الدرة القرآنية الأولى : سورة المرسلات ورد في سورة المرسلات حديثان جليلان لذلك اخترناها
على المقابل جاء حديث ابن عباس يخبر أنها من آخر ما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن ابن عباس حبر هذه الأمة قرأ هذه السورة وأمه أم الفضل تسمع قراءته ، فلما سمعت أم الفضل -أمه- ابن عباس قالت : يا بني لقد أذكرتني بقراءتك لهذه السورة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها من آخر ما سمعت نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها في صلاة المغرب .
أما ما جاء فيها : فإن الله أقسم فيها بقوله { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا *فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا *وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا *فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا *فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا *عُذْرًا أَوْ نُذْرًا *إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ }ـ العلماء في بيان هذا القسم على أقوال :ـ فأقوال ظاهرة الضعف مثل قول من قال : إن المُقسم به هنا المراد به : الرسل ، وهذا بعيد.
لكن جمهور العلماء أو أكثر العلماء من المفسرين بين حالين : هل المراد الرياح أم المراد الملائكة .
ـ فبعض العلماء قال : ربما كان القسم في الأول بالرياح ، لأن قول الله -جل وعلا- {وَالْمُرْسَلاتِ}أول ما يُستذكر المرء {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } وقوله -جل وعلا- {وَالْعَاصِفَاتِ} يأتي قوله -جل وعلا- {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } فالمفردات اللفظية تُعين على أن يكون المقصود هو الرياح .
- آخرون قالوا : إن المقصود بهذا القسم هم الملائكة فإن قول الله -جل وعلا- {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} لا يستقيم مع الرياح .
فالمسألة تنازعها العلماء ، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن قول من قال : إن جميع المقسم به هنا يعود على مُقسم به واحد وهم الملائكة ، لعل هذا أرجح لأسباب منها :- أنه لا يوجد في الآيات قرينة تدل على أن هناك فصلا بين هذا الذي أقسم الله - جل وعلا - به ، أي من الصعب أن يُقال إن المُقسم به في أول الآيات الرياح ، والمُقسم به في آخر الآيات الملائكة وإن قال هذا بعض العلماء الأجلاء ، وجعلوا إن التناسب بينها اللطافة والخِفة ، وهذا يُقبل كرأي ، لكنه صعب جدا قبوله .
قلت : إننا نُسلم أو نقبل أو نرجح -بتعابير لك أن تختار منها- أن نقول : إن المراد بالقسم هنا كله قسم بالملائكة الكرام فيكون معنى قول الله -جل وعلا- {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} أي مُرسلة بالعُرف أو متتابعة ، وقوله -جل وعلا- :{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} تعصف بأجنحتها ، كما تنشر هذه تحتمل عند أهل العلم ثلاثة أقوال :ـ إما الاحتمال الظاهر وهو أن الملائكة تنشر أجنحتها.
- أو أن الملائكة تأتي بالنذر ،بالقرآن ، بالوحي ، وفي هذا نشر للميت من موته وبعثه بالعلم ،وليس المقصود الإحياء الجسدي .
- ومنهم من قال : إن النشر هنا بما تنشر من الوحي على الأنبياء .وهذا كله تقبله الآية .
ـ أما قوله - جل ذكره -{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} فلا ينبغي التردد في أن المقصود به أن الملائكة تُلقي الوحي على أنبياء الله جل وعلا .
- {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} هذا من إقامة الحُجة وإيضاح المحجة من الله -جل وعلا- على خلقه.
ـ {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} يكاد يُجمع أهل التفسير على أنه جواب القسم . لما قال الله {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} فقهنا عِظم هذا اليوم ، مالذي يُوعدون ؟ ما كانت قريش -وهي المخاطب الأول بالقرآن- تُكذب بشيء أعظم من تكذيبها بأنه لا بعث ولا نشور{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}فجواب القسم {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} .
لكننا لا نستطيع أن نقطع أو نجزم لأن الخلاف في المسألة قديم بين السلف من الصحابة والتابعين ، لكن ما اختاره النسفي في تفسيره أن المقصود بالقسم واحد وهن طوائف من الملائكة منها ما يُرسل بالعُرف ، ومنها من يعصف عصفا ، ومنهم من ينشر نشرا ومنهم من يُلقي ذكرا .
- نلحظ في هذه السورة يكثُر {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } فهذه الآية تكررت كثيرا ، لها نظائر في القرآن كما في سورة الرحمن باديء الرأي أمر ظاهر جلي ، وفي سورة الشعراء شيء يسير من هذا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ*وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
أما لمَ جاء هذا ؟ فينبغي أن يُعلم أن القرآن نزل بلغة العرب ولغة العرب من تدبرها وعلِم أساليبهم في الكلام وجد أنهم في بعض أحوالهم يصنعون هذا كما نجده ظاهرا في شعر مهلهل ربيعة ومن شعر الحارث بن عُباد : "قربا مربِط النعامة مني"، النعامة اسم فرس للحارث وهو اعتزل حرب بكر وتغلب في الأول فلما سمع أن مهلهل ربيعة قتل ابنه وقال : "بؤ بشسع نعلي كُليب "اضطره ذلك ليدخل الحرب والمعركة فذكر أبياتا طويلة موضع الشاهد منها كرر فيها قوله قرِبا -يُخاطب غُلاميه - مربط النعامة مني ، أي قربا فرسي حتى أدخل رحى المعركة ، إذا هذا ماضٍ على سنن العرب في كلامها ، لكن قال بعض العلماء : إننا ننظر إلى قول الله -جل وعلا- {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ثم ننظر في الذي قبله فيكون التكذيب عائد إلى ما قد ذُكر من قبل ، مثلا قال الله - جل وعلا :
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ*ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ *كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } إذا ويل للمكذبين أننا لم نُهلك الأولين {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءمَّهِينٍ *فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ *فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ويل يومئذ للمكذبين بأننا لم نخلقكم من ماء مهين ، وهذا ظاهر يمكن أن تقيس عليه الآيات ، وهذا عندي أجمل في التعبير ويمكن أن يُحتمل أن يكون التكذيب عاما ولا تعارض بين الرأيين، والقاعدة في التفسير : أنه إذا كان هناك رأيان لا تعارض بينهما يمكن جمع الآية عليهما .
- الله - جل وعلا - قال في هذه السورة المباركة:{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ } نقف عند كلمة "مهين" :
بعض أهل التفسير يقول : إن مهين هنا بمعنى حقير من المهانة ، الذلة ، الحقارة ، لما عُرف عن المني . والحق أن هذا بعيد ، لأننا لا بد أن نفقه سياق الآية ، سياق الآية ذكرها الله -جل وعلا- في سياق الامتنان ، المنة على عباده ، والله -جل وعلا- لا يمتن على عباده بمثل هذا ظاهرا بيّنا، فقوله تعالى {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ } استفهام يُراد به التقرير ، وهذا الاستفهام الذي يُراد به التقرير صعب أن نقول إن "مهين " هنا مقصود به الحقارة ، وإنما المراد به على الصحيح عندنا ،واختاره كثير من العلماء من قبل أنه بمعنى(ضعيف)، فإن قيل : أين هذا من اللغة ؟نقول : بل هذا في القرآن فإن الله - جل وعلا - ذكر ما دار من حوار بين فرعون وموسى عليه السلام وجاء فيه أن فرعون كان يقول {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ } أي ضعيف ، ومعلوم أن كلمة ضعيف بحسب ما تنسبها إليه،فلما تقول إنسان ضعيف في شخصيته قد يكون قوي البنية لكنك تقصد ضعفا معنويا، وعندما تقول ضعيف في ماله قد يكون فصيحا بليغا لكن لا مال ولا عقار له ، وهكذا بحسب استعمالها في اللغة ، هذا الذي يترجح من معنى قول الله - جل وعلا- {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ } .
- { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } بالاتفاق هو الرحم ، والضعف هنا أن هذا الماء قابل لأن يتطاير ، قابل لأن يتشتت ، قابل لأن يضيع ، قابل لأن يهلِك ، فأوجد الله - جل وعلا - في الرحم ما يحفظه ، ثم قال ربنا { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } ولا ريب أن الله - جل وعلا - أعظم من قدِر وأجلّ من مَلَك ولا أحد يخلق غيره .
ـ قال ربنا في السورة المباركة { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا } أحياء على ظاهرها وأمواتا في باطنها ،فهي تجمع الأحياء على ظهرها وتجمع الموتى في باطنها ولا يقدر على هذا إلا الله ويؤيده ما قاله الله في طه :{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } وقال -جل وعلا- :{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } .
- مما ذكره الله تعالى في هذه السورة أن قال {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ *وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } القارئ لهذه الآية يُشكل عليه الأمر إذا قرأ قول الله - جل وعلا - {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } فهذه الآية أثبتت النطق ، في حين أن آية المرسلات نفته ؟ لما سُئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن هذا قال "إن القيامة مواقف فثمة مواقف يؤذن لهم فيها بالحديث والكلام والنطق وثمة مواقف لا يؤذن لهم فيها بالحديث ولا بالنطق " هذا جواب الحبر ، فبعض العلماء من المفسرين قال : "إنه يؤذن لهم فينطقون ، لكنهم ينطقون نطقا لا ينفعهم ، ومادام لا ينفعهم فكأنهم لم ينطقوا" وهذا جواب جيد لكن جواب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أكمل لمقام رضوان الله تعالى عنه وعن أبيه في علم التفسير .
- في السورة المباركة { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ*كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ } اختلفوا في معنى هذه الآية ، فرجح ابن جرير وهو إمام المفسرين وأكثر المفسرين يأخذ عنه - وقد قيل عن كتابه إنه لم يُؤلف في الإسلام مثله - اختار أن المراد الإبل السود ، وابن جرير ينزع دائما إلى أنه يأخذ في القرآن بمقتضى ظاهر كلام العرب على أن الجمال لا تُعرف إلا الجمال والإبل المعروفة ، و"صُفر" العرب تُسمي الشيء الأسود أصفرا ، هذا منحى ابن جرير في التفسير ، وبعض العلماء قال إن المقصود قطع النحاس ، وبعض العلماء - ويُروى هذا عن ابن عباس- أن المقصود بها حبائل السُفن المفتولة ، والعلم عند الله-
- خاتمة المطاف في هذه الوقفات من سورة المرسلات عند قوله - جل وعلا -: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
الأول :حديث ابن مسعود ، والآخر حديث ابن عباس ، فأما حديث ابن مسعود فظاهره أنها من أول ما أُنزل فإنه أخبر كما في الصحيحين أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار في منى -وهذا ظاهره أن هذا في أول أمر الدعوة فأنزل الله -جل وعلا- على نبيه سورة المرسلات ،قال ابن مسعود"وإنا لنأخذها عنه -أي السورة- رطبة من فيه -صلوات الله وسلامه عليه- فإذا ابتدرتنا حية فقال : اقتلوها ، لكنها توارت " الذي يعنينا من هذا المقام أن السورة من أوائل ما أُنزل على رسولنا -صلوات الله وسلامه عليه- .
أما ما جاء فيها : فإن الله أقسم فيها بقوله { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا *فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا *وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا *فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا *فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا *عُذْرًا أَوْ نُذْرًا *إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ }ـ العلماء في بيان هذا القسم على أقوال :ـ فأقوال ظاهرة الضعف مثل قول من قال : إن المُقسم به هنا المراد به : الرسل ، وهذا بعيد.
لكن جمهور العلماء أو أكثر العلماء من المفسرين بين حالين : هل المراد الرياح أم المراد الملائكة .
ـ فبعض العلماء قال : ربما كان القسم في الأول بالرياح ، لأن قول الله -جل وعلا- {وَالْمُرْسَلاتِ}أول ما يُستذكر المرء {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } وقوله -جل وعلا- {وَالْعَاصِفَاتِ} يأتي قوله -جل وعلا- {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } فالمفردات اللفظية تُعين على أن يكون المقصود هو الرياح .
- آخرون قالوا : إن المقصود بهذا القسم هم الملائكة فإن قول الله -جل وعلا- {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} لا يستقيم مع الرياح .
فالمسألة تنازعها العلماء ، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن قول من قال : إن جميع المقسم به هنا يعود على مُقسم به واحد وهم الملائكة ، لعل هذا أرجح لأسباب منها :- أنه لا يوجد في الآيات قرينة تدل على أن هناك فصلا بين هذا الذي أقسم الله - جل وعلا - به ، أي من الصعب أن يُقال إن المُقسم به في أول الآيات الرياح ، والمُقسم به في آخر الآيات الملائكة وإن قال هذا بعض العلماء الأجلاء ، وجعلوا إن التناسب بينها اللطافة والخِفة ، وهذا يُقبل كرأي ، لكنه صعب جدا قبوله .
قلت : إننا نُسلم أو نقبل أو نرجح -بتعابير لك أن تختار منها- أن نقول : إن المراد بالقسم هنا كله قسم بالملائكة الكرام فيكون معنى قول الله -جل وعلا- {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} أي مُرسلة بالعُرف أو متتابعة ، وقوله -جل وعلا- :{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} تعصف بأجنحتها ، كما تنشر هذه تحتمل عند أهل العلم ثلاثة أقوال :ـ إما الاحتمال الظاهر وهو أن الملائكة تنشر أجنحتها.
- أو أن الملائكة تأتي بالنذر ،بالقرآن ، بالوحي ، وفي هذا نشر للميت من موته وبعثه بالعلم ،وليس المقصود الإحياء الجسدي .
- ومنهم من قال : إن النشر هنا بما تنشر من الوحي على الأنبياء .وهذا كله تقبله الآية .
ـ أما قوله - جل ذكره -{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} فلا ينبغي التردد في أن المقصود به أن الملائكة تُلقي الوحي على أنبياء الله جل وعلا .
- {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} هذا من إقامة الحُجة وإيضاح المحجة من الله -جل وعلا- على خلقه.
ـ {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} يكاد يُجمع أهل التفسير على أنه جواب القسم . لما قال الله {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} فقهنا عِظم هذا اليوم ، مالذي يُوعدون ؟ ما كانت قريش -وهي المخاطب الأول بالقرآن- تُكذب بشيء أعظم من تكذيبها بأنه لا بعث ولا نشور{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}فجواب القسم {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} .
لكننا لا نستطيع أن نقطع أو نجزم لأن الخلاف في المسألة قديم بين السلف من الصحابة والتابعين ، لكن ما اختاره النسفي في تفسيره أن المقصود بالقسم واحد وهن طوائف من الملائكة منها ما يُرسل بالعُرف ، ومنها من يعصف عصفا ، ومنهم من ينشر نشرا ومنهم من يُلقي ذكرا .
- نلحظ في هذه السورة يكثُر {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } فهذه الآية تكررت كثيرا ، لها نظائر في القرآن كما في سورة الرحمن باديء الرأي أمر ظاهر جلي ، وفي سورة الشعراء شيء يسير من هذا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ*وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
أما لمَ جاء هذا ؟ فينبغي أن يُعلم أن القرآن نزل بلغة العرب ولغة العرب من تدبرها وعلِم أساليبهم في الكلام وجد أنهم في بعض أحوالهم يصنعون هذا كما نجده ظاهرا في شعر مهلهل ربيعة ومن شعر الحارث بن عُباد : "قربا مربِط النعامة مني"، النعامة اسم فرس للحارث وهو اعتزل حرب بكر وتغلب في الأول فلما سمع أن مهلهل ربيعة قتل ابنه وقال : "بؤ بشسع نعلي كُليب "اضطره ذلك ليدخل الحرب والمعركة فذكر أبياتا طويلة موضع الشاهد منها كرر فيها قوله قرِبا -يُخاطب غُلاميه - مربط النعامة مني ، أي قربا فرسي حتى أدخل رحى المعركة ، إذا هذا ماضٍ على سنن العرب في كلامها ، لكن قال بعض العلماء : إننا ننظر إلى قول الله -جل وعلا- {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ثم ننظر في الذي قبله فيكون التكذيب عائد إلى ما قد ذُكر من قبل ، مثلا قال الله - جل وعلا :
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ*ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ *كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } إذا ويل للمكذبين أننا لم نُهلك الأولين {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءمَّهِينٍ *فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ *فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ويل يومئذ للمكذبين بأننا لم نخلقكم من ماء مهين ، وهذا ظاهر يمكن أن تقيس عليه الآيات ، وهذا عندي أجمل في التعبير ويمكن أن يُحتمل أن يكون التكذيب عاما ولا تعارض بين الرأيين، والقاعدة في التفسير : أنه إذا كان هناك رأيان لا تعارض بينهما يمكن جمع الآية عليهما .
- الله - جل وعلا - قال في هذه السورة المباركة:{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ } نقف عند كلمة "مهين" :
بعض أهل التفسير يقول : إن مهين هنا بمعنى حقير من المهانة ، الذلة ، الحقارة ، لما عُرف عن المني . والحق أن هذا بعيد ، لأننا لا بد أن نفقه سياق الآية ، سياق الآية ذكرها الله -جل وعلا- في سياق الامتنان ، المنة على عباده ، والله -جل وعلا- لا يمتن على عباده بمثل هذا ظاهرا بيّنا، فقوله تعالى {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ } استفهام يُراد به التقرير ، وهذا الاستفهام الذي يُراد به التقرير صعب أن نقول إن "مهين " هنا مقصود به الحقارة ، وإنما المراد به على الصحيح عندنا ،واختاره كثير من العلماء من قبل أنه بمعنى(ضعيف)، فإن قيل : أين هذا من اللغة ؟نقول : بل هذا في القرآن فإن الله - جل وعلا - ذكر ما دار من حوار بين فرعون وموسى عليه السلام وجاء فيه أن فرعون كان يقول {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ } أي ضعيف ، ومعلوم أن كلمة ضعيف بحسب ما تنسبها إليه،فلما تقول إنسان ضعيف في شخصيته قد يكون قوي البنية لكنك تقصد ضعفا معنويا، وعندما تقول ضعيف في ماله قد يكون فصيحا بليغا لكن لا مال ولا عقار له ، وهكذا بحسب استعمالها في اللغة ، هذا الذي يترجح من معنى قول الله - جل وعلا- {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ } .
- { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } بالاتفاق هو الرحم ، والضعف هنا أن هذا الماء قابل لأن يتطاير ، قابل لأن يتشتت ، قابل لأن يضيع ، قابل لأن يهلِك ، فأوجد الله - جل وعلا - في الرحم ما يحفظه ، ثم قال ربنا { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } ولا ريب أن الله - جل وعلا - أعظم من قدِر وأجلّ من مَلَك ولا أحد يخلق غيره .
ـ قال ربنا في السورة المباركة { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا*أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا } أحياء على ظاهرها وأمواتا في باطنها ،فهي تجمع الأحياء على ظهرها وتجمع الموتى في باطنها ولا يقدر على هذا إلا الله ويؤيده ما قاله الله في طه :{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } وقال -جل وعلا- :{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } .
- مما ذكره الله تعالى في هذه السورة أن قال {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ *وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } القارئ لهذه الآية يُشكل عليه الأمر إذا قرأ قول الله - جل وعلا - {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } فهذه الآية أثبتت النطق ، في حين أن آية المرسلات نفته ؟ لما سُئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن هذا قال "إن القيامة مواقف فثمة مواقف يؤذن لهم فيها بالحديث والكلام والنطق وثمة مواقف لا يؤذن لهم فيها بالحديث ولا بالنطق " هذا جواب الحبر ، فبعض العلماء من المفسرين قال : "إنه يؤذن لهم فينطقون ، لكنهم ينطقون نطقا لا ينفعهم ، ومادام لا ينفعهم فكأنهم لم ينطقوا" وهذا جواب جيد لكن جواب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أكمل لمقام رضوان الله تعالى عنه وعن أبيه في علم التفسير .
- في السورة المباركة { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ*كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ } اختلفوا في معنى هذه الآية ، فرجح ابن جرير وهو إمام المفسرين وأكثر المفسرين يأخذ عنه - وقد قيل عن كتابه إنه لم يُؤلف في الإسلام مثله - اختار أن المراد الإبل السود ، وابن جرير ينزع دائما إلى أنه يأخذ في القرآن بمقتضى ظاهر كلام العرب على أن الجمال لا تُعرف إلا الجمال والإبل المعروفة ، و"صُفر" العرب تُسمي الشيء الأسود أصفرا ، هذا منحى ابن جرير في التفسير ، وبعض العلماء قال إن المقصود قطع النحاس ، وبعض العلماء - ويُروى هذا عن ابن عباس- أن المقصود بها حبائل السُفن المفتولة ، والعلم عند الله-
- خاتمة المطاف في هذه الوقفات من سورة المرسلات عند قوله - جل وعلا -: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
والمراد : القرآن فلا حديث أكمل من كلام الله ، وسنضرب بيانا واضحا في هذا الشأن : مرتبة المقام المحمود أعلى المنازل على الإطلاق لا أجلّ منها ولا أعظم ، كتبها الله لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فلما أراد - جل ذكره - أن يُخبر ما السبب ، ما السبيل - بعد رحمة الله - لنيل هذا فقال {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } وأنت أيها المبارك فما بالك بغيرها، فالقيام بالقرآن في الليل هو القنوت المحمود ، طول القراءة بالقرآن في الصلاة في الليل هو أعلى المقامات وأشرفها الموصل لأعلى المنازل التي يهبها الله -جل وعلا- لعباده .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق