الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى نبيا عن أمته ، صلى الله عليه وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحّد الله وعرّف به ودعا إليه ، اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المباركون فهذا لقاء مبارك متتابع في تفسير كلام رب العالمين - جل جلاله - وفي كل لقاء منه سنأخذ بعض آيات من كلام الله نفسرها على ما جرت به العادة في تفسيرنا أن تجمع ما بين العظات الإيمانية والعظات التاريخية وقبل ذلك ما في الآيات من أحكام فقهية معرجين أحيانا على ما دوّنه أهل النحو والبلاغة وأئمة البيان .
والآيات التي سنتحدث عنها اليوم هي قول الله - جل وعلا - ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا *وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) والحديث عن هذه الآيات المباركات من وجوه :
الوجه الأول : هذه الآيات مدنية باعتبار وقت نزولها لأن المختار عند العلماء أن المدني ما نزل بعد الهجرة والمكي ما نزل قبلها بصرف النظر عن الموطن إلا أن علماء الإسلام من عنايتهم بالقرآن عنو كذلك بنزوله صيفا وشتاء ، ليلا أو نهارا ، سماء أو أرضا أو بينهماولهم في هذا سابق سلف وهو رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ، فالحجة في هذا التقسيم مارواه مسلم في الصحيح من حديث عمر رضي الله تعالى عنه أن عمر بن الخطاب سأل النبي عليه السلام عن آية الكلالة فقال له عليه السلام بعد أن طعنه في صدره - أي في صدر عمر - قال يا عمر : تكفيك منها آية الصيف التي في آخر سورة النساء . وجه الدلالة والاستنباط : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر تكفيك منها آية الصيف ، فهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل نزول القرآن صيفا مما يوقت به ، ومن الدلائل الأُخر قول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لما ذكرت الآيات التي نزلت في براءتها قالت : وإنه لفي يوم شات أي في الشتاء . من هذين الحديثين وغيرهما أخذ العلماء العناية بتقسيم القرآن ، ومظانّ هذا لطلاب العلم في البرهان للزركشي ، وفي الاتقان ومعترك الأقران للسيوطي ، وفي غيرهم من كتب العلماء التي تحدثت عن علوم القرآن .
أما معنى الآيات : فإن الله يخاطب صفوته من الخلق ، وخيرته من الرسل بعد منقلبه من الحديبية ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - ومهم جدا أن يُعرف وقت النزول حتى يغلب على الظن ماالمراد من كلام الله ، أنه إذا فاتنا هذا قد يفوتنا شيء كثير في فهم كلام الله ومراد ربنا - جلّ وعلا - من قوله فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان منه الصلح مع قريش على عدم رضا من المسلمين في المقام الأول لأنهم معتمرين من المدينة فصُدوا عن البيت ، فلما قفلوا راجعين وأمسوا - أي دخلوا في الليل - وعلى الظاهر أنهم وصلوا عند كُراع الغميم ، والغميم اسم واد بين مكة والمدينة وهو إلى مكة أقرب ، والكُراع من كل شيء طرفه .
جاء عمر - رضي الله تعالى عنه - وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فلم يجبه ، فأعاد عمر السؤال فلم يجبه ، فأعاد عمر السؤال فلم يجبه ، فقال عمر لنفسه : ثُكلت أم عمر ، ثم ركب بعيره وتقدم الجيش وقال أخشى أن ينزل فيّ قرآنا ، ثم إنه - رضي الله عنه وأرضاه - إذا بصارخ يُسمعه فعاد إلى مؤخرة الجيش ، وكان من هدي نبيكم - عليه السلام - أن يسير في مؤخرة الجيش ، فعاد إلى مؤخرة الجيش فإذا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له : ياعمر لقد أنزل عليّ الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ - أي عليه الصلاة والسلام - ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ذهب بعض العلماء - رحمهم الله أحياء وأمواتا - ذهبوا إلى أن المقصود بالفتح هنا : فتح مكة وهذا قول لبعض أهل العلم ولابد لهم من حجة لأنه لا يُظن بأهل العلم أن يقولوا على الله ما لا يعلمون فأما حجتهم فهي : أن الله فرق في كلامه ما بين النصر والفتح قال الله - جل وعلا - (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) والواو واو العطف بالاتفاق ، و واو العطف تقتضي المغايرة أي أن الفتح غير النصر فقالوا إن الفتح هو ذالكم النصر الذي يقترن بأن يطأ الغلب المنتصر أرض عدوه ، فإذا دخل أرض عدوه ووطأها يُسمى فتحا أما إن لم يدخل أرض عدوه لا يُسمى فتحا ، فلا يُقال عن معركة بدر فتح يُقال غزوة بدر ، معركة بدر ، يوم الفرقان لكن لا يُقال فتح ، وأما مكة فيُقال فتح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها ووطئها وهي أرض عدوه في الأصل . على هذا - أيها المباركون - قال بعض أهل العلم : إن المراد بالفتح ، فتح مكة ، جمهور العلماء من السلف والخلف - وهو الصحيح - أن المراد بالفتح هو صلح الحديبية ، قال إمامنا الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - في أضواء البيان " والتحقيق الذي عليه جمهور العلماء أن الفتح هو صلح الحديبية " وبيان هذا : إنما سُمي فتحا لأن الناس أمِنوا بعد صلح الحديبية فعرف غير المسلمين محاسن الدين إذ اختلط الناس بعضهم ببعض ، فلما اختلط الناس بعضهم ببعض وعرف غير المسلمين محاسن الدين دخلوا في دين الله أفواجا فكان فتحا عظيما.
ولجمهور العلماء - رحمهم الله أحياء وأمواتا- ثلاثة أدلة على أن المراد هنا هو صلح الحديبية :
دليلهم الأول : أن الله جاء بفعل الزمن الماضي في الفتح قال ربنا ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) وهذا يدل على أنه شيء قد قُضي وانتهى ، ولا يصح صرف ظاهر القرآن إلا بدليل ، يعني الفعل هنا لا يصح صرفه عن ظاهره إلا بقرينة فلا يحتج علينا أحد بقول الله - جلّ وعلا - (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) فيقول هذا في المستقبل ، نقول : نعم هذا في المستقبل لقرينة وهي قوله - جلّ وعلا- (فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ) فقوله - جل وعلا - (فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ) يدل على أنه لم يقع لكن هنا لا قرينة فيبقى الأمر على ظاهره وهو أنه مر قد قُضي وانتهى ، فأول أدلة الجمهور الاتيان بالفعل الماضي.
ثم احتجوا بقول البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال " كن نعُدّ الفتح صُلح الحديبية " وفي رواية عنه " كنا نعد الفتح بيعة الرضوان " فهذا من أدلة الجمهور على أن الفتح المراد به هو صلح الحديبية ، كما أن نزول الآية قريبا من مكة بعد انصرافه - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية دليل آخر للجمهور على أن المراد به صلح الحديبية ، وقد بيّنا أن هذا هو الصحيح .
/ قال أصدق القائلين ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) اللام هنا لام العلة ، أي فتحنا لأجلك ، إكراما لك ، ونظيرها في القرآن قول الله - جل وعلا - (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) والمعنى : شرحنا صدرك إجلالا لك ، فهنا فتحنا هذا الفتح إجلالا وإكراما لك . فاللام في قوله - جل ذكره - ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) هي لام العلة .
( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) السياق مفترض في غير القرآن أن يُقال مالذي فُتح ، فتحنا مكة ، فتحنا لك غيرها ، لكن الله قال ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا) فجاء بالمصدر إذ المقصود هنا جنس الفتح وهذا مما يؤيد قول الجمهور . ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) أي بيّنا ظاهرا لا لبس فيه .
/ثم قال - جل ذكره - (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)
اختلف العلماء في اللام هنا اختلافا كثيرا ، مالمقصود منها وأرجحها عندي - والعلم عند الله - ما ذهب إليه ابن عطية في المحرر إلى أن اللام هنا أقرب ما تكون إلى لام الصيرورة ، يصبح المعنى إذا أخذنا بقول ابن عطية - رحمه الله - : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يكون الفتح علامة على غفران ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
/ قال أصدق القائلين (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) وفي غير القرآن يمكن الاستغناء عن لفظ الجلالة بالضمير ليصبح ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فيُصبح فاعل يغفر ضمير مستتر تقديره "هو" يعود على الرب لكنه جيء بإظهار اسم الجلالة مع إمكانية الإضمار لبيان عظيم المنة على النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهنا اختلف العلماء اختلافا كثيرا في معنى قول الله - جل وعلا - (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ، سنذكر رأيين مرجوحين ثم نذكر الرأي الذي نرتضيه من الآراء المرجوحة :
قول السلف إن المعنى ليغفر الله لك ما تقدم من ذنوبك قبل البعثة ، (وما تأخر) أي بعد البعثة. هذا حُكي عن بعض السلف لكني أراه مرجوحا .
ورأي أشد منه ضعفا ذكره القرطبي عن عطاء الخرساني قال : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ ) أي يغفر لأبويك آدم وحواء ببركتك (وَمَا تَأَخَّرَ) ليغفر لذنوب أمتك بدعوتك .
وهذا قول حسن في النظم والسجع لكنه لا يمكن أن يُقال به لأنه عدول تام عن ظاهر القرآن ، وأما ظاهر القرآن فإن المخاطب بهذه الآية النبي - صلى الله عليه وسلم - ويؤيده ما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعا في الشفاعة أن أهل الموقف يقولون لنبينا - صلى الله عليه وسلم - غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويقول بعض النبيين اذهبوا إلى محمد فإنه نبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
قبل أن نبيّن معناها نبيّن فضلها . ويظهر فضلها بجلاء إذا أدركت التالي :
ليس هناك - فيما نعلم - في القرآن ولا في السنة عمل صالح ذكر الله أن ثوابه أن يُغفر للعبد ما تقدم وما تأخر ، لم يرد في القرآن ولا في السنة أن هناك عملا صالحا ثوابه أن يغفر الله لعامله ما تقدم من ذنوبه وما تأخر ، وأنتم تحفظون ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ( من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) لا يتكلم عن المتأخر لكن المنة هنا على هذا النبي العظيم أن الله غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
يبقى معنى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) نحن لا نقول بأنه تقع منه - صلى الله عليه وسلم - معصية لا صغيرة ولا كبيرة لكن نقول إن هناك أمور يعاتب الله على مثلها أنبياءه لا تسمى في حقنا ذنوبا وتُسمى في حق مقامه الشريف ذنوبا ، هذه هي المقصود بقوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
/ (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) هنا لم يأتِ بالضمير لأن النعمة - صلى الله عليه وسلم - قديمة أي بإظهار قدرك ورفيع مكانتك وإعلاء دينك .
/ (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) أي قويما لا اعوجاج فيه وهو ما عليه أمته صلوات الله وسلامه عليه .
ثم ختم الله هذه العطايا الإلهية لهذا العبد ، النبي الصالح قال (وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) أي لا ذلة بعده ، وإنما نال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا أولا وأخيرا برحمة الله ، لكن من رحمة الله به - عليه الصلاة والسلام - أن الله جعله يرتدي ثوب التواضع ، فلما ارتدى ثوب التواضع ما زاده الله به إلا عزا في أول أيام دعوته كانت قريش تظن أن قوله لن يتجاوز فيه أي لن يصدقه أحد ، فصبر دون أن يتكبر على كل أحواله ، حتى لما أتى مكة وبركت الناقة قال حبسها حابس الفيل والله لا تسألني قريش خطة تعظم فيها البيت إلا أعطيتها إياها ، تعظيما لربه ، وقبِل أن يرجع وهو سيد الخلق إلى مدينته ولم يقضِ وطره من العمرة عبودية لله فما أن رجع قبل أن يصل مدينته أنزل الله عليه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) ولهذا قال لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس صلوات الله وسلامه عليه .
متعنا الله وإياكم متاع الصالحين ، ورزقنا الله وإياكم الفوز بجنته ، وصلى الله على محمد وآله ، والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق