(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )
/ المؤمنُ يكونُ قريباً من الله إذا أقبل إلى الله بقلبهِ ولن تُقبل إلى الله بقلبك حتى يتحقق فيك الثلاث الآيات الأُول من هذهِ السورة المُباركة لابُد أن يشعُر الإنسان أنهُ أصلاً لم يكُن شيئاً مذكورا ، أن هناك رب عظيم جليل قادر أوجدهُ من العدم وربّاه بالنعم وجعلهُ أهلاً لأن يُنعم عليهِ فما نحنُ إلا ربائب لنعم ربنا تبارك وتعالى نتقلبُ فيها ليل نهار وكوننا نعلم أننا لرب تبارك وتعالى هو الذي أنعم علينا يُجب علينا أن نُحبهُ وما عند الله جل وعلا لا يُنال بأعظم من شيء من أن تُحب الرب تبارك وتعالى لأن حُب الله يُوجب محبته والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " واللهِ ـ يحلف ـ لا يُلقي الله حبيبهُ في النار" .
/ حصول المرء على أن يُحبهُ الله جلا وعلا هذا مطلب سامي جليل عظيم مقصد كريم وكون الإنسان أصلاً ينشغل ذاتياً ذهنياً حتى وهو مع الناس في أن ينشغل أنهُ يتمنى أن يحصُل على محبة الله هذا من أسباب نيلها لأن الله جل وعلا إذا علم من عبدٍه صدق النية في أنهُ يرغب يتمنى لأن يُحبهُ الله ، إذا اضطجع إلى فراشهِ، إذا تخلى عن زُملائهِ، إذا انفرد بنفسهِ إذا غدا للمسجد ،إذا خلا في مسجدهِ ،إذا تلبس بأي حال وشعر أنهُ في حاجة تامة لأن يُحبهُ الله وأظهر للهِ في قلبهِ أنهُ يُحب الرب تبارك وتعالى يُجلّهُ وأنهُ حتى ولو عصى الله أحياناً لا يعصيهِ فرحاً ،لا يعصيهِ افتخاراً إنما يعصيهِ لأن الشيطان غلبه والهوى تلبس بهِ و إلا هو يُبغضُ نفسهُ حال المعصية ويزدريها و إنما الأمر كُلهُ في أنهُ يُحبُ ربُهُ ويقول في نفسهِ " اللهم إنني أُحبك وإن عصيتُك ، أُحبُك وإن لم أقدر على أن أقوم بواجبك حق قيام ، أُحبُك ولو كُنتُ أحياناً أنأى عن طاعتك ، أُحبُك ولو كُنتُ أحياناً أتلبسُ بمعصيتك ".
فإذا أظهر العبدُ ذلك لربهِ قلباً وظهر ذلك على جوارحهِ ينالُ محبة الله فإذا جمع مع ذلك خوفهُ من الله فرقهُ من الله تبارك وتعالى أدب الله نبيه { قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (الأنعام15) { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } (الجن22 ) . في نفس الوقت مع خوفهِ من الله يعلم أنهُ لا يُمكن لهُ أن ينبُت لهُ ريش أو أن يحصُل لهُ نعمة أو أن تُدفع عنهُ نقمة إلا بربهِ تبارك وتعالى فيرجوا الله تبارك وتعالى وهو مع رجائهِ يعلم أن هذا الرب الذي يرجوه رحيم لا تنفُذ خزائنهُ ، لا ينقضي شيءٌ مما عندهُ وأنه لا يتعاظم تبارك وتعالى شيئاً أعطاه ، قال الله على لسان سُليمان { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } (ص35) قال العليُ الكبيرُ بعدها {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ } ( ص36) .
/ قال الله عن عيسى وقد أثنى عليهِ أعظم ثناء ثم لخّص ذلك كُلهُ في آيةٍ موجزة قال جل وعلا { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } (الزخرف59 ) فلولا إنعامُ الله عليه لم يكُن عيسى شيئاً مذكورا ، عيسى تُعظمهُ النصارى اليهود يتوارون عن القول بقتلهِ والمسلمون يقولون عبدُ الله ورسوله وهذه مناقب ما صح منها وما بطُل لم تكُن لهُ لو لم يُنعم الله جل وعلا عليه (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ) .
/ وموسى ، من موسى؟! ألقتهُ أُمهُ وهي أُمهُ خوفاً عليهِ في لُجج اليم لكن لما أراد اللهُ بهِ رحمة لما رحمهُ ربهُ أصبح هذا الذي تتقاذفهُ الأمواج ،أصبح عبدً صالحاً حتى وهو ميت في قبره يُصلي يقول عليه الصلاةُ والسلام " مررتُ بهِ ليلة أُعرج بي عند الكثيب الأحمر قائماً يُصلي "، وهذا كله من فضل الله جل وعلا عليهِ ولهذا قال الله لهُ { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } (طه37) وقال لهُ {وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } (طه39) .
وقال الله مُمتناً على إبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } (البقرة124) .
هذهِ كُلها عطايا يعرف منها المرء أن هُناك رباً عظيماً جليلاً قادرً على أن يرحمه.
/ وثق أيُها المُبارك أن الله إذا أراد أن يرحمك لن يستطيع أحدٌ أن يٌمسك رحمة الله جل وعلا عنك أبدا، فعلّق قلبك بالله وأقرأ هذهِ السورة المُباركة مراراً وتكراراً في صلاتك وفي غير صلاتك وأنت تستحضر معانيها العظام وأنها تُقربُك من الرب جل وعلا وأنها تبني لك الأُسُس التي تصلُ بها إلى ما عند الله وإلى مطالبك الدنيوية المُباحة كُلها تتحقق بـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .
/ لا ينبغي لعاقلٍ يعرف عظمة الله وجلالهُ وسُلطانه وسعة رحمتهِ أن يُعلّق قلبهُ مثقال ذرة بأحدٍ غير الله ،إنهم لن ينفعوك ولن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبهُ الله جل وعلا لك أو كتبهُ الله جل وعلا عليك ، ثُم وأنت في طريقك إلى الله أظهر لله عجزك وضعفك وأنهُ لولا لُطف الله بك وأنهُ هو الذي أوقفك بين يديه قال الله عن عباده الصالحين { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ الله } (الأعراف43) فالله جل وعلا هو الذي أكرمنا وأعطانا ونحنُ مثلاً في حلقة علم حلقة قرآن سواءً نحنُ الذي نتحدث أو أنتم الذين تستمعون أو غيركُم ممن يُشاهد ،هذهِ رحمة من الله جل وعلا .
الله جل وعلا أكرمنا بأن نُفسر كتابهِ أو أن نسمع تفسير كلامهِ أو أن نُشاهد تفسير قرآنهِ كما أضل غيرنا بأنهم سلكوا مسالك أُخرى.
قد كُنتُ أعذل في السفاهة أهلها ** فأعجب لما تأتي بهِ الأيامُ
فاليوم أعذُرهم وأعلم أنما ** سُبُل الضلالة والهُدى أقسامُ
ومتى ظن عبدٌ ما أنهُ ما هو فيه من نعمة أو انصراف إلى الطاعة إنما كان بحولهِ وسُلطانهِ وقوتهِ ألبسهُ الله لباس الخزي وأظهر الله جل وعلا لهُ ضعفهُ وأزال الله جل وعلا عنهُ كرمه نعوذ بالله من سوء المُنقلب .
وكلما أظهر العبد لربهِ أنهُ يعلم أنهُ ما خطت أقدامهُ إلى مسجد ،ولا عُقدت أناملهُ بتسبيح ،ولا لهج لسانهُ بذكر ،ولا أنعقد في قبلهِ محبةُ الله ، إلا وهي أصلاً من فضل الله تبارك وتعالى عليه ، وأن الله جل وعلا اختارهُ واصطفاه وعلّمهُ واجتباه وهداه هذا من أعظم أسباب الزيادة ، وبهِ وبأمثالهِ يُنال ما عند الرب تبارك وتعالى ، و إلا فربُنا مستوٍ على عرشهِ بائنٌ عن خلقهِ لا تنفعهُ طاعة طائع ولا تضرهُ معصية عاصٍ ، في الحديث الصحيح " يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكُم ما زاد ذالك في مُلكي شيئاً ،يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكُم ما نقص ذالك من مُلكي شيئاً ،يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كُل ذي سؤلٍ مسألته ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً ".
فإذا كان أهلُ الأرضِ والسماوات كُلهم لو سألوا الله وأعطاهم كُلهم على كل على قدر سؤلهِ ما نقص ذلك من مُلكهِ جل وعلا شيء فكيف ينقُصُ من طلب عبدٍ واحد، لكن أعظم ما يُطلب من الله أن يُطلب منه رضـــاه ونيلُ محبتهِ جاء عن داود أنه كان يقول: "اللهم إني أسألُك حُبك وحُب من يُحبك وحبُ كل عملٍ يُقربُ إلى حُبك ".
من جوامع الدُعاء :
- " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار " .
- ودُعاء الصالحين في آل عمران {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } (آل عمران194) (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ) هذا تغليبُ لرجاء ، (ولا تُخزنا يوم القيامة) هذا إظهارٌ للخوف لأنهُ لا يأمنُ مكرُ الله إلا القوم الخاسرون ولو تُركنا لأعمالنا وذنوبنا لهلكنا لكن الظن كُل الظن حسن برب العزة والجلال أن يستُر العورات ويغفر الخطيئات وأن يرفع الدرجات ويقبل الحسنات إن ربي لسميعُ الدُعاء .
هذا التعليق الذي منّ الله بهِ علينا في التعليق على سورة الفاتــــحة.
نسأل الله لنا ولكم حُسن المُنقلب وأن يفتح لنا جل وعلا بكُل خيرٍ في أمر ديننا ودُنيانا .
هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ إعدادهُ وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آلهِ والحمدُ لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق