله ، قالوا: يا رسول الله أي الأماكن أحب إلى الله؟ قال: المساجد ، قالوا: يارسول الله أي الأماكن أبغض إلى الله؟ قال: حتى أسال جبريل ، فسأله فأخبره أن أبغض الأماكن إلى الله الأسواق .
وهو كذلك لما أُسري به - صلى الله عليه وسلم - وعُرج به إلى سدرة المنتهى كان مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال شوقي :
والآي تترى والخوارق جمة ** جبريل روّاح بها غدّاء
وهو كذلك عليه السلام لما كذبت قريش رسولنا صبيحة الإسراء والمعراج وقالوا له صِف لنا بيت المقدس جلى بيت المقدس لرسول الله عليه السلام وهو ينظر إليه فأخذ يصفه ويذكر لهم وصفه وقد جلاه له جبريل .
وكان مع المؤمنين يوم بدر وفي غيرها لكنه في بدر أوكد وأظهر والنقل فيه لا يقبل الاختلاف ولهذا قال حسان - رضى الله تعالى عنه وأرضاه - :
وجبريل أمين الله فينا ** وروح القدس ليس له كفاء
وقال كعب ابن مالك :
وبيوم بدر حين تمحى وجوههم ** جبريل تحت لوائنا ومحمد
صلى الله عليه وسلم ، فهذا بعض ما يمكن أن يقال عن جبريل عليه السلام .
أما ميكال فقد أوكل الله - جل وعلا - إليه أن ينزل بالقطر ولهذا قالت اليهود لرسول الله عليه الصلاة والسلام من وليك من الملائكة ؟ قال وليي جبريل ، قالوا هذا الذي ينزل بالحرب والقتال لو كان وليك من الملائكة ميكال لاتبعناك فأنزل الله - جل وعلا - قوله (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا
لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا
لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ*مَن كَانَ عَدُوًّا
لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ
عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) . وسيأتي شيء من التفصيل في خبر ميكال وجبرائيل سويا .
وأما ملك الموت فلم يأتِ نقل صحيح في اسمه لكن كثيرا من أهل العلم من أهل التفسير وأظنه منقول عن اسرائليات عن كعب الأحبار وعن مسلمة أهل الكتاب أن اسمه عزرائيل ، وأياً كان اسمه عليه السلام فهو ملك عظيم أوكل الله جلا وعلا إليه قبض الأرواح كما يوجد ملك غير معين ينفخ الروح يأتي ملك الموت يقبضها ، وظاهر القران أن له أعوان والذي يجعلنا نقول أن له اعوان أن الله أفرده وجمعه ، أفرده - جل وعلا - في سورة السجدة قال (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ
الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) وجمعهُ مع أعوانه
في قوله - جل وعلا - في سورة الأنعام (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ*ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى
اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) فقول الله - جل وعلا -
(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) يدل على أنه ليس شخصا واحد ، قال بعض أهل العلم ملك الموت يبقض الروح ثم ما ليلبث أن يعطيها أعوانه - والعلم عند الله - .
ومما يذكر في هذا أن إدريس عليه السلام قال مرة لمَلك كان يلاطفه - وقد كان يرفع لإدريس ما يرفع لأهل الأرض كلهم من عمل صالح في زمنه - قال: أحب أن أرى مَلك الموت ، قالوا إن الملك أخذه إلى السماء فإذا بملك الموت هابط إلى الأرض فالتقيا - على هذه الرواية ، ليس لها سند صحيح لكن العقل يقبلها لما يأتي - التقيا في السماء الرابعة فقال الملك الذي مع إدريس لملك الموت : هذا إدريس ، هذا نبي الله إدريس - يُعرفه به - فقال ملك الموت سبحان الله أُمرت أن اقبض روح إدريس في السماء الرابعة فقلت أين إدريس وأين السماء الرابعة ، فلما هبط إلى السماء الرابعة لقي إدريس وقبض روحه .
هذا الخبر يعضده أمران :
أولا: قول الله - جل وعلا - عن إدريس (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا*وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا
عَلِيًّا) ويؤيد ما جاء في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله إذا أراد أن يقبض عبدا في أرض جعل له حاجة إليها .
خاتمة الملائكة الأربعة إسرافيل عليه السلام ، وإسرافيل هو ملك أوكل الله - جل وعلا - إليه النفخ في الصور قال - عليه الصلاة والسلام - (وصاحب القرن قد أحنى الجبهة وأصغى الأذن السمع ينتظر متى يؤمر في النفخ فينفخ) فأوكل الله - جل وعلا - أن ينفخ في الصور أولا وثانية ، والذي يظهر - والعلم عند الله - كما دل ظاهر القرآن على أنه -هو إسرافيل - من يتقدم الخلق إلى أرض المحشر قال ربنا (يَوْمَئِذٍ) أي يوم الحشر
(يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ ) أي إسرافيل
(لا عِوَجَ لَهُ) أي يسيرون على خطاه ( وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا) .
هؤلاء رؤساء الملائكة الأربعة عليهم السلام
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .
________________________________
الشكر موصول للأخت (ا.م.ح) لقيامها بتفريغ الحلقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق