الاثنين، 10 نوفمبر 2025

فوائد منتقاة / سورة هود الآيات (١٣-١٦)

 ■ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٣))
 "أم" بمعنى (بل) والهمزة، والمعنى بل أيقولون افتراه؟ هذا هو التحدي الأوسط فيما يتصل بالقرآن، فقد تحداهم اللّٰه - تبارك وتعالى- أن يأتوا بكتاب مثل القرآن فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٤))
 في هذه الآيات إرشاد إلى أنه لا يبغي للداعي إلى اللّٰه أن يصده اعتراض المعترضين، ولا قدح القادحين.خصوصا إذا كان القدح لا مستند له، ولا يقدح فيما دعا إليه، وأنه لا يضيق صدره، بل يطمئن بذلك، ماضيا على أمره، مقبلا على شأنه.
● أن مما يُطلب فيه العلم ولا يكفي غلبة الظن علم القرآن وعلم التوحيد لقوله تعالى (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو)

 ■ (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥))
 هذا الإطلاق قيّده الله جل وعلا في الإسراء فقال سبحان: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ)
 قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا يقول من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاتا أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى: أُوفّيِه الذي التمس في الدنيا من المثابة, وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين"١
واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية:
فحملها بعضهم على الكفار لأن الإنسان لا يخلو من إرادة للحياة الدنيا وزينتها وقد قال عن أهل بدر وهم خيار أهل الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) [الآنفال: ٦٧]
 ومن أهل العلم من حملها على أهل الرياء
 ولهذا لما حدث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة الذين هم أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة فبكى معاوية رضي الله عنه بكاء شديدا حتى ظنوا أنه هلك من شدة البكاء ثم أفاق ومسح عن وجهه وقال صدق الله ورسوله (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) ٢، فحملها معاوية رضي الله عنه على أهل الرياء. ولا يعني هذا أن أعمال أهل الرياء تحبط جميعا بل يعذبون على قدر معصيتهم أو تكون لهم حسنات ماحية ولا يخلدون في النار إلا ذا وإذا وقع الرياء في أصل الإيمان.
 ومن أهل العلم من قال معنى هذه الآية: من كانت الدنيا غايته وطلبته ومنتهى مناه فإنه لا يعمل إلا من أجلها فمن أجلها يقوم ومن أجلها يقعد ومن أجلها يعطي ومن أجلها يمنع فهذا ليس له في الآخرة إلا النار.
"والسياق يدل للقول الأول لقوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))٣ 
● "العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ويحبط الأعمال وهو أعظم من الرياء لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا"٤

"ولما سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن قوله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) ذكر أنها تشمل أنواع:
الأول: المشرك والكافر إذا عمل حسنات فإنه قد يجازى بها في الدنيا وأما في الآخرة فليس له جزاء عليها عند الله لأنها لم تبنَ على التوحيد والإخلاص لله عز وجل.
النوع الثاني: المؤمن الذي يعمل أعمالا من أعمال الآخرة لكنه لا يريد بها وجه الله وإنما يريد بها طمع الدنيا كالذي يحج ويعتمر عن غيره يريد أخذ العوض والمال الذي يتعلم ويطلب العلم الشرعي من أجل أن يحصل على وظيفة فهذا عمله باطل في الدنيا وحابط في الآخرة وهو شرق أصغر.
النوع الثالث: مؤمن عمل لصالح العمل الصالح مخلصا له عز وجل لا يريد به مالا أو متاعا من متاع الدنيا ولا وظيفة لكنه يريد أن يجازيه الله به بأن يشفيه الله من المرض ويدفع عنه العين ويدفع عنه الأعداء فإذا كان هذا قصده فهذا قصد سيء ويكون عمله هذا داخلا في قوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفي ليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون والمفروض في المسلم أن يرجو ثواب الآخرة يرجو أعلى مما في الدنيا وتكون همته عالية وإذا أراد الآخرة أعانه الله على أمور الدنيا ويسرها له.
 النوع الرابع: وهو أكبر من الذي قبله وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه وهو أن يعمل وأنه وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونية ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة ثم قال بقي أن يقال إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما وقد قال بعضهم القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو هذا وأمثاله"٥

● من كانت الدنيا مراده ولها يعمل في غاية سعيه لم يكن له في الآخرة نصيب ومن كانت الآخرة مراده ولها عمل لها عمل وهي غاية سعيه فهي له، بقي أن يقال: فما حكم من يريد الدنيا والآخرة؟
 قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي "وأما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا القصد ولم يكن له إرادة لوجه الله والدار الآخرة فهذا ليس له في الآخرة من نصيب وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن، فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان لا بد أن يريد الله والدار الآخرة، وأما من عمل العمل لوجه الله ولأجل الدنيا والقصدان متساويان أو متقاربان فهذا وإن كان مؤمنا فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص وأما من عمل الله وحده وأخلص في عمله إخلاص تاما لكنه يأخذ على عمله جعلا معلوما يستعين به على العمل والدين كالجعلات التي تجعل أعمال الخير، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكنه لم يرد بعمله الدنيا لكونه لم يرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدين وقصد أن يكون ما حصل له معينا على قيام الدين ولهذا جعل الله في الأموال الشرعية كالزكاوات وأموال الفي وغيرها جزءا كبيرا لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة"٦

أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
1- أن يريد المال، كمن أذّن ليأخذ راتب المؤذن أو حج ليأخذ المال.
2- أن يريد المرتبة كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة فترتفع مرتبته.
3- أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه كمن تعبد الله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا بمحبة الخلق له دفع السوء عنه وما أشبه ذلك.
4- أن يتعبد لله يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير."٧

إنما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من وجوه:
 أحدها: أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله.
وثانيها: أن الله لعنها ومقتها وبغضها إلا ما كان له فيها ومن أحب ما لعنه الله ومقته وبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه.
وثالثها: أنه إذا أحبها صيّرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره إلى وراء. 
---------------------------------
١- تفسير بن كثير 
٢- رواه الترمذي كتاب الزهد باب الرياء والسمعة وصحاحه الألباني 
٣- فتاوى بن عثيمين
٤- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
٥- د. أمين بن عبد الله الشقاوي
٦- القول السديد في مقاصد التوحيد 
٧- فتاوى بن عثيمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق