الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له شعار ولواء ودثار أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه واتباعه إلى يوم الدين وبعد :
في هذا اللقاء سنقف مع آيات من الجزء الثالث من القرآن الكريم ، وربما يقع في ذهن البعض أننا لو حررنا إجمالا عن الجزء ، وهذا من الناحية العلمية لا يتأتى لأن تقسيم القرآن إلى أجزاء هو من صنيع التابعين ، وأما القرآن نزل على هيئة سور فلا يمكن بعد ذلك أن يُقال كما يُقال إن هذه السورة مقاصدها كذا وكذا صعب أن يُقال إن الجزء مقاصده كذا وكذا لأن هذا التقسيم تقسيم مرتضى حدث في الصدر الأول لكن القرآن نزل على هيئة سور فيمكن أن يُقال مقاصد السور لكن صعب أن يُقال مقاصد الأجزاء .الجزء الثالث فاتحته ، أوله ، مستهله ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
/ في قول الله - جل وعلا - ( تِلْكَ الرُّسُلُ ) هذا تعظيم لشأنهم وبيان لمقامهم ، و "الرسل " جمع رسول وهو قد يكون من الملائكة ، وقد يكون من البشر ، قال الله - جل وعلا - ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ ) لكن القرائن تدل هنا على أن المقصود الرسل من البشر.
في هذا اللقاء سنقف مع آيات من الجزء الثالث من القرآن الكريم ، وربما يقع في ذهن البعض أننا لو حررنا إجمالا عن الجزء ، وهذا من الناحية العلمية لا يتأتى لأن تقسيم القرآن إلى أجزاء هو من صنيع التابعين ، وأما القرآن نزل على هيئة سور فلا يمكن بعد ذلك أن يُقال كما يُقال إن هذه السورة مقاصدها كذا وكذا صعب أن يُقال إن الجزء مقاصده كذا وكذا لأن هذا التقسيم تقسيم مرتضى حدث في الصدر الأول لكن القرآن نزل على هيئة سور فيمكن أن يُقال مقاصد السور لكن صعب أن يُقال مقاصد الأجزاء .الجزء الثالث فاتحته ، أوله ، مستهله ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
/ في قول الله - جل وعلا - ( تِلْكَ الرُّسُلُ ) هذا تعظيم لشأنهم وبيان لمقامهم ، و "الرسل " جمع رسول وهو قد يكون من الملائكة ، وقد يكون من البشر ، قال الله - جل وعلا - ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ ) لكن القرائن تدل هنا على أن المقصود الرسل من البشر.
/ قال ربنا ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
- الأمر الأول في الاستنباط : أن الله ذكر في كتابه العظيم خمسة وعشرين نبيا ورسولا ، فطالب المعلم والمتلقي المؤمن يضبط الكليات ، فضبط الكليات ييسر الوصول إلى الجزئيات ، لكن أخذ العلم كهيئة جزئيات لا يصل بالإنسان إلى أن يبقى فقيها في الدين ، وحتى تتبصر الأمر على منواله فإن أحدا ما لو أراد أن يبعث خطابا إلى غيره في بلد آخر فإن الخطاب حتى يصل لابد أن يبدأ بالكليات ، فتبدأ باسم الدولة ، ثم باسم المدينة ، ثم باسم الشارع ، ثم رقم المنزل لكن لو ذكرت الرقم في الأول لا يدري الناس في أي بلد هذا المنزل ، كذلك الدين ، فِهم القرآن ، فِهم الإسلام لابد للمؤمن أن يضبط الكُليات العامة في الأول .
فقول الله - جل وعلا - ( تِلْكَ الرُّسُلُ ) هذا من الكليات ، والرسل في القرآن قلنا خمسة وعشرون نبيا ورسولا جاء ذكرهم في القرآن مفرقا إلا أنه في الأنعام جُمع منهم ثمانية عشر نبيا ورسولا في الآية المشهورة وما يليها المعروفة بآية ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) فإن الله قال فيها :
- الأمر الأول في الاستنباط : أن الله ذكر في كتابه العظيم خمسة وعشرين نبيا ورسولا ، فطالب المعلم والمتلقي المؤمن يضبط الكليات ، فضبط الكليات ييسر الوصول إلى الجزئيات ، لكن أخذ العلم كهيئة جزئيات لا يصل بالإنسان إلى أن يبقى فقيها في الدين ، وحتى تتبصر الأمر على منواله فإن أحدا ما لو أراد أن يبعث خطابا إلى غيره في بلد آخر فإن الخطاب حتى يصل لابد أن يبدأ بالكليات ، فتبدأ باسم الدولة ، ثم باسم المدينة ، ثم باسم الشارع ، ثم رقم المنزل لكن لو ذكرت الرقم في الأول لا يدري الناس في أي بلد هذا المنزل ، كذلك الدين ، فِهم القرآن ، فِهم الإسلام لابد للمؤمن أن يضبط الكُليات العامة في الأول .
فقول الله - جل وعلا - ( تِلْكَ الرُّسُلُ ) هذا من الكليات ، والرسل في القرآن قلنا خمسة وعشرون نبيا ورسولا جاء ذكرهم في القرآن مفرقا إلا أنه في الأنعام جُمع منهم ثمانية عشر نبيا ورسولا في الآية المشهورة وما يليها المعروفة بآية ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) فإن الله قال فيها :
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) .
بقي سبعة ، السبعة الآخرون ذُكروا مفرقين في شتى السور ضبطهم أهل العلم فقال :
في تلك حجتنا ثمانية من بعد عشر***ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا ***ذو الكفل آدم بالمختار قد خُتموا
في تلك حجتنا ثمانية من بعد عشر***ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا ***ذو الكفل آدم بالمختار قد خُتموا
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . حاول بعض العلماء - لأن الأعمار لا تُقضى في شيء أعظم من كلام الله - أن يفقهوا لِمَ جاء التقسيم في آية تلك حجتنا على ما هو عليه ، فإن الله قسمهم في الأنعام ثلاثة أقسام ، فذكر كل طائفة في آية ، ولا يمكن أن يُقال إن الترتيب هنا بحسب الزمان لأنه وُجد منهم من تقدم زمنا وتأخر ذكرا ،ومنهم من من تأخر ذكرا وهو متقدم زمنا . فلا يمكن أنهم رُتبوا حسب أزمنتهم ، فلابد من طرائق أخرى .
أفضل من تكلم في هذا المراغي - رحمه الله - في تفسيره فقال : " إن جامعهم أن من الأنبياء من آتاهم الله الملك والسؤدد والظهور والسمع والطاعة في أقوامهم فهؤلاء جُمعوا ، ومنهم من عُرف بالزهد والتعبد عن الدنيا بالكلية فهؤلاء جُمعوا لوحدهم ، ومنهم من يُغرف بالترك الكلي ولم يُعرف بالسمع والطاعة والإمرة في قومه فذُكروا لوحدهم " . ومن تأمل تقسيمهم في الأنعام يجد قول المراغي هذا أقرب الأقوال إلى الصحة . والعلم عند الله .
/ قال الله ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
اختلف العلماء في التفضيل أصلا ، كلام طويل لهم ، لكن الاتفاق على أن النبوة في ذاتها درجة واحدة كما يُقال في الصحابة فضل الصُحبة واحد . ثم بعد ذلك يفيء الله على بعض أنبيائه ما لا يفيء على غيره فيفضُل من هذا الوجه ، كما أن الصحابة مشتركون في فضل أنهم رأوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ثُم بعد ذلك النُصرة والهجرة وغير ذلك بها يكون التفضيل .
هذا التفضيل ذكره الله منصوصا عليه فلا مسوغ لدفعه ولا يوجد دافع . قال ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) لكن فلننظر فيما اشترك هؤلاء المرسلون .
أولا : نؤمن أنهم خيار الخلق وأننا مأمورون باقتفاء أثرهم ، فلو أنك جعلت حياتك مبنية على حياة الأنبياء في فعلك وتركك ، كلما حاجّك أحد أو خاطبت أحدا ، أو غدوت أو رحت احتججت بفعل الأنبياء لكنت أكمل هديا ، ولهذا قال الله - جل وعلا - ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) . ولما سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن والحسين ومحسِّن بيّن العلة ، قال : سميتهم باسم أبناء هارون بشار وبُشِّير ومُبشر ، فأخذها - صلى الله عليه وسلم - من تسمية هارون عليه السلام لأبنائه .
وقد ذكر أهل السير أن سفيان بن الحارث وهو أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة وابن عمه نسبا فالحارث أخو عبد الله والد النبي - عليه الصلاة والسلام - فهو ابن عمه نسبا وأخوه من الرضاعة وكان من أكثر الناس شبها بالنبي - عليه الصلاة والسلام - أحد الخمسة الذين يشبهونه ومع ذلك كفر في أول الأمر وأسرف في قدح النبي - عليه الصلاة والسلام - فأهدر دمه ، فلما عزم على التوبة وعاد خاف أن يقدُم على رسول الله فلا يقبل رسول الله - عليه الصلاة والسلام - منه العودة فاستشار فأشار عليه بعض الصحابة أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول وهو عنده ( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - أُمر بالاقتداء بالأنبياء وهو ينافس في الخيرات ويسابق في الطاعات ولا يريد أن أحدا يكون خيرا منه ، ويوسف عليه السلام لما قيلت له هذه الكلمة تنازل عن حقه ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) . فلما هُدي إلى هذا الباب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) فما انفك رسول الله أن يقول ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فأسلم وحسُن إسلامه - رضي الله عنه وأرضاه - .
هذا أمر يجب استصحابه في قضية فقه حياة المرسلين فالإنسان إذا ابتلي بداء جسدي تذكر أيوب ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، وإذا ابتُلي بعُقم أوما شابهه تذكر زكريا ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) .
فإن كان ذا قدرة ، ذا طاقة يرى في نفسه أنه أهلٌ لأمور عظام سـألها الله وقدوته سليمان وإن كان لا يقول كما قال سليمان نصا لكن يأخذ نفس القضية من سليمان ، فإن سليمان لما رأى في نفسه أن الله يمُنّ عليه ، والله كريم لا ينقص ما في يده ، عظُم في نفسه أن يعظُم الطلب لكنه احتاط لآخرته فبدأ بالمغفرة قال ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ، وعلى هذا . وإذا ظلم الإنسان نفسه بذنب تذكر يونس ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) . والمقصود أن يجعل هدى الله نصب عينيه .
/ هؤلاء الرسل كان لهم خصائص اشتركوا فيها جميعا ، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - مثلا يقول :
- ( نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة ) فنفقه من الحديث أن الأنبياء لا يورثون درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم .
- ويقول - عليه الصلاة والسلام - ( إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا )
لما أتتك قم الليل استجبت لها***تنام عينك أما القلب لم ينمِ
الليل تسهره بالوحي تعمُره***وشيبتك بهود آية استقم .
صلوات الله وسلامه عليه .
- ويقول - صلوات الله وسلامه عليه - ( إننا معاشر الأنبياء نُخير عند الموت ) فعائشة - رضي الله عنها - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخبرها أنه يُخيّر لكنها لم تر هذا عيانا ، قالت : فلما حضرته الوفاة سمعته يقول ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ) .
وهو لما يقول - عليه الصلاة والسلام - في مرض موته " مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " لا يُخاطب نفسه ، يُخاطب أحدا لكن عائشة لا تسمع صوت الملك إنما تسمع صوت الإجابة ، فمن إجابته - صلى الله عليه وسلم - تفقه مُراد الملك .
قالت : فلما سمعته يقول " مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا " علمت أنه يُخير فاختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وجه ربه والجنة والرفيق الأعلى لذلك قال بعدها ( بل الرفيق الأعلى ، بل الرفيق الأعلى ومالت يده وفاضت روحه - صلوات الله وسلامه عليه - إلى أعلى عليين .
أفضل من تكلم في هذا المراغي - رحمه الله - في تفسيره فقال : " إن جامعهم أن من الأنبياء من آتاهم الله الملك والسؤدد والظهور والسمع والطاعة في أقوامهم فهؤلاء جُمعوا ، ومنهم من عُرف بالزهد والتعبد عن الدنيا بالكلية فهؤلاء جُمعوا لوحدهم ، ومنهم من يُغرف بالترك الكلي ولم يُعرف بالسمع والطاعة والإمرة في قومه فذُكروا لوحدهم " . ومن تأمل تقسيمهم في الأنعام يجد قول المراغي هذا أقرب الأقوال إلى الصحة . والعلم عند الله .
/ قال الله ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
اختلف العلماء في التفضيل أصلا ، كلام طويل لهم ، لكن الاتفاق على أن النبوة في ذاتها درجة واحدة كما يُقال في الصحابة فضل الصُحبة واحد . ثم بعد ذلك يفيء الله على بعض أنبيائه ما لا يفيء على غيره فيفضُل من هذا الوجه ، كما أن الصحابة مشتركون في فضل أنهم رأوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ثُم بعد ذلك النُصرة والهجرة وغير ذلك بها يكون التفضيل .
هذا التفضيل ذكره الله منصوصا عليه فلا مسوغ لدفعه ولا يوجد دافع . قال ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) لكن فلننظر فيما اشترك هؤلاء المرسلون .
أولا : نؤمن أنهم خيار الخلق وأننا مأمورون باقتفاء أثرهم ، فلو أنك جعلت حياتك مبنية على حياة الأنبياء في فعلك وتركك ، كلما حاجّك أحد أو خاطبت أحدا ، أو غدوت أو رحت احتججت بفعل الأنبياء لكنت أكمل هديا ، ولهذا قال الله - جل وعلا - ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) . ولما سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسن والحسين ومحسِّن بيّن العلة ، قال : سميتهم باسم أبناء هارون بشار وبُشِّير ومُبشر ، فأخذها - صلى الله عليه وسلم - من تسمية هارون عليه السلام لأبنائه .
وقد ذكر أهل السير أن سفيان بن الحارث وهو أخو النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة وابن عمه نسبا فالحارث أخو عبد الله والد النبي - عليه الصلاة والسلام - فهو ابن عمه نسبا وأخوه من الرضاعة وكان من أكثر الناس شبها بالنبي - عليه الصلاة والسلام - أحد الخمسة الذين يشبهونه ومع ذلك كفر في أول الأمر وأسرف في قدح النبي - عليه الصلاة والسلام - فأهدر دمه ، فلما عزم على التوبة وعاد خاف أن يقدُم على رسول الله فلا يقبل رسول الله - عليه الصلاة والسلام - منه العودة فاستشار فأشار عليه بعض الصحابة أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول وهو عنده ( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - أُمر بالاقتداء بالأنبياء وهو ينافس في الخيرات ويسابق في الطاعات ولا يريد أن أحدا يكون خيرا منه ، ويوسف عليه السلام لما قيلت له هذه الكلمة تنازل عن حقه ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) . فلما هُدي إلى هذا الباب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ) فما انفك رسول الله أن يقول ( قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فأسلم وحسُن إسلامه - رضي الله عنه وأرضاه - .
هذا أمر يجب استصحابه في قضية فقه حياة المرسلين فالإنسان إذا ابتلي بداء جسدي تذكر أيوب ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ، وإذا ابتُلي بعُقم أوما شابهه تذكر زكريا ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) .
فإن كان ذا قدرة ، ذا طاقة يرى في نفسه أنه أهلٌ لأمور عظام سـألها الله وقدوته سليمان وإن كان لا يقول كما قال سليمان نصا لكن يأخذ نفس القضية من سليمان ، فإن سليمان لما رأى في نفسه أن الله يمُنّ عليه ، والله كريم لا ينقص ما في يده ، عظُم في نفسه أن يعظُم الطلب لكنه احتاط لآخرته فبدأ بالمغفرة قال ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ، وعلى هذا . وإذا ظلم الإنسان نفسه بذنب تذكر يونس ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) . والمقصود أن يجعل هدى الله نصب عينيه .
/ هؤلاء الرسل كان لهم خصائص اشتركوا فيها جميعا ، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - مثلا يقول :
- ( نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة ) فنفقه من الحديث أن الأنبياء لا يورثون درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم .
- ويقول - عليه الصلاة والسلام - ( إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا )
لما أتتك قم الليل استجبت لها***تنام عينك أما القلب لم ينمِ
الليل تسهره بالوحي تعمُره***وشيبتك بهود آية استقم .
صلوات الله وسلامه عليه .
- ويقول - صلوات الله وسلامه عليه - ( إننا معاشر الأنبياء نُخير عند الموت ) فعائشة - رضي الله عنها - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخبرها أنه يُخيّر لكنها لم تر هذا عيانا ، قالت : فلما حضرته الوفاة سمعته يقول ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ) .
وهو لما يقول - عليه الصلاة والسلام - في مرض موته " مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " لا يُخاطب نفسه ، يُخاطب أحدا لكن عائشة لا تسمع صوت الملك إنما تسمع صوت الإجابة ، فمن إجابته - صلى الله عليه وسلم - تفقه مُراد الملك .
قالت : فلما سمعته يقول " مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا " علمت أنه يُخير فاختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وجه ربه والجنة والرفيق الأعلى لذلك قال بعدها ( بل الرفيق الأعلى ، بل الرفيق الأعلى ومالت يده وفاضت روحه - صلوات الله وسلامه عليه - إلى أعلى عليين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق