السبت، 25 سبتمبر 2010

الـدرة القرآنيـة الثانية / مع قوله (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ )



قوله تعالى ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
هذه الآية من سورة البقرة من الجزء الأول منه ، قال ربنا -جل وعلا-فيها (وَقَالُواْ) الضمير عائد إلى الفريقين ،اليهود والنصارى ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ) والمعنى أن اليهود تزعُم أن الجنة حصر عليهم ، وكذلك النصارى تزعُم أن الجنة حصر عليهم ، وليس المعنى أنهم يقولون جميعا إن اليهود والنصارى في الجنة ، لكن كل فرقة منهم تقول بدعواها ودلّ على هذا التقسيم الآيات التي بعدها ، قال الله -جل وعلا- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) فاليهود والنصارى كل منهما يُبطل دين الآخر قال ربنا (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ)،أما اجتماعهم اليوم كما يُرى فهذا سياسيا ،فهذا لمصالح يرونها قائمة تفرضها عليهم أن يكون بينهم شيء من التوافق وارتباط المصالح ، أما الأصل العقدي فإن هناك تباينا كبيرا ما بين اليهود والنصارى ، اللهم إلا أن يكون ضد هل الإسلام يتفقون .
قال ربنا أن هناك دعوى منهم ، اليهود تزعُم أن النار محرمة عليهم وأن الجنة لهم ، وكذلك النصارى ، فقال -جل وعلا- ( وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) ثم قال (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) أي دعاواهم الباطلة ،وجاء بالضمير "تلك" وهو يُفيد البعد ، وهذا البُعد حِسا ومعنى ، أي لا يمكن أن يكون الأمر كما قالوا ، (قل) أي يا نبينا (هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) استل منها العلماء معنى وهو :أن كل من ادعى أمرا نفيا أو إثباتا يلزمه الدليل والبرهان (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ولا يمكن أن يكون هناك برهان لديهم إلا من الله ، والله -جل وعلا- لم يقل يوما في كتاب من كتبه ، ولا على ألسنة أحد من رسله أن الجنة لا تكون إلا ليهود أو أن الجنة لا تكون إلا للنصارى .
ثم بيّن جل وعلا بعد أن أبطل دعواهم وأظهر أنه لابد من إقامة الحجة ولا حجة لديهم ،بيّن الطريق الموصل إليه فقال (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )، من حيث الصناعة اللفظية كلمة "وجه" هنا تحتمل معنيين :
الأول : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) الوجه : العضو المعروف وكُني به عن سائر الجسد ،وإنما خُصّ بالذكر لأن فيه موضع السجود ،وفيه -كما تقول العرب-تظهر أمارات العزة وأمارات الذل ، وعليه تظهر المشاعر ، هذا قول من قال إن المقصود بالوجه هنا (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) الوجه : العضو المعروف.
الثاني : قال بعض أهل العلم أن الوجه هنا ليس المقصود به العضو المعروف ،وإنما المراد به المقصد ، أي أسلم قصده ونيته لله جل وعلا .
على أنه حتى القائلين بأن المراد بالوجه هنا هو العضو المعروف يقولون كذلك بأنه لابد من سلامة القصد وأن الإنسان لا يُريد بعمله إلا وجه الله .
قال الله جل وعلا (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ ) وأبهمه هنا لكنه أظهره في آيات أُخر (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا )، ثم قال (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) لما كان الخوف دثارا وشعارا للمؤمنين في الدنيا نُجوا منه في الآخرة ، فالخوف من مقام الله ،الخوف من القدوم عليه، هو الذي يعتري المؤمن في حياته الدنيا ،لكن ذلك الخوف يُقابله الرجاء ،وما يجمع بين الخوف والرجاء محبة الله جل وعلا في القلب ،وتعظيمه .
/ ثم قال جل وعلا (وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فنفى عنهم الحزن ،والحزن والخوف منتفيان في الجنة بالكلية ضمن أمور أُخر نفاها الله جل وعلا ،كالموت وكالجوع والعري والأسقام وغير ذلك ، هذه كلها منتفية في الجنة ، فالجنة دار جزاء،ولا يليق بدار الجزاء والثواب لعباد الله المؤمنين ن يكون فيها شيء يُكدر على أهل الجنة حياتهم ، ألا ترى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر الجنة في قيامه عليه الصلاة والسلام في صلاة الكسوف .
لما كسفت الشمس في عهده رأى -صلى الله عليه وسلم- الجنة ، قال العلماء :أتاه الله -جل وعلا- مدارك حتى رأى الجنة ، ثم قُرب له منها عنقودا من عنب لكن يديه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه لم تصل إلى ذلكم العنقود لأنه مُعدٌّ جزاء في دار الجزاء فلا يصح أن يكون طعاما لمن كان في دار عمل ، ثم لا يصلح أن يكون شيء لا يفنى طعاما لشيء يفنى وهم أهل الدنيا .
والمقصود من هذا : قال الله جل وعلا : ( وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) أما الحزن الذي يأتيهم فلا ريب أن من مصائب الدنيا ما يُحزن ، وقد صرح به -صلى الله عليه وسلم- عند فراق ابنه إبراهيم (وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون) ، وأصاب الصحابة -رضي الله عنهم- ما أصابهم من الحزن يوم وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم .
إذا تبيّن هذا فإن الغاية العظمى من هذه الآيات بيان أن توحيد الله -جل وعلا- واتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هما السبيل الأقوم إلى رحمة الله العزيز الأكرم . إذا فُطر القلب على التوحيد ،ومُلأ هذا القلب توحيدا لله -جل وعلا- وإجلالا نجا . هذا معنى ( مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).
ثمة قرائن يعرف بها الإنسان أين هو من توحيد الله ، من أعظمها :
أنه لا في حال كرب ،ولا في حال رغبة ،ولا في حال نعمة ،يفزع إلى أحد غير الله يسأله ، ولا غير الله يشكره ،إلا من أمرنا الله جل وعلا بشكره، تراه يتوخى المواطن التي يُعظم فيها الله عز وجل ، ولما كان الله لا يُعظم في مكان أعظم من بيوته ، تراه مُحبا لبيوت الله ،كلما شيء يرى أنه سبب في زيادة الدين واليقين تراه يُحبه ، هذا من دلائل أن القلب أسلم وجهه لله .
في حديث البراء بن عازب عند البخاري -رحمه الله-: قال البراء -وهو يومئذ صبي - يُحدث عن أيام صباه ، قال :"أول من قدِم علينا -يقصد من المهاجرين- مصعب وابن أم مكتوم فأخذا يُقرأننا -أي القرآن- ثم قدِم علينا بلال وعمار وسعد ثم قدِم عمر في عشرين -أي في عشرين مهاجرا- ثم قدِم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " قال البراء -وهو يُمثل ذاكرة تاريخية لذلك العصر - قال "فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء كفرحهم بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى رأيت الصبيان والولائد يقولون:جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكأن هؤلاء الصبيان والولائد كانوا ينامون على يد أهليهم ،يخبرهم أهلوهم أن رسول لله صلى الله عليه وسلم سيقدم ، كما نحن قبل العيد بأيام ننبئ أبناءنا وبناتنا وصغارنا أن العيد سيقدُم ،فتراهم يترقبون هذا اليوم ،حتى إن الصبي الصغير الذي لا يعقِل من أبنائنا كل يوم يسأل : أهذا هو العيد ؟ يريد أن يفرح ، حتى يأتي العيد .
فكان الصبيان والولائد يُمنّون برؤية وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة ، فذلك الفرح المنتظر أصبح واقعا يُرى فقالوا : جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ذلك الفرح الذي كنا نحلم أن نبدأه قد وقع .
ولا ريب أن فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم -رضوان الله عليهم- أن حياته بين أظهرهم زيادة في اليقين والدين إذ أصبحوا يرون مُحياه ويُصلون وراءه ،ويجلسون في مجلسه ، ويستمعون إلى مواعظه ، ويجاهدون خلفه ويأتمون بصلاته ، وهذه كلها -قطعا-من أسباب اليادة في الدين .
إذاً، فَرَحُ المؤمن الموحد إنما هو مرتبط بما يزيد من إيمانه ، بما يقربه من الله جل وعلا زُلفى ، يفرح إذا أتمّ صيام يوم ، أو قام ساعة من الليل ،أو أعطى مسكينا ، أو واسى فقيرا ،أو قام بأي عمل صالح يُقربه من الله ، هذا فضل الله ورحمته التي يفرح بها المؤمنون ،وهي من أعظم دلائل أن القلب باقٍ على توحيد الله - جل وعلا - .
هذا التوحيد مع بعثة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لابد أن يكون مقرونا بسنته -صلى الله عليه وسلم- ، فلزوم السُنة مع التوحيد حتى الممات من أعظم دلائل رضوان الله جل وعلا على العبد .الثبات على الدين ولزوم سنة سيد المرسلين .
قدِم العلامة الشيخ تقي الدين الهلالي -رحمه لله تعالى - وهو من علماء المغرب ،مُتوفى علم 1407 هـ ،قدِم المدينة أيام عهد الملك عبد العزيز -غفر الله له ورحمه- وكان الملك يسمع عن علمه واتباعه للسنة فعرض عليهأن يوليه الإمامة في المسجد النبوي ، فوافق على شرط أنه إذا صلى بالناس لا ينقص عن عشر تسبيحات في الركوع والسجود ، لكن الملك عبد العزيز -غفر الله له ورحمه-علِم أن في ذلك مشقة على الناس فاعتذر له ،فلم يُكلفه بالإمامة ، هذا الأمر وقع على ملأ فقطعا كان هناك ممن أسرَّ أو أعلن ممن يُعادون الشيخ يرون أن هذا رياء ، لكن السنون طُويت والأيام تعاقبت وعُمِّر هذا الشيخ الصالح حتى تجاوز التسعين .قابلت أحد تلاميذه الخاص اسمه الشيخ عبد الرحمن المغربي من أهل المدينة وهذا الشيخ عبد الرحمن مكث ست سنين آخر أيام الشيخ تقي الدين في المغرب مُلازما له ،فحدثني أن الشيخ تقي الدين بقي محافظا على التسبيحات العشر في الركوع والسجود لايُنقص منها لا في فرض ولا في نفل ولا في صلاة ليل حتى مات على ذلك ،وهو قد جاوز التسعين وضعُف وهذا قطعا ، ضعُف بدنه ومع ذلك حافظ على الشيء الذي قاله في الملأ .
التوحيد والسنة أن تكون عبادتك لله في الخلا أشد من عبادتك لله في الملأ ،ولهذا قالوا إن من مُثقلات القرآن قول سُفيان في تفسير قول الله -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } أن العدل أن تستوي سريرة المؤمن وعلانيته ،والإحسان أن تكون سريرته أفضل من علانيته .
نسال الله العافية ، والعلم عند الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق