الأحد، 28 سبتمبر 2025

تدبر سورة الكهف م.(٢٧) / د. محمود شمس



بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ:
 فإني أحييكم بتحية الإسلام السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف.
 توقفت في اللقاء السابق عند قول الله تبارك وتعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا) وبينت كيف أنَّ الله تبارك وتعالى سيسير الجبال بحيث تنتقل من مكانها، وما سيفعله الله في الجبال، نظرًا لأن المشركين كانوا يعتقدون أن الجبال هي أعظم المخلوقات، وكانوا يقولون: إذا قامت الساعة فأين تذهب هذه الجبال؟ وماذا سيفعل الله بهذه الجبال؟ فبين الله أنَّ هذه الجبال تُنسف نسفًا : (وَيَسْألونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [سورة طه: ١٠٥]، وبين أنَّ الأرض تُرى بَارِزَةً، ومعنى بَارِزَةً  يعني: لا يوجد عليها شيء يسترها، الأرض كان عليها جبال ومباني وعمارات ومصانع وشركات ...الخ فأصبحت الأرض الآن كلها بارزة بقدرة الله .
ثُمَّ يقول الله بعد ذلك : (وَحَشَرْنَهُمْ) يعني: جمعناهم، جمعناهم للحشر، لماذا الجمع؟ لأنَّ النَّاس فارقوا الدنيا وماتوا في أزمنة مختلفة وأزمنة طويلة ما بين آدم عليه السلام إلى ما شاء الله، فالله يجمع هؤلاء جميعا في مكان واحد سماه: «أرض السَّاهِرَةِ» (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) وجعل الله أمر إحياء الناس من قبورهم، وسوقهم إلى أرض الساهرة عملية سهلة لا تستغرق دقيقة بمفهوم البشر؛ لأنها عبارة عن (زَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ زَجَرَةٌ من الزجرات التي قد يزجرها الإنسان للحيوان، الأرض الساهرة هي الأرض البيضاء، الأرض التي لا شيء عليها، أرض بيضاء، أرض فضاء، لا شيء عليها يجمع الله عليها الخلائق.
(وَحَشَرْنَاهُمْ) معطوفة عَلَى : (نُسَيرُ الْجِبَالَ) (نسير) فعل مضارع، (وحَشَرْنَاهُمْ) فعل ماض، فلِمَ عبر في الحشر بالذات بالفعل الماضي؟ دلالةً عَلَى أَنَّ الحشر قد وقع وانتهى، تأكيدا لوقوعه، كأنه لا مشكلة فيه فهو محقق الوقوع، هذا (وَحَشَرْنَهُمْ) 
 هل سرعة الحشر هذه تترك الفرصة لأحد لكي يفرّ أو لكي يهرب من الحشر قَالَ الله : لا (فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا) (فَلَمْ نُغَادِرُ) يعني: فلم نترك، مادة «غَدَرَ» و «غَادَرَ» كلها تعطي معنى الترك، حَتَّى كلمة «الغدر» معناها: ترك الوفاء وخيانة الأمانة، الغدر يعني: الإنسان الذي يغدر بأحد، فَهذا معناه: أنه لا وفاء عنده وخائن للأمانة، فالمغادرة المنفية هنا هي الترك، فلم تغادر يعني: فلم نترك مِنْهُمْ أَحَدًا، فلا يستطيع أحد أن يفر، ولا يستطيع أحد أن يبتعد.
ثُمَّ بعد ذلك يقول الله تَعَالَى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفَا) العرض: إحضارهم ليعلموا أنهم سيتلقون ما يأمرهم الله به في شأنه، يعني: يُعرضون عَلَى رب العباد، كما قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [سورة الحاقة : ١٨] لا يخفى منكم أي شيء. فالعرض عملية منظمة بحيث لا يخفى فيها صفٌ للَّذي يليه، يعني: نعلم أنَّ الصفوف في مفهوم البشر من الناس من يكون طويلا، فقد يختفي من خلفه، لكنهم سينظمون صفوفًا، بحيث يكون كل صفٌ في الخلف أَعْلَى قليلا من الصف الَّذِي أمامه، حَتَّى يظهر، حَتَّى لا يختفي أحد، فلن يكون هناك فرصة للتخفي، لأنَّ الصفوف ستكون متداخلة، بحيث لا يُخفي صف صفًّا، هذه: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا).

(لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة) يعني: قائلين لهم: ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً﴾ (أَوَّلَ مَرَّة) يوم أن خلقكم الله ونزلتم من بطون أمهاتكم عرايا، فأنتم اليوم جئتم (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) ، والله وضّح ذلك في قوله تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ هذه الآية في سورة الأنعام. (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) هذه الجملة عطفت على ماذا قبلها؟ إحنا عندنا جملتان قبل هذه الجملة، كل منهما تصلح للعطف، وكل منهما إذا عطف عليها يكون لها دلالة في المعنى الجملة الأولى التي تصلح للعطف،نحن تركنا (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ)، نحن الآن في : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [ سورة الأنعام : ٩٤] ، الجملة المعطوف عليها أولا جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) لأنَّ جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) في قول الله تَعَالَى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقول لقول محذوف، فإذا كان القول المحذوف من الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الملائكة وهم يقودونهم إلى العذاب قَالَ الله لهم: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)، فإذا كانت جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقول القول هو قول الله فيجوز أن نعطف عليها : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى)، كأنهم قيل لهم قولان، يقال لهم : (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)، ويقال لهم: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) يعني: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) لا تُعطف عَلَى (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) إِلَّا إذا كانت (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الله لأنَّ (جئْتُمُونَا فَرَادَى) هذه لا تُقال من الملائكة إِنَّمَا تُقال من الله. وصلت هذه النقطة ولا لا؟
 يعني : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) تكون معطوفةً عَلَى: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)  بشرط أن تكون (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الله تَعَالَى، الله قَالَ لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ)، وَقَالَ لهم : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى)، وإذا كانت جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الملائكة، يعني: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ)  يقولون لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ) فتكون جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الملائكة، تكون جملة : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) معطوفة عَلَى ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ واضح هكذا؟
طبعًا ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾ من المخاطب هنا في ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾؟ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل مؤمن صالح للخطاب، يعني: الخطاب للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو خطاب للأُمَّةِ، فتكون معطوفةً عَلَى هُذَا القول: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ ، ويكون هنا انتقل القرآن من خطاب الاعتبار بحال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم بوعيدهم بجهنم، يعني: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾ كان الخطاب موجها على المعتبرين بأحوال الظالمين، وهم أمة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) الخطاب هنا انتقل القرآن من خطاب المعتبرين بأحوال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم، يخاطب الله هنا الظالمين أنفسهم بالوعد الحق والوعيد الحق الذي كان قد وعدهم به: ها أنتم (جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فهمنا هكذا؟ هذه (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى).
 ما معنى فرادى؟
الإنسان في الدنيا عنده أولاده، وعنده أنصاره وعنده زوجه، وعنده ماله، وعنده سلطانه، وعنده جاهه، وعنده حسبه، وعنده نسبه ...الخ  ما لدى الإنسان في الدنيا، الله يقول (جِئْتُمُونَا) منعزلين عن كل ما تعتزون به في الدنيا، خلاص أنتم الآن جئتمونا وأنتم منعزلون عن كل شيء كنتم تعتزون به وتعتبرونه عزا لكم في الدنيا، ها أنتم الآن، هذا معنى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى): لا مال، ولا ولد، ولا جاه ...الخ. والفرادى جمع باعتبار أن كل واحد جاء منعزلا عما يعتز به في دنياه، هذا معنى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كما خُلقتم أول مرة، الإنسان خُلق في أول مرة ولد من بطن أمه منعزلا، لا جاه ولا سلطان، ولا مال، ولا ملبس يستر به عورته، كذلك في الآخرة سيكون بلا ملبس يستر به عورته، كما خلقنا الله في أوَّلِ خلقنا، هذا معنى : (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
 (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْنَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) التخويل هو التفضل بالعطاء ، يعني : العطاء بلا مقابل التخويل هو التفضل بالإنعام، يتفضل الله عليك بأن يُنعم عليك بنعمة ما ، فكل ما ينفعك تفضل الله عليك به، ولذلك قَالَ اللهُ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرِّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) [سورة الزمر : ۸] ليبين الله أنك لا تملك أن تحضر لنفسك نعمة من النعم، ولا تملك أن تفعل شيئًا لم يقدره الله لك أن تفعل، فكل ما أنت فيه إِنَّما هو نعيم من الله تبارك وتعالى، يعني: الإنسان كل ما يتمتع به في الدنيا من جاه، من مال، من سلطان، من .. من ...الخ فإنَّ هذا كله من فضل الله تبارك وتعالى عليك.
الفرق بين «التخويل» و«الهبة»:
«الهبة»: قد توهب للإنسان وقد تكون بين البشر، يعني: البشر كل منهم يهب الآخر، والله جل وعلا يهب الإنسان ما يهبه من نعم، والله جل وعلا قصر الهبة في القرآن الكريم على الولد، وذكرها في ملك سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) [سورة ص : ٣٥].
إذا «التخويل»: تخويل في كل النعم التي تتنعم بها، والهبة قد يهبك الله نعما زائدة على التخويل ، يعني : هما متداخلتان و مفترقتان. التخويل يتفضل الله عليك بالعطاء، الهبة يهبك الله الشيء دون مقابل منك، وكذلك التخويل دون مقابل، إلا أنك تأخذ بالأسباب في كلا الأمرين، يعني: أنت تأخذ بالأسباب في الهبة، وتأخذ بالأسباب في التخويل. هذه (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ)، يعني : يبين الله تبارك وتعالى أنَّ كلَّ النعم التي أنعم الله بها علينا في هذه الدنيا هو المُنعم، وليس هناك من مُنعم غير الله ، فهو الَّذِي خولكم هذه النعم، وها أنتم تركتموها وراءكم. هذه: ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْنَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ .
 هناك فرق دقيق يُعد كالشعرة، يعني: التخويل والهبة:
«التخويل»: عطاء عام في كل شيء ، الله خولك إيَّاه وملكك إيَّاه عَلَى سبيل التملك.
«الهبة»: أصلا ليست عَلَى سبيل التملك، وَإِنَّمَا هو يهبك الشَّيْء دون جهد منك، ودون مقابل منك، ما أنت إِلَّا آخذ بالأسباب.
فيكون التخويل في التملك، والهبة في غير تملك؛ ولذلك الهبة إذا وقعت بين البشر، فيجوز للواهب الرجوع في هبته الهبة يجوز له الرجوع فيها لأنها ليست على سبيل التملك، كذلك ما يهبك الله إياه وخاصة الولد، وهو الذي ورد في شأنه الهبة في القرآن، هل الولد أنت تتملكه؟ أو هو أصبح كالشَّيْء الملك لك؟ لا، هو ابنك نعم، لكن ليس على سبيل التملك، إِنَّمَا هو عَلَى سبيل الهبة، إِنَّمَا التخويل: نعم، فأنا قلت: الولد، الولد هبة، الهبة بين البشر عندما تهبين ابنتك مثلا كردانا من الذهب وتقولين: هذا هبة، أو هذا خولتك إياه، لو تخويل ليس لك أن ترجعي فيه، لو هبة لك الحق في الرجوع فيه.
(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْتَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) خل بالكم من التعبير الدقيق : (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) معناها: أنَّ الَّذِي خولناه لكم لو قيل لكم: خذوه معكم لن تأخذوه، يعني: لو عُرِض عَلَى إنسان أن يأخذ أمواله كلها معه وهو يحتضر، لو عُرض عليه لا يمكن أن يأخذها معه، كأنهم تركوها معرضين عنها بعد أن كنتم تتمسكوا بها؛ هذا معنى : (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) .
حضرت موقفا ذات مرة - وكنت صغيرًا صحيح - لكن حضرته: أحد الناس يحتضر وزوجه يرحمها الله هي الأخرى تحاول أن تعطيه السيجارة في فمه ليشربها وهو يصرخ بأعلى صوته ويقول لها : ابعدي أنتِ وَهذه السيجارة، فهي متعجبة كيف هو كان يحب هذا ؟! يعني هي تقول: هو كان يحب هذا والآن لماذا يقول هذا؟! يعني أنا أوضح لكم فَقَطْ : ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْتَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ خلاص الإنسان في هذا الوقت يُعرض عن كل شيء في الدنيا؛ ولذلك من وفقه الله هو الذي يتذكر في هذا الوقت أن يوصي بتسديد الديون، ويوصي برد المظالم، ويوصي .. ويوصي، حَتَّى يُنقح نفسه قدر الإمكان والطاقة.
فهؤلاء الله تبارك وتعالى بيّن انظر : (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء) أين هم الآن؟ والزعم لا يُستعمل إلا في القول الباطل؛ إِمَّا عن تعمدٍ للباطل، وَإِمَّا عن سوء اعتقاد بالنسبة للإنسان في زعمه، يعني: الزعم إما أن يكون عن تعمد للباطل، يزعم شيئًا وهو متعمد أنه باطل، أو يزعم شيئًا بسبب سوء اعتقاده، يعني هنا سوء اعتقاد وهو : ﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ ﴾  كنتم تزعمون (أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)
« لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ »، هنا قراءتان: - (لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالنصب، فتكون «بَيْنَ» الظرفية، وهي كلمة «بين» المسافة التي تكون بين الإنسان وبين شيء آخر، هذا يُسمى: «ظرف مكان»، فقد تقطع هذا البين بينكم.
وفي قراء الرفع : ﴿لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) البين هنا أصبح اسما، يعني: كلمة (بَيْنُكُمْ) عَلَى قراءة الرفع أصبحت (بَيْنُكُمْ) اسما بعد أن كانت ظرفية، أي (بين) أصبحت الآن اسما يعني علمًا، أصبح (البين) علما ووقع فاعلا  لـ (تَقَطَّع) (لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) ؛ يعني: أصبح علمًا وتقطع هذا العلم، إِنَّمَا (بَيْنَكُمْ» الظرفية البينية التي بين الإنسان وبين أي شيء.
طيب، أين فاعل: (تَقَطَّعَ) عَلَى قراءة النصب في (بَيْنَكُمْ)؟ الفاعل غير موجود، لكنه يفهم من البينية اللي هي وقعت ظرفًا: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) ، هَذَا معنى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) .
(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن تَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) : بل أنكرتم الرفع، معناها بالرفع إنَّ «بين» هي الفاعل، كأنَّ البين أصبح اسما، أصبح علما، هذا العلم نظرًا لزعمكم، يعني: البين الذي بيني وبينك، البين هذا هو الظرف أو المكان اللي بيني وبينك جعله الله علما وأصبح فاعلا ، وطالما علماً وأصبح فاعلا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا العلم تقطع، هذا الاسم تقطع، يعني: كلمة «بينكُمْ» أصبحت بالضبط كأنها مثلا: لقد تقطع بيتكم مثلا، لقد تقطع فلان ، لو افترضنا أنه فلان، ففلان هذا تقطع، هذا بنقل الظرفية إلى الاسم المحسوس، لكي يتناسب مع التقطع، ما أخذتم بالكم ! الآن لو أنا قلت : لقد تقطع ما بيني وبين فلان، البينية هنا ظرف، هل البينية التي بيني وبينك والتي تقطعت؟ هو الظرف يتقطع ؟ سيتقطع كيف؟ فنقل الله الظرف إِلَى شيء محسوس ووقع فاعلا، يعني عَلَى قراءة الرفع (بَيْنُكُمْ) فاعل، وطالما أنه فاعل يعني أصبح اسما وأصبح علمًا، فهو الذي تقطع، فقراءة الرفع نقلت الظرف المعنوي إلى المحسوس، وهو البين.
يعني: كان في الظرف بينية، البينية التي بينهم وبين شركائهم على قراءة الرفع أصبح البين اسما وَهُذَا الاسم تقطع.
وَقَالَ الله في سورة الكهف: (بَلْ زَعَمْتُمْ) أَيْضًا زعم قول باطل، وَهذَا أَيْضًا زعما اعتقاد (أَلَّن نَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) [سورة الكهف : ٤٨] يُقال لهم في هذا الوقت وهم يرون الموعد أمام أعينهم : أنتم كنتم في الدنيا تزعمون أننا لن نجعل لكم موعدا.
 «بَيْنَ» ظرف مكان، عندما أقول - لكن ركزوا قليلا- بيني وبين فلان علاقة، ما البينية لهذه؟ البينية هذه هي ظرف المكان أو الجزء من المكان الذي بيني وبين فلان، توجد فيه علاقة في النصف، إذا الظرف ظرف مكان، الله تبارك وتعالى نقل ظرف المكان من المعنوي إلى المحسوس لندركه ونفهمه، وهذا هو الأهم، كما قَالَ الله تَعَالَى: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا).

ونتوقف هاهنا الليلة، ونسأل الله الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمُ الإخلاص في القول والفعل والعمل، وأن يجعلني الله وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته، وأسأله أن يبارك في أولادنا، وأن يهديهم طريقه المستقيم، وأن يجعلهم جميعا أثرًا صالحًا لنا، وأن يغفر الله لوالدينا وأن يرحمهم، وأن يجعلنا أثرًا صالحًا لهم، وأن يجعلنا الولد الصالح الذي يدعو لهم، اللهم آمين، اللهم آمين، وأن يغفر الله لمشايخنا ولعلمائنا ولأساتذتنا، ولكل من له فضل علينا، اللهم آمين.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِيْنَ وَالحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ
اقرأ المزيد...

السبت، 27 سبتمبر 2025

| الدرس التاسع والأربعون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٩) (وإذ نجيناكم من آل فرعون…)

#قصة

وليد يكره المقص#مسلسل #علماء في مواجهة السلاطين
الإمام النووي في مواجهة الظاهر بيبرس#مسلسل #علماء في مواجهة السلاطين
ابن تيمية في مواجهة غازان ملك التتار

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
ن/  "قوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم* وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون* وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون* ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون* وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون* وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم* وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون* ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون* وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال:(وإذ نجيناكم من آل فرعون)  أي من فرعون وملئه وجنوده، وكانوا قبل ذلك يسومونكم أن يولونهم ويستعملونهم سوء العذاب أي أشده بأن كانوا يُذبحون أبناءكم خشية نموكم، (ويستحيون نساءكم) أي فلا يقتلونهن، فأنتم بين قتيل ومُذلل بالأعمال الشاقة، مستحي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه، فهذا غاية الإهانة، فمنّ الله تعالى عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم، وهم ينظرون لتقرّ أعينهم، (وفي ذلكم) أي الإنجاء (بلاء) أي إحسان (من ربكم عظيم) فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره، ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة ليُنزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة، والمصالح العميمة، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبد العجل (من بعده) أي ذهابه، (وأنتم ظالمون) أي عالمون بظلمكم قد قامت عليكم الحجة فهو أعظم جرما وأكبر إثما، ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى عليه السلام بأن يقتل بعضكم بعضا، فعفى الله تعالى عنكم بسبب ذلك لعلكم تشكرون الله."

ت/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله، ولا تكننا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل أما بعد: لا يزال السياق في هذه الآيات القرآنية في ما وصى به سبحانه وتعالى بني إسرائيل، وفي ثنايا هذه الوصايا يذكرهم الله سبحانه وتعالى بنِعمه العظيمة والمتعدده عليهم، قد مر معنا قول الله سبحانه وتعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) 
والمقصود بنعمته أي نعمي لأن المفرد إذا أضيف يفيد العموم فأجمل النعم هناك في قوله (نعمتي) وبدءا من هذه الآية ذكرٌ للتفصيل، تفصيل النِعم، تفصيل ما أُجمل في قوله (نعمتي التي أنعمت عليكم) بدءا من هنا قوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون) ولهذا سيأتي معنا في آيات كثيرة يُذكرهم بنِعم أنعم بها عليهم (وإذ نجيناكم من آل فرعون)، (وإذ فرقنا بكم البحر)، (وإذ واعدنا موسى)، (وإذ آتينا موسى)، (وإذ قال موسى)، هذا كله عدّ وتفصيل لما أُجمِل في قوله سبحانه وتعالى (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) أي نعمي. والتذكير هنا لهم بالنعمة مثل قوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون) - والخطاب لليهود في زمن النبي عليه الصلاة والسلام- هو تذكير لهم بنِعمه على أسلافهم -آبائهم وأوليهم - بأن خلّصهم ونجاهم من سوم فرعون لهم سوء العذاب.
قال جل وعلا (وإذ نجيناكم) هذا معطوف على ما قبله، وعرفنا أن (إذ) إعرابها - وهي تأتي كثيرا في القصص القرآني- 
إعرابها أنها اسم في محل نصب بفعل محذوف مُقدر تقديره واذكروا
واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون أي قومه..
(يسومونكم سوء العذاب)  يذيقونكم أشد العذاب
سوء العذاب: أي أشده. وأصل السوم في  اللغة: الدوام
 وهذا فيه إشارة إلى أنه عذاب دائم مستمر كانوا يؤذونهم الأذى المستمر، وهذا كله حديث عما حصل من قوم فرعون مع آبائهم وأسلافهم، (يسومونكم سوء العذاب) من ذلك قال: (يُذبِّحون أبناءكم) ولم يقل يَذبَحون، أتى بهذه الصيغة التي تفيد التكثير الكثرة، يعني يذبحون أبنائكم بكثرة، (ويستحيون نساءكم) المقصود بالنساء هنا البنات، والذبح والاستحياء هذا كله يتعلق بالمواليد - مواليد بني اسرائيل- قيل إن فرعون رأى رؤيا مضمونها أن زوال ملكه على يد رجل من بني إسرائيل، وقيل إن بعض الكهنة قال له ذلك، فعلى إثر ذلك صار يُعمِل التقتيل في أبناء بني إسرائيل حتى لا يبقى هذا الذي رأى في الرؤيا، أو قيل إن زوال ملكه على يديه حتى لا يبقى، فكان يتتبع أعوانه بيوت بني اسرائيل بيتا بيتا كلما ولدت امرأة إن كان أنثى استحيوه أي أبقوه حيا للخدمة، وإن كان ذكرا ذبحوه على الفور، ذبحوه في الحال - حال ولادته - ما يبقى في الدنيا إلا لحظات يسيرة، يتتبعون الحُمَّل - النساء الحوامل - كلما دنت ولادة واحدة منهن أتوا إلى بيتها عندما تضع ونظروا في هذا المولود إن كان أنثى استحيوه أي  استبقوه حيا من أجل استعمالها في الخدمة، وإن كان ذكرا ذبحوه. وعُد هذا الصنيع في تصديق فرعون للكاهن، عُدّ في حماقاته لأنه كما قيل إن كان الكاهن صادقا في أنه سيزول ملكه على يد رجل من بني إسرائيل فما ينفع القتل، وإن كان كاذبا فما معنى القتل؟ فهذا عُدّ من حماقاته، وهذا أيضا - إن صح - ففيه النعمة العظيمة على أمة الإسلام بتحذيرهم من تصديق كل من يدعي الغيب بأي طريقة سواء كان عرافا أو منجما أو رمّالا، أو أيا كانت طريقته، وهم كثير في كل زمان، قد قال عليه الصلاة والسلام (من أتى كاهنا أو عرّافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) أن مما أُنزل عليه الصلاة والسلام أن الغيب لله (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون).
 قال (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) (يستحيون نساءكم) أي: يستبقون بناتكم للخدمة والامتهان، ومعنى يستحيون: أن يبقونهن حيات لا يقتلونهن.
(وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) الإشارة هنا في قوله (ذا) إلى ماذا؟ قوله (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) هل المراد بالبلاء هنا النعمة أو المراد النقمة؟
●هل
المراد وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، أي وفي ذلك إنعام عليكم من ربكم عظيم فتكون الإشارة عائدة إلى الإنجاء (نجيناكم)
●أو تكون البلاء لأن البلاء يطلق ويراد به الشر ويراد به الخير
فإن أريد النعمة فالمراد النجاة والتنجية، وإن أريد النقمة والشر الذي حصل لهم فالإشارة في قوله (وفي ذلكم) أي إلى سوم فرعون لهم سوء العذاب يذبح أبناءهم، ويستحي نسائهم
ولهذا في قوله (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) قولان لأهل العلم من أئمة التفسير:
/ منهم من أعاد أعاده على النجاة فكان المراد بالبلاء النعمة.
/ ومنهم من أعادوه على سوم فرعون لهم سوء العذاب. فيُراد بالبلاء النقمة والأذى والشر الذي حصل لهم.
(وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)
على الأول يكون المعنى: وفي ذلك إنعام من ربكم عظيم، أنعم الله به عليكم.
وعلى المعنى الثاني: وفي ذلكم ابتلاء من ربكم عظيم لكم كما قال عز وجل (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)
 إذن قوله (بلاء)
● قيل: النعمة
● وقيل: ما كانوا فيه من العذاب. والثاني هو قول جمهور المفسرين.
قال (وإذ فرقنا بكم البحر)
 الفرق: الفصل.
(بكم) الباء إما أن تكون سببية أو بمعنى اللام
 وحروف الجر أحيانا يأتي تناوبها:
/ فإما أن تكون سببية (فرقنا بكم البحر) (بكم) أي بسببكم
 / أو (بكم) بمعنى اللام أي: لأجلكم، ولأجل تخليصكم من هذا الطاغية وأعوانه (وإذ فرقنا بكم البحر) هذا يفسره قول الله سبحانه وتعالى في سورة الشعراء (فأوحينا إلى موسى أن ضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)، كل فرق من الماء - قسم من الماء - لأن هنا قال (فرقنا) هناك قال (كل فرق) يعني كل قسم فرقه الله من الماء كالطود العظيم أي كالجبل الكبير، وهذه آية سبحان الله رأوها بأعينهم وشاهدوها، وصار الماء السيال واقف مثل وقوف الجبال كطود يعني الجبل، فأصبح الماء - ماء البحر- أقسام كل قسم منها مثل الجبل، وبين هذه الجبال الواقفة من الماء صارت الأرض يبسا ليست وحل، لأنك إن نزحت الماء من مكان استمر فيه الماء مدة طويلة يصبح ما يستطيع أحد يمشي فيه من الوحل الذي فيه الطين، فصار في نفس اللحظة - وقت الضرب- وقت لحظة ضرب موسى بعصاه البحر وقف الماء مباشرة وقوف الجبال وأصبح بين الجبال طرقا يابسة، وهذي آية رأوها، آية عظيمة - سبحان الله - من الآيات وهي في الوقت نفسه نعمة من نعم الله على بني إسرائيل.
قال (وإذ فرقنا بكم البحر)
(بكم البحر) الآية المشار إليها قبلها قال سبحانه (ولما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون* قال كلا إن معي ربي سيهدين (لأنهم يقولون العدو وصل والبحر أمامنا أين المفر؟ أين النجاة؟ (قال كلا إن معي ربي سيهدين) ثقة عظيمة بالله سبحانه وتعالى ووعده بنصر المؤمنين، قال (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم).
قال (وإذ فرقنا بكم البحر)
 (وإذ) يعني: واذكروا إذ، و(إذ) هنا ظرف بمعنى حين مثل السابقة، لأن (إذ) هذه تارة تأتي وتكون اسما، وتارة تكون حرفا بحسب موقعها في الجملة، يعني مثلا في حديث جبريل (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا) (إذ) هذه حرف، يسمى حرف الفجاءة، هذا حرف، وأما (إذ) هنا فهي اسم، وهي بمعنى حين.
قوله (وإذ) يعني: واذكروا حين، (وإذ فرقنا بكم) واذكروا حين فرقنا بكم البحر.
(فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون) هذه نعمة عظيمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها على بني اسرائيل، قد ثبت في الصحيح أن موسى وقومه صاموا ذلك اليوم شكرا، وكانوا يصومون ذلك اليوم، يوم الإنجاء لهم والإغراق لآل فرعون، هذه الآية العظيمة كان اليوم العاشر من محرم، فكان موسى وقومه يصومونه شكرا لله، ولما جاء عليه الصلاة والسلام المدينة وجدهم يصومونه وسأل عن سبب صيامه؟ فقالوا هو يوم أنجى الله موسى ومن معه وأغرق فرعون معه، قال: نحن أحق بموسى منهم فصامه عليه الصلاة والسلام، ثم قال بعد ذلك (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) العاشر شكر، والتاسع مخالفة لليهود، العاشر شكر على هذه النعمة نعمة إغراق فرعون وقومه، قال (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون) فرعون وقومه وعتاد فرعون، وكان مدة طويلة من الزمان يسومهم سوء العذاب، ولما فلق الله سبحانه وتعالى البحر وصار كما تقدم مثل الجبال والطريق يابسة مشى موسى عليه السلام وقومه مع هذا اليبس إلى أن خرجوا من الجهة الأخرى سالمين، فأتبعهم فرعون بجنوده، فلما تكامل موسى وقومه خروجا، وتكامل فرعون وقومه دخولا أمر الله جل وعلا البحر أن يعود كما كان، فهذا الطاغية والجنود والعتاد و... الخ، هلكوا هَلَكَ نفس واحدة، وحينها قال فرعون (آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) قال (آلآن وقد عصيت) يعني ما ينفع إيمان المشاهدة، النافع إنما هو إيمان الغيب (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) هذا ما ينفع، هذا يسمى توبة المشاهدة.
 (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) وهذا أبلغ في ماذا؟ (أغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون) تنظرون هذا العدو وجنوده، والأذى العظيم الذي حصل لكم منه، تنظرون بأعينكم وهو يغرق أمامكم، ترونه.. تشاهدون، فهذا أشفى لصدورهم وأبلغ في إهانة هذا العدو، يغرق ومن سامهم سوء العذاب ينظرون إليه، يشاهدونه وهو في الغرق، هذا أبلغ في شفاء صدورهم، وأبلغ في إهانة هذا العدو وجنوده.
 قال (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)  أي تمام أربعين ليلة، واعدنا موسى تمام أربعين ليلة، في قراءة (وعدنا موسى) هنا (واعدنا) من المواعدة، المواعدة هنا هي وعد من الله وقبول من موسى فجرى القبول مجرى الوعد قال (واعدنا)، والقراءة الثانية: (وعدنا موسى) من الوعد، (واعدنا) من المواعدة.
 قال (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون)
هذه عجيبة، واعد الله موسى أربعين ليلة وفي فترة ذهاب موسى اتخذوا العجل وعبدوه من دون الله وهم قبلها بفترة يسيرة قليلة شاهدوا إنعام الله عليهم ومنته الكبرى عليهم في إنجائهم من ذاك العدو، بعدها بقليل، بعدها بوقت يسير عبدوا العجل مع أنه في طريقهم مباشرة بعد النجاة  شاهدوا قوما يعبدون أصناما لهم (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) هذه (جاوزنا ببني إسرائيل البحر) مباشرة لاحظ الفاء (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتو) الفاء هذه تفيد الفورية، يعني بعد النجاة بلحظات يسيرة مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم (قالوا يا موسى اجعل لنا إله) هذه عجيبة، (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون* إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون* قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين* وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يُقتّلون أبناءكم) فذكرهم بالنعمة التي حصلت للتو قريبا حصلت، لاحظ بعد هذا، بعد الطلب والتحذير ذهب موسى للموعد وفي هذه الفترة وكان وعظهم عن ذلك الأمر بعدها اتخذو عجلا عبدوه من دون الله. والله إنك تعجب لهذه العقول، وفي الوقت نفسه تحمد الله على منة التوحيد، التوحيد هذه منة ما ترجع إلى أذكياء، فيه أذكياء في العالم ما يعرفون التوحيد. وفيه أناس ضعفاء العقول، ضعفاء الذكاء من أحسن الناس توحيدا، التوحيد مِنة، التوحيد مِنة وفضل من الله.
فاتخذوا عجلا، اتخذوا عجلا عبدوه من دون الله، وانظر ماذا قال إلياس لقومه قال (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين* الله ربكم ورب آبائكم الأولين).
 قال (وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) الواو هنا حالية (وأنتم ظالمون) أي والحال أنكم ظالمون لأنفسكم، نوع الظلم هنا؟  ظلم أكبر لأن عبادة عجل هذه كفر (وأنتم ظالمون).
 قال (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) كتب الله عز وجل لهم توبة ورجوعا عن هذا الأمر وتاب الله عليهم، وعفا عنهم من بعد ذلك، قال (لعلكم تشكرون) أي الله على ما مَنّ وتفضّل.
 قال (وإذ آتينا موسى الكتاب) وهذا كله بعد خروجهم من البحر - القصة السابقة (وإذ وعدنا) هذا بعد الخروج من البحر- (وإذ آتينا موسى الكتاب) هذا أيضا بعد الخروج من البحر.
(وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) الكتاب المراد به التوراة. والفرقان قيل فيه أقوال لكن أقربها أنها المراد بها التوراة، فذُكرت باسمها، وذُكرت بصفتها وما اشتملت عليه أنها فرقان بين الحق والباطل.
 (وإذا أتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) قال الشيخ رحمه الله: "هذا شروع في تعداد نِعمه سبحانه وتعالى على بني إسرائيل على وجه التفصيل" هذا التفصيل أتى بعد إجمال في قوله (نعمتي) (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) هناك أجمل، وهنا شروع في تفصيل ذاك الإجمال. قال: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) أي من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ذلك - قبل إنجاء الله لكم- كانوا يسومونكم سوء العذاب، يولونهم ويستعملونهم، ويديمون تعذيبهم وأذاهم، (سوء العذاب) أي أشده بأن كانوا يذبحون أبناءكم خشية نموكم، (ويستحيون نساءكم) أي فلا يقتلونهن، الإناث البنات لا يقتلونهن، فأنتم بين قتيل هذا في الذكور، ومذلل بالأعمال الشاقة، هذا في الإناث، مستحيا على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه، فهذا غاية الإهانة، فمنّ الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم، وهذا مثل ما تقدم أشفى لصدورهم وأنكى في هلاك عدوهم، (وفي ذلكم) الإنجاء (بلاء) أي إحسان، هذا قول في معنى الآية، وفي ذلكم الإنجاء (بلاء) أي إحسان (من ربكم عظيم) فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره. ويجعل هذا القول أقرب دلالة السياق، لأن السياق عدّ نِعم، تفصيل نِعم (وإذ نجيناكم) بهذا صُدرت الآية، وعرفنا أن من أهل العلم من أعاده على قوله (يسمونكم) أي ما كانوا فيه من العذاب المهين.
 ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة ليُنزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد، حتى عبدوا العجل (من بعده) أي من بعد موسى للموعد الذي واعده ربه، (من بعده) أي ذهابه، (وأنتم ظالمون) (ظالمون) قال: "عالمون بظلمكم قد قامت عليكم الحجة" "قد قامت عليكم الحجة" من قيامها القصة التي أشرت إليها في سورة الأعراف لما طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها كما لأولئك آلهة، فبين لهم وأقام عليهم الحجة، وبيّن أن هذا كفر بالله وهدم للتوحيد، وذكر لهم البراهين فأقام عليهم الحجة، بعد هذا بقليل اتخذوا العجل، قال: "(وأنتم ظالمون) عالمون بظلمكم قد قامت عليكم الحجة، فهو أعظم جرما وأكبر إثما" قال: "ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا الله عنكم بسبب ذلك لعلكم تشكرون. قال: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون)
قال (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) (وإذ آتينا) هذه أيضا من جملة النِعم والمِنن (وإذا أتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) ثم استمر السياق في ذكر النعم، نِعم الله على هؤلاء على بني إسرائيل.
 ونسأل الله الكريم أن ينفعنا أجمعين بما علمنا، وأن يزيدنا علما وتوفيقا، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن يهدينا إليه صراطا مستقيما ... سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا.
اقرأ المزيد...

السبت، 20 سبتمبر 2025

تدبر سورة الكهف (٢٦)/ د. محمود شمس

 


بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ: فإني أحييكم بتحية الإسلام : السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف».
توقفت في اللقاء السابق عند قول الله : (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِياتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا )، ونبدأ اليوم من قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا ).
 قوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) معطوفةٌ عَلَى جملة: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا)، بعد أن بين الله لهم أنَّ ما بين أيديكم من نعم في تلك الدنيا هو زائل، والغرض من ذلك: هو الموعظة، أن يتعظوا ويعلموا أنَّ ما فيه أيديهم زائل، وأن المال وأنَّ البنين ما هو إلا زينة للحياة الدنيا ، فعليكم بالباقيات الصَّالِحَات لأنها هي التي ستنفعكم يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة.
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ) تسيير الجبال نقلها من مواضع إِلَى مواضع أخرى بزلزال يأتي لهذه الأرض ولهذه الجبال، الجبال هم كانوا يرون أنها أعظم المخلوقات ولذلك كانوا يسألون سؤال استهزاء وسخرية، إذا كانت الساعة ستقوم وهذه الجبال فأين تذهب؟ وأين ستكون هذه الجبال؟ ولذلك الله ذكر في الجبال بالذات أمورًا متعددة ومتنوعة ستحدث للجبال في الآخرة، هذه الجبال التي يرونها أنها أعظم مخلوق في الأرض، الله بيّن مراحل إنهاء هذه الجبال ومراحل هلاك هذه الجبال، ولذلك نجد رب العزة قبل التسيير تحدث أولا في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا )  ما معنى (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا )؟ 
أي أن الله عندما تأتي الرجفة القوية للأرض الجبال تتحول إلى كثيب مهيل، «الكثيب»: هو الرمل المجتمع كالربوة المرتفعة. -تعرفون من يبني عمارة يأتي برمل ويضعه أمام المباني وَهُذَا الرمل يكون مرتفعا كالربوة - يعني كالجبل في هيأته، لكن الجبل صخر فيتحول الصخر إلى كثيب مهيل، يعني يتحول إلى رمل أولا، فالله يبين ها هنا نوعا من أنواع هلاك الجبال، أنها بدايةً تتحول إلى رمل وهو الكثيب، والمهيل:
● من هال إذا نثره وصبه في مكان، يعني الرمل قد يُمسكه الإنسان وينثره أو يصبه في مكان آخر
● أو من هال إذا وضع رجله أو قدمه عَلَى هذا الرمل فقدمه تغوص في هذا الرمل، إذا هذِهِ (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مهيلًا) .
ولذلك نلاحظ أمرًا: أنَّ الله أخبر عن رجف الجبال بقوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ والجبال ، وعندما أراد أن يتحدث عن كون الجبال كثيبًا مهيلا لم يذكر أن الجبال تصير كثيبًا مهيلا بأسلوب الجملة الفعلية كما قَالَ فِي (تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) إِنَّمَا أتى بـ«كان» التي تفيد إِلَى التَّحَوُّل، تتحول الجبال إِلَى كثيب مهيل، لماذا؟ لأن تحول الجبال إلى كثيب مهيل أمر مستغرب، وأمر يتعجب له، وأمر عجيب. يعني الرجفة تحدث للأرض والجبال نعم، لكن الجبال تتحول إلى كثيب مهيل، فهذا أمر عجيب.
وخل بالكم؛ لو نظرنا إلى الآيات التي ذكرت هلاك الجبال سنجدها تتحدث عن هلاك الجبال في محورين اثنين:
هذا هو المحور الأول: أنَّ الجبال تتحول إلى كتب مهيل، وبعد أن تتحول إلى كثيب مهيل، الجبال كما ذكر الله تبارك وتعالى (يَنسِفُهَا رَبِّي نَسَفًا ﴾ ، فالكثيب المهيل يعني: تحويل الجبال إلى رمل مجتمع يتناسب مع النسف، ولذلك في قوله: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ) تسيير الجبال هنا لم يذكره الله إلى أين؛ لأنَّ التسيير انتقال من مكان إلى مكان، فَإِلَى أين ستسير الجبال؟ ستسير إلى هلاك، بدليل  ﴿وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا﴾ إذا لكي تُنسف الله جل وعلا قادر على كل شيء أولا ، لكنه يخاطبنا بما نفهم : أنَّ الجبال تتحول إلى كثيب مهيل حَتَّى لا تقول: كيف تنسف الجبال دفعة واحدة هكذا؟! لا، هي تتحول إلى رمل مجتمع ، ثُمَّ بعد ذلك تُنسف الجبال كما قَالَ الله في سورة طه : ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسَفًا ﴾ أولا : نوع سؤالهم هنا أنه سؤال استهزاء وسؤال تعنت وسؤال سخرية، وليس سؤال استهداء، يعني ما يريدون أن يهتدوا ماذا سيصنع الله بالجبال يوم القيامة، يعني ما يريدون أن يعرفوا معلومة، لا ، هم يريدون أن يستهزئوا ويسخروا.
لو نظرنا إلى هذا السؤال لوجدناه هو السؤال الوحيد الذي اقترنت الإجابة فيه في قوله: «قُلْ» بالفاء، فَقَالَ الله : ﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا ﴾ فهنا السؤال في هذا الموضع مع أنَّ السؤال ورد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة: (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ ، ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجَّ) ، فلماذا اقترن بالفاء؟ الله العليم بما يخفونه في أنفسهم، يعلم أنهم سيسألون هذا السؤال، فأجاب النبي قبل أن يسألوه، يعني: الله أخبر النبي الله بهذه الآيات قبل أن يسألوه وبعد ذلك سألوه، فكان السؤال هنا عَلَى سبيل الشَّرْط المُقدَّر، إن سألوك عن الجبال (فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا) ، والله يعلم أنهم سيسألون، وهم سألوا، كما قال في سورة البقرة في شأن تحويل القبلة: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) يعني: القرآن أخبر النبي ﷺ بما سيقوله هؤلاء السفهاء وَالنَّبِيُّ قرأ الآيات عَلَى الصَّحَابَة، وبالتأكيد هذه الآيات علموا بها، فلو كان عندهم أدنى عقل وفهم ما كانوا يقولون هذا القول، يعني: إذا أرادوا أن يكذبوا القرآن وأنه ليس بوحي من عند الله ما كانوا يقولون: (مَا وَلَاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) إِنَّمَا رَبُّ العِباد قَالَ لنبيه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ وقالوا، وهنا أَيْضًا قَالَ الله : إن سألوك عن الجبال (فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا)، إذا الإجابة هنا اقترنت بالفاء لماذا، وهو السؤال الوحيد الذي اقترنت الإجابة فيه بالفاء.
 هناك سؤالان في الأسئلة كل منهما كان الجواب فيهما عجيبا.
● سؤال لم يذكر الله فيه «قُل»، يعني: كل الإجابات فيها: «قل»، ما عدا سؤال لم يذكر الله فيه «قُل»، وَإِنَّمَا أجاب مباشرة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [سورة البقرة : ١٨٦]، إشارةً إِلَى قُرب الله من السائل ومن الداعي، وإشارةً إِلَى أَنَّ الله ﷺ لا يحتاج إلى واسطة في كونك ترفع أكف الضراعة إليه في أي وقت وتناجيه
● وهنا كانت الإجابة مقترنة بالفاء الوحيدة، لماذا؟ لأن السؤال لم يكن قد وقع ومع ذلك وقع، فالله أجاب النَّبِيَّ ﷺ وهو العليم الخبير، أجابه قبل أن يسألوا.
الفاء في: (فَإِنِّي قَرِيبٌ)  لأنَّ الشَّرط هناك مذكور، سؤالهم لم يكن قد وقع أيضًا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي) يعني: الشرط هنا مذكور، فقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ الفاء واقعة في جواب الشرط.
لكن هنا في (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ) لم يذكر الله أداة الشَّرْط، إِنَّمَا الفاء تدلُّ عَلَى أداة الشَّرْط المحذوفة (وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) ، و (نَسَفًا) جاءت لتؤكد ينسفها  أي: أنه نسف كما تنسفون الشَّيْء؛ لأنَّ النسف تفريق وإذراء، إذراء في الهواء، يعني الإنسان يمسك ببعض من الغبار أو من التراب، ويفرّقه في الهواء ويذريه، فهو تفريق وإذراء، فالله يؤكد أنَّ الجبال ستنسف نسفًا، (نَسَفًا) يعني: بمفهوم التفريق والإذراء التي تعرفونها.
ثُمَّ يبين أن قضية نسف الجبال لها أثر ولها غاية، الأثر والغاية: أن الله يذرها - أي يذر الأرض - بعد نسف الجبال (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفَا) القاع هي الأرض السهلة، الأرض السهلة يعني : الأرض المذللة، الأرض التي تستطيع أن تسير عليها بقدميك دون عناء.
و«الصَّفْصَف»: الأرض المستوية التي لا نتوء فيها، النتوء تعرفون في العصر الحاضر مثلا لو أنَّ البعض أراد إزالة جزء من جبل بالآلات، يأتون بآلات ويحطمون الصخر ويحملونه خارج المكان، لكنك تجد نتوءات في الأرض، تعرفون النتوءات؟ قطع صغيرة هكذا تكون مرتفعة في الأرض، فتجعل الأرض فيها منخفضات، وفيها بروزات صغيرة، وفيها يعني هذه هي طبيعة للحال، رب العباد يقول: لا، في الآخرة الله ينسف الجبال (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) أرضًا مستوية لا نتوءات فيها، أرضًا مستوية لا نتوء فيها.
ثم بعد ذلك يقول : (لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْنًا) كلمة «عوج» لها دلالتان في المعنى عندنا:
● عوجٌ حسي،
●وعوج معنوي.
العوج الحسي: يكون في الأشياء المحسوسة، الشارع يكون فيه عوج، العمارة يكون فيها عوج، العصا يكون فيها عوج، يعني: العوج الحسي في الأشياء الحسية التي نراها أو نحسها محسوسة في الشيء.
والعوج المعنوي: في الكلام، مثلا : الكلام والحوار يكون فيه عوج.
أهل اللغة إلى الآن لم يستطيعوا أن يحددوا الفرق بين العوج الحسي والعوج المعنوي، البعض يقول : إنَّ للكلمة استعمالين: عِوج، وعَوج ، يعني : عَوج -بفتح العين- وعِوج -بكسر العين- لكنهم من يفرّق بين المعنيين يقول بعضهم: العِوج بالكسر هو في الحسي، وبالفتح يكون في المعنوي، وفريق آخر يقول: لا، بالفتح هو الحسي، وبالكسر هو المعنوي.
الله تبارك وتعالى أعرض عن هذه الاختلافات، ولم يُنزل قراءتين في كلمة عوجاً ؛ لأنَّ عندنا في القرآن فيه عوج معنوي، كما قَالَ الله عن القرآن الكريم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، فالله جل وعلا أبقى الكلمة على استعمالها بالكسر، لكنه دلَّل عَلَى العِوَج الحسي بحرف الجر الذي يتعدى الفعل الذي قبل العوج إِلَى العِوَج، فجعل «في» التي تفيد الظرفية في العوج الحسي: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا) ولذلك العوج الَّذِي معنا اليوم هو من العوج الحسي، بدليل : فيها لأنَّ (فِي) حرف الظرفية علاقته بالأجسام وبالذوات وبالأشياء المحسوسة، وجعل العوج المعنوي يتعدى الفعل له باللام؛ ولذلك قَالَ: (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا) .
إذا هناك فرق بين العوج الحسي والعوج المعنوي، لم يعطنا الله الدلالتين من القراءات هذه المرة، إِنَّمَا أعطانا من خلال حرف الجر الذي يتعدَّى إِلَى العِوَج، فإذا كان حرف الجر «في»؛ يكون العوج حسيًا، إذا كان اللام يكون العوج معنويا، ولذلك (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ﴾ عِوَج معنوي، وهنا: (لَّا تَرَى فِيهَا عوجا) هُذَا عِوَج حسي.
وَهُذَا يؤكد أن القراءات وحي منزل من عند الله، ولم تتنزل لمجرد التنوع، ولا لمجرد أن تنوع الكلمة، لا ، تتنزل للدلالة على المعنى الَّذي أراده الله؛ ولذلك لم ينزل الله القراءتين هنا، يعني لم تُقرأ كلمة « عِوَج» بالفتح أبدا، لماذا؟ نظرًا لأنَّ أهل اللغة لم يستقروا على التفرقة بين العوج الحسي والمعنوي.
إِذَا (لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا) العوج ضد الاستقامة، طيب (الأمت)؟
الأمت هو: النتوء اليسير، النتوء اليسير جدا، النتوءات الصغيرة جدا، يعني: لا ترى في الأرض وهدة ولا نتوءة، الوهدة هي ماذا ؟ هي الانخفاض، الوهدة من الهدوء، فإذا كان هناك نتوءات فهناك انخفاضات بين النتوءة والنتوءة، هذه الانخفاضة تسمى: «وَهْدَة»، فقول الله تَعَالَى: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتَا) لأنَّ الأمت هو النتوء، والنتوء سبق أن قَالَ الله : (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) والصفصف معناها: أنَّ الأرض مستوية لا نتوءات فيها، فلماذا قَالَ : (وَلَا أَمْتَا)؟ لأنَّ الأمت هو النتوء الصغير، يعني ينفي الله أي نتوءات في الأرض لا صغيرة ولا كبيرة، النتوءات هذه يعني تأتي بمنخفضات بين النتوءة والنتوءة، الله قَالَ:(لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْنَا ﴾،
النسف هو تسيير، يعني: نسف الجبال تسيير، لكنه أفاد أن التسيير إلى الفناء، يعني: لن تُنقل الجبال من مكان إلى مكان، لا، إِنَّمَا تسيير إِلَى فَناءِ وَإِلَى هلاك، هُذَا معنى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) 
ذكر الله محورًا آخر لتسيير الجبال، المحور الآخر : أَنَّ الله تبارك وتعالى قَالَ: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) [سورة القارعة : ٥]، عهن منفوش، العهن هو الصوف، والصوف المنفوش كالجبل تراه منفوشا لكن لو وضعت فيه قدمك أو يدك تغوص إلى النهاية لا تجد شيئًا، طيب عندنا القطن يشبه الصوف في هذا الأمر، فلماذا لم يقل الله : وتكون الجبال كالقطن ؟ لماذا قَالَ : كَالْعِهْنِ) وهو الصوف؟ لأن الصوف فيه ألوان متعددة، والجبال كذلك ألوانها متعددة ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [سورة فاطر: ٢٧] ، إِنَّمَا القطن ليس إلا لون واحد وهو الأبيض، يعني: تأملوا الدقة في كلام الله : (وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) العهن - قلت - هو الصوف.
خل بالكم: هذه المرحلة أو هذا المحور يتناسب مع : ﴿إِذَا رُجَتِ الْأَرْضُ رَجًا * وَبُسَتِ الْجِبَالُ بَسَا فَكَانَتْ هَبَاءَ مُنْبَنَا ﴾ [سورة الواقعة : ٤-٦] . رأيتم، (وَبُسَتِ الْجِبَالُ بسا) البس يعني: التفتت، وهو تفرق الأجزاء المجموعة، أصبحت (هَبَاءَ) الهباء هو: ما نراه من شيء يُشبه الغبار عندما يطير في الهواء، أو يشبه شعاع الشمس إذا فتحنا الشباك. يعني أحيانًا عندما يفتح الشباك في الصباح يأتي الهباء هذا، فنجد هذا المحور يعني : ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾  ينتظم مع (فَكَانَتْ هَبَاءَ مُنْبَثا).
 إذا يبين الله هلاك الجبال من خلال محورين اثنين:
● محور أنها تبقى على هيئتها المعروفة فتتحول إلى كثيب مهيل، ثُمَّ تُنسف وهذا تسيير. وَذكره بأسلوب آخر: أنَّ الجبال تكون كالعهن والعهن يتناسب مع (هَبَاء مُنْبَثا) ، وهو تسيير أَيْضًا كما قَالَ الله في سورة النبأ: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ﴾ ماذا ؟ (سَرَابا)،  (سَرَابًا) يعني: كالسراب، السراب نراه من بعيد نظنه ماءً، فإذا وصلناه لا نجد ماء، هذا هو السراب.
يعني نجد التناسب بين كل المراحل إِمَّا مرحلة الكثيب المهيل تتناسب مع النسف، يعني: مرحلة العهن المنفوش لا تتناسب مع النسف، النسف يريد إذراء في الهواء، إِنَّما مرحلة العهن المنفوش تتناسب مع الهباء المنبث، وتتناسب مع (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)، هذا معنى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) .
(وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) هذا أثر لتسيير الجبال، لكن جعله الله جملة مستقلة، وَالَّذِي جعلنا نقول: إنه جملة مستقلة وجود الواو، الواو في قوله: (وَتَرَى الْأَرْضَ) الأرض أصبحت بَارِزَةً  لأنه لا يوجد شيء يغطيها، كانت مُغطاة بالجبال، ومُغطاة بالمباني، ومغطاة بأمور كثيرة، فأصبحت الآن الأرض الساهرة كما قَالَ اللهُ: (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) ، أرضُ حَتَّى إِنَّ الأرض أخرجت ما في جوفها كما ليس الَّذِي عَلَى ظهرها فَقَط، ألم يقل الله: ﴿وَإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾ ومن أثقال الأرض: المدفونون في باطن الأرض، في جوف الأرض، وفي جوف الأرض كنوز وأموال وذهب ... إلى آخره، الأرض (أَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) فأصبحت الأرض الآن بارزة؛ هذا معنى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ لأنه لا يوجد عليها ما يغطيها، وأنا قلت: إنَّ الواو تجعل (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) امتنان آخر ودلالة أخرى على قدرة الله ؛ لأنَّ الواو إذا تكررت بين الجملتين فتعني أنَّ الجملة الأولى غير الجملة الثانية، وإذا لم توجد الواو تكون الجملة الثانية خبر للجملة الأولى.
يعني : ويوم نسيّر الأرض ترى الأرض بارزة ، كان معنى ذلك أَنَّ (تَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) نتيجة مباشرة لتسيير الجبال، الواو أتت لتدل عَلَى أَنَّ تسيير الجبال دلالة عَلَى قدرة الله، ورؤية الأرض بارزة بعد ذلك دلالة أخرى عَلَى قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا الواو وجودها له دور كبير.
ولذلك خل بالكم - الواو أحوالها مع الصفات المتعددة، الصفات المتعددة عندما تذكر لموصوف واحد، فإننا قد نأتي بالواو بين كل صفة وأخرى، للدلالة على أن كل صفة في هذا الموصوف هي موجودة فيه على سبيل الاستقلال. يعني: أقول مثلا: سين من الناس شاعر وكاتب وأديب ونحوي وفقية ومفسر؛ هذه كلها صفات متعددة في الموصوف الواحد، وأتيت بالواو لأدلَّل عَلَى أَنَّ كل صفة توجد على سبيل الاستقلال في هذا الموصوف، وجاءت في القرآن الكريم: هو (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الحديد: 3] كل صفةٍ عَلَى سبيل الاستقلال.
إِنَّمَا لو أردت أن أجعل الصفات المتعددة كلها كالصفة الواحدة في الموصوف لا آتي بالواو، يعني: أقول: سين من الناس شاعر كاتب صحفي قارئ مفسر نحوي فقيه، لا آتي بواو عاطفة؛ ولذلك في القرآن الكريم: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [سورة الحشر : ٢٣] فهذه كلها صفات لم تأت الواو بينها لأنها كالصفة الواحدة في الموصوف. أَيْضًا فِي (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنكُنَّ مُسْلِمَاتِ مُؤْمِنَاتِ قَانِتَاتِ) [سورة التحريم : ٥] لم تأت الواو إلَّا بين (ثيْبَاتِ وَأَبْكَارًا ﴾ أتعرفون لماذا؟
 لأن الصفتين لا تجتمع في موصوف واحد أبدًا، يعني: لا يوجد امرأة ثيب بكر، إِنَّمَا إِمَّا ثيب وَإِمَّا بكر، إِنَّمَا الصفات التي قبلها تجتمع في الموصوف الواحد: مسلمة مؤمنة قانتة تائبة عابدة سائحة، لكن نأتي عند (ثَيِّبَاتِ وَأَبْكَارًا) .
أَيْضًا في آية: (التَّابِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ) [سورة التوبة : ١١٢] ما أتت الواو في هذه الصفات، لماذا؟ لأنَّ هذه الصفات كالصفة الواحدة في الموصوف، لا بد أن تجتمع في الموصوف كلها. (الْأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ) لماذا جاءت الواو بين هاتين الصفتين (الْأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ) لماذا ؟
 لأن هاتين الصفتين لو لم تأت الواو لفهم البعض أن واحدة منهما تغني عن الأخرى، لكن خل بالكم لأن كل آية لها دلالة، يعني: الأمر بالمعروف، لو قَالَ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ لفهم البعض أن واحدة منهما تكفي، فأتى الله بالواو ليقول: لا، لا بد أن تقوم بكل صفةٍ عَلَى سبيل الاستقلال، لا بد أن تأمر بالمعروف في موضعه، وتنهى عن المنكر في موضعه، ولا يكفي أن تأمر بالمعروف فقط، أو أن تنهي عن المنكر فقط ، يعني : هنا أتى الله بالصفتين دلالة على ذلك : أنك لا ينبغي أن تفهم أن الأمر بالمعروف يكفي، أو النهي عن المنكر يكفي، لا، لا بد أن تأمر بالمعروف في موضعه إذا استدعى الأمر، أو تنهى عن المنكر في موضعه إذا استدعى الأمر.
أحيانا تأتي الواو - كما كتبت أختي الآن - في قوله تَعَالَى : (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّول) [سورة غافر : ٣] ، هذه أربع صفات، ذكر الله الواو بين صفتين اثنتين الأولى والثانية فقط، ولم يذكر الواو بين الثانية والثالثة، والثالثة والرابعة، لماذا؟ لأنَّ النَّاس تعُد مغفرة الذنب وقبول التوب صفة واحدة، الله يقول لك: لا، قبول التوبة ليس بالضرورة أن يغفر الله ذنوبك السابقة، فالمغفرة إحسان من الله، وقبول التوبة إحسان آخر من الله، هذه صفة وهذه صفة. ولذلك الله عندما يتحدث عن قبول التوبة في القرآن الكريم: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التوبة ﴾ ماذا؟ (عَنْ عِبَادِهِ) [سورة الشورى: ٢٥] ، يقبل التوبة عنهم وإلا يقبل التوبة منهم؟ إحنا فهمنا: يقبل التوبة منهم. التضمين -عند من يقول بالتضمين إحنا لا نقول بالتضمين- إِنَّمَا يقبل التوبة عنهم "عن" حرف يفيد التجاوز والمجاوزة، فمعنى التجاوز ماذا؟ أنه يقبل التوبة ويتجاوز عن سيئاتهم، يتجاوز عن سيئاتك السابقة، فقبول التوبة مسبوق بذنب، وأنت تبت إلى الله من هذا الذنب، طيب، إذا قبل الله التوبة مني فإنَّ الذنب السابق يؤرقني، الإنسان دائما ذنوبه تؤرقه، وعندما تؤرقه ذنوبه لا يستطيع الخضوع والانقياد الله في عبادته، والله يريد للعبد إصلاح باله، يعني تكفير السيئات إصلاح للبال، ألم يقل الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) [سورة محمد : ٢] ، ولذلك قبول التوبة في القرآن كله يكون بـ «عن»: (أَلَم يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ ، ﴿أُولَبِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
إِنَّما هناك قبول بـ «مِن»: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ ﴾ ، قبول «مٍن» ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ لأن المتقي ليس هناك ذنب يؤرقه حَتَّى يتقبل عنه، فَقَالَ الله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ، أما قبول التوبة فهو قبول بحرف التجاوز «عن»، الله تجاوز عن ماذا؟ تجاوز عن ذنوبك التي سبقت توبتك، فقبول التوبة إحسان من الله ، ومغفرة الذنب إحسان من الله لسوء أنت ارتكبته في حق نفسك، يعنى غفران الذنب إحسان من الله لسوء أنت فعلته، وقبول التوبة إحسان من الله مقابل إحسانك لنفسك؛ لأنك عندما تبت إلى الله فأنت أحسنت إلى نفسك .
إِذا (غَافِرِ الذَّنْبِ) الذنب سوء فعلته والله يغفره، فهو جل وعلا يُحسن إلي في سوء فعلته في نفسي، وقبول التوبة إحسان لنفسي أني تبت، والله يقبل التوبة إحسانًا منه يقابل إحساني لنفسي، واللهُ أَعْلَمُ.
ونتوقف هاهنا اليوم، وأسأل الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمْ الفهم والعمل بما نفهم، وأن يرزقني وَإِيَّاكُمُ الإخلاص في القول والفعل والعمل ...

دروس إيمانية وعملية من الآيات:
1. اليقين بزوال الدنيا مهما عظمت
الجبال التي هي أوتاد الأرض ستنسف وتزول، فكيف بما دونها من قصور وأموال ومناصب؟
⇒ تربية على عدم الاغترار بالدنيا.

2. تذكير بالقدرة المطلقة لله
تسيير الجبال ونسفها وتحويلها إلى سراب دليل أن الخلق كلهم بيده، لا يعجزه شيء.
⇒ يقوي التوكل واليقين.

3. مشهد البعث والنشور
الأرض تبقى بارزة لا تخفى منها خافية، ممهَّدة لوقوف الخلق للحساب.
⇒ استحضار أهوال يوم القيامة يبعث على الاستعداد.

4. إقامة الحجة على المعاندين
سؤال المشركين عن الجبال استهزاءً جاءه الجواب الرباني القاطع.
⇒ تربية على الثبات أمام الشبهات والسخرية.

5. تحذير من الغفلة والانشغال بالزائل
الدنيا بما فيها تفنى، فلا يبقى إلا العمل الصالح.
⇒ الحث على الزهد فيما يلهي، والإقبال على الباقيات الصالحات.

6. التأمل في الدقة البيانية للقرآن
التفريق بين العوج الكبير والأمت الصغير يعلم المؤمن أن الله لا يغفل عن أدق تفاصيل الحياة.
⇒ يورث مراقبة الله في الصغير والكبير.

7. الموازنة بين الخوف والرجاء
مشهد الهلاك والنسف يورث الخوف، وذكر مغفرة الذنب وقبول التوبة يفتح باب الرجاء.
⇒ يربي المؤمن على السير إلى الله بجناحي الخوف والرجاء.
اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 16 سبتمبر 2025

الدرس الثامن والأربعون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٧) (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي…)

 تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٧) (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي…) 


🎧 لسماع الدرس من موقع الشيخ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين* واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) 
ن/ "ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته وعظا لهم وتحذيرا وحثا، وخوّفهم بيوم القيامة الذي لا تجزي فيه أي لا تغني نفس ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين عن نفس ولو كانت من العشيرة الأقربين شيئا لا كبيرا ولا صغيرا، وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه، (ولا يقبل منها) أي النفس (شفاعة) لأحد بدون إذن الله تعالى ورضاه عن المشفوع له، ولا يرضى من العمل إلا ما أُريد به وجهه، وكان على السبيل والسنة.
(ولا يؤخذ منها عدل) أي فداء ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من عذاب الله ولا يقبل منهم ذلك، (ولا هم ينصرون) أي يدفعوا عنهم المكروه، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه، فقوله (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) هذا في تحصيل المنافع، (ولا هم ينصرون) هذا في دفع المضار، فهذا النفي للأمر المستقبل به النافع (ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) هذا نفي للنفع الذي يُطلب ممن يملِكه بعوض كالعدل، أو بغيره كالشفاعة فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع، وأن يعلقه بالله تعالى الذي يجلب المنافع ويدفع المضار فيعبده وحده لا شريك له، ويستعينه على عبادته"

ت/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: فلا نزال مع هذا السياق المشتمل على وصايا الله جل وعلا لبني اسرائيل، قد تقدم قول الله عز وجل (يا بني إسرائيل) ثم أعيد هذا النداء (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) والتكرار فيه التذكير والتأكيد، التذكير بالنعم الكثيرة التي أنعم الله بها عليهم، والتأكيد عليهم أن يعوا هذا الذي يذكرهم الله سبحانه وتعالى به، متذكرين فضل الله جل وعلا عليهم وإنعامَه عليهم بالنعم المتعددات، قال: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) (نعمتي) مفرد مضاف يراد به الجمع، فالمراد النِعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليهم ولهذا هنا أجمل قال (نعمتي) ذكر النعمة إجمالا وسيأتي التفصيل بدءا من قوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون) ولهذا سيأتي في آيات عديدة ذكر الله عز وجل لنعم يذكرهم الله سبحانه وتعالى بها بُدأت بقوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون)، هذا الآن قوله (وإذا نجيناكم) بدأٌ بالتفصيل، هنا إجمال للنعمة قال (نعمتي التي أنعمت عليكم) هذا إجمال ثم بدأ التفصيل من قوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون) ولهذا ستجد يمر معنا في السياق أنواع من النعم يعددها (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) إلى آخر الآية وهكذا تجد يأتي تعداد للنعم هنا أجمل وبعده ماذا؟ فصّل.
قال (يا بني إسرائيل) عرفنا ما في قوله (يا بني اسرائيل) من حفز النفوس، نفوس هؤلاء وتذكيرهم بانتسابهم لهذا النبي الصالح عليه السلام يعقوب.
 (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) هذا تخصيص بعد تعميم (نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) هذا من جملة النعم، التفضيل هو من جملة النعم (وأني فضلتكم على العالمين) فضّل مَن؟ بني إسرائيل على العالمين، أي عالَم؟ العالم كله؟ (وأني فضلتكم على العالمين) أي عالم الزمان الذي كان فيه من يُعنون بهذا الخطاب، لأن هذا تذكير للموجودين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام بماذا؟ بالنعم التي أنعم بها على من؟ على آبائهم وأجدادهم (جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) الحديث عن ماذا؟ عن النعم التي أنعم بها على آبائهم وأجدادهم، يوضح لك أن هذا هو المقصود الآية التي تأتي (وإذ نجيناكم من آل فرعون) الذين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام هل رأوا فرعون؟ إذن، لما يقول (وإذ نجيناكم من آل فرعون) هذا المعني به مَن؟ يذكرهم بنعمة الله على آبائهم  وأجدادهم.

قال: (وأني فضلتكم على العالمين) أي عالم زمانهم، هذا هو المقصود، والمراد تفضيل آبائهم في زمن موسى وبعده، قبل أن يكون تغيير، قبل أن يكون منهم التغيير والتبديل، فتكون (ال) في قوله (العالمين) ما نوعها؟ نعم، العهد، (العالمين) (ال) هنا للعهد، يوضحه السياق قال أبو العالية رحمه الله في قوله (أني فضلتكم على العالمين) "أي بما أُعطُوا من المُلك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالَما" وروي نحو قوله عن غير واحد من أئمة السلف، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "ويجب الحمل على هذا" ما المراد؟ حمل المعنى في قوله (على العالمين) على هذا الذي ذكره أبو العالية وغيره من أئمة السلف من حيث أن المراد بالعالمين عالم ذاك الزمان، قال: "ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة -أمة محمد عليه الصلاة والسلام- لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)،  قال الحافظ ابن كثير: "والأحاديث في هذا كثيرة". إذا قوله (وأني فضلتكم على العالمين) أي عالم ذلك الزمن، لا يتناول ما قبله ولا يتناول أيضا ما بعده، فالمقصود به ذلك الزمان فضّلهم بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وآتاهم في زمانهم ما لم يؤت أحدا من العالمين في زمانهم.
قال (وأني فضلتكم على العالمين) هذا الآن باب من أبواب الترغيب تذكير بالنعمة.
 قال: (واتقوا يوما) هذا تهديد وتخويف
(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) (اتقوا يوما) المقصود بذلك اليوم يوم القيامة، والمقصود باتقاء ذلك اليوم اتقاء ما فيه من أهوال وشدائد وأمور عظيمة فظيعة.
(اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) أي لا تغني نفس عن نفس مهما كانت القرابة ومهما كانت المحبة ومهما كانت الصلة مثل قوله: (واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) مهما كانت الصلة (يوم يفر من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه) فلا تجزي نفس عن نفس شيئا.
 (نفس عن نفس شيئا) هذه ثلاث نكرات في سياق النفي فتفيد  العموم، (لا تجزي نفس) أي مهما كانت ومهما كان جاهها، مهما كانت مكانتها، مهما علت منزلتها، (عن نفس) أيضا مهما كانت قرابتها، مهما كانت صلتها، مهما كانت المحبة لها والعطف عليها، (عن نفس شيئا) أي ولو قليل، (شيئا) ولو نفعا قليلا، ولو شيئا يسيرا ما يحصل ذلك، مثل الآية التي في آخر الانفطار (يوم لا تملك) مثلها (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله)، (لا تملك) مثلها (لا تجزي) (لا تغني) (نفس عن نفس شيئا). 
(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) آخر ما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) أي يوم القيامة اتقوا ذلك اليوم بالاستعداد وإصلاح العمل، وإقامة النفس على طاعة الله مثلها (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد غد) (غد) يوم القيامة.
(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) لما ذكّرهم النعمة في الآية التي قبلها عطف بالتحذير من حلول النقمة والعقوبة.
(اتقوا) أي تجنبوا الأمور التي تنالون بها العقوبة في ذلك اليوم، تجنبوها، اتقوا ذلك اليوم الذي ستقفون فيه بين يدي الله عز وجل، يأمر في القرآن بتقواه، ويأمر بتقوى النار، (وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة)، وأيضا اتقاء اليوم الآخر اتقاء ما فيه من الأهوال والعقوبات، والتقوى هي: أن يجعل المرء بين ما يخشاه ويخافه وقاية تقيه وذلك بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة) (ولا يقبل منها شفاعة) وهذا فيه أن من مات كافرا لا تنفعه شفاعة الشافعين، ولا تقبل فيه شفاعة، فقوله (ولا يقبل منها شفاعة) أي في الكافرين، ومنه قوله (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) مهما كان جاه الشافع، ومهما كانت قرابة المشفوع له ومنزلته ما تنفعهم شفاعة الشافعين، وقد ثبت في صحيح البخاري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن ابراهيم الخليل اتخذه الله خليلا، وجاهُه عند الله عز وجل جاه عظيم، قال: (يلقى إبراهيم الخليل أباه يوم القيامة فيقول له ألم أقل لك لا تعصني؟ ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول: الآن لا أعصيك، فيقول إبراهيم سائلا رب العالمين سبحانه ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون؟ وأي خزي أعظم من أبي الأبعد؟  أن يكون من أهل النار، وأن يدخل النار فيقول الله عز وجل: يا إبراهيم إني حرمت الجنة على الكافرين) -هذا شاهد الآن- هذا شاهد لـ لا يقبل شفاعة لكافر، الكافرون لا تنفعهم شفاعة الشافعين، قال: (ثم يقال لإبراهيم أنظر فينظر فإذا والده تحول إلى صورة ذيخ -ذكر الضباع- فأُخذ بقوائمه وألقي في النار).
(ولا يُقبل منها شفاعة) فيه قراءة (ولا تُقبل منها شفاعة) قراءة عشرية (ولا تقبل منها شفاعة) الشفاعة هذه اللفظة هي بمعنى شفع، الشفاعة هي الشفع مثل الموعظة هي الوعظ، الشفاعة هي الشفع، فلما يكون اللفظ جاء مرة بالتذكير ومرة بالتأنيث يكن مرت لوحظ المعنى، ومرة لوحظ اللفظ. فمثلا قوله في قراءة (لا تُقبل منها شفاعة) لوحظ  اللفظ (شفاعة)، وفي هذه القراءة (لا يُقبل منها شفاعة) لوحظ المعنى الذي هو الشفع مثل ما جاء في قوله سبحانه وتعالى (فمن جاءه موعظة) مع قوله (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة) مرة قال (جاءكم) ومرة قال (جاءتكم)، في موضع لوحظ  المعنى وعظ، وفي موضع لوحظ اللفظ موعظة، وكله من الفصيح في اللغة.
قال: (ولا يقبل منها شفاعة) أي شفاعة في مَن؟ في الكافر، أما عصاة الموحدين تنفعهم شفاعة الشافعين وفي هذا أحاديث، ولهذا النفع المنفي يختص بمن لا يرضى الله قوله وعمله الذي هو الكافر، الذي لا يرضى الله سبحانه وتعالى قوله وعمله، والله لا يرضى إلا عن أهل التوحيد ولهذا ما تنفع الشفاع إلا لمن كان موحدا.
(ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) العدل ما هو؟ الفدية. العدل هو الفدية (لا يؤخذ منها عدل) يعني لا يؤخذ منها فدية  وسميت الفدية عدلا لأنه مثل المفتدى أو المفدي لما يقدم فدية عِدل أي مثل شيء يفتدي به مثل قوله سبحانه وتعالى (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) ما معنى تعدل كل عدل؟ تفدي بكل فدية. هذا معنى أن تعدل كل عدل، أي تقدم كل فدية مهما عظُمت فإنه لا يُقبل منها، مثل قوله تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) هذا مثل (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) لو ملء الأرض قدمه ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة لم يُتقبل منه.
قال (ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) (ولا هم ينصرون) أي لا يجدون من ينصرهم ليتخلصوا من العقاب لا هم فيهم قوة وقدرة في أنفسهم ينتصرون ينصرون أنفسهم، ولا يجدون ناصرا ومعينا مثل قوله (فماله من قوة ولا ناصر).
قال الشيخ رحمه الله: "ثم كرر سبحانه وتعالى على بني إسرائيل التذكير بنعمته وعظا لهم، وتحذيرا وحثا" في قوله (يا بني إسرائيل) مع أنه تقدمت (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون) ثم قال (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) وسيأتي أيضا في آخر السياق (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) فالتكرار هنا للتأكيد والتذكير بعظم النِعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليهم.
 قال: "ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته وعظا لهم، وتحذيرا وحثا وخوفهم بيوم القيامة الذي لا تجزي فيه – أي في ذلك اليوم أي لا تغني- نفس ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين" نفس يعني مهما عظُمت مكانتها، مع مهما علت منزلتها، مهما كان جاهها، (عن نفس) ولو كانت من الأقربين من العشيرة، ولو كان ولد الإنسان أو والده، لا يجزي والد عن ولده ولا مولود يجزي عن والده شيئا، (شيئا) لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.
(ولا يقبل منها) أي النفس (شفاعة) لأحد بدون إذن الله ورضا الله عن المشفوع له، ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه سبحانه وتعالى، وكان على السبيل والسنة، هذان شرطا قبول العمل الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.
 (ولا يؤخذ منها عدل) أي فداء ولو افتدت بملء الأرض ذهبا لتنجوا من العذاب، أي فداء (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض جميعا ومثله معه) لافتدوا به من عذاب يوم القيامة ولا يقبل منهم ذلك، وهذا جاء فيه آيات عديدة في كتاب الله عز وجل.
(ولا هم يُنصرون) أي يُدفع عنهم المكروه، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه لا يحصل إطلاقا. فقوله: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) هذا في تحصيل المنافع، (ولا هم ينصرون) هذا في دفع المضار. فهذا النفي للأمر، المستقبل به النافع.
 قال: "(ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) هذا نفي للنفع الذى يطلب ممن يملكه بعوض كالعدل، أو بغيره كالشفاعة" العِدل الفداء، أو بغيره كالشفاعة. قال: "فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه عن التعلق بالمخلوقين لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع" وهذا السياق مما يبين لنا عظم شأن التوحيد، وأن لا يعلق المرء قلبه إلا بالله، مثل ما قال علي رضي الله: "لا يخاف عبد إلا ذنبه، ولا يرجو إلا ربه" قال: "لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من نفع، وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ويدفع المضار فيعبده وحده لا شريك له، ويستعين على عبادته" قوله فيما سبق (وهم لا ينصرون) هذا في دفع المضار فهذا النفي للأمر المستقبل به النفع في نسخة " بالمستقل به" لعل الذي بعده يوضح لما قال "هذا النفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض" ففيه نفع بعوض ونفع مستقل به، كأنها هي اللفظة الأقرب للسياق، والله تعالى أعلم.

وأختم هذا المجلس بفائدة نافعة لطيفة رأيتها في تفسير بن جُزَيء لهذه الآية (يا بني إسرائيل) فائدة لطيفة ونافعة:
 يقول رحمه الله: (يا بني اسرائيل) لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم دعا بني إسرائيل خصوصا" الناس عموما أين؟ (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)
" لما قدم دعوة الناس عموما دعا بني اسرائيل خصوصا وهم اليهود وجرى الكلام معهم من هنا" - من قول (يا بني إسرائيل) إلى ماذا؟ قال: "إلى حزب سيقول السفهاء" كله يتعلق بخطاب لبني إسرائيل إلى حزب (سيقول السفهاء) فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة، وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذِكر العقوبات التي عاقبهم بها".
ثم انظر هذا التلخيص الآتي اللطيف قال: "فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء من النِعم : وإذ نجيناكم من آل فرعون، وإذ فرقنا بكم البحر، بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى، ثم عفونا عنكم، فتاب عليكم، نغفر لكم خطاياكم، أتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا"
قال: "وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء -كلها في السياقات الآتية- وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قولهم سمعنا وعصينا، واتخذتم العجل، وقالوا أرنا الله جهرة، وبدل الذين ظلموا، ولن نصبر على طعام واحد، ويحرفونه. وتوليتم من بعد ذلك، وقست قلوبكم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق.
 قال: "وذكر من عقوبتهم عشرة أشياء: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، ويعطوا الجزية، واقتلوا أنفسكم، وكونوا قردة، وأنزلنا عليهم رجزا من السماء، وأخذتكم الصاعقة، وجعلنا قلوبهم قاسية، وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين".
 هذا ونسأل الله الكريم أن ينفعنا أجمعين بما علمنا، وأن يزيدنا علما وتوفيقا، وأن يصلح لنا شأننا كله، وأن يهدينا إليه صراط مستقيما.. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا

اقرأ المزيد...

الأربعاء، 10 سبتمبر 2025

فوائد من سورة هود الآيات (١- ١٢)

/ اشتملت سورة هود على حقائق التوحيد فقد مجد الله - جل وعلا في أولها كتابه، وأخبر بأنه مفصل ومحكم من لدن حكيم خبير، ثم ذكر الله جل وعلا- الأدلة على فوز أهل التوحيد، وعلى أنه جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وجاءت السورة بمقارنة بين أهل الإيمان والكفر حيث قال تعالى: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَم وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ).
ثم ذكرت السورة جما وعددا من رسل الله جل وعلا وأنبيائه، بدءاً بنوح وانتهاء بموسى، ومرورا بهود وصالح وإبراهيم . ولوط وشعيب عليهم جمعياً أفضل الصلاة والسلام.

/ (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) يعلم بعواقب الأشياء، وخباياها وخفاياها، فلا يتطرق إلى تفصيله وإحكامه وأمره ونهيه شيء من الشك؛ لأن الإنسان عادة يرتاب ويشك من إحدى جهتين حينما يؤمر بشيء، إما أنه يتخوف من جهة نقص العلم، أن الذي أمره معلوماته قد تكون خطأ، لأن هذا الشيء الذي أمر به في نفسه غير صحيح، أو يتخوف من جهة الحكمة، قد يكون هذا الشيء الذي تقوله الآن صحيحاً لكن ليس في هذا الوقت مع أنه في نفسه حق، لكن الله -عز وجل - لا يرد عليه لا هذا ولا هذا، لا نقص في العلم ولا في الحكمة، فهو يضع الأشياء في مواضعها، ولذلك إذا أمر بشيء ينبغي أن يتلقى مباشرة، بكل ثقة ولا يقال: هذه ما تصلح، هذه تؤدي إلى مفاسد.

/ قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) قال ابن كثير : " أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له " . وهذا تفسير جيد، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فجاء الأمر بالتوحيد وغيره، لكنه ذكر التوحيد لأن كل ما يُذكر من الأمر والنهي عائد إليه، فيذكر القصص والأمثال وغير ذلك من أجل أن يتعظوا ويعتبروا وينقادوا ويستجيبوا لله تبارك وتعالى - إذا دعاهم لعبادته، وما يذكره من أسمائه وصفاته ودلائل قدرته كل ذلك راجع إلى التوحيد.

/ ( يُمَتّعَكُم مَتَعَا حَسَنا)  أصل الإمتاع الإطالة ؛ ولهذا تقول: متعنا اللّٰه بك، يعني أطال اللّٰه بقاءك ونفعك، فهذا أصل الإمتاع
 (يُمَنِّعْكُم مَتَعًا حَسَنَا )  "متاعاً حسناً" يعني الحياة الطيبة الكريمة وطيب العيش، وسعة الرزق .

/ ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) لا يضيع عند اللّٰه شيء أبدا ، فاستكثروا من الأعمال الصالحة. 
عن ابن مسعود في قوله { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : " من عمل سيئة كُتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كُتبت له عشر حسنات ،فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ،وإن لم يُعاقب بها في الدنيا أُخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات" ثم يقول : "هلك من غلب آحاده أعشاره" أي هلك من كانت سيئاته أكثر من حسناته بعشرة أضعاف .

/ (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) تكفل اللّٰه سبحانه بأرزاق الخلق جميعا ،وهذا دليل على اتصافه سبحانه بالرحمة ،هذه الرحمة السابغة تشمل الإنسان والحيوان والطير والنبات وكل المخلوقات فقد جعل رزقها مقدرا عنده سبحانه. 
ـ جاء التعبير بـ "على" ليزداد العبد ثقة بربه وتوكلا عليه وإن أخذ بالأسباب فلا يعتمد عليها بل يثق بالله ويعتمد عليه .

ـ "ما يقدر اللّٰه سبحانه من الكوارث والمجاعات لا تضر إلا من تم أجله وانقطع رزقه، أما من كان قد بقي له حياة أو رزق فإن اللّٰه يسوق له رزقه من طرق كثيرة قد يعلمها وقد لا يعلمها، لقوله سبحانه: ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا (٥) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) ، وقوله: ( وَكَأَيِن مِن دَآبَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :(لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها)، وقد يعاقب الإنسان بالفقر وحرمان الرزق لأسباب فعلها من كسل وتعطيل للأسباب التي يقدر عليها، أو لفعله المعاصي التي نهاه اللّٰه عنها، كما قال اللّٰه سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةِ فَبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ) ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد. " ١

/ (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله- : " أي يعلم أين منتهى سيرها في الأوض وأين تأوي إليه من وكرها، وهو مستودعها " ، يعلم أين منتهى سير هذه الأشياء، فحينما تنطلق الطيور من أوكارها، والدواب تخرج من جحورها ونحو ذلك فهي حينما تنطلق الله -عزوجل- يعلم منتهى ذلك، يعلم مستقرها أين تصل، أين تذهب، أين تجيء، أين تكون، حينما تقع على الأشجار أو على الجبال أو غير ذلك، ( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أين تكون ومنتهى سيرها، ( وَمُسْتَوْدَعَهَا } المكان الذي تأوي إليه، كل ذلك يعلمه، كل ما يصدر منها من حركة وانتقال فالله - عزوجل- قد أحاط به وعَلِمه لا يخفى عليه من ذلك خافية. وذكر عن ابن عباس -رضي اللّٰه تعالى عنهما- :" ( مُسْتَقَرَّهَا ) أي: حيث تأوي، والمستودع قال: حيث تموت" وهذا قال به ابن جرير - رحمه الله - فالله -عزوجل- جعل الأرض مستودعاً لهذه المخلوقات، ثم يبعثهم اللّٰه - عزوجل- منها، ويدل عليه حديث أبي عزة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللّٰه -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قضى اللّٰه لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة، أو قال: بها حاجة)٢ فتقول: هذا ما استودعتني) .

/ (كُلُّ فِي كِتَبٍ مُبِينٍ) أي: يبين عما فيه من عددها وأرزاقها وحركاتها وسكناتها، وتفاصيل كل ما يتعلق بها، كما في الآية الأخرى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ، الراجح فيه: اللوح المحفوظ. 

مناسبة: بعد أن بيّنت الآيات كمال علمه تعالى بيّنت كمال قدرته : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }
/ ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) في صحيح مسلم عن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص -رضي اللّٰه تعالى عنهما-قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ( إن اللّٰه قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء )، وروى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة -رضي الله عنه -: أن رسول اللّٰه -صلى الله عليه وسلم- قال: ( قال اللّٰه -عزوجل-: أَنفِق أُنفِق عليك )، وقال: ( يد اللّٰه ملأ لا يغيضها نفقة، سَحّاءَ الليل والنهار )، وقال: ( أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغضِ ما في يمينه، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع ).

/ (لِيَبْلُوكُمْ أَيُكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ){ لِيَبْلُوكُمْ } أي: ليختبر صبركم وعملكم وبذلكم، وكل ما يصدر منكم، فالله -عز وجل- جعل هذه الدنيا داراً للابتلاء يبتلي بها خلقه فيتمايزون ويتفاضلون فيها غاية التفاضل والتمايز، فيظهر منهم من ينافق إما ابتداءً وإما لعارض حصل من شدة نزلت به أو نحو ذلك فيحصل له نوع نفاق ، ومنهم من يحصل له ردة وتكذيب ، ومنهم من يحصل له شك، ومنهم من يثبت إيمانه، كل هذا يحصل للناس في هذه الحياة. 
وخلق الخلق من أجل إحسان العمل كما في قوله تعالى: ( أَيُكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ولم يقل: أكثر عملاً، فالعبرة ليست بالكثرة، وإنما العبرة بإتقان العمل، وهذا ينبغي أن يعتبر به الإنسان في كل أمر من أموره.
 (أَحْسَنُ عَمَلاً) قال الفضيل بن عياض -رحمه الله- : "أخلصه وأصوبه" قيل يا أبا علي: "ما أخلصه وأصوبه"؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة.

/ (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةِ) (أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } أي مدة زمنية محدودة.
 والأمة تستعمل في القرآن في معانٍ متعددة فيُراد بها:
ـ الأمد أو المدة كقوله في هذه الآية: ( أُمَّةٍ مَعْدُودَةِ ) ، وقوله في يوسف: (وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَّةِ }.
/ الإمام المقتدى به كقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: ١٢٠] ، باعتبار أنه يؤتم به، يقتدى به، أو باعتبار أنه جامع، فهو جامع للخصال والأوصاف الكاملة التي تفرقت في غيره واجتمعت فيه، ولا منافاة بينهما.
/ الملة والدين، كقوله إخباراً عن المشركين إنهم قالوا { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَرِهِم مُقْتَدُونَ) [الزخرف: ٢٣] .
/ الجماعة إما مطلقاً كقوله: ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) [القصص: ٢٣] يعني: جماعة من الناس، وإما الجماعة المتفقة أو المجتمعة على دين واحد، كما في قوله تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أَمَّةٌ وَاحِدَةً ) [البقرة: ٢١٣] يعني: مجتمعة على دين واحد، ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [آل عمران: ١١٠] الأمة المجتمعة على الإسلام، على توحيد الله -عز وجل- واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا، فهي الجماعة: تارة مطلقاً (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) جماعة من الناس يسقون أو الجماعة المجتمعة على دين .

/ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَنَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَٰهَا مِنْهُ إِنَّهُ, لَيَوسُ كَفُورٌ) (وَلَيِنْ أَذَقْنَٰهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّيَ إِنَّهُ لَفَرِحُ فَخُورُ )

ـ الإذاقة تدل على أن أدنى ما يحصل للإنسان من ذلك يؤثر عليه، والإنسان جنس يشمل، أو يصدق على الإنسان من حيث هو ولا يختص ذلك بالكافر، ومن أهل العلم من قال: المقصود به الإنسان الكافر؛ لأن اللّٰه -عزوجل- قال (إِنَّهُ لَيَئُوسُ كَفُورٌ ).
ويخبر تعالى عن طبيعة الإنسان، أنه جاهل ظالم بأن اللّٰه إذا أذاقه منه رحمة كالصحة والرزق، والأولاد، ونحو ذلك، ثم نزعها منه، فإنه يستسلم لليأس، وينقاد للقنوط، فلا يرجو ثواب الله، ولا يخطر بباله أن اللّٰه سيردها أو مثلها، أو خيرا منها عليه. وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته، أنه يفرح ويبطر، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس، والتكبر على الخلق، واحتقارهم وازدرائهم . وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه اللّٰه وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده، وهم الذين صبروا أنفسهم عند الضراء فلم ييأسوا، وعند السراء فلم يبطروا، وعملوا الصالحات من واجبات ومستحبات.
ـ سبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليه وقبوله للنعمة بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي وإنما أوتينه لأني أهله ومستحقه كما قال تعالى ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيَّ ) أي على عِلم عَلِمه عندي استحِقُ به ذلك وأستوجِبه واستأهله ، قال الفراء : "أي على فضل عندي إني كنت أهله ومستحقا له إذ أعطيته" وقال مقاتل : "يقول على خير علِمه اللّٰه عندي "

/ (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَتِ أُوْلَجْكَ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود: ١١]
ـ الصبر هنا لا يخص بالصبر على الشدائد والمكاره فقط، بل الصبر على طاعة اللّٰه داخل في معنى هذه الآية؛ لأن الإنسان إذا أصابه الغنى فإن ذلك يحمله غالباً على ترك الطاعة وفعل المعصية .
ـ أسند سبحانه إيصال الخير إلى ذاته - جل وعلا- فقال ( أَذَقْنَٰهُ نَعْمَآءَ) ولم يُسند إلى ذاته إيصال الشر فقال ( بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتّهُ ) مع أن كل شيء بعلمه وتقديره ومشينته فدل بذلك على أن مراده تعالى رحمة عباده والإحسان إليهم ، وأن ما ينالهم من شر وضُر بسبب سوء كسبهم واختيارهم .

/ (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ)
المقصود بالفرَح في هذه الآية الفرَح المذموم وهذا الفرَح هو الذي يحمل صاحبه على الأشر والبطر والتعالي في الأرض.

مناسبة: التفتت الآيات إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تثبته في مواجهة عناد المشركين وجحودهم ،وتحثه على متابعة تبليغهم وإقامة حجة اللّٰه تعالى عليهم قال تعالى : (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ) ، وقال تعالى (وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) ولم يقل ضيّق ، ليدل على أنه ضيق عارض بسبب تكذيب قومه .
عقبات كثيرة ومعوقات عديدة تعترض مسيرة الدعوة والدعاة فما ينبغي لحامل الدعو المؤمن بها أن يعتريه ضعف، أو تضيق نفسه بشرف حملها والنفحِ عنها وبذلِ ما يستطيع في سبيل الوصول إلى نجاحها .. عليه فقط أن يبذل جهده وأن يخلص نيته فهو الأداة البشرية التي اختارها اللّٰه تعالى للتعامل مع أمثاله من الناس ، أما الهداية وقلوب البشر فبيد اللّٰه يهديها إليه سبحانه إن شاء ، ويضلها حين تستكبر وتجحد وتُعرض عن منهجه القويم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- فتاوى بن باز
٢- صححه الألباني في السلسلة الصحيحة
اقرأ المزيد...

الدرس السابع والأربعون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٤)

 تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٤) (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم …) 


🎧 لسماع الدرس من موقع الشيخ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في قوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) 
ن/ "(أتأمرون الناس بالبر) أي: بالإيمان والخير، (وتنسون أنفسكم) أي: تتركونها عن أمرها بذلك والحال وأنتم تتلون الكتاب (أفلا تعقلون) وسمي العقل عقلا لأنه يُعقَل به ما ينفعه من الخير، أو يَعقِل به ما ينفعه من الخير، وينعقِل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمرُ به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك قد قامت عليه الحجة، وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أُمِر به أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتدائهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة".
ت/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: فلا نزال مع هذه الآيات في كتاب الله عز وجل المشتملة على وصايا أوصى الله جل وعلا بها بني إسرائيل، ولهذا صُدرت - كما سبق - بقوله (يا بني إسرائيل) ثم ذكر الله سبحانه وتعالى جملة من الوصايا، وهذه الوصايا كما نبه أهل العلم وإن كانت موجهة لبني إسرائيل فإنها عامة فيها التحذير من التشبه بهم فيما نهاهم الله عنه وحذرهم منه، وكانوا على صفات ولاسيما علماءهم على صفات ذميمة إلا من هداه الله عز وجل منهم، فكانوا يُحر فون الكلم، ويكتمون الحق، ويلبسون الحق بالباطل، ويتهاونون بما أوجب الله سبحانه وتعالى عليهم، وكانوا يُظهرون أنفسهم مظهر الدعاة والعلماء، فيأمرون الناس بالبر والخير والطاعة، لكن في أنفسهم لا يفعلون ذلك، يظهرون أنهم دعاة للحق ولكنهم في أنفسهم لا يعملون، مع أنهم أهل كتاب ويعلمون أن طريقتهم مخالفة للكتاب الذي تعلموه، ولهذا جاءت هذه الوصية في جملة هذه الوصايا قال الله عز وجل في خطابه لهم: 
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
 (أتأمرون الناس بالبر) هذا توبيخ لهم لأن الاستفهام له مقاصد منها التوبيخ، وهذا توبيخ لهم على هذا الصنيع وهذه الطريقة التي كانوا عليها. 
(أتأمرون الناس بالبر) البر: الطاعة والعبادة وأعمال الخير مثل الصدقات ونحو ذلك، قال قتادة رحمه الله: "كان بنو اسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون فعيّرهم الله عز وجل" أي بذلك، الحاصل: أن هذا السياق في قوله (أتأمرون الناس بالبر) هو توبيخ لهم على مسلك كانوا عليه، وطريقة كانوا عليها، يُظهرون أنهم دعاة، وأنهم أهل النصح والتعليم، ويعلمون الناس الخير لكن لا يعملون به. 
قال (وتنسون  أنفسكم) النسيان هنا المراد به الترك. (تنسون أنفسكم) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تتركون أنفسكم" أي: تتركونها لا تعملون بهذا الخير الذي تدعون الناس إليه، وتحضونهم عليه. التوبيخ هنا عائد إلى ماذا؟ قال (أتأمرون الناس بالبر) هل هو توبيخ على أمرهم للناس بالبر؟ هذا لا يوبخ عليه الإنسان، على أمره الناس بالبر، أو حثه الناس على البر، فليس المراد بالتوبيخ هنا توبيخهم على أمرهم بالبر، فإن الأمر بالبر مطلوب، وإنما هو عائد إلى تركهم العمل بهذا البر الذي يأمرون الناس به، ويدعون الناس إليه ويوهمون الناس أنهم دعاة، وأنهم علماء يعلمون الناس الخير لكنهم في واقع أنفسهم لا يعملون، ومن كانت هذه صفته، هذه طريقته، وهذا مسلكه هو في ظاهره - كما يذكر ابن القيم رحمه الله أظنه في مدارج السالكين -  هوفي ظاهره يدعو إلى الجنة ولكن في باطنه وحقيقة أمره يدعو إلى النار، لأن الناس إذا نظروا إلى أفعاله وقالوا هذا الذي عنده العلم، وهذا الذي يدعونا إلى هذا الخير، هذه حاله في العمل إذا حالنا نحن في التقصير والتفريط ستكون من باب أولى أن نكون مقصرين، ولهذا هم في الظاهر دعاة إلى الجنة وفي الباطن والحقيقة دعاة إلى النار لأن الناس يتأثرون – مثل ما قال الشيخ – بالأفعال، أبلغ من اقتدائهم بالأقوال.
 قال (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) الجملة هنا حالية، أي والحال أنكم تتلون الكتاب، والمراد بالكتاب التوراة الذي كان بين أيديهم (وأنتم تتلون الكتاب) أي تقرؤونه تعلمتموه، عرفتم ما فيه من أوامر.
 (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) أي ليس لكم عقول تعقِلكم، لأن العقل سمي عقلا لأنه يعقِل صاحبه، مثل تسمية العقال الذي تُشد به يد البعير عندما يُبرّك حتى لا يقوم، سمى عقالا (تعهدوا القرآن فإنه أشد تفلتا من الإبل في عُقلها) عقُل جمع عقال لأنه يعقل به الإبل.  والعقل سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه، معنى يعقل صاحبه يحجز صاحبه إذا أعمل عقله كفه عن ما هو قادم عليه من خطيئة، أو إثم أو جرم قال (أفلا تعقلون)
 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "(أتأمرون الناس بالبر) أي بالإيمان والخير، (وتنسون أنفسكم) أي تتركونها عن أمرها بذلك - تتركونها أي لا تأمرونها بذلك - تهملون أنفسكم والحال (وأنتم تتلون الكتاب)" أي أن الجملة حالية والحال (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)، قال: "وسُمي العقل عقلا لأنه يعقِل" معنى يعقِل يحجز، يمنع لأنه يعقِل به ما ينفعه من الخير، وينعقِل أن ينحجز به عما يضره من الشر، وذلك لأن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، وقد تقدم قول الله عز وجل لهم (ولا تكونوا أول كافر به) فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر ولم يتركه دل على عدم عقله وجهله، خصوصا إذا كان عالما بذلك، عنده علم بفساد طريقته، بأن الذي هو عليه جرم وإثم، خصوصا إذا كان عالما بذلك قد قامت عليه الحجة أي البينة، وهذه الآية يقول الشيخ "وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل فهي عامّة لكل أحد" هكذا أيضا قرر ابن كثير رحمه الله في كتابه التفسير وغيره من أهل العلم، قال ابن كثير: "الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يُقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم" ولهذا يروى في الأثر أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال ما معناه: أتعلم من نفسك أنك جدير بذلك، أو أنك قادر على ذلك؟ قال نعم، قال: "إن كنت تعلم من نفسك أنك لا تخطئك ثلاث آيات فاففعل" وذكر له هذه الآية (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)، وذكر له قول الله تعالى في سورة الصف (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وذكر أيضا له قول العبد الصالح نبي الله شعيب عليه السلام لقومه (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) والمعنى: أنا لا أريد أن أنهاكم عن شيء وأخالفكم إليه، يعني أذهب وأفعله (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، إذا هذه الآية وإن كانت في سياق إنذار بني إسرائيل فهي عامة لكل من يأمر المعروف وينهى عن المنكر، أن ينتبه لنفسه، ما معنى أن ينتبه لنفسه؟ أي لا يترك نفسه مثل ما قال الله (وتنسون أنفسكم) أي تتركون أنفسكم، لا يترك نفسه بل يبدأ بأمرها، يبدأ بنصحها، يبدأ بزجرها، يبدأ بوعظها وتذكيرها، يبدأ بتخويفها، إذا قال للناس اتقوا الله يقول لنفسه: اتق الله، يخوف نفسه، يحذرها من سخط الله سبحانه وتعالى وعقابه، أما إن كان يأمر ويعلم ويدعو ليقال داعي، أو ليقال معلم، أو يقال عالم، أو يقال واعظ وهو لا يعمل بما يعظه، فهذا مصيبته عظيمة، وفيه شبه من علماء بني إسرائيل، مثل ما قال سفيان، قال: "من فسد من علمائنا ففي شبه من اليهود" قال فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا) المقت هو أشد الكره (كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
قال الشيخ: "وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أُمِر به أنه يترك الأمر بالمعروف، أو لم يقم بما أَمَر به أن يترك الأمر بالمعروف، ما أَمَر به أي: ما أمر به الناس من طاعة، أو عبادة، أو نحو ذلك "إذا لم يقم بما أمر به أن يترك الأمر بالمعروف" يعني إذا كان يأمر الناس بشيء ولم يقم به هو ليس معنى ذلك أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، عندنا واجبان:
 الأول: الأمر المعروف والنهي عن المنكر.
والثاني: أن يفعل الإنسان المعروف وأن يتجنب المنكر.
هذا واجب، وهذا واجب، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره أو أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر. فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص -نقص الكمال- أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير، فهذا أمر بيّن أهل العلم عند هذه الآية، يعني ليس معنى كون الإنسان مقصرا أن يترك كل شيء، بل يعمل، ينصح الناس ويعمل على نصح نفسه وإصلاحها وإقامتها على طاعة الله، يعني حتى يتضح كلام أهل العلم بشكل واضح بين أرأيتم لو أن أبا -والدا- مبتلى بمعصية معينة وما تمكن من معالجة نفسه لترك هذه المعصية، هل معنى ذلك أن لا ينهى أبناءه عنها؟ وهل له أن يتلو هذه الآية (أتأمرون الناس بالبر تنسون أنفسكم) فيترك إصلاح أولاده ونهيهم؟ هو مبتلى وعمل على معالجة نفسه ما تمكن، لكن يبين لأبنائه وينصح ويزجر ويخوف ويهدد، ويعمل على من مناصحتهم، وفي الوقت نفسه يستمر في مجاهدة نفسه ومعالجتها ومداواتها، من هذا الذي هو مبتلى به، لكن يبقى مثل ما يقول الشيخ الآن، يقول "النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة" نعم

ن/ قال رحمه الله "(قوله واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين* الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون* يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين* واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) أمرهم الله تعالى أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان وتنهى عن الفحشاء والمنكر يستعان بها على كل أمر من الأمور، (وإنها) أي الصلاة (لكبيرة) أي شاقة (إلا على الخاشعين) فإنها سهلة عليهم خفيفة، لأن الخشوع وخشية الله، ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك، فإنه لا داعي له يدعوه إليها وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه، والخشوع هو خضوع القلب وطمأنينته، وسكونه لله تعالى وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا، وإيمانا به وبلقائه ولهذا قال (الذين يظنون) أي يستيقنون (أنهم ملاقوا ربهم) فيجازيهم بأعمالهم، (وأنهم إليه راجعون) فهذا الذي خفف عليهم العبادات، وأوجب لهم التسلي في المصيبات، ونفّس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه كانت الصلاة وغيرها من العبادات، من أشق شيء عليه"

ت/ نعم، قال الله جل وعلا (واستعينوا بالصبر والصلاة) استعينوا بالصبر والصلاة على ماذا؟ لم يُذكر، استعينوا بالصبر والصلاة لم يذكر على ماذا؟ والقاعدة: أن حذف المتعلق يفيد العموم، لم يذكر، الآن سبق مثلا أقرب مذكور (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)  استعينوا بالصبر والصلاة على مداواة أنفسكم في هذا، وسبق أيضا قبله أوامر فيشمل استعينوا بالصبر والصلاة على كل خير، على كل بر، على كل أبواب الطاعات والعبادات، ولهذا الصبر والصلاة فيهما أعظم معونة للعبد، قال بن جرير له كلمة قصيرة لكن جميلة، إمام المفسرين قال: "إنهما لمعونتان على رحمة الله" الصبر والصلاة، وإذا وُفق العبد لهاتين الصفتين الصبر والصلاة كانتا معونة له على الفوز برحمة الله وأعمال البر والطاعات والخير، وتجنب المنكرات والمحرمات، ولهذا في آية أخرى قال سبحانه وتعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) أي استعينوا بها على نهي أنفسكم، يستعينوا بصلاتكم على نهي أنفسكم عن الفحشاء والمنكر، ولهذا -سبحان الله- تجد الصلاة المكتوبة وزعت على أوقات اليوم الليلة مفرقه، يعني ما جُمعت الصلاة الخمس في أول النهار أو في آخر النهار، جاءت مفرقة ينشغل الإنسان بأموره ثم يرجع إلى هذه الصلاة تداوي قلبه وتقربه من ربه، وتزكي نفسه، ثم ينشغل ثم ينادى للصلاة مرة أخرى، فيرجع يصلي ثم ينام، ويستيقظ على المناداة للصلاة، ليستهل يومه بهذه الصلاة، ولا يزال مع هذه الصلوات الخمس تداويه، تعينه، تنهاه، ولا سيما إذا أحسن في أدائها وإقامتها، وأعظم الإحسان في الصلاة أن يبدأ مشروع الصلاة مع العبد من حين يؤذن، إذا سمع الأذان يوقف كل شيء ويعتبر أنه دخل في مشروع هو أعظم موضوع كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بذلك، فالصلاة فيها معونة عظيمة للعبد على ماذا؟ كل خير، أطلق هنا قال (واستعينوا بالصبر والصلاة) ولم يذكر على ماذا، فيشمل كل خير، يشمل كل ما تُنال به الرحمة، كل أبواب الرحمة، كل أبواب البر، تجنب أيضا المنهي، المحرم، استعينوا بالصبر والصلاة.
وهنا قال (استعينوا بالصبر) (ال) الداخل هنا على (الصبر) تفيد الشمول، لأن الصبر أنواع فإذا قيل أي أنواع الصبر المراد هنا؟ الصبر أنواع فأي أنواعه المراد؟ يقال: يشمل كل أنواع الصبر، (ال) الداخلة على الصبر تفيد الشمول، يعني شمول أنواع الصبر كلها، لأن الصبر ثلاث أنواع: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وإذا وُفق العبد إلى هذه الخصلة العظيمة، والخلة المباركة الصبر، قد قال عليه الصلاة والسلام (ما أُعطي عبد عطاء أوسع من الصبر) هذا عطاء واسع عظيم لماذا؟ لماذا كان الصبر عطاء واسعا؟ لأنه هو المعونة على الطاعات، أرأيتم الشخص الذي لا صبر عنده هل يستطيع أن يحبس نفسه على فعل الأوامر؟ الشخص الذي لا صبر عنده هل يستطيع أن يحبس نفسه عن ترك النواهي؟ الشخص الذي لا صبر عنده هل يستطيع أن يحبس نفسه عن التسخط في الأقدار المؤلمة والجزع ونحو ذلك؟ (استعينوا بالصبر والصلاة) أي واستعينوا بالصلاة فإنهما أكبر معونة للعبد على كل خير وفلاح ورفعة في الدنيا والآخرة.
(وإنها) أي الصلاة، هذا في قول أكثر المفسرين، وبعضهم أعاد الضمير في (إنها) على الاستعانة (واستعينوا) هذا فيه الاستعانة، البعض أعاد الضمير على الاستعانة، وجمهور المفسرين أن الضمير عائد إلى الصلاة، (وإنها) أي الصلاة (لكبيرة) أي ثقيلة كبيرة المراد بها ثقيلة (إلا على الخاشعين)  الخاشع المتواضع الذي انكسرت نفسه وذلت، ولهذا يحتاج العبد أن يذلل نفسه، يوطئ نفسه، يتواضع، يخضع. إذا اتصف بهذا الخشوع، هذا التواضع صارت الصلاة ليس فيها ثقل، ليس فيها ثقل على قلبه بل ستكون الصلاة هي راحته، هي أُنسه، هي قرة عينه كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام (أرحنا بالصلاة يا بلال) وقال (جُعلت قرة عيني في الصلاة).
قال (وإنها لكبيرة) أي ثقيلة (إلا على الخاشعين) من هم؟ ما صفتهم؟ قال (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)
 وهذا فيه تنبيه على مسألة كبيرة جدا في هذا الباب: أن أعظم ما يعين على إصلاح القلب وتزكيته خشوعا وخضوعا وتواضعا إلى غير ذلك ظن العبد في قلبه بمعنى اعتقاده في قلبه انه سيلقى ربه وسيقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإن الظن هنا (الذين يظنون) المراد به يعتقدون، المراد بالظن هنا العقيدة، (يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي يعتقدون، ولهذا من يأتي فائزا يوم القيامة ويؤتى كتابه بيمينه ماذا يقول؟ (إني ظننت) يعني في الدنيا (أني ملاق حسابيه) ظننت أي اعتقدت في الدنيا أني سألقى الحساب فكنت أُعد لهذا الحساب عدته، (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي سيلقون الله ويقفون بين يديه سبحانه وتعالى، (وأنهم إليه راجعون) أي: إليه المرجع، إليه المصير فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
قال رحمه الله تعالى: "أمرهم الله عز وجل أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه"  وذكرها رحمه الله "والصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه، معونة عظيمة على كل أمر من الأمور" استعينوا بالصبر على ماذا؟ كل أمر من الأمور، ومن يتصبر يصبره الله. هنا الشيخ يذكر تنبيها على لطيفة من يقرأ هذه وتحدثه نفسه بأنه ضعيف الصبر، قليل الصبر، أو ما عنده صبر، بعض الناس قد يقرأ هذه الآية (استعينوا بالصبر) فينظر إلى نفسه  أن هذا الصبر ليس عنده، يقول الشيخ: "ومن يتصبر يصبره الله" يتصبر يعالج نفسه، يداويها، يحاول معها، يصبرها "من يتصبر يصبره الله"، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان بهذا وصفها السلف ميزان الإيمان، ما معنى ميزان الإيمان؟ يعني أنها محك يومي يزن المرء فيه إيمانه، محك يومي، ميزان يومي. قال: "وتنهى عن الفحشاء والمنكر" استعانوا بها على كل أمر من الأمور، لاحظ الشيخ في الصبر وفي الصلاة ذكر أن الاستعانة على ماذا؟ على كل أمر، من أين أخذ ذلك؟ من الإطلاق في الآية، قال استعينوا ولم يذكر على ماذا فيشمل كل أمر من الأمور، أمور الخير والصلاح. 
قال: (وإنها) قال الشيخ: أي الصلاة، وهذا قول جمهور المفسرين، لكبيرة أي شاقة، وأيضا معنى كبيرة ثقيلة، شاقة ثقيلة على كل أحد إلا الخاشعين فإنها سهلة عليهم، خفيفة لا يجدون لها أي ثقل ولا أي مشقة، "لأن الخشوع خشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشيته من العقاب" إذا أردت أن تفهم هذا الثقل -ثقل الصلاة- (إلا على الخاشعين) الخاشعين الذين خشعت قلوبهم تنظر الآن إلى رجل كبير السن جسمه في غاية الضعف، وإذا أراد أن يقوم يقوم بمشقة، ومع هذه المعاناة والثقل في جسمه، والضعف في قواه تجده كل صلاة يتكئ على عكازه ويمشي خطوات ثقيلة لضعف جسمه ولا تفوته الصلاة لخشوع قلبه، وقوة قلبه، وتجد من الشباب من يوصف بأنه في قوته البدنية رافع للأثقال، يرفع الأثقال من قوته البدنية وينادى لصلاة الفجر ويُوقظ لصلاة الفجر واللحاف الخفيف الذي على جسمه، يغطي به جسمه ما يستطيع أن يرفعه لضعف قلبه وليس بدنه، بدنه قوي والآخر ذاك بدنه ضعيف وقلبه قوي فيقوم مع ضعف البدن، وهذا بدنه قوي غاية القوة، يُمدح بدنه بالقوة عند رفقائه وزملائه يُمدح، ولكن اللحاف الخفيف الذي يغطي به نفسه لينام ينادى لصلاة الفجر فما يستطيع أن يرفع اللحاف لا لضعفٍ في بدنه وإنما ضعف في ماذا؟ ولهذا قال السلف "قوة المؤمن في قلبه" وضربوا لها المثال في الصلاة، قال ترى كبير السن، الطاعن في السن، ضعيف البدن ينهض هذا النهوض ويمشي منشرح الصدر للصلاة، وتجد الشاب القوي -قوي البدن- لضعف القوة في قلبه حاله مع الصلاة التفريط والتضييع.
قال: "فإنها سهلة عليهم خفيفة لأن الخشوع وخشية الله و رجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحا صدره لترقبه للثواب وخشيته من العقاب بخلاف من لم يكن كذلك، فإنه لا داعي له يدعوه إليها" الداعي في القلب، وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه إذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه، والخشوع هو خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه ولهذا قال (الذين يظنون) أي يستيقنون، يعتقدون (أنهم ملاقوا ربهم) أي سيقفون بين يديه فيجازيهم بأعمالهم، (وأنهم إليه راجعون) قال الشيخ: "فهذا الذي خفف عليهم العبادات، وأوجب لهم التسلي في المصيبات، ونفّس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات -أسأل الله لنا ولذرياتنا والمسلمين من واسع فضله سبحانه وتعالى- وأما من لم يؤمن بلقاء ربه كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراط مستقيما، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا.
اقرأ المزيد...