الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد ألاّ إله إلا الله لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا
محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله أصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
هذه الوقفة الأولى مع الجزء الحادي عشر من كلام رب العالمين جلّ جلاله ، سنأخذ بعض الآيات ونُعلق عليها إجمالا .
/ قال الله - تبارك وتعالى - في الجزء الحادي عشر من سورة يونس (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ)
هذه الآية يظهر فيها جلال رحمة الله - جل وعلا - بعباده المؤمنين ، والفعل "وبشر" مادته الأصلية (الباء - والشين - والراء)
ويُقال لما ظهر من جلد الإنسان "بشرة" فجاءت كلمة "بشّر" في اللغة لأن الإنسان إذا بُشّر بشيء تتغير أسارير وجهه ويظهر
عليه من الفرح وغيره ما لم يكن قد حلّ به من قبل فلهذا سُميت البشارة من هذا الباب . والنبي - صلى الله ليه وسلم - لما جاء الرجل
المُدلجيّ الذي له في القيافة ورأى أسامة وأباه زيدا نائمين وأرجلهما ممتدة وهو لا يعرف أن أسامة ابن لزيد ، قال هذا الرجل لمجرد
أنه رأى القدمين قال : هذه الأقدام بعضها من بعض وهذا يُثبت بنوة أسامة لزيد رغم أن أحدهما كان أسودا والآخر كان أبيض ، فأسامة
كان شديد السواد في حين أن أباه زيدا كان أبيض ، وربما طُعن من بعض مرضى القلوب في ذلك ، موضع الشاهد منه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
لما قال المُدلجيّ ذلك انبلجت أسارير وجهه لأنه فرِح ، فهذا هو الأصل في أخذ كلمة " بشارة " .
/ والبشارة وردت في كتاب الله جل وعلا كثيرا :
- إما بشارة بمولود وهو أكثرها ورودا ،فإن الله جل وعلا قال عن خليله إبراهيم (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ) ، وقال (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ
بِالْبُشْرَى) ، وقال (قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ
بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ) .وهذه كلها في حق خليل الله إبراهيم . وجاء في خبر زكريا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ
سَمِيًّا) . وهذا يدلك على أن الإنسان جُبل على أنه يفرح بالمولود ، لأن لله - جل وعلا - ما ذكر هذا في حق العِظام من الرسل إلا لدلالة أن ذلك يُوافق الطبع ويتأتى مع أحوال النفوس ،ولهذا بُشر الأنبياء بالأولاد ذكورا وإناثا .
- كما أنه جاءت البشارة في غير الإنجاب جاءت في الأُعطيات الأخروية وهذا هو المقصود في هذه الآية الكريمة التي بين أيدينا (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) لكن العلماء اختلفوا في معنى قول ربنا (قَدَمَ صِدْقٍ) :
فمنهم من قال : إن المراد بذلك ما قد كتبه الله في الأزل من النجاة والسعادة لأهل الإيمان ،ودليله قول الله جل وعلا في سورة الأنبياء (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ*لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا
وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) وهذا القول يُروى عن ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما.
وقال بعض العلماء : إن المقصود ما تدخره الأمة من صبرها على وفاة نبيها صلوات الله وسلامه عليه ،ولا ريب أن وفاته - صلى الله عليه وسلم - مصيبة وأي مصيبة ،وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين ،لكن هل له علاقة بالآية ؟
الحق أن هذا موضع نظر ولا يظهر لي أن هناك علاقة ما بين قول الله - جل وعلا - (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) وبين وفاته - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت وفاته - صلوات الله وسلامه عليه - مصيبة وأية مصيبة قال حسان :
وما فقد الماضون مثل محمد ** ولا مثله حتى القيامة يُفقد
صلى الإله ومن يحُفّ بعرشه ** والطيبون على المبارك أحمد
وأرجح الأقوال - والعلم عند الله - في المقصود بقول الله (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) أن يُنظر إلى الاستعمال العربي لهذه اللفظة ، ومن تأمل أخبار العرب وجد أنهم يتخذون الكناية في مثل هذا فيجعلون اليد كناية عن النعمة ، يعبرون باليد عن النعمة
فإذا أحد ما قام بنعمة ومعروف لآخر قيل إن لفلان يدا على فلان ، وهذا يدل عليه في استعمال العرب أن عروة بن مسعود قبل إسلامه لما قدِم للنبي - عليه الصلاة والسلام - في صلح الحديبية يتردد بين قريش والرسول كان المغيرة بن شعبة واقفا بالسيف
على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلما أهوى عروة يده وهو يخاطب النبي يضربه المغيرة بالسيف ، فلم يعرفه أول الأمر فقال : من هذا ؟ فعرف أنه المغيرة ، وكان المغيرة له يد على عروة فقال : لولا يد لك عليّ لأجبتك ، أي لعرفت كيف أتعامل معك .
موضع الشاهد : كلمة "يد" يعني كلمة نعمة ، وهذا ثابت في لغة العرب ، كل من قرأ كلامهم يعرف أنهم يُعبرون باليد عن النعمة .
ويُعبرون باللسان عن الذكر الحسن وهذا جاء في القرآن قال الله - جل وعلا- عن خليله إبراهيم (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الآخِرِينَ) فـ "لسان صدق" المقصود بها ذكرا حسنا بين الناس . وهذا واقع كما ترى .
بقينا في " القدم" ، والقدم يُعبر عنها في لغة العرب بالسعي والعمل فيُصبح (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) ما ادخره الله لهم من أعمالهم وما قاموا به من جلائل الطاعات هذا ينفعهم يوم يلقون الله ،
ويُصبح المقصود بالبشارة هنا: أن ما قدموه من عمل صالح محفوظ لهم ، والقرينة التي تُعين على هذا أن الله لم يذكر العمل هنا قال (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) فلم يقل وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات . فهذه قرينة على صحة هذا الفهم - والعلم عند الله - .
/ القرآن ثمة علم آلة جمّ يحتاجه الإنسان حتى يفقه كلام الله منه وأوله السيرة العطرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمحال أن يفقه الإنسان مراد الله من كلامه وهو غير مُطلع على سيرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن القرآن نزل عليه - صلى الله عليه وسلم -
وبه أُمر وبه ائتمر فقراءت سيرته يُبين لك بجلاء ما المراد من الآيات ، ثم بعد ذلك العلم بالتاريخ عموما ، والعلم بأساليب العرب في كلامها لأن الله - جل وعلا - أنزل هذا القرآن عربيا ، فالعلم بأساليب لغة العرب وكلامهم ، والاطلاع على ما كانوا عليه من طرائف في الكلِم
يُعين على أن يفقه الإنسان مراد الله - جل وعلا - من كلامه كما حررنا قبل قليل في التفريق بين اللسان واليد والقدم .
فمثلا : قال الله - جل وعلا - (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ
وَاقِعٍ) فمن طرائق معرفة هذا أن "الباء" في لغة العرب هل تُطلق على "عن" أو لا تُطلق ، حتى يُفهم المعنى ، تُطلق فيصبح معنى الآية سأل سائل عن عذاب واقع ، فإن قال قائل أين الدليل تقول أن عنترة - وهو عربي فصيح - كان يقول :
هلا سألتي الخيل يا ابنت مالك ** إن كنتي جاهلة بما لم تعلمي
أي "إن كنتي جاهلة عما لم تعلمي " أي اسألي الناس عما لا تعلمين ، فالباء هنا بمعنى "عن" فيكون هذا الحفظ لمن حفظه حُجّة له أن المقصود بكلام الله - جل وعلا - هنا أن الباء بمعنى "عن" ، وحفظك لما كان في شعر العرب قديما لا يعني بالضرورة إيمانك به
واعتقادك بتقاليده ولهذا كان الحبر ابن عباس - رضي الله عنهما - إذا راجع أحدا في القول يسألونه : هل تعرف العرب هذا ؟ فيقول : نعم ، ويأتي بالشاهد ، ولا ريب أنه لن يأتي بالشاهد حتى يكون قد اطلع على كلام العرب وحفظ شعرهم ، ويروون له في هذا - رضوان الله تعالى عنه وعن أبيه -
أمورا عظام لكن الذي يعنينا أن كل أحد يتصدر في أي باب ، في أي مجال يحاول قدر الإمكان أن يجمع طرائقه ويقبض على آلته حتى يستطيع أن يُبلّغ دين الله إن اختار المجال الديني على أكمل وجه وأتم نحو .
/ نعود للآية إيمانيا (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) هذا أعظم ما يُعين على الطاعة أن تعلم أن الله - جل وعلا - يحفظ لك عملك ، وقد يأتيك من يُثبطك إن اجتهدت في طاعة فيقول لو كنت بنفسك أرفق ، ولو دفعت مالا قال أبناؤك أحوج ، ولو صنعت وصنعت أتى لك بما يُغير حالك ، نعم دين الله وسط لكن
عندما يتذكر المؤمن أن هذا محفوظ عند الله يُعينه على العطاء وقد قال الحطيئة :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ** لا يذهب العرف بين الله والناس
هذا قاله رجل فاسق لكن المعنى حق ، والإنسان ينبغي أن يكون له سريرة حسنة تقوم على أنه يدخر أعمالا له عند ربه ، وقد مرّ معنا كثيرا أن محمد بن كعب القرظي - أحد التابعين من المفسرين - رُزق مالا فجأة فأنفقه فقال له بعض الناس : لو ادخرت المال لولدك ، قال : أدخر مالي لي
عند ربي وأدخر ربي لولدي . وهذا عين الفهم ومن دلائل العقل لكن ليس كل أحد يؤتاه ويُعطاه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق