الشيخ د . أحمد بن محمد البريدي
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربّ العالمين , وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نُكمل ما بدأنا به .
المقطع الأوّل :
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27))يقول الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ) ألم ترَ أي ألم تعلم , فالرؤيا هنا ليست بصرية , (إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) أي أُعطوا نصيباً من الكتاب .
الكتاب اختلف فيه المفسّرون على قولين:
القول الأول: ( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قيل:التوراة والإنجيل وهو ظاهر الآية .
القول الثّاني: (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قيل: القرآن, قاله قتادة .
والرَّاجح هو القول الأول: أيّ ألم ترَ , يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ مُنكراً على اليهود والنَّصارى المُتمّسكين فيما يزعمون بكتابهم الذِّي بين أيديهم وهي التوراة والإنجيل , إذا دُعوا إلى التَّحاكم إليها (تَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) وقوله: (فَرِيقٌ مِّنْهُمْ) دليلٌ أنَّ بعضهم قد اهتدى كعبد الله بن سلام وغيره قد اهتدى (وَهُم مُّعْرِضُونَ) لماذا؟ ما سبب إعراضهم؟!قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) يقولون هؤلاء نحن لن تمسّنا النّار إلا فقط سبعة أيام,عن كل ألف سنة في الدُّنيا يوم , ثم تأتُون أنتم أيّها الأميّون العرب وتخلفوننا فيها , وتُخلّدون في النّار ونحن نذهب إلى الجنّة!! هذا اعتقاد اليهود والنّصارى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) أيّ أياماً قليلة (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) أيّ ثبَّتهم على دينهم الباطل ما خَدَعُوا به أنفسهم من زعمهم أنّ النار لن تمسّهم بذنوبهم إلا أيّاماً معدودات , وهم الذين افتروا هذا من تِلقَاء أنفسهم وافتعلوه ولم يُنزّل الله عزوجل به سلطانا , ليس لهم دليل على ما يدَّعُون بل هو مَحضُ افتراء كما ختم الله عزوجل هذه الآية: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) .
ثم قال الله - عز وجل - : (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ) كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله، وكذَّبوا رسله، وقتلوا أنبيائه وقتلوا أتباع أنبيائه, والله سائِلُهم عن ذلك كلّه ومُحاسِبُهم عليه, ولهذا قال: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ) لاشكّ في وقوعه, (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ) أيّ أُعطيت كُلُّ نفس ٍما كسبت من خير أوشَرّ (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) .
ثم قال الله - عزوجل -: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء)مناسبة هذه الآية لما قبلها : دعوةُ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ بالدُّعاء المتضمّن قدرة الله على نقل النُّبوة التي تتبَعُها المُلك من بني إسرائيل إلى العَرب, فإنَّ بني إسرائيل كانت فيهم النُّبوة إلى أنّ الله ـ عزوجل ـ بَعَثَ مُحمداً ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وهنا نقل النبّوة, نقل المُلك , والنبّوة يتبعُها المُلك , أليس كذلك؟! ألم تكن الخلافة للإسلام سنين عديدة فقال الله: (قُلِ اللَّهُمَّ) أيّ يا محمد، توطئة أنّ الله سيُعطيه وسينزع (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدير) يقول أحد روؤساء الدول الذين قد خُلِعُوا من مملكتهم ومن دُوَلهم , يقول: كنت لمّا خُلعت ورُميت بالسِّجن لم أقرأ هذه الآية حقيقة إلاّ بعد أن نَزَعَ الله مني المُلك !!!
أرأيت كيف أنَّ الله قال: (وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء) نزعاً , (وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ) فالله عزوجل حوَّل النُّبوة من بني إسرائيل إلى النبيّ القُرشي العربيّ المَكّي الأمّي محمد , وخصَّه بخصائص كثيرة .
ثم قالَ الله ـ عزوجل ـ : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) بعض المُفَسِّرين قال: إنَّ الله بيده الخير والشرّ، وحُذف اكتفاءً بأحد الوصفين, والصحيح خلاف ذلك لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يقول: "والشَرُّ ليس إليك"[1] فالشرّ لا يُضاف إلى الله ولذلك قال: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدير)
خاتمة الآية مُناسبة تمام التناسب لمحتوى الآية , فإنَّ إعطاء المُلك ونزعُهُ والإعزاز والإذلال كُلُّه بقدرة الله , ولذلك ختم الآية بقوله: (إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدير).ثم قال الله - سبحانه وتعالى - : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) يعني تأخذ من طول هذا فتزيده في قِصَرِ هذا فيعتدلان , ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان وهكذا فصول سنة, نحن الآن بدأ النَّهار عندنا يقصُر والليل يطُول, عندنا الشِّتاء في هذه المنطقة اللَّيل طويل والنَّهار قصير , فهذا هو إيلاج اللَّيل في النَّهار , ويأتي لنا يوم حتى في بعض البِلاد الغربية ، وقد زرت بعض هذه البلاد يعني ما بين آذان المغرب إلى صلاة الفجر لا يتجاوز ثلاث ساعات، والباقي نهار الله - عز وجل - يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار يُصلُّون المغرب , ينتظرون قليلاً , يُصلُّون العشاء ,ينتظرون قليلاً , يُصلُّون الفجر , لأنّه ليس عندهم ليل , فالنَّهار قرابة عشرين ساعة , ثم يأتي في أوقات يكون النَّهار عندهم ستّ ساعات فقط , واللَّيل طويل ,ولذلك حتى أصبح عندهم عيادات يسمّوها "كآبة الليل" بعض المناطق عندهم ستة أشهر ليل، وستة أشهر نهار , وهذا من قدرة الله تعالى!!
ثم قال : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ) تُخرِجُ الحبّة , الحبّة مَيِّت، ثم يخرج منها نباتاً أخضر مُزدهراً والزرع من الحبة والزرع يُخرج كذلك حُبوباً , والنَّخلة من النَّواة والنَّواة من النَّخلة , والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن , والدَّجاجة من البيضة والبيضة من الدَّجاجة , سبحان الله! (وتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ) .
ثم قال سبحانه: (وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي تُعطي من شئت من المال ما لا يَعدُّهُ ولا يقدر على إحصائه وتُقتِّر على آخرين لِمَا لك من الحكمة والإرادة , لأنَّ من الناس من لا يصلح له إلا الفقر , لو كان غنيّ لبَطَر , ومن الناس من لا يصلح له إلا الغِنَى وهكذا , نجد سبحان الله بعض الفُقراء إذا أغناه الله لا يتذّكر فقره فتجد عنده من البَطَر الشَّيء الكبير .
ثم قال الله ـ عزوجل ـ : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عطيّة - رحمه الله - : " هذا النَّهي عن الاتِّخاذ إنَّما هو فيما يُظهره المرء - يعني في الأمور الظاهرة – فأمّا أن يتخذّه بقلبه ونيّته فلا يفعل ذلك مؤمن , والمنهيّون هنا قد قرّر لهم الإيمان لقوله: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) فالنَّهيّ إنّما هو عبارة عن إظهار اللُّطف للكُفَّار والميل إليهم , ولفظ الآية عامٌ في جَميع الأمصار" [2]. وهذا من رحمة الله عزوجل , يقول الله عزوجل: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ) يعني أنّ الله بريء منه مثل قول النبي : "من غشّنا فليس منّا" (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) يعني أن تتقّوهم بكلام فتُظهرون خلاف ما تُبطنون اتّقاء شرَّهم , وهذه كقوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [3]فهذه الآية كَتلك (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) ، قال ابن عطية هنا في تفسيره كلام رائع لأنَّنا لو ندخل في مسائل الإكراه، و ما الذي يدخل فيه التقيّة، وما الذي لا يدخل فيه التقية , ما الذي يجوز أن يقوله الإنسان لطَال بنا التَّفصيلات , ولذلك أنقل لكم كلاماً نفيساً لابن عطيّة قال: "مسائل الإكراه هي من النَّوع الذي يدخُلُهُ فقه الحال , يعني لكل حالة لها فقه معيّن يُفتى لكلّ حالةٍ لوحدها، وهذا يحتاجه كثيرٌ من إخواننا في بلاد الغَرب أحياناً أو في بعض بلادنا الإسلامية يحتاجون أحياناً يُظهرون خلاف ما يُبطنون وهذا من رحمة الله بعباده تصديقاً لقوله: قد فعلت (ربّنا ولا تُحمّلنا مالا طَاقَةَ لنَا به)[4] "
ومسائل الإكراه لها تفصيلات مُتعددةمبثوثة في كتب العقائد بالأقوال، والأفعال، والتَّفصيلات، لكن نقول أنَّ لكل حالة فقهٌ خاصّ .
قال الحسن البصري: "التقيّة إلى يوم القيامة, يعني (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) إلى يوم القيامة" , لكن التقيّة هذه ليست تـقيّة الشيعة , تقيّة الشِّيعة ما هي؟!
الكَذِب المَحضّ ولذلك يقولون تِسعة أعشار دينهم في التقيّة , أمّا الذي في الآية فهي التقيّة التي هي حال الإكراه ويُشترط أنّ القلب مُطمئن بالإيمان , لكن لتعلموا أيّها الإخوة أنّ التقيّة رخصة وليست عزيمة , ولذلك قال الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن التي أشرنا إليها في الدرس الماضي إذا أجاب العَالِم بتقيّة والجاهل يجهل فمتى يتبيّن الحق؟! يعني هناك مواقف تستوجب على بعض العلماء أن يقولوا كلمة الحق مهما كلّفهم الأمر لأنّ بعدم قولهم يكون هلاكُ الأتباع ، لكن سائر الناس الذِّين لا يُعبأ بهم لهم في هذه الآية رخصة من الله .
ثم قال الله - سبحانه وتعالى -: (و يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) أي يُحذِّركُم نقمته , من والى أعداءه وعادى أولياءه فليحذر الله لأنّ إلى الله المصير إليه المرجع والمنقلب فيُجازي كل عامل بعمله .
ثم قال الله - سبحانه وتعالى -: (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يُخبر تعالى عباده أنَّه يعلم السَّرائر والضَّمائر والظَّواهر وأنَّه لا يخفى عليه منهم خافية بل علمه مُحيط بهم في سَائر الأحوال واللَّحظات وجميع الأَوقات لا يَعزُب عنه شيء وذلك لأنَّه سبحانه على كل شيء قدير فخاتمة الآية مناسبة لمضمونها.ولذلك قاعدة في التدبّر: دائماً تأمّل خاتمة الآية، واربطها بالآية , وذلك لأنَّ خاتمة الآية يُترجم عن مضمون الآية .
ثم قال الله - سبحانه وتعالى -: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)يقول الحسن البصري في هذه الآية : " يَسُرُّ أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً وذلك مُناه,وأمّا في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذّها " لكن في الآخرة يتمنّى أن لا يلقى ذنبه لأنّه سيُحاسَب عليه لكن أين المفرّ؟! (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) .(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَعَلَيْكَ حَسِيبًا) أنت حاسِب نفسك هذا كتابك , عملت يوم كذا في كذا , عملت حسنة عملت سيئة , كل شيء موجود - نسأل الله العافية والسلامة وأن يَختم لنا ولكم بخير-
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا) ، (يُنَبَّؤُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) فمن رأى من أعماله حسناً سَرَّه، ومن رأى من قبيح ساءَهُ وأَغاظه .
ثم قال الله مرةً أخرى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ) كذلك، أيّ يُخوِّفُكُم عقابه , ثمّ قال الله سبحانه: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) لماذا قال: (رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)؟! المُناسب أن يقول: شديد العقاب , (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) لماذا خَـتَمَ الآية بقوله: (وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) ولم يقل: (والله شديد العقاب) وهو قال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ)؟!
يعني مثلاً تقول لولدك انتبه! أنا رحيم!، انتبه ترى إذا تجاوزت! أنا رحيم! ولا تقول له أنا شديد؟! لكن لماذا قال الله هنا: (وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)؟!هذا من طريقة القرآن وهو من باب الجمع بين الترغيب والترهيب , يعني أُحذّرك وتحذيري إيَّاك لأنِّي رَؤُوف بك.أنا أُحذّرك الآن وأنت بيدك الخيار , اُنظُر لخاتمة الآية , أنا أُحذّرك الآن لأنِّي رؤوف بك يا عبدي فاحذر أنا بيّنتُ لك أنَّك ستلقى عملك الخَيِّر كما ستلقى عملك الشرّ واحذرني يا عبدي , لكن لِتعلم أنّي إنَّما فعلتُ ذلك وأنّي إنّما قُلتُ ذلك لأنِّي رؤوف بك أيّها العبد الضعيف (وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ).ثم قال الله - سبحانه وتعالى - : (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) بعض السَّلف يُسمِّي هذه الآية آية المحنة (آية الامتحان), لماذا آية المحنة؟! الله امتحن, (قُل إن كنتم تحبّون الله) ادّعى قومٌ محبة الله , فقيل لهم تُحبّون الله اتبّعوا محمداً , وهذا ردٌّ على اليهود والنصارى ماذا قالوا؟! (نحن أبناء الله وأحباؤه ) - لأنَّ السِّياق في الرَدّ على النَّصارى - يقولون نحن أحباب الله , قال الله لهم ماذا؟! الآية عامّة لكن نُذَّكِر بالسِّياق , إن كنتم تُحبّون الله فاتبَّعوا محمداً لأنّ الله هو الذِّي أَرسله وهو الذِّي قال أطيعوه ،ولذلك قال الشَّاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حُبَّه ... هذا مُحَالُ في القياس بديع
لو كان حُبّك صَادقاً لأطعته ... إنَّ المُحبّ لمن يُحبّ مُطيع
كيف أيّها اليهود تقولون والنَّصارى نحن أبناء الله؟! الدَّعَاوى إن لم يُقيموا عليها بيّنات أصحابها , ولذلك السَّلف يقولوا "ليس الشَّأن أن تُحِبّ , ولكنَّ الشَّأن أن تُحَبّ ", الشَّأن ُكل الشَّأن أن تُحَبّ من الله , ولذلك قال الله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي) قال تتحقق محبَّتكم، ولا قال ماذا؟! قال: يُحبُّكُم الله، لأنَّ الشَّأن أنّ الله يُحبّك. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي باتباعكم للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحصل لكم هذا .
ثم قال آمراً لكل أحدٍ من خاصّ وعام (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ) أي خالفوا أمر الله والرسول (فإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) هنا نكتة بديعة (قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ) يعني تركوا طاعة الله والرَّسول (فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) :
السِّياق أن يقول فإنّ الله لا يُحبّهم ، لأنَّ عادة العرب أن يُضمرون, بمعنى أنّه إذا كان هناك ضمير ما يُظهرون , فلماذا أظهر الله هنا؟! ما فائدته؟! يعني الأصل أنَّ الآية تقول: فإن تولوا فإنّ الله لا يُحبّهم بل قال (فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) هذا العُلماء يُسمُّونه - في شواهد كثيرة في القرآن ورائعة ولعلّي أُنبّه عليها لاحقاً -, لكن تأمّلوها دائماً وأنتم تقرؤون يُسمّوها (الإظهار في موضع الإضمار)وفائدته: النَّص على عِلَّة السَّبب, كيف؟! الله تعالى لو قال: فإنّ الله لا يُحبّهم لا ندري لماذا لا يُحبّهم , قال: (فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) فنَصّ على سبب عدم الحُبّ هو الكفر، وأنَّ تولّيهم وإعراضهم وتركهم الطاعة سببه الكفر.
ويُعطينا فائدة أُخرى أنّ الله لا يُحب كل كافر. هل رأيتم إلى بلاغة القرآن , هذه الآية فقط أظهر بلاغة القرآن، ولأنّه أظهر في موضع الإضمار , استفدنا فائدتين :
الأوّلى: النصّ على سبب توَلّيهم وهو الكفر.
الثانية: بيان أنّ الله لا يُحب كل كافر .
لو قال فإنّ الله لا يُحبهم لاقتصر المعنى على المُتَولِّين هؤلاء , لكن بيّن الله (فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) .
المقطع الثّاني :(إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)[5]
في هذه الآيات أيّها الإخوة بدأ الآن الله - عز وجل - ـ يُمّهد ويُقررّ لما سيُثبته بأنَّ عيسى عبدٌ لله وليس بإله وليس ابنا لله, فقال: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى) اصطفى يعني اختار (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ) آدم أبو البشر حيث خلقه الله - عز وجل - بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنّة، ثم أهبطه منها .ثم قال: (وَنُوحًا) فنوح أول رسول إلى أهل الأرض لمَّا عبدَ الناس الأوثان (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) أي اصطفى آل إبراهيم ومنهم سيدُ البشر وخاتَم الأنبياء على الإطلاق محمد - صلى الله عليه وسلم - , والآل هنا بمعنى الذُّرية ليس كما قلنا في آل فرعون ، (وَآلَ عِمْرَانَ) والمراد بآل عمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ـ عليه السلام ـ , فعيسى ـ ـ من ذرّية إبراهيم كما بيَّنه الله ـ عز وجل ـ في سورة الأنعام .
خَصَّ الله هؤلاء الأنبياء آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران لأنَّ الأنبياء كُلُّهم من نَسلهم, ومعنى اصطفاهم أي اصطفاهم بالنُبّوة وميَّزهم وفضلّهم بأمور زائدة على النُبّوة كما ذكرنا قبل قليل .
ثم قال الله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ) أيّ في الإيمان والطَّاعة , وإنعام الله عليهم بالنُبّوة فهم مُتَشَابِهون في الدِّين والحَال , والذرّية: إمّا من ذرأ بمعنى خلق فيشمل الأصول والفروع أو بمعنى وذَرَى أو من وذَرَ , يعني ترك وهم الفروع وهو المُتعارف عليه أنّ ذريّة الرجل أولاده يعني فروعه .
ثم قال الله ـ عز وجل ـ : (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ) امرأةُ عمران على ما قيل اسمها حَنَّة وهي أمّ مريم , وعمران هذا ابن مَاتان وليس عمران أبو موسى , فليست هذه مريم أخت موسى كما يُتوّهم , ولذلك بعض أهل التاريخ يقولون أنّ بين عيسى وموسى ألف وثمانمائة سنة ، وأم عمران هذه امرأة لا تَحمل فاشتهت الولد فَدَعت أن يَهبَهَا الله ـ عز ّوجل ـ ولداً فاستجاب الله ـ سبحانه تعالى ـ دعاءها, فلما تحقَّقت الحَمل نذَرَت أن يكون محرّرا (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) أي محرّراً من خدمتي إلى خدمة بيتك بيت المقدس, مُفرّغاً للعبادة (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) دَعَت الله ـ عز وجل ـ أن يتقبَّل منها، وأن يتقبَّل منها هذا الولد وأن يكون مُحرَّراً من خدمتها إلى خدمة بيت المقدس ، (إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لدُعَائي العليم بنيّتي, لكن كان لا يخدم إلا الأولاد الذُّكُور وهي نذرت أن تجعله محرّرا, لكن لمَّا وضَعتها اكتشفت أنها أنثى , فقالت: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) هنا قراءة (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَت) يكون من كلام الله ، وفي قراءة أخرى وكلها متواترة (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعْتُ) فيكون من كلام امرأة عمران أم مريم , ثم قال: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) قيل هذا من كلامها كذلك والدة مريم , تقول أنا أعلم أنّ الذَّكر ليس خدمته كخدمة الأنثى , (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) في القوة والجلد و في العبادة وخدمة المسجد الأقصى , ثم قالت: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ) بعضُ العُلماء استدلّ من هذه الآية على جواز تسميّة المولود يوم وَضعِهِ , وعندنا دليل من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما قال: (وُلد لي الليلة ولد وسمّيتُهُ إبراهيم)(وِإِنِّي أُعِيذُهَا ) لما وضعتها قالت (أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فتقبَّل الله ـ عزّ وجل ـ دعاءها ولذلك أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله في الحديث الصحيح: (ما من مولود يُولَد إلاّ مسّه الشيطان حين يُولد فيستَهِلُّ صارخاً من مسّه إيّاه إلا مريم وابنها)[6] وابنها عيسى بسبب دعوتها , وهذا فيه حثّ للآباء والأمّهات أن يُكثِروا من الدُّعاء لأولادهم بالصلاح والاستقامة فربّما تُوافق ساعة استجابة , الله تقبّل من هذه , كيف كانت مريم؟! كيف كان عيسى؟! نفع الله بهم هذا النفع العظيم بدعاء الوالدة (وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فأعاذها الله وذريَّتُها من الشيطان الرجيم .
ثم قال الله عزوجل: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا) فتقبّل مريم - عليها السلام - (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي تقبّلها من أمها نذيرة (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أي جعل شكلها مليحاً ومنظراً بهيجاً ويسَّر لها أسباب القَبُول وقرنها بالصَّالحين من عباده، بل جعل لها من الولد ما رَفَعَ الله بِه ذِكرها وذِكره الذي هو عيسى ، وقال بعض المفسرّين وهذه من الإسرائيليات التي تُروى لا تُصدَّق ولا تُكذّب , يقولون (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أنّها تشِبّ في اليوم كشباب غيرها في سَنة والعلم عند الله .ثم قال: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) هذه قراءة (وكفّلها) بالتشديد (زَكَرِيَّا) وزكريّا مفعول , أيّ أنّ الله كفّلها زكريا , وهناك قراءة (وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا) فزكريا فاعل والمعنى واحد , لماذا كفلها زكريا؟ّ
قالوا لأنَّه زوج أختها، زكريا عليه السَّلام زوج أخت امرأة عمران ولذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في حديث الإسراء والمعراج: "فإذا بيحيَ وعيسى وهما ابنا الخالة" ، وقيل: زوج خالتها , ولعلّ الأقرب ما ذكرنا .
ثم أخبر الله عزوجل عندما كفلها زكريا (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) المحراب معناه محلّ العبادة , ليس هو المحراب الذي نعرفه محراب المسجد أيّ قبلة الصلاة , بل المحراب يُطلق على مكان العبادة (كُلَّمَا دَخَلَعَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً) قال بعض المفسرّين: يجد عندها فاكهة الصَّيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف وهذه من كراماتها لأنّ الله تقبّلها وأنبتها نباتاً حسناً .
(قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا) فاكهة الشِّتاء في الصِّيف وفاكهة الصِّيف في الشتاء (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) زكريا عليه السَّلام أعلم منها, نبي من الأنبياء لمّا (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) تذّكر فإذا هو رجلٌ كبير وامرأته عاقر ومشتهي الولد , يشتهي أن يُولَد له ولد , فقال الله: (هُنالِك) يعني الآن - مثل الذي تذكر أنّ الله يرزقه - الذي رَزَق مريم سيرزقني (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) دَعَا ربَّه مادام أنَّ الله يرزُق من يشاء بغير حساب، ويُعطيها فاكهة الصَّيف ويجد دائما عندها رِزق بدون أن يأتي لها أحد ، الله هو الذِّي يرزقها , وهذا كما قال الزجّاج مصداق قول الله عزوجل: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ)[7] . (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ) لمَّا دعا زكريا عليه السَّلام نادته الملائكة (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ) أيّ من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي ولداً صالحاً, والذُّرية يُطلق على الجَمع ويُطلق على الواحد, والمراد به في هذه الآية واحد لأنّ الله استجاب له وأعطاه يحيي عليه السَّلام , لأنّ يحيي كذلك كما سيأتي في وَصفِه أنّه حَصُوراً، (إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) ، (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) في عبادته, أي خاطبته الملائكة شِفَاهاً , ومن العلماء من قال أنّ الملائكة المراد به جبريل، والأَولى البقاء على لفظ الآية الملائكة هم الملائكة، ما دام أنّه ليس عندنا دليل بتخصيصه بجبريل , وهو قائمٌ يُصلي في محراب عبادته ومحلّ خَلوته (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى) سمّاه الله يحيي , لم يقُل بولد، بل ذكره باسمه ( يحيى)، حتى أنّه بيّن أنه ذَكَر لأنّ يحيي اسم ذَكَر وأنه يحيا وأنّ الله أحياه بالإيمان , اُنظروا لهذه البشارة اشتملت على : أن الله بشّره على كِبَر .وأنّه ذكر، وأنّ اسمه يحيي بمعنى أنّه رجل صالح يحيا بالإيمان.
(مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ) أي أنَّ يَحيي مُصَدِّقاً بعيسى, لأنَّ كلمة الله عيسى , لأنَّ عيسى قال الله له كن فكان , فعيسى كلمة الله وليس هو الله تبارك وتعالى , (وَسَيِّدًا) فيه أوصاف كثيرة ليحييَ , كونه كان يَتمنى مطلق الولد، والولد يشمل الذَّكر والأنثى كما قال الله عزوجل: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) فبَشَّره الله أنّه ولد، وأنّه يحيي، وأنّه مُصَدِّق بكلمة من الله، وأنّه سيِّد يعني حكيم، وقيل: عالِم وعابد , وقيل: متّقي , وقيل: كريمٌ على الله وكلّها صحيحة .(وَحَصُورًا) من صفاته أنّه حَصُور , والحَصُور قال بعض المفسرين معناه: أنّه لا يستطيع إتيان النساء وبعضهم قالوا لا ذَكَر له , لكن هل يمكن أن يمتنّ الله على زكريا بولد حَصُور فيه عيب؟ الآن المقام مقام امتنان وتبشير , هل يبشّره بأنّ له ولد معيب؟ ولذلك الصحيح أنّ هذا القول ضعيف , وإنّما المقصود حَصُور من كمال النعمة , أنّه ممن تتوفر له أسباب الشهوة لكن يتركها لله كما كان النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَزوَّج نِساء كثير، لكن هل أشغلته عن عبادة الله؟ هل ألهته عن تبليغ الدين؟ أبداً , بل كان يقوم حتى تتورَّم قدماه ويقول: أفلا أكون عبداً شكورا , إذن قول المُفَسرّين أنّه لا ذَكَر له أو لا يستطيع أن يأتي النساء، أو ليس له شهوة للنساء قولٌ ضعيف , لماذا قلنا أنّه ضعيف؟ لأنّ المقام مقام بشارة وامتنان , فلا يمتنّ الله عزوجل بولدٍ معيب , وإنَّما الحق أن يكون حصوراً أي يمتنع عن النّساء مع قدرته على فعله لله .
انظروا للتَّسلسل التاريخي , الآن مريم -عليها السَّلام - تشِبّ الآن ، زكريا يدعو ربّه، يُرزق بولد , ولذلك هناك تقارب, أيّهم أكبر يحيي أم عيسى عليهما السَّلام؟! يحيي , يقال أنّه أكبر منه بستة أشهر .
(وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) هذه بشارة بعد بشارة أنَّه ليس ولد فقط , إنّما كذلك سأُعطيه النُّبوة كما بَشَّر الله أم موسى تماماً لما قال: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) لا تَخافين على مُوسى, تخافين أن يُقتَل؟! لا، بل نُبَشِّرُكِ بأنَّا رادُّوه إليك, فهُو ليس بولدٍ عادي بل (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
زكريا عليه السَّلام لمّا تحقَّق هذه البشارة أخذ يتعجَّب من وجود الولد منه (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) سبحان الله . زكريا يدعو ثم يقول أنّى يكون ليَ الولد , ولذلك أجاب العلماء بعدة أجوبة على قول زكريا أنَّى يكون ليَ الولد , لماذا استغرب وُجودَ الولد مع أنّه كان مُلحّ بالدعاء وتذكّر أنّ مريم تُرزَق وذكّرته مريم بالدعاء وأنّ الله على كل شيء قدير وأنَّه يَرزق من يشاء بغير حساب؟فأجاب العلماء بعدة أجوبة , من العلماء من قال: إنّه نسيَ دعاءه لطُول المُدَّة بين دعائه والبشارة , قيل بين دعائه وبين البشارة أربعين سنة , هذه من روايات بني إسرائيل , لكن هذا ضعيف لأنَّ الداعي كما أخبر أنّ الله لا يملّ حتى تملّوا , يدعو الإنسان ويُوقن بالإجابة ولا بدّ لطارق الباب أن يَلِج .
الثاني قيل: أنّه سأل أن يُرزق الولد وامرأته عاقر لكن لمّا رُزِق الولد سأل كيف يُرزق الولد وامرأته عاقر؟! هل المرأة هذه العاقر ترجِع صغيرة؟! هل يتزوج أخرى؟! يعني كان يسأل عن الكَيفية وليس يستغرب .
وقيل : أنّه قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله , فقال من شدة الفرح والدهشة لحصولِ أمر مستبعدٍ العادة، و المرأة عاقر كبيرة في السنّ وهو كبير , كيف يُرزق ولد؟! فقاله من شدة الفرح استعظاماً لقدرة الله , ولعلّ السُّؤال عن الكيفية هو الأقرب في توجيه كلام زكريا عليه السَّلام يعني كيف أُرزق ولد وأنا كبير وامرأتي عاقر , استعجاب .
حال الناس لمّا تُبشّر إنسان تقول إن شاء الله سيأتيك مال , كيف؟! كيف سيأتيني مال؟ّ من أين؟! اصبر , نحنا قلنا لك سيأتيك مال اصبر, لكن عادة النَّفس تتشَّوَف , زكريا لمّا قيل له: لك ولد و قال: يا ربّ كيف؟ أتزوج أخرى؟ امرأتي ترجع صغيره كيف؟ وهذا هو رأي الطبري ، وقال عنه ابن عطية " هذا تأويل حسن " ـ يعني قول زكريا ـ من باب السؤال عن الكيفية .
ثم قال: (كذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) أجابه الملائكة أيّ أنَّ الله ـ عز وجل ـ لا يُعجزه شيء , تُبدَّل امرأتك , تُرزق على وضعها , وأنت كبير وهي عاقر , الذي جعلها عاقراً يجعلها والداً .لمَّا تيقن هذا، واستقرّت نفسه (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) استعجال, يقول يا رب اجعل آية أنّ امرأتي حملت فعلاً، لأنَّ الحمل طويل، (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً) إن البشارة تحققت , هو يريد آية للحمل , وهذا لا يُحِسّ بها إلا من حُرم الذُريّة - لا حرمنا الله وإيّاكم منهم- , تلهّف كبير, عمر كبير جداً وامرأة عاقر, في الكِبَر يُبَشَّر (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً)। ولا يُلام زكريا عليه السّلام لأنّه أتى على كِبَر (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّرَمْزًا) وفي سورة مريم (ثلاث ليالٍ سويّا) فدلّ على أنَّها ثلاثة أيام بلياليها , (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا) أيّ إشارة لا تستطيع النُّطق مع أنّك سَويٌّ صحيح .
هذه النعمة تستوجب الشُّكر , فأوصته الملائكة بقولهم: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) العشيّ من بعد صلاة الظهر ,والإبكار من بعد صلاة الفجر , يعني سبّح آناء الليل وأطراف النهار يعني سبّح ربك كثيراً، واذكر بك , ولذلك ينبغي أنّه إذا أحدث الله لك نعمة أن تشكره, وشكره بحمده، وشكره قولاً وفعلاً بلسان مقالك ولسان حالك .ثم بدأ الله يتكلم عن مريم - دخل الآن فيما يُريده النَّصارى- (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ) رجع الآن للحَدِيث عن مريم , زكريا والحديث عنه انتهى بمجرّد هذه البشارة.
(إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىنِسَاء الْعَالَمِينَ) إخبارٌ من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم أنَّ الله اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها، وزهَادَتها، وشرَّفها .
ثم قال: (وَطَهَّرَكِ) أي من الأكدار والوَسَاوس، الطَّهارة هنا هي طهارة معنوية – فعندها راحة بال ليس المقصود بها الطّهارة الحِسيّة وإلا هي كسائر النساء تحيض وتفعل كسائر النساء, ثم أعاد الله قال: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ)
قال السَّعدي رحمه الله: [8]
· الاصطفاء الأول (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ) يرجِع إلى الصِّفات الحميدة، والأفعال السديدة .
· الاصطفاء الثَّاني قوله: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) يرجع إلى تفضيلها على نِساء العالمين , إمّا عالميِّ زمانها أيّ أنّها مُفَضَلَّه على نساء عالِمِيّ زمانها، أو على العَالمين جميعاً .
يقول السعدي : يجمع بين هذه وبين الأحاديث التي وردت أنّ عائشة وخديجة وفاطمة وغيرها من خير نساء الجنة - وهذا جمع لطيف وجميل- قال: " والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين , إمَّا عالمي زمانها أو مطلقاً، وإن شَاركَهَا أفرادٌ من النِّساء كعائشة، وخديجة، وفاطمة لن ينافي الاصطفاء "وهذا جمعٌ حسن بين هذه الآية وبين الأحاديث التي وردت كقوله - صلى الله عليه وسلم :( خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولدٍ في صغره وأرعاه على زوجٍ في ذات يده)[9] ولم تركَب مريم ابنة عمران بعيراً قط، وفي الحديث الآخر: (خير نسائها مريم ابنة عمران وخير نسائها خَديجة بنت خويلد) .[10] ، وفي الحديث: ( حسبُك مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون) [11] ، وكما قال النبي في الحَديث الصحيح: ( كمُل من الرجال كثير ولم يكمُل من النِّساء إلا آسية امرأةَ فرعون ومريم بنت عمران , وإنّ فضَل عائشة على النِّساء كفضل الثَّريد على سائر الطعام) [12] . ولذلك عائشة من أفضل نساء العالمين، وخديجة كذلك، وفاطمة كذلك، ومريم كذلك، وآسية امرأة فرعون كذلك . وجمعُ السعدي جمعٌ لطيف حسن بين هذه الآية وبين الأحاديث . ونستشعِر فضل عائشة في ظِلّ الهجمة الشَّرسة على أمّناـ رضي الله عنهاـ من قِبَل الرافضة قبّحهم الله .
الآن هذه نعمة، فما الواجب على مريم؟! مثل ما أمروا زكريا ، فقال الله (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أمروها بكثرة العبادة، لأنّ القنوت هو طول العبادة (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) من العلماء من قال: إنَّ هذا مقام شُكُر فأُمِرَت به .
ومن العُلماء من قال: أنَّ مريم سيُقبِل عليها أهوال عظيمة، ولا بدّ لها من كثرة العبادة لتقوى لها لأنّها سَتَحمل بولد بلا أبّ وستُتَّهم , ولذلك لن يَشُدّ من عزمها إلا قوة العبادة , وهكذا كان النبي يفعل إذا حزبه أمر فَزِع إلى الصلاة .
لكن نقول الوجه الأول أولى -مع أنَّ المعنى الثاني صحيح- لأنّه لم يأتي الآن البِشارة بعيسى عليه السَّلام إنّما البشارة الآن أنّه اصطفاها وطهَّرها واصطفاها على نساء العالمين .
قال: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) لماذا قدَّم السُّجُود على الركوع؟ الرُّكوع قبل السجود :
من العلماء من قال أن الواو لا تقتضي الترتيب , ومن العلماء من قال أنّه كان في زَمَانهم السُّجُود قبل الركوع.
لكن ابن القيّم يقول: هذا ضعيف , وقد ذَكَر الإمام ابن القيّم سبب ذلك فقال في كلام جميل: " اشتملت هذه الآية على مُطلق العبادة فذكرت الأعمّ وهو القُنوت (اقْنُتِي) ثم الأخَصّ منه وهو السُّجُود، - السُّجُود يُشرَع في الصَّلاة، ويُشرع خارج الصلاة مثل سجود التلاوة، سجود الشكر إلى آخره - ثم ذُكِرَ الركوع الذي هو أخصّ ولا يُشرع إلاَّ في الصلاة , فهو ترتيب من الأَعمّ إلى الأَخصّ إلى ما هو أخصّ منه " يقول ابن القيم فهذا هو سبب تقديم السُّجُود على الركوع .
يقول: " وكما رتَّب الله عزوجل , هناك في مكان آخر عكَس , الترتيب من الأخصّ إلى الأعمّ فقال: (يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا) هذا أخصّ (وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[13]إذن هذا الجواب عن تقديم السُّجود على الركوع .ثم قال الله ـ عز وجل ـ : (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ) أيّ يا محمد هذا من أنباء الغيب, أنت لا تدري -ويُشير ويُعرّض بالنَّصارى الذين يدَّعون أنّ محمداً ليس بنبيّ, يقول: أنت يا محمد أمّيّ لا تقرأ , قد علَّمناك، فمن أين أتاك؟ (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يعني ما كنت عندهم يوم تخاصموا, هم يعرفون النَّصارى أنهم قد اختلفوا فيمن يكفل مريم قبل أن يكفلها زكريا وتخاصموا فيمن يكفلها فألقوا أقلامهم في البحر فذهبت أقلامهم وقام قلم زكريا فكَفَلها .
يقول الله ـ عزوجل ـ : أنت لم تكن لديهم , ولم تكن معهم , من أين جاءك العلم وأنت رجل أمّي؟ ففيه إثبات لنُّبَوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنّه أيُّها النَّصارى كما أخبركم محمد بهذه الأمور وأنتم تعلمون أنّها موجودة في كتبكم , فاعلموا أنّ محمد نبّي مرسل .
وقوله: (إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ) فيها استعمال القُرعة وهي سُنَّة، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه [14]. (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُالْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أتت البشارة, الله ـ عز وجل ـ بَشَّر مريم بأنّه سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير بكلمةٍ من الله , أي وجوده بكلمةٍ من الله , قال له كن فيكون , وهذا تفسير لقوله تعالى: (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ) اسمه ماذا!؟ (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) يعني سُمِيَّ قبل أن يُحمَل به سُمّي ابن مريم دلالة على أنّه لا أب له، أي يكون مشهوراً بها في الدنيا ابن مريم , عيسى ابن مريم نُسب إلى أمّه يعرفه المؤمنون وسُمي المسيح : قال بعض السلف: لكثرة سياحته يعني عبادته ، وقيل لأنّه كان مسيح القدمين أي لا أخمص لهما ، وقيل لأنّه كان إذا مسح ذوي العاهة بِرئ بإذن الله تعالى .
ثم قال الله عزوجل مزيد من البشارة: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا) له وجاهة ومكانة, ليس في الدنيا فقط وإنَّما (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إلى ربِّه عزوجل, وكلُّها بشارات , وتختلف بشارة مريم هنا عن بشارة عيسى لأنّ هذه البشارات مّما يُهوّن عليها ما سيأتيها , يقول يعني أنتِ سيأتيك صعاب , سيأتيكِ اتهامات لكن لما تتذكري أنَّه بكلمةٍ من الله , أنّه وجيه في الدنيا وفي الآخرة ومن المقرّبين , ويُكلّم الناس في المهد ويُكلّم الناس كهلاً يعني كبيراً , ومن الصَّالحين , هذه بشائرعظيمة (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) اُنظروا، مريم بماذا عُرفت به؟! بالعبادة , هل يُتصّور من عابدة أن تخرُج من المسجد وتقول هذا ولدي! وهم يعرفون أنّها ما تزوجت؟ وُلد لي ولد؟! اُنظُروا لهذا الامتحان العظيم لمريم (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ماذا قالت الملائكة؟! (قال كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء) .في زكريا قال (يَفْعَلُ مَا يَشَاء) وهنا قال: (يَخْلُقُ مَا يَشَاء) لماذا؟! للردّ على النصارى أنَّ عيسى مخلوق وليس بإله .
(إِذَا قَضَى أَمْرًافَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) والله تعالى على كل شيء قدير .
قابلتُ أحد النصارى العرب فدار بيني وبينه حوار طويل لا يسع الوقت الآن لذكره , لكن من عرض الاستطرادات : هو يقول: إنَّ عيسى ابن الله ونحن ندعو ابن الله -إلى آخر تُرَّهاته- .
فقلت: أسالك سؤال: أنت بشر أليس كذلك؟ تمرض، وتحتاج إلى الوظيفة وتريد أشياء؟!
قال: نعم .
قلت له: سأسألك أنت إذا مرضت فإنّك تدعو من؟! الولد ولا أبوه - كما تدَّعي-
قال: بل أدعو الله.
قلت له إذن أفرد العبادة لله تعالى ،عيسى - عليه السلام - الله أخبر أنه عبد مخلوق بنصّ القرآن
وقد ذكر أحد الإخوة الأفاضل أنّ نصرانية ركبت مع سائق أجرة عربي , وكان صاحب الأجرة قد وضع تسجيلاً لسورة مريم , فلمّا وصل إلى قول الله : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُوَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا) يقول صاحب التاكسي أنَّ هذه المرأة وكانت نصرانيه عربية , يقول انتفضت فقالت: سبحان الله! بلا شعور , سبحان الله! السماوات يتفطّرن، والأرض تخِرّ أن يدعو لله ولد !! وأنا أدعو لله ولد في الصَّباح والمساء !! فأسلمت , اُنظُروا للمطر إذا أتى على قلب وأراد الله له الهداية ، حقائق القرآن كثيرة جداً على تقرير قضية عيسى ، وأنّه عبد وبشر كسائر الناس .
ثم قال الله - عز وجل - مُخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم: بأنَّ هناك أشياء أخرى أنه (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) الكتاب هو الكتابة (وَالْحِكْمَةَ) هي الفَهم في الدين (وَالتَّوْرَاةَ) وهو الكِتاب الذي أنزله الله عزوجل على موسى (وَالإِنجِيلَ) أنَّه سيُعطيه كتاباً خاصَّاً به اسمه الإنجيل (وَرَسُولاً) أيَّ يا مريم هذه قضية كبيرة , هذا الولد عظيم ، (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي يجعله رسولاً إليهم قائلاً لهم (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) بعلامة على أنّي رسول (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ) يعني كان يُصوّر الطين على شكل طير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله , (وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ) الأكَمَه:
· قيل الذي يُبصِر نهاراً ولا يُبصر ليلاً ، وقيل: العكس , والصَّحيح هو الذي يولَد أعمى يجعله مُبصراً , وهذا أبلغ في المعجزة وأقوى في التَّحدي (والأَبْرَصَ) معروف (وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ) الله أكبر أشياء عظيمة أيّد الله بها عيسى , ولذلك العلماء يقولوا إنّ الله يؤيّد كل نبي بما برع به قومه , عيسى ـ عليه السلام ـ قومه برعوا بالطبّ , كانوا آية في الطبّ فأتاهم بما لا يستطيعون، يمكن أن يعالجون بعض الأمراض وبعض العاهات, لكن أعمى من يوم أن وُلد يرجع بصير، هذا لا يقدر عليه الطِبّ , يُحيي المَوتى هذا لا يُمكن , موسى عليه السَّلام بَرَعَ قومه بالسِّحر فأرسل الله ـ عزوجل ـ له العصا تلقف ما يأفكون , النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برع قومه بالفصاحة فأيّده الله بهذا القرآن .
قال: (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) يقول أخبركم ماذا أكلتم الآن، أكلت الآن كذا, وأُخبِرك بالذِّي في بيتك أنَّك ادَّخَرت كذا وكذا ليوم الغد, كل هذا تأييد من الله ـ عزوجل ـ أنه كما قال: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) يعني أتيتكم بآية أنّي رسول لكم من عند الله ثم قال (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وفيه دلالة على أنّ عيسى نسخ بعض شريعة موسى عليه السلام.
ومن العلماء من قال أنّه لم ينسخ , وإنّما أحلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطأوا .
وأنا أقول والله أعلم أنّه لا مانع من كلا القولين , هذه الآية: (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَالَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) دليلُ على النسخ , وآية الزخرف: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [15]الذي اختلفوا فيه , فبيّن لهم وجه الصواب ، (وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللّهَ) والله لو سمعوها النصارى حقيقة وأتوها بقلبٍ صافي (إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) فاعبدوني؟! (فَاعْبُدُوهُ) ،(فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) وغيره صراطٌ معوج , طريقٌ معوج , الصراط المستقيم (إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ما دام أنّه ربي وربكم نعبد من؟! نعبد الله .
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) استشعر منهم التصميم على الكفر , القرآن طوى , الآن وهو يبشّر مريم ـ عليها السلام ـ طوى هذه الأشياء كلها وانتقل إلى أنّ عيسى وُجد , وتفصيل كيف وُجِد عيسى في المهد في سورة مريم , (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) استشعر التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال (قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ) أي من يتبعني إلى الله؟! كما كان النَّبي يذهب في مواسم الحجّ قبل أن يُهاجر يقول: من رجلٌ يُؤويني حتى أُبلّغ كلام ربي , تتشابه الأنبياء (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) .(قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) الحواريّون قيل: أنّهم كانوا قصّارين يُقصّرون الثياب ويصبغونه بالبياض، والحواريِّ في الأصل يٌقصد به البياض ، من الحَوْر وهو البياض , لكن الصحيح أنه في هذا السياق الناصر , (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ) يعني نحن الذين سننصُرك، كَمَا جاء في الصَّحيحين عن النبي لمّا ندب الناس يوم الأحزاب انتدب الزبير , ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال( إنّ لكل نبيّ حواريّ وحواريِّ هذه الأُمّة الزبير بن العوّام )[16]أيّ لكل نبيّ نصير, فإذا الحواريّ في هذا السياق معناه النصير , وهذا من تفسير القرآن بالسنة وقد ذكرنا هذا أثناء شرحنا لمقدمة التفسير كما لا يخفى عليكم .
ثم قال الله عزوجل: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) هذا كلام الحواريون , (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أيّ اكتبنا مع أمّة محمد كما قال ابن عباس ، ثم أخبر الله عزوجل على ما مكروا , قال: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وقد أخذ العلماء من صفات الله المكر وهي من الصفات الفعلية , لكن لا يُسمّى الله ـ عز وجل ـ الماكر , فإنّه لا يُؤخذ من الصفات الأسماء ولذلك قال: (وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) والمكر في موضعه حسن بخلاف الخيانة كما قال الله ـ عزوجل ـ فإنها صفة ذمّ في جميع أحوالها , قال الله: (وَإِن يُرِيدُواْخِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ) قال: فخانهم؟! ماذا قال؟! ( فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) لأنّ الخيانة في محل ذمّ في كل أحوالها بخلاف المكر , المكر إذا كان في محله فهو حسن , ولذلك قال: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي أنّهم أرادوا قتله , أَتَوا في ظلمة الليل، يريدون أن يَقتُلُوا عيسى ـ عليه السلام ـ أتباعه من بني إسرائيل قتلة الأنبياء , فلمَّا أحاطوا بمنزله أوقع الله شَبَهه على :قيل على كبيرهم الذي أتى معهم ، وقيل: إنّ عيسى ـ عليه السلام ـ قال لأحد أتباعه من يرضى أن أُلقي عليه شَبَهي وله الجنة؟!وهذه من أحاديث بني إسرائيل ولا اعرف فيها حديثاً مرفوعاًثم قال الله ـ عز وجل ـ : (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) وهذه من الآيات المُشكِلة عيسى أين الآن؟! في السَّماء، إذاً ما معنى (مُتَوَفِّيكَ)؟! يعني أنّ عيسى ـ عليه السلام ـ توفّي ثم رُفع؟! هذا قول ، قال بعض العلماء إنَّ هذا من المُقَدَّم والمُؤَخَّر , يعني إنِّي رافعك ومتوفّيك , الآن رفعتك ومتوفّيك في آخر الزمان هذا قول .
القول الثاني: أني مُمِيتُك حقيقة، وهذا قولٌ ضعيف يردّه قول الله عزوجل: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّلَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) [17]
القول الثّالث :ومنهم من قال: أماته الله قليلاً ثم أحياه ورفعه.والصَّحيح والذِّي عليه أكثر المفسّرين على أنَّ المراد بالوفاة هنا النَّوم.(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أيّ مُنيِمُكَ ثم رافِعُكَ, حيث أنامه الله, والنَّوم يُطلق على الوَفاة كم قال الله: (وهوالذّي يتوفّاكُم بالليل) نحن ننام كل ّيوم ،لكن أطلق الله على النوم وفاة , قال الله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ولذلك السُّنة إذا صحونا من منامنا أن نقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدَ ما أماتنا وإليه النشور .
وهذا هو القول الصحيح أنّ المراد بالوفاة هنا وهو الذّي عليه أكثر المفسّرين: النوم .(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هذه كذلك مُشكِلة من هم الذين اتبعوه؟! ومن هم الذين كفروا؟!قولان لأهل العلم:· من المُفَسِّرين ومنهم عبدالرّحمن بن زيد بن أسلم من جعل الذين اتبّعوه النصارى والذين كفروا اليهود , وأنّ الآية مُخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم وأنّ النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة , فخصّص المتبّعين والكفار وجعله حكماً دنيوياً لا فضيلة فيه .
· أمّا جمهور المفسرين فقالوا بالعموم , والجمع بين القولين (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) نحن من أتباع عيسى , لأنّنا من أتباع محمد , وعيسى - عليه السلام - سيأتي في آخر الزمان ويحكم بشريعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك العلماء يقولون إنه على العموم وأنّ من أتباع عيسى أمّة محمد , والكُفَّار على العُموم يدخل فيهم النَّصارى، ويدخل فيهم اليهود , لكن هذا متى؟! هذا هو الراجح , قد بقول قائل : ترجِّح هذا القول، والمسلمين الآن ضِعاف؟! نعم ربّما يتخلف الوعد بتخلّف أسبابه كما قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىلَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [19]ولكن هذا التمكين والاستخلاف له شروطه وتبعاته، ولذلك لمَّا قام المسلمين في عهد الخُلُفاء الراشدين كسَّروا مملكة كِسرى، ومملكة قيصر, ولذلك الصحيح أنّ الآية عامّه وأنّ الله عزوجل جعل حُكماً دائماً الذِّين اتبّعوا عيسى ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنّ عيسى بشّر بالنبي , وهو من أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم .(فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) يشمل اليهود ويشمل النصارى .
ثم قال الله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي هذا الذِّي قَصَصناه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره هو مّما قال الله تعالى وأوحاه إليك وأنزل عليك من اللوح المحفوظ فلا مرية فيه ولا شكّ كما قال الله ـ عزوجل ـ في سورة مريم: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .
ثم قال الله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) وسنُبيّن إن شاء الله كيف يكون مَثَل عيسى كمَثَل آدم بعد صلاة العشاء , وصلى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------------------------
[1] صحيح مسلم باب الدُّعَاءِ فِى صَلاَةِ اللَّيْلِ وَقِيَامِهِ.
[2] وجدت هذا الكلام في تفسير ابن عاشور ـ والله أعلم ـ
[3] النحل106
[4] المحرر الوجيز لابن عطية
[5] آل عمران .
[6] باب فَضَائِلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
[7] الأنبياء91
[8] تفسير السعدي
[9] صحيح باب إِلَى مَنْ يَنْكِحُ . وَأَىُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ ، وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ .
[10] صحيح البخاري باب ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ ) الآيَةَ . ( 43 ) ( فَعَزَّزْنَا ) قَالَ مُجَاهِدٌ شَدَّدْنَا . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ( طَائِرُكُمْ ) مَصَائِبُكُمْ .
[11] باب فَضْلِ خَدِيجَةَ رضى الله عنها.
[12] البحاري باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ) إِلَى قَوْلِهِ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) .
[13] بدائع الفوائد لابن القيم
[14] صحيح البخاري باب الْقُرْعَةِ فِى الْمُشْكِلاَتِ . عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - - إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - - ، تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ --
[15] الزخرف63
[16]باب بَعْثِ النَّبِىِّ - - الزُّبَيْرَ طَلِيعَةً وَحْدَهُ .
[17] النساء159
[18] الزمر42
[19] النور55
/ مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير / بتصرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق