الجمعة، 13 يناير 2012

تأملات في سورة الحشر (2) د. خالد السبت

د . خالد السبت


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فلا زال حديثنا عن سورة النضير - سورة الحشر - فالله - تبارك وتعالى - يقول {وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} عرفنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجهم من المدينة ، وأن الله تمدح بذلك بقوله {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} .
" الجلاء " : هو إخراج خاص وليس كل إخراج يُقال له جلاء ، فالجلاء عادة يكون بالأهل والولد ، ويكون للجماعة ولا يكون للواحد ، أُجلي هؤلاء من بلادهم ، أُجلوا من ديارهم ، فهو إخراج للجمع بالأهل والولد وهو خروج بلا عودة ، "أُجلوا" رُحلوا من هذا المكان وأُخرجوا منه . " تحولوا" يقولون في تفسيره في كلام العرب : هو الخروج من الوطن بالأهل والولد من غير رجوع إليه .
{وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ} معلوم أن " لولا " تفيد الامتناع للوجود ، امتناع أمر ، لم يحصل التعذيب لأن الله كتب عليهم الجلاء ، أي لوجود هذه الكتابة من الله - جل جلاله - وهي كتابة أزلية ، كتب الله أن هؤلاء يُجلون {وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ} فظاهره أن ثبوت هذا الجلاء الذي كتبه الله - عز وجل - يلزم منه نفي التعذيب ، أن الله لم يُعذبهم لأنه كتب عليهم الجلاء ، مع أن إخراجهم بهذه الصفة من ديارهم يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، وأهل كل ثلاثة أبيات يخرجون على بعير واحد هذا تعذيب ، والله - عز وجل - قد قرن بين قتل النفوس والإخراج من الديار في سورة البقرة لما ذكر معايب بني إسرائيل قال {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} يعني يقتل بعضكم بعضا {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يقول أنتم تتناقضون اليهودي لا يقتل اليهودي ومع ذلك تقتلون بعضكم لأن بعضهم كان حليفا للأوس والبعض كان حليفا للخزرج فتحصل المعارك بين الأوس والخزرج فاليهودي يقتل أخاه اليهودي لأنه في الفريق المعادي له {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} يقول أنتم كُتب عليكم أشياء منها : فك الأسير ، وألاّ يقتل اليهودي اليهودي ، وألاّ يُخرجه من بلده ، يقول فأنتم تقتلونهم وتخرجونهم ولكنكم تطلقونهم إذا كانوا أُسارى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. فالشاهد : أن هذه الآية قد يفهم البعض منها إذا قرأها أن الله لم يُعذبهم {وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ} فامتنع التعذيب لأن الله كتب الجلاء ، فهل هذا الفهم صحيح ؟
الجلاء تعذيب ولكن المقصود هنا بالتعذيب المنتفي هو تعذيب خاص بالقتل والأسر كما وقع لقريظة ، أما الجلاء فإن أبدانهم لم تُمس بشيء لا بقتل ولا بجراح ولا بضرب ولكنه تعذيب وجداني ، كون الإنسان يُخرج من بلده هذه نكبة ، مصيبة ، ولكن ليست كالقتل والأسر ولهذا قال {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} وأثبت لهم عذاب الآخرة على كل حال {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} فانتفى عنهم القتل والأسر لأن الله لم يكتب عليهم ذلك لا لمكانة لهم عنده وإنما لحكمة علِمها ولعل من ذلك توفير قوى المسلمين لمعارك يستقبلونها فإنهم لو دخلوا في حرب معهم سيصيب المسلمين ما يُصيبهم من قتل أو جراح أو نحو ذلك ، وقد عادوا حديثا من رباط طويل على الخندق وأصابهم ما أصابهم من الإنهاك والتعب وبلغت القلوب الحناجر من الرعب والإرجاف فكفاهم الله - عز وجل - مؤنة هؤلاء اليهود .
وقد ذكرت في الكلام على الوقفات مع وقعة غزة ما ذكره بعض أهل السير في صفة خروجهم ، خروج بني النضير ، وهذا وإن لم يُعول عليه من جهة الرواية كما هو معلوم من حال المرويات في السير لكن نحن نذكره للفائدة والعبرة وإن كان هذا لا يُعتمد ، فهم يقولون بأنهم حينما خرجوا حملوا النساء والذرية وأظهروا تجلُدا عظيما فخرجوا ، هم في طريقهم قد عرفنا موقعهم في المدينة ، في جنوبها الشرقي ، خرجوا ، جاءوا من أجل أن يتجهوا إلى ناحية الشمال ، إلى خيبر وبعضهم خرج إلى أطراف الشام كما سبق ، فساروا ، مروا على بعض منازل الأنصار مثل بالحارث من الخزرج ، ثم مروا على نواحي كالجبيلة والجسر حتى مروا بالمصلى ، قريبا من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم شقوا المدينة وجعلوا النساء في الهوادج وعليهن الديباج والحرير وقُطف الخزّ وحُلي الذهب والفضة والمعصفر ونادى أبو رافع سلام بن أبي الحُقيق ورفع جلد جمل وقال : هذا مما نعِده لخفض الأرض ورفعها فإن تكن النخل قد تركناها فإنا نقدُم على نخل بخيبر ، هو يريد أن يتجلّد ، ويُقال أنهم كانوا يحملون الدفوف ومعهم القيان يعزفن خلفهم تجلُّدا ، حفلة ، وهم قد أُخرجوا بهذا الإخراج المُذل المهين ، وصُفّ لهم الناس ينظرون ويتفرجون لأنه يوم يفرح به أهل الإيمان ، فجعلوا يمرون قطارا في إثر قطار ، مجموعات الإبل يُربط بعضها ببعض فتكون مقطورة ويتجهون في خط واحد فتحملوا على ستمائة بعير ، كل مجموعة من الإبل مربوط بعضها ببعض وفي هذا الأثناء ظهر على المنافقين الحزن والكآبة والأسى لخروج هؤلاء اليهود كما يدافع بعض المنافقين الآن عن اليهود ويُحامي عنهم وينتصر لليهود على إخوانه المسلمين .
وذكرت أيضا أشياء مما حصل لبني قريظة من التجلد مثل ما وقع للزبير ابن باطة حيث منّ في الجاهلية في حروب بُعاث على ثابت بن قيس - رضي الله عنه - فجاءه ثابت بن قيس يعرض عليه المكافأة على تلك المنّة السابقة قال له : هل تعرفني ؟ فقال له : وهل يجهل مثلك مثلي ؟ قال ثابت : إن لك يدا عندي وذكر له قدرته على أن يجزيه بها ، فقال له الزبير بن باطة اليهودي : إن الكريم يجزي الكريم وأحوج ما كنت إليك اليوم . فجاء ثابت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه أن يهب له هذا اليهودي فأعطاه إياه ، فجاء إليه وأخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وهبه له ، فقال له الزبير هذا : شيخ كبير لا أهل لي ولا مال بيثرب ما أصنع بالحياة - كأنه ير يد ماله وولده - فاستوهبهم ثابث بن قيس من النبي - صلى الله عليه وسلم - فوهبهم له ، فرجع إليه وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهبني ذلك ، فقال له : يا ثابت أما أنت فقد كافأتني وقد قضيت الذي عليك ثم قال : يا ثابت ما فُعل بالذي كأن وجهه مرآة صينية تترآى عذارى الحي في وجهه - لشدة جماله - وهو كعب بن أسد سيد قريظة ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل المجلسان - بني كعب بن قريظة وبني عمر بن قريظة - ؟ قال : قتلوا . قال : يا ثابت ما في العيش خير بعد هؤلاء ، أرجع إلى دار قد كانوا حلولا فيها فأخلُد فيها بعدهم ، لا حاجة لي في ذلك ولكن يا ثابت انظر إلى امرأتي وولدي فإنهم جزعوا من الموت فاطلب إلى صاحبك فيهم أن يُطلقهم وأن يرد أموالهم ، فطلب لهم ذلك ثابت بن قيس - رضي الله تعالى عنه - وأعطاه ما طلب إلا السلاح . قال الزبير - اليهودي - : يا ثابت أسألك بيدي التي كانت عندك إلا الحقتني بالقوم - اي اقتلني - فما أنا بصائر لله فتلت دلو ناضح حتى ألقى الأحبة . يقول ما هو إلا وقت يسير بمجرد ما يُستخرج الدلو من البئر ويُصب ما فيه ثم يُرجع ألقى الأحبة وهم كعب بن الأسد ومن قُتل من اليهود كالمجلسين ونحوهما ، فقُدم وضُربت عُنقه . وفي بعض الروايات قال له ثابت : ما كنت لأقتلك بيدي ، فقال : لا أبالي من قتلني ، فقتله الزبير بن العوام - رضي الله عنه - . وجاء أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما بلغه قوله " ألقى الأحبة " قال : " يلقاهم والله في نار جهنم خالدا مخلدا " .
وهكذا حُيي بن أخطب لما جيء به عليه حُلة قد شققها في كل ناحية قدر أنملة من أجل ألاّ يستفيد منها أحد مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أما والله ما لُمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يُخذل ، أي من خذله الله لابد أن يقع له الخذلان . ثم أقبل على الناس وقال : أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل . ثم جلس فضُربت عنقه . ولو صحت لكن نحن نعتبر : إذا كان هؤلاء الكفرة شرار الخلق قد يحصل عند الواحد منهم بعض التجلّد فإن أهل الإيمان أولى بالتجلّد .
وقد أظهر إخواننا في غزة تجلّدا لا نظير له ، لم نعرفه في تاريخنا المعاصر إطلاقا ، رجل يحمل طفلته تنزف من الدماء ولا تسمع منه إلا الرضى عن الله - عز وجل - هذا أمر عجيب ، ولم يتكدسوا على حدود ولا غير ذلك كما يجري عادة في الحروب ، ما صارت أزمة إنسانية على الحدود كما يحصل عادة .يقول الله - تبارك وتعالى - معللا كل ما سبق {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لماذا وقع لهم هذا الإخراج وتخريب البيوت وأخذ الأموال وقذف الرعب والعذاب في الآخرة كل هذا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} والـ"باء" للتعليل ، بسبب أنهم شاقّوا الله ورسوله ، والمشاقّة : هي المخاصمة والمعاداة مأخوذة من الشِق ، كأن هذا في شِق وهذا في شِق مثل المحادّة كأن هذا في حد وهذا في حد ، والعداوة كأن هذا في عدوة - وادي - وهذا في عدوة {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، ثم جاء بالحكم العام {وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الذي وقع لهم بسبب المشاقّة ولو وقف هنا لفهمنا من ذلك التعميم بالعلة بمعنى أن الذي وقع لهم بسبب المشاقّة فكل من شاقّ فهو مستحق لهذه العقوبة ولكن الله - عز وجل - قد صرّح بذلك تصريحا في قوله {وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فهذا الأمر لا يختص بيهود بني النضير لمعنى يختص بهم وإنما ذلك يعمّ كل من وقع في هذه المشاقة ، كل من شاقّ الله ورسوله فإن العذاب ينتظره ، وهذا أمر يجب أن يكون منا على بال ، فالكفار بجميع طوائفهم هم مشاقّون لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولن تُغني عنهم ما يملكون من القوى والإمكانات والقُدر والأسلحة التي يرهبون بها الناس ويذكرون التصريحات والأرقام فإذ ذلك يتلاشى جميعا إذا جاء أمر الله - عز وجل - وكان أهل الإيمان بحال يرضاها الله - تبارك وتعالى - عنهم من التوكل عليه والثقة به وإعداد ما يستطيعون من القوة فلن يستطيع أحد أن يقهرهم أو أن يغلبهم لأن الذين يشاقّون الله ورسوله يعادون الله ، ومن يعادي الله - عز وجل - فلن يتمالك ولن يستطيع أن يصمد إطلاقا ، دعك من ما يقع في قلبه من الرعب الذي يزلزله فهو يفر بمجرد ما يسمع التكبير . أهل غزو هؤلاء كيف لو كان عندهم طائرات وصواريخ وغواصات ودبابات ؟ ماذا سيفعل اليهود ؟ لا أقول الذين في فلسطين ، اليهود كلهم ماذا سيفعلون ؟ أظنهم سيقبرون أنفسهم وهم أحياء - يموتون - رعب ، هلع من اناس عُزل ، ما استطاعوا أن يدخلوا عليهم ، ولا استطاعوا أن يواجهوهم ولا يُقاتلوهم ، حرب ثلاثة أيام تتحول إلى ثلاثة أسابيع أو أكثر . فهذا أمر فيه عبرة عظيمة .
/ ثم يقول الله - تبارك وتعالى -
{مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}" اللينة " هي النخلة على قول عامة أهل العلم ولا يُلتفت إلى غير ذلك من الأقوال مع صرف النظر عن هذه النخلة هل ذلك يُقال لعموم التخل أو يُقال لنخل خاص كما يقول بعضهم إنه في جميع النخل إلا العجوة ، هذا قال به كثير من المفسرين واختاره كبير المفسرين أو جعفر ابن جرير وهو قول الخليل بن أحمد وطائفة من أئمة اللغة والتفسير ، وبعضهم يُعمم ذلك في جميع النخيل ، وبعضهم يخصّه في كِرامه ، وبعضهم يقول غير هذا لكن المقصود هنا {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} أي من نخلة {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} أي لم تقطعوها ، يعني قائمة على ساقها ، على جذعها {فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ما علاقة هذه القضية في وقعة النضير ؟علاقتها : أنه في وقت الحصار لبني النضير كانت لهم حوائط محصنة في الخارج ، وهذه الحوائط - المزارع - فيها النخيل كما هو معلوم وكان بنو قريظة أهل نخيل وأهل زرع وحرث ، ومعلوم أن أهل النخيل يحبون النخل محبة لربما تعدل محبة الأولاد وقد تزيد عند بعضهم ، وهذا النوع من التعلق يوجد عند بعض الناس إلى يومنا هذا . وقد ذكر الألوسي - رحمه الله - صاحب التفسير "روح المعاني" وهو من أهل العراق ، والعراق من أكثر البلاد زراعة للنخيل ، ذكر عن بعض من سمع منه من أهل النخيل أنه يودّ لو أن إبهامه شُقّت ولا يُشق عسيب نخلة ، يعني يخاف على عسيب النخلة اعظم مما يخاف على يده وأطرافه من شدة محبته لها ، ولو نظرتم للذين عندهم عناية كبيرة بها لوجدتم مثل هذا ، يحصيها ويعرف ماذا حصل لها من نقص في كل يوم وقطع .
فمالذي حصل في وقت الحصار ؟ الذي حصل أن بعض النخيل وهو عدد قليل جدا قُطعت ، لماذا قُطعت ؟ قد تكون قُطعت من اجل الضغط على اليهود فهم يرون من فوق الحصون وهذه من أعزّ الأموال تعبوا فيها وسقيها في كل يوم فيرونها تُقطع فمن أجل الضغط عليهم ، قد تكون قُطعت في ناحية من أجل توسيع معابر أو للحاجة إلى جذوع من أجل التسلق أو نحو ذلك على الحيطان والقِلاع والحصون . قد يكون هذا أو قد يكون من أجل إيقاد ونحو ذلك ، المهم أنه قُطع بعض النخيل وهي قليلة من تلك المزارع الواسعة التي كانت تُعرف بالبويرة ، وفي بعض المرويات في السير أنها أُحرقت بعض النخيل إغاظة لهم ، وفي هذا يقول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يذكر ما وقع للمشركين حينما انطلقوا راجعين إلى مكة وتركوا اليهود يواجهون مصيرهم المحتوم :
تفاقد معشر نصروا قريشا *** وليس لهم ببلدتهم نصير
وهام على سراة بني لؤي *** حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان ، وليس المقصود به سفيان ابن حرب بل سفيان ابن الحارث وقد أسلم وكان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقعة حنين وهو الذي يقول فيه حسان يهجوه :
ألا أبلغ أبا سفيان عني ** بأنك مجوف نخب هواء
فأجابه أبو سفيان هذا يقول :
أدام الله ذلك من صنيع ** وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنزه ** وتعلم أي أراضينا تضير
يقول نحن في مكة بُعداء عن هذا والحريق هو في أطراف بلدتكم وفي مدينتكم وفي نواحيكم فأنتم الذين تتضررون من هذا ونحن متنزهون عنه. فالشاهد : هذه الآية {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} لما حصل هذا التقطيع أرجف اليهود فاستخدموا سلاح الإعلام وقالوا أنت يا محمد تدعو إلى الصلاح والإصلاح فما بال قطع النخيل؟! قالوا هذا من الإفساد في الأرض - قطع النخيل - ، فالقرآن يعالج هذه القضايا بطريقته الفذة ، فبماذا ردّ عليهم ؟ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - اختلفوا في قطع النخيل ، بعضهم قطع وبعضهم امتنع بل منع من ذلك وقالوا إن هذه ستصير إلى المسلمين فلماذا تُقطع ؟ والذين قطعوها يرون أن ذلك لم يحصل للمسلمين بعد وأنهم لا زالوا في حصار وأن ذلك فيه نكاية بالعدو فاختلفوا واليهود أرجفوا وغاظهم هذا الفعل فنزلت هذه الآية تُعالج هذا الموقف وترد على اليهود {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} معالجة رفيعة جدا ، لم يجعل اللوم على المسلمين وإنما قال {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} كما قال الله - تبارك وتعالى - في نظائره لما قُتل ابن الحضرمي في الوقعة المعروفة في سرية أول ليلة من الأشهر الحُرم وكان الصحابة - رضي الله عنهم - لم يعلموا بدخول الشهر الحرام فأرجف المشركون قالوا : هذا يقول على دين إبراهيم ويدعو إلى ملة إبراهيم وهم ينتهكون الشهر الحرام فماذا رد الله - عز وجل - عليهم ؟ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} خلاص انتهى ، نقطة . ثم رد على المشركين {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ} وهي الكفر {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} القضية التي تتعلق بالمسلمين من انتهاك حرمة الشهر الحرام رد عليها بكلمتين {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لم تتحول إلى شناعة استُغرقت فيها كل الجهود والإمكانات ، هذا خطأ لا يُقرّ خلاص انتهينا خطأ لكن تعالوا نشوف أفعالك أنتم ماذا تفعلون ، الكفر بالله - عز وجل - والصد عن المسجد الحرام وما إلى ذلك هذه الطريقة الصحيحة في معالجة القضايا التي يثيرها أعداء الإسلام على المسلمين ، يتهمون المسلمين بالإرهاب ، إرهاب؟! من الذي يأتي ويرمي الأطنان على رؤوس النساء والأطفال ، من الذي يرمي المواد المشعة والمواد الحارقة وأنواع الأسلحة التي تُجرب على رؤوس المساكين ويهدم عليهم بيوتهم والمساجد قاعا صفصفا مسوى بالأرض ، من ؟ هؤلاء هم أهل ذلك وأخص به وأولى .
فالمسلمون ينبغي ان يستفيدوا من طريقة القرآن في معالجة هذه القضايا لا أن الكفار يستجرونهم ويستفزونهم ويستخفونهم فيقعون فيما أراد الكفار لهم أن يقعوا به فيتحول كل التفكير والجهد الذهني والبدني إلى اشتغال بعضهم ببعض ، هذا الذي وقع خطأ لا يُقرّ لكن تعالوا تحول عليهم ، توقفهم عند حدهم ، أما أن نصدق ما يصموننا به وينسبوننا إليه ثم بعد ذلك نحن نشتغل بأنفسنا .
وانظر إلى هذا الرد {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الإذن هنا : يحتمل أن يكون الإذن الشرعي ، أن الله أذن شرعا بذلك ، وإذا كان هذا الإذن الشرعي استنبط منه الفقهاء كالإمام مالك - رحمه الله - إلى أنه في حال الحصار مع العدو حال الحرب حصار يجوز للمسلمين أن يُخربوا المرافق الحيوية للعدو وما كان فيه نكاية وإغاظة وهذا في حال الحصار ، في حال الحرب مع المشركين ، وما يتوهمه بعض الناس الآن من أنه يريد أن يضرب المصالح الفلانية ويضرب المصالح هنا وهناك وينقل الحرب إلى بلاد المسلمين فهذا جهل وضرره وفساده عائد إلى المسلمين والكفار يجدون الفرص في هذه التصرفات لمزيد من التسلط ، وللأسف هذا الذي وقع لكن هنا عندما تكون حرب قائمة بين المسلمين والكفار ، حاصروا بلادا من بلاد الكفار يجوز لهم أن يضربوا المرافق الحيوية للكفار من طرقات ومحطات كهرباء وإلى غير ذلك من أجل شلّ حركة العدو ، وهذا الذي يفعله الناس في الحصار إلى يومنا هذا أصلا ، في الحروب تُضرب المرافق وتنطفئ الكهرباء وتُضرب المياه ويضرب كل شيء ، فالشاهد : أن هذا استنبط منه الإمام مالك وبعض أهل العلم هذا المعنى بحال الحصار ، ما كان فيه نكاية بالعدو .
وإذا كان الإذن هو من قبيل الإذن الكوني ، مالفرق بين الإذن الكوني والإذن الشرعي ؟
الكوني أن هذا أمر وقع قدره الله - عز وجل - وقضاه {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} هذا أمر لو شاء الله لم يكن والأقرب - والله أعلم - أن هذا الإذن في هذه الآية يشمل هذا وهذا ، إذن شرعي لأنه لو لم يأذن الله عز وجل به لبين حكمه وأنكره ، وبما أنه وقع فقد حصل فيه الإذن الكوني فاجتمع فيه الإذن الكوني و الإذن الشرعي .
ثم ذكر تعليلا آخر قال {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ليُذلهم فيحصل به من إغاظتهم وكسر نفوسهم وإيلامهم ، وهذا الفسق هنا المقصود به الفسق الأكبر وهو الكفر بالله - جل جلاله - وهذا يدل على أن هذا الإذن إذن شرعي لأن الشارع قصده وأراده شرعا قال {وَلِيُخْزِيَ} أي من أجل أن يُخزي الفاسقين ، فما يحصل به إغاظتهم فإن الله - عز وجل - يحبه ويأذن به بضوابطه الشرعية .

/ أما بعد : فهذه السورة فإن هذه السورة موضوعها الرئيس الذي تتحدث عنه هو وقعة النضير وما يُذكر بعد ذلك ففي غالبه ومجمله مما يتصل بها ولهذا نستطيع أن نقول إن موضوع هذه السورة هو وقعة النضير وما نتج عنها وما يرتبط بها ولهذا جاء الحديث عن الفيء لأن الفيء هو أول مال صار إلى المسلمين من غير قتال ، الغنائم التي حصلت للمسلمين في وقعة بدر ذكر الله - عز وجل - حكمها في سورة الأنفال {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فجعل أربعة أخماس الغنيمة للمقاتلين ، هذا في الغنائم ، والخُمس جعله في خمسة أقسام وهي هذه التي ذكرها الله - عز وجل - {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وسهم الله وسهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - واحد . وأما الفيء فإن حكمه يختلف عن حكم الغنيمة فالله ذكر في الآية الأولى قال {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} الضمير يرجع هنا إلى اليهود ، يهود النضير وإن كان ذلك ليس بقاطع فهو يحتمل "منهم" يعني من الكفار ، من أعدائكم ، من أعداء الإسلام ، يحتمل . ولكن الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور والذي ذُكر قبل ذلك هم يهود النضير .
فهذه الآية {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الفيء فيه كلام طويل وتفاصيل كثيرة لأهل العلم لكن الأرجح أنه يختلف عن مال الغنيمة وأن مال الغنيمة يُقسم بالطريقة التي ذكرت وفيه جاءت آية الأنفال وأما الفيء فهو المذكور هنا ، فاء إلى المسلمين يعني انتقل إليهم من عدوهم ، تقول فاء الظل هو انتقال الظل من ناحية إلى ناحية ، إذا انتقل بعد الزوال يُقال له فيء لأنه صار إلى الناحية الأخرى فهذا المال انتقل من الكفار إلى المسلمين من غير قتال الفيء ، والغنيمة : ما حصل عليه المسلمون من أموال الكفار بالقوة بالقتال . هذه الآية الله - تبارك وتعالى - يقول {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الإيجاف : هو الإسراع
وهو نوع من المشي أو نوع من الإسراع يُقال وجف الفرس إذا أسرع سير سريع بإيقاع فهو سير سريع بإيقاع ، الإيجاف : سير سريع بإيقاع ، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الخيل معروفة ، والركاب المقصود بها الإبل التي أعدت للركوب ولا زال الناس يُطلقون عليها هذا إلى اليوم على الركاب ، والخيل - والله أعلم - ترمز إلى شيء والركاب ترمز إلى شيء آخر ، فالخيل ترمز إلى الإغارة على العدو لأنها تستعمل في الإغارة ، وتعرفون في قصة أحد لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يتبع المشركين فإن جنبوا الخيل فهم يريدون مكة - ركبوا الإبل - وإن ركبوا الخيل فهم يريدون المدينة ، فالخيل للهجوم والإغارة لأنها تُحسن الكرّ والفرّ ، وأما الركاب فتستعمل للسفر الطويل . إذا أدركنا هذا المعنى نخرج بنتيجة بمعنى : كأن الله - عز وجل - يقول لهم هذا المال الذي حصل لم يحصل بكدكم ولا بتعبكم فإنه لم يحصل بإغارتكم على عدو ولا بسفر طويل قطعتموه حتى حصل لكم ذلك ، لم تبذلوا فيه تعبا {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} يعني باختصار لم تقطعوا إليه شُقة ولا لقيتم حربا ولا مشقة ، كأن هذا تمهيد لبيان حكم هذا الفيء أنه ليس كالغنيمة تنتظرون أربعة أخماس لا ، لا تنتظروا شيئا في الفيء فإنه يختلف عما عهدتم وعرفتم من أحكام الغنائم .
هذه الآية {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من أهل العلم من يقول إنها خاصة ببني النضير لأن الله عز وجل قال {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} "منهم" من بني النضير فالحكم يختص ببني النضير فقط ، فهي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء} ليس منكم منها شيء ولهذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعض أهل العلم قسمها بين المهاجرين ، إذا لم يُراعى فيها {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} مما سيأتي من أن الفيء يُقسم على هذه الأقسام الخمسة التي هي الخمس الموجودة في آية الغنيمة التي ينقسم إليها الخُمُس فالفيء كأنه الخمس الصغير هذا مقسم خمسة أقسام في الغنيمة ، الفيء كله يكون بهذه المثابة بنفس طريقة تقسيم الخُمُس .
فمن أهل العلم من يقول هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها الآن لا تتعلق بموضوع الفيء وأحكام الفيء إنما هذا خاصّ فقط ببني النضير لأن الله - عز وجل - قال لهم {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء} فجعلها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم خاصّة ولهذا لم يُعطِ الأنصار ، لم يقسمها بين الأنصار قيل قسمها بين المهاجرين ، وقيل أنه أعطى ثلاثة من الأنصار لحاجة ، وأنه أعطى سعد ين معاذ - رضي الله عنه - سيف ابن أبي الحُقيق .
على كل حال يحتمل أن تكون هذه ، وقد صحت بعض الروايات التي تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسمها بالطريقة التي ذكرها الله - عز وجل - في الآية التي بعدها فهذا يؤيد القول بأن هذه الآية خاصة ببني النضير جعلها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فيها كيفما شاء ، ويحتمل أن يكون ذلك توطئة لما يُذكر بعده ، أراد أن يُروض نفوسهم لأجل ألاّ يتطلعوا إلى شيء من هذا الفيء فقال {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء} ثم بيّن حكمها بعد ذلك أنها ليست بحق للمقاتلين وإنما لها طريق آخر في القسمة وهي الآية التي بعدها قال {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} هناك قال "منهم" هنا "من أهل القرى" هنا يُبين حكم الفيء عموما ثم ذكر الأصناف الخمسة المذكورة في خُمس الغنيمة {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} والعلماء رحمهم الله تكلموا كثيرا على هذه الآية :
أولا : هل هي متعلقة بالآية التي قبلها أم هذا ابتداء كلام جديد هناك عطف بالواو {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} وهنا قال {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فذكر أهل القرى ولم يقل "منهم" ولم يأتِ بالواو ، قالوا : هذا ابتداء كلام جديد ، هكذا قال طائفة من أهل العلم ولهذا اختلفوا فيها اختلافا كثيرا في أحكامها وأحكام الفيء وكيف يُقسم وما حقيقة الفيء ولعل الأقرب - والله تعالى أعلم - أن هذه الآية مبينة لحكم الفيء وأنه يختلف عن حكم الغنيمة بما ذكرت ، فيُقسم إلى أقسام خمسة ليس ذلك بحق مكتسب - كما يقال - للمقاتلين كما هو في الغنيمة لهم الأربع أخماس ، هنا لا ، جعلها الله في خمسة أقسام .
/ الشافعي - رحمه الله- يقول بأن الآية السابقة وهذه الآية كل ذلك يتحدث عن الفيء وتلك مثل التوطئة لهذه.
/ وبعضهم يقول تلك في بني النضير فقط فجعلها الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه تبين عموما أحكام الفيء.
والأمر في هذا يسير لكن الإشكال في قول من يقول بأن الفيء هو الغنيمة أو يقول بأن هذه الآية منسوخة بآية الأنفال أو يخصّ ذلك بالجزية أو الخراج فقط ، فهذه الأقوال - على كل حال - فيها إشكال .
/ الجمهور يقولون أن هذه الآية غير متعلقة بالآية التي سبقت لكن ماهي التفاصيل يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا وهذا الذي قال به مالك والأحناف جعلوا الأولى في بني النضير خاصّة وهذه في احكام الفيء عموما أيا كانت .
الله تبارك وتعالى يقول {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} سهم الله وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم واحد بماذا يُجعل ؟ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ نفقة أهله سنة والباقي كان يجعله في الكُرع والسلاح أي في المراكب للحرب يُشتر بها الخيل والإبل فيركب الناس عليها والسلاح ، يمكن أن نقول الآن يُجعل في المصالح العامة للمسلمين تُبنى فيه مستشفيات ، مدارس ، تُشترى فيه الآلآت الحربية ، تُصنع منه الطرق إلى غير ذلك من مصالحهم العامة ، هذا سهم الله وسهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا واحد .ثم تبقى السهام الأخرى {وَلِذِي الْقُرْبَى} قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم ، وهل يختصّ ذلك بالفقراء منهم لأنهم حُرموا من الزكاة ؟ فيه كلام معروف لأهل العلم وخلاف والأقرب أن ذلك لا يختصّ بالفقراء وإن كان القائل بأن ذلك يختص بهم له حجة وله مستند من النظر ولكن لا أريد أن أدخل في هذه التفاصيل . الأقرب أن الفيء يُعطى منه الخُمس لذوي القرابات ، قرابات النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَلِذِي الْقُرْبَى} وإن لم يكونوا فقراء.
{وَالْيَتَامَى} من فقد أباه وهو دون البلوغ وهذا يختص بالفقراء منهم ، وهذا موضع إشكال : هناك قلنا يشمل الجميع وهنا نقول للفقراء مع أن هناك أطلق الله في ذوي القربى وهنا أطلق ؟ وهذه حجة من يقول لو قلتم اليتامى يختص بالفقراء فقولوا أن القرابات أيضا يختص بفقرائهم ، على كل حال فاليتامى فالفقراء منهم وأما إن كان الفقير غنيا فلا يُعطى .
{وَالْمَسَاكِينِ} وأما المساكين فهم الفقراء لأن الله أفردهم هنا ومعلوم أن المسكين إذا ذُكر دخل فيه الفقير إلا إذا اجتمع الفقير والمسكين فيكون لكل واحد معنى .
{وَابْنِ السَّبِيلِ} هو المسافر الذي انقطع في سفره ، فَقَدَ نفقته أو انتهت نفقته أو نحو ذلك فإنه يُعطى ما يكفيه حتى يرجع مما يصلح لمثله وهذا يختلف باختلاف الناس ، قد يكون هذا في بلده من الأغنياء ، يركب الطائرات ولا يسكن إلا في الفنادق على مستوى معين ولا يأكل طعاما إلا على مستوى معين لا يُقال له نحن نعطيك ما يسد الرمق وتركب في أي مركب يوصلك ، لا ، يُعطى ما يصلح لمثله فمن كانت عادته ركوب الحافلات يُعطى تذكرة ركوب حافلة ، من كان عادته يسكن شقق مفروشة متواضعة بسيطة يُعطى ما يصلح لمثله ، من كان يسكن في فنادق فخمة يُعطى ما يصلح لمثله ولو كان غنيا في بلده بحيث لا يحتاج ، ولا يكون ذلك على سبيل الإقراض لا ، طبعا هذا إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى ماله أما اليوم البطاقات الآن والتحويلات السريعة...الخ فلا يعتبر ابن سبيل إلا إذا تعذر وصوله إلى ماله كأن يكون فقد كل شيء حتى بطاقته والمعلومات التعريفية حتى لو جاءته حوالة لأنه سيطلب منه هذه الأشياء ، ولا يستطيع أن يأخذ من حسابه ولا غير ذلك ، فقد كل شيء . فالشاهد : يُعطى ما يصلح لمثله .
ثم علل الله - عز وجل - هذا التقسيم الذي لا يُشترط فيه التساوي على الأرجح وإنما بحسب حاجاتهم قد لا يوجد عندنا ابن سبيل ولكن عندنا أيتام كثير بعد الحرب فهؤلاء ممكن يأخذوا نصيب الأسد من هذه الأموال ، وهكذا قال {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} "دُولةّ "بالضم من التداول ، فالشيء المتداول ذلك الذي يتداوله المتداولون يُقال له "دُولة" والتداول هو : التعاقب في التصرف بالشيء وإن كان في عُرف الاستعمال يُقال ذلك في خصوص المال ، المال الذي يتداوله الناس يُقال له "دُولة" ثم قال الله - تبارك وتعالى - يعني هذا تعليل من أجل ألاّ يكون دُولة بين الأغنياء منكم فالشارع يُفتت الثروة ، الأموال لتصل إلى أوسع نطاق في المجتمع فلا تبقى الأموال حِكرا بيد الأغنياء فيزدادون غنى ويزداد الفقراء بؤسا وفقرا ، ولهذا تلاحظون حتى الميراث ، الأموال الخاصة - الممتلكات - إذا مات الميت لا تذهب إلى ولده الأكبر مثلا أو إلى أولاده فقط من صلبه ، لا ، شيء يذهب للأم ، شيء يذهب للأب ، شيء يذهب للبنات والأولاد ، وهكذا القسمة الشرعية المعروفة ، يتفتت هذا المال ويتوزع ، كل مات واحد منهم توزع ، وقل مثل ذلك فيما يجب من مال الركاز مثلا والأموال المشابهة التي تحصل للإنسان فالشارع قصد أن يصل ذلك إلى آخرين من اجل ألاّ يبقى المال بأيدي مخصوصة ، محدودة معينة تزداد ثراء والبقية يعيشون في الحرمان .
ثم قال
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} السياق هنا في العطاء المالي ، وهنا يريد أن يروض نفوسهم قل لهم لا تطلبوا شيئا لأنفسكم أو تطمح نفوسكم وتطمع في أموال قد لا تصل إليكم إنما ما جاءكم من غير استشراف فخذوه والأدلة على هذا كثيرة .
إذا السياق {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} يعني ما أعطاكم من المال {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} يعني من المال ،
هل يدخل في ذلك ما آتاكم من التشريع والأمر والهدايات فخذوه التي دائما يُستدل بهذه الآية عليها ؟الجواب : نعم لأن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة ، أضف إلى ذلك أن الله تبارك وتعالى قال {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} فقابله بالنهي فكأنه يقول ما أمركم به فافعلوا ، تلقوا عنه بالقبول ، خذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، هذه الآية سياقها في الأموال وهي صادقة على هذا المعنى في العطاء المالي وهي تشمل أيضا ما آتاكم من الأمر والهدايات والتشريع وما أشبه ذلك فخذوه {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ولهذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) ، ومما يدل على صحة هذا الفهم الحديث المُخرّج في الصحيح حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما قال " لعن الله النامصات والمتنمصات والواشمات ..." الخ فجاءته إمرأة يقال لها أم يعقوب فذكرت أنها قرأت المصحف ولم تجد ذلك فيه فقال لها " أما إنك لو قرأتيه لوجدتيه " ثم ذكر لها هذه الآية {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} فهذا في قضايا التشريع ، فهكذا فهم ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - . ثم قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} كما هي العادة في القرآن حينما يُبين لهم أحكام التشريع يذكر لهم ما يحصل به لزوم تلك الأحكام من التذكير بالله - عز وجل - وما عنده من الثواب ، أو ما عنده من العقاب لتوجد الرقابة الذاتية في نفوسهم ومن أجل تحقيق الانقياد والقبول لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ./ ثم بعد ذلك قال {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}هذه الآية أيضا الأرجح أنها تتعلق بأحكام الفيء ، فكما أن الفيء يوزع على هذه الأقسام للفقراء والمساكين ...الخ فكذلك أيضا من أولى الناس به ومن أحق الناس به أولئك الذين تركوا ، هاجروا إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وتركوا وراءهم كل شيء ، كان الرجل يأتي ليس عليه إلا إزار ، ما عنده شيء ، ترك كل شيء الوطن والأهل والعشيرة والمال وقد يكون صاحب ثروة فهؤلاء أولى الناس أن يُعوضوا وأن يُعطوا من هذه الأموال التي تصير إلى المسلمين فقال {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم} نحن نعرف أنهم خرجوا هم ، تسللوا ، كثير منهم خرج خفية وخِلسة وإلا فإن الكفار لا يريدون منهم الخروج بل يريدون اضطهادهم من أجل ألاّ ينتشر الإسلام لكن لما اضطرهم الكفار إلى الخروج كان ذلك بمنزلة الإخراج فهم الذين تسببوا فيه ولهذا قال الله - عز وجل - {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم خرج خفية فجعلهم هم الذين أخرجوه لأنهم هم الذين تسببوا بهذا الإخراج بالتضييق الذي فرضوه على المسلمين .{أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} والديار هي : المكان الذي تسكن فيه القبيلة أو القرية التي يسكنها الناس أو نحو ذلك {أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} والآيات تتعلق بها جملة من الأحكام مثل : أرض مكة هل تُملك البيوت فيها لأن الله قال {أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم} فنسب الديار إليهم إلى غير ذلك من الأدلة التي يُستدل بها .
قال {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وهذا شهادة من الله - عز وجل - لهم بصحة مقاصدهم وسلامة نياتهم وأن هجرتهم هذه يريدون بها ما عند الله - عز وجل - لم يُهاجروا من أجل دنيا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو إمرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) هؤلاء شهد الله - عز وجل - لهم بسلامة مقاصدهم وحُسن نياتهم وأنهم يريدون ما عنده قال {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ثم قال {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} جاء باسم الإشارة للبعيد ، وجاء بضمير الفصل "هم" بين طرفي الكلام وهذا يُشعر بالحصر {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} كأنه حصر هذه الصفة "الصدق" بهم كأنه لا صادق إلا هؤلاء وهذا فيه من الثناء على المهاجرين - رضي الله عنهم - وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم - .
ثم قال - تبارك وتعالى - {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..} الآية هذا ثناء على الطائفة الثانية وهم الأنصار ، فالمجتمع في المدينة كان ينقسم إلى مهاجرين وأنصار فـ{والَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} التبؤ : بمعنى النزول والسُكنى ، تبوؤا الدار يعني سكنوا الدار واستوطنوها ، لكن هنا يرد إشكال أو سؤال "تبوؤاالدار والإيمان" إذا قلنا إن الإيمان معطوف على الدار فهل الإيمان يُسكن ؟ كثير من أهل العلم يقولون : هنا محذوف مُقدر " والذين تبوؤا الدار واعتقدوا الإيمان " وأن العرب تحذف من الكلام ما يُفهم من السياق .
/ أو بعضهم يقول : تبوؤا الدار ولزموا الإيمان ، لفظة "لزموا" هذه يدل عليها التبوؤا ، السُكنى كأنهم لزموا الدار ولزموا الإيمان كما قال الله - عز وجل - {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} أي وادعوا شركاءكم ، والشاعر يقول :
ورأيت زوجك في الوغى *** متقلدا سيفا ورمحا
التقلد للسيف هذا معروف عند العرب تربطه برباط للعنق فيُلبس لباس لكن الرمح لا يُتقلد ، الرمح يُحمل : ورأيت زوجك في الوغى - أي في الحرب - ، متقلدا سيفا وحاملا رمحا ، فيه مقدر محذوف والعرب تفهم ذلك من خطاب من خاطبها .
على كل حال : قوله تبارك وتعالى {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} التبوؤ هو : النزول والاستقرار والتمكن وأصله من اتخاذ المباءة وهي المكان أو البقعة التي يبوؤ إليها صاحبها يعني يرجع بعد إنتشاره في حاجاته ، والمعنى : أنهم آمنوا قبل مجيء المهاجرين إليهم وهذا يُجيب على سؤال معروف أن الله - عز وجل - قال عن الأنصار {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} ومعروف أن المهاجرين أسلموا قبل الأنصار ثم انتقل الإسلام إلى المدينة بعث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير - رضي الله عنه - .
الشاهد : كيف قال الله تعالى {مِن قَبْلِهِمْ} من قبل المهاجرين ؟ الجواب عن هذا : هو أن المراد مجموع الأمرين ، سكنى المدينة مع الإيمان كان ذلك قبل المهاجرين {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} الدار هذه المقصود بها المدينة وقد اعتبرها أهل العلم من أسماء المدينة ( طيبة ، طابة ، الدار ، المدينة ) وأصل الدار تُطلق على البلاد أو موضع القبيلة من الأرض وصارت تطلق على القرية أو المدينة ونحو ذلك . الآن هذه الآية الأرجح أنها معطوفة على ما قبلها إذا هؤلاء لهم حق في الفيء وهذا الذي مشى عليه عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - وإن لم يكن هذا محل اتفاق ، ثم أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء الأنصار بهذه الصفات العجيبة {تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} العادة أن القبائل أو أهل القرى ونحو ذلك يكرهون نزوح الآخرين إلى ديارهم ، وتعرفون القبائل كان يحصل قتال إذا نزحت قبيلة إلى ناحيتهم إلى أرضهم قاتلوهم على المرعى وعلى الماء وعلى مقاربة الديار التي يسكنونها ،هذا معروف إلى يومنا هذا ، أما هؤلاء من الأنصار - رضي الله تعالى عنهم - فكانوا يُحبون من هاجر إليهم وهذه شهادة من الله - عز وجل - أن المسألة لم تكن عبارة عن عبارات ومصانعة كاذبة أو نوع من الملق أو نحو ذلك ، الله يشهد لهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وبهذا نعرف ضيق ... عند الناس أصحاب النفوس الصغيرة الذين يضيقون ذرعا بإخوانهم لا أقول الذين جاءوا من أجل أن يواسيهم إخوانهم ببعض ما في أيديهم لا ، أحيانا جاءوا للعمل بعرق جبينهم ويقدمون لهم أشياء تنفع المجتمع وتنفع الأمة ومع ذلك تجد كثير من أصحاب النفوس الضيقة يتعامل مع هذه القضايا بأخلاق تدل على لؤم كأنهم جاؤا ليأخذوا ما في يده ، أو كأن رزقه سيتحول إليهم أو نحو ذلك وللأسف هذه النفوس ما ارتاضت كما ينبغي بالإيمان وما تربت هذه التربية الإيمانية القرآنية التي ذكرها الله - عز وجل - هنا ، وينبغي على الإنسان أن يفتش نفسه هل هو كذلك ، وحتى الناس في قراهم وفي أراضيهم وديارهم ومناطقهم ونحو ذلك لربما يتبرمون إذا جاء آخرون ونزحوا إليها من أماكن أخرى ، فضلا عما لو جاءهم أحد نزلت به ضراء أو مشكلة أو حرب أو مجاعة أو نحو ذلك فنزحوا إليهم كيف تكون أخلاقهم وحالهم وأعمالهم ، النفوس تحتاج إلى شيء من المراجعة وأنا متأكد من أنه لو قام أحدهم اليوم ببعض ما قام به الأنصار - رضي الله عنهم - من المهاجرين لاتُهم في عقله ، واجلس مع نفسك وفكر قليلا وانظر ستجد مصداق ذلك . الله يقول {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} هذه صفة أخرى ، مع المحبة يحبون هؤلاء الذين جاءوا ، لم يقولوا هؤلاء جاءوا ليُضايقونا ، يضيقوا علينا وقد صار المهاجرون أكثر من الأنصار في بعض الأوقات في المدينة ، المهاجرون ليسوا فقط هم أولئك الذين جاءوا من مكة لا ، هم الذين جاءوا من سائر النواحي من غير المدينة بعضهم من الأعراب ، بعض هؤلاء من بني سليم ، بعض هؤلاء من جُهينة ، كل هؤلاء في عداد المهاجرين قال {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} الحاجة ممكن هنا بمعنى الحسد لا يحسدون المهاجرين إذا اختصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من العطاء وهم بحاجة إلى تعويض ذلك الذي قد تركوه وفاتهم من أموالهم في ديارهم فالأنصار لا يجدون في صدورهم شيئا من دوافع الغيرة أو الطمع ، ولا تمتد نفوسهم حتى لو أردنا أن نُفسر الحاجة بمعناها المتبادر - الحاجة - بمعنى أنه يجد في نفسه تطلعا وتطلبا لهذا الشيء الذي يُدفع لهؤلاء المهاجرين لا يجدون في نفوسهم حاجة فضلا عن الحسد {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} يعني مما أوتيه هؤلاء ممن هاجر إلى المدينة .
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} هذه صفة أخرى، الإيثار المحمود - في الأصل - هو : تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية ، ولهذا قال الله - عز وجل - {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في العطاء وفي الأموال وفي أرضهم وفي هذه الأشياء وليس الإيثار بالطاعات لأن ذلك يؤذن بالزهد بما عند الله - جل جلاله - ، والعلماء تكلموا على مسألة الإيثار هل يجوز للإنسان أن يؤثر الكبير كالعالِم أو الوالد أو الإمام العادل أو نحو ذلك كأن يُقدمه للصف الأول أو نحو ذلك ؟ فهذا أمر ذكر النووي - رحمه الله - وبعض أهل العلم أنه سائغ لا إشكال فيه من باب التوقير . لكن ما نفعله نحن أحيانا في أشياء غير أحيانا مناسبة ، تجد أحيانا ناس فاتتهم الصلاة ويريدون أن يُصلوا كل واحد يقول للثاني تفضل أنت وأحيانا يتقدم إنسان لا يظهر عليه سيما التدين ، يعني تظهر عليه علامات معاصي ، مخالفات ظاهرة جدا وأحيانا هو الذي يتقدم في النهاية ، كل واحد يقول للثاني تقدم أنت ، هنا ليس مجال تقدم أنت (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ...) الخ ، وإذا أراد الإنسان أن يدخل المسجد لاسيما يوم الجمعة كل واحد يقول للثاني تفضل أنت ، تؤثره في الدخول ؟! هذه فيها قُربة وطاعة ، وعكس هذا أحيانا ما يتوهمه في الخروج يُخرجه قبله على أن ذلك من قبيل الإكرام ، ليس في هذه الصورة التي قد نتوهمها .
على كل حال الإيثار المحمود هو الذي يكون في الحظوظ الدنيوية أما الأمور الأخروية فلا إيثار فيها في الأصل ، وذكرت في الكلام على رياض الصالحين الكلام على حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - لما تلّه النبي - صلى الله عليه وسلم ودفعه إليه فقال " لا أؤثر بنصيبي منك " ، على كل حال الأنصار رضي الله تعالى عنهم وصفهم الله بهذه الصفة {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وقد حفظت لنا الروايات جملة من أخبارهم - رضي الله عنهم وأرضاهم - كلكم يعرف خبر عبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع لما هاجر ، أولا كانوا حينما يُهاجر الواحد من المهاجرين إلى المدينة يختصم عليه الأنصار ، كل واحد يقول هو عندي فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقرع بينهم قرعة لحل المشكلة ، أين يوجد هذا؟!
ولما جاء عبد الرحمن بن عوف آخا النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع ، سعد بن الربيع قال له : أغلى ما أملك زوجتيّ ، وأدنى ما أملك نعليّ ، فانظر إلى أيهما شئت أطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجها ، وادنى ما أملك نعليّ خذ واحدة وأنا آخذ واحدة وما بين ذلك هو بيننا ، الآن لو يفعل هذا ماذا سيُقال عنه ؟! الآن لربما لو إنسان يعطي زميله سيارته يسافر فيها لربما يُلام ويُعاتب من قِبل اهل لربما ينتسبون إلى التدين والخير والصلاح ، لو أن هذا الولد جاء من المدرسة وقال المال الذي أُعطي من أجل أن يشتري به شيئا في نهاره ، في مدرسته أنه قسمه مع أحد زملائه ليس معه شيء لربما يُلام ويُعاتب ، لو أنه قسم ملابسه مع زميل فقير أو نحو ذلك ، أو دفع شيئا ، قسم ماله ، إنسان يملك أموال فجاء وقسمها مع آخر فقير أو مع جار فقير أو نحو ذلك ، أو عنده سيارتان فقال هذه لك اختر واحد وأنا واحدة وخذه ، وكذا . عندي أرضان خذ أرض وأنا أرض ، لي فلتان اختر واحدة وأنا اخرج منها وتسكن فيها ، هذا يُتهم في عقله . اليوم إذا ذهب إلى معارض السيارات وقال هذه السيارة فيها العيب الفلاني والعيب الفلاني والعيب الفلاني جلس هؤلاء الذين يسمونهم "الشريطية" يتغامزون في زعمهم أن هذا مغفل ، درويش ممكن نضحك عليه ، كم يا "مطوع" ، لم يعلموا أن الغفلة هم أولى بها وأحرى .
للأسف الشديد ضاعت كثير من هذه المعاني كيف بالإيثار ؟!الذي يبين العيب أصبح في نظر كثير من الناس اليوم نوع من الغفلة والدروشة وقلة الحِذق والخبرة ولهذا بعض الناس ربما سمى محله التجاري في العقار فرصة لماذا ؟ لأنهم يعتبرون هذه فُرص أن يأتيك إنسان لا يعرف قيمة السوق قيمة السلع وقيمة الأراضي فهذه فرصة لا تُعوض تظفر بهذه البيعة وتربح ربحا كثيرا ، للأسف الشديد .
أقول : قصة أبي طلحة- رضي الله عنه - وهي في الصحيح مع ضيف رسوا الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نزلت به حاجة وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ولم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أزواجه شيئا فأخذه أبو طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - ، وتعرفون الخبر لما لم يجد إلا طعام الصبية فأمر امرأته أن تنوّم الصبية وأن تُطفئ السراج إذا وضعت الطعام فيتظاهر بالأكل . وهكذا في الصحيح أيضا لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم أن يُقطع الأنصار أموالا أو أرضا في البحرين ، والبحرين المقصود بها هذا الساحل فأبوا قالوا إلا أن تُقطع إخواننا من المهاجرين . أين يوجد هذا؟!
بل جاء في بعض الروايات أنه لما حصلت مثل هذا الفيء جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار وخيّرهم ، قال هذه الأموال ، هذا الفيء إن شئتم خرج المهاجرون من أرضكم وقسمته بينهم دونكم وإن شئتم بقوا في أرضكم وقسمته بينكم ، قالوا : لا يارسول الله بل يبقون في أرضنا واقسمه بينهم دوننا . هذه أخلاق عالية ، إيثار ، الطمع خرج من النفوس ، مع أن الأرض في الأصل هي أرض الأنصار .
ولما هاجر المهاجرون وقاسمهم الأنصار الأموال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر للأنصار أن المهاجرون ليسوا أهل زرع ، لايُحسنون هذا ، اقترح على الأنصار أن يُمسكوا الأرض تبقى مُلكا للأنصار ويبقى الثمر بينهم على أن يكون العمل للأنصار فقبلوا . لم يقولوا هذه أصلا أرضنا والثمر كله لنا ، قالوا قبلنا بهذا ، نكون نحن نعمل ولا يُقاسمونا الأرض - يعني في التملك - وإنما يقاسموننا الثمرة . وعلى كل حال في فترة وجيزة لما كان الناس يتقاتلون على أتفه الأشياءأصبحوا ، تحولوا إلى هذا المستوى وعندئذ تتأهل الأمة للنصر . ولا زلنا نسمع في أحداث غزة من يتكلم من منطلقات ضيقة جاهلية ، ولربما بعضهم يتذكر أشياء حقيرة تافهة تدل على تفاهة تفكيره ، أن معلما كان من فلسطين لطمه وهو في الابتدائي ، أو أنه تلّ شعره ، أو قرص أذنه أو نحو ذلك .
النفوس ينبغي أن تكون أكبر من هذا فتجد هذا يُردد في المجالس ولربما قال بعضهم أنا أتبرع لليهود ولا أتبرع لفلسطين ، هذا موجود ، وبعضهم قال : مافيه مكان للتبرع للدم لليهود ؟ أنا أتبرع لليهود ، هذا نوع نفاق .والنفوس أحيانا يظهر بعض كوامنها في مثل هذه المقامات.
على كل حال يقول الله - عز وجل - {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} أي هم حينما يُقاسمون ويفعلون هذه الأشياء ليس هذا من كثرت مال عندهم بل يفعلون ذلك مع الحاجة وهذا هو أفضل الصدقة كما في الصحيح (أفضل الصدقة جُهد المُقلّ ) . والخصاصة هي : الحاجة التي تختلُّ بها الحال ، كأن هذا الإنسان قد اختُصّ بحاجته وانفرد بها من بين الناس ، منفرد بحاجته ، وبعضهم يقول : الخصاصة من خصاص الدار مثل السقف في السابق كان من الخشب ويظهر فيه شيء من أشعة الشمس في بعض المسام فهي فرجة يُقال لها خلة ، فهنا هذا الرابط وهو الخلة ، فهنا خَلّة بمعنى الحاجة والفقر والمعنى يرجع إلى شيء واحد ، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} أي لو كان بهم حاجة وشدة وهذا هو حقيقة الإيثار ، أنت حينما تأتي تجلس في مكان فيه عشرة كراسي فارغة وتقول لإنسان تعال تفضل اجلس أنا أؤثرك بهذا المكان وتجلس على الكرسي الآخر بجانبه ، هذا ليس بإيثار . عندك ماء كثير متوفر وتقول لإنسان تفضل أنا اؤثرك بهذا الماء الذي في يدي ثم تأخذ قارورة اخرى هذا ليس بإيثار ، هناك طعام كثير وتقول تعال اتفضل أنا أؤثرك بهذا الطعام الذي استدنيته ثم تأخذ ماهو اكثر منه فهذا ليس بإيثار ، إنما الإيثار حيث وجدت الحاجة ، لا يوجد غير هذا الطعام ، لا يوجد غير هذا الشراب ونحو ذلك فهذا هو حقيقة الإيثار .
وكان المهاجرون - رضي الله عنهم - أهل إيثار أيضا وقد حفظت لنا سيرهم أشياء وأشياء من هذا القبيل لا أطيل بذكرها ، وعلى كل حال ثم عقب الله - عز وجل - ذلك بقوله {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أنا لا أريد أن أطيل أترك هذه في الليلة القادمة إن شاء الله ، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

----------------
تأملات في سورة الحشر (2) من قوله تعالى: (وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ ..)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق