الاثنين، 10 نوفمبر 2025

فوائد منتقاة / سورة هود الآيات (١٣-١٦)

 ■ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٣))
 "أم" بمعنى (بل) والهمزة، والمعنى بل أيقولون افتراه؟ هذا هو التحدي الأوسط فيما يتصل بالقرآن، فقد تحداهم اللّٰه - تبارك وتعالى- أن يأتوا بكتاب مثل القرآن فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٤))
 في هذه الآيات إرشاد إلى أنه لا يبغي للداعي إلى اللّٰه أن يصده اعتراض المعترضين، ولا قدح القادحين.خصوصا إذا كان القدح لا مستند له، ولا يقدح فيما دعا إليه، وأنه لا يضيق صدره، بل يطمئن بذلك، ماضيا على أمره، مقبلا على شأنه.
● أن مما يُطلب فيه العلم ولا يكفي غلبة الظن علم القرآن وعلم التوحيد لقوله تعالى (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو)

 ■ (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥))
 هذا الإطلاق قيّده الله جل وعلا في الإسراء فقال سبحان: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ)
 قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا يقول من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاتا أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى: أُوفّيِه الذي التمس في الدنيا من المثابة, وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين"١
واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية:
فحملها بعضهم على الكفار لأن الإنسان لا يخلو من إرادة للحياة الدنيا وزينتها وقد قال عن أهل بدر وهم خيار أهل الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) [الآنفال: ٦٧]
 ومن أهل العلم من حملها على أهل الرياء
 ولهذا لما حدث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الثلاثة الذين هم أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة فبكى معاوية رضي الله عنه بكاء شديدا حتى ظنوا أنه هلك من شدة البكاء ثم أفاق ومسح عن وجهه وقال صدق الله ورسوله (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) ٢، فحملها معاوية رضي الله عنه على أهل الرياء. ولا يعني هذا أن أعمال أهل الرياء تحبط جميعا بل يعذبون على قدر معصيتهم أو تكون لهم حسنات ماحية ولا يخلدون في النار إلا ذا وإذا وقع الرياء في أصل الإيمان.
 ومن أهل العلم من قال معنى هذه الآية: من كانت الدنيا غايته وطلبته ومنتهى مناه فإنه لا يعمل إلا من أجلها فمن أجلها يقوم ومن أجلها يقعد ومن أجلها يعطي ومن أجلها يمنع فهذا ليس له في الآخرة إلا النار.
"والسياق يدل للقول الأول لقوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))٣ 
● "العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ويحبط الأعمال وهو أعظم من الرياء لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا"٤

"ولما سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن قوله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) ذكر أنها تشمل أنواع:
الأول: المشرك والكافر إذا عمل حسنات فإنه قد يجازى بها في الدنيا وأما في الآخرة فليس له جزاء عليها عند الله لأنها لم تبنَ على التوحيد والإخلاص لله عز وجل.
النوع الثاني: المؤمن الذي يعمل أعمالا من أعمال الآخرة لكنه لا يريد بها وجه الله وإنما يريد بها طمع الدنيا كالذي يحج ويعتمر عن غيره يريد أخذ العوض والمال الذي يتعلم ويطلب العلم الشرعي من أجل أن يحصل على وظيفة فهذا عمله باطل في الدنيا وحابط في الآخرة وهو شرق أصغر.
النوع الثالث: مؤمن عمل لصالح العمل الصالح مخلصا له عز وجل لا يريد به مالا أو متاعا من متاع الدنيا ولا وظيفة لكنه يريد أن يجازيه الله به بأن يشفيه الله من المرض ويدفع عنه العين ويدفع عنه الأعداء فإذا كان هذا قصده فهذا قصد سيء ويكون عمله هذا داخلا في قوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفي ليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون والمفروض في المسلم أن يرجو ثواب الآخرة يرجو أعلى مما في الدنيا وتكون همته عالية وإذا أراد الآخرة أعانه الله على أمور الدنيا ويسرها له.
 النوع الرابع: وهو أكبر من الذي قبله وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه وهو أن يعمل وأنه وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونية ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة ثم قال بقي أن يقال إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما وقد قال بعضهم القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو هذا وأمثاله"٥

● من كانت الدنيا مراده ولها يعمل في غاية سعيه لم يكن له في الآخرة نصيب ومن كانت الآخرة مراده ولها عمل لها عمل وهي غاية سعيه فهي له، بقي أن يقال: فما حكم من يريد الدنيا والآخرة؟
 قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي "وأما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا القصد ولم يكن له إرادة لوجه الله والدار الآخرة فهذا ليس له في الآخرة من نصيب وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن، فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان لا بد أن يريد الله والدار الآخرة، وأما من عمل العمل لوجه الله ولأجل الدنيا والقصدان متساويان أو متقاربان فهذا وإن كان مؤمنا فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص وأما من عمل الله وحده وأخلص في عمله إخلاص تاما لكنه يأخذ على عمله جعلا معلوما يستعين به على العمل والدين كالجعلات التي تجعل أعمال الخير، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكنه لم يرد بعمله الدنيا لكونه لم يرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدين وقصد أن يكون ما حصل له معينا على قيام الدين ولهذا جعل الله في الأموال الشرعية كالزكاوات وأموال الفي وغيرها جزءا كبيرا لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة"٦

أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
1- أن يريد المال، كمن أذّن ليأخذ راتب المؤذن أو حج ليأخذ المال.
2- أن يريد المرتبة كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة فترتفع مرتبته.
3- أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه كمن تعبد الله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا بمحبة الخلق له دفع السوء عنه وما أشبه ذلك.
4- أن يتعبد لله يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير."٧

إنما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من وجوه:
 أحدها: أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله.
وثانيها: أن الله لعنها ومقتها وبغضها إلا ما كان له فيها ومن أحب ما لعنه الله ومقته وبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه.
وثالثها: أنه إذا أحبها صيّرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره إلى وراء. 
---------------------------------
١- تفسير بن كثير 
٢- رواه الترمذي كتاب الزهد باب الرياء والسمعة وصحاحه الألباني 
٣- فتاوى بن عثيمين
٤- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
٥- د. أمين بن عبد الله الشقاوي
٦- القول السديد في مقاصد التوحيد 
٧- فتاوى بن عثيمين
اقرأ المزيد...

اسم الله [الوكيل/ الكفيل] من كتاب فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر

 / قال الله تعالى: (وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كفيلًا) [النحل: ٩١]
/ وقال تعالى: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران: ۱۷۳]. 
و «الكفيل» معناه : القائم بأمور الخلائق المتكفل بأقواتهم وأرزاقهم.
/ وقول الله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: ٩١]، قيل : أي: شهيدًا، وقيل: حافظا، وقيل : ضامنًا. 
هذا ومن صدق مع الله بذلك ورضي به سبحانه كفيلاً أعانه على الوفاء، ويسر له الأمر من حيث لا يحتسب.
روى البخاري في صحيحه (۱) عن أبي هريرة له عن رسول الله : «أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلِفَه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فائنني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مَرْكِبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مَرْكِباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنتُ تسلَّفْتُ فُلاناً ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نَشَرَها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مَرْكِب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيتُ فيه. قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال : أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئتُ فيه. قال: فإنَّ الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدًا».

و«الوكيل» معناه: الكافي الكفيل، وهو عام وخاص:
أما العام: فيدل عليه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: ١٠٢]، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلُ) [هود: ١٢]، أي: المتكفل بأرزاق جميع المخلوقات وأقواتها، القائم بتدبير شؤون الكائنات وتصريف أمورها.
والخاص: يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: ٨١]، وقوله: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران : ١٧٣]، أي: نِعْمَ الكافي لمن التجأ إليه، والحافظ لمن اعتصم به، وهو خاص بعباده المؤمنين به المتوكلين عليه.
قال العلامة الشنقيطي رحمة الله بعد أن نقل جملة من أقوال أهل العلم في معنى اسم الله «الوكيل»: «والمعاني متقاربة، ومرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الوكيل من يتوكل عليه فتفوض الأمور إليه ليأتي بالخير ويدفع الشر، وهذا لا يصلح إلا الله وحده جل وعلا، ولهذا حذر من اتخاذ وكيل دونه؛ لأنه لا نافع ولا ضار ولا كافي إلا هو وحده جل وعلا، عليه توكلنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل» (١).
وقد دعا سبحانه عباده إلى التوكل عليه وحده، وجعل ذلك دليل الإيمان، قال تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل : ٩]، وقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الملك: ۲۳] ، ووعد على ذلك عظيم الثواب، وحسن المآب، قال تعالى: ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: ٣٦]، وحذر سبحانه من التوكل على سواه، قال تعالى: (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا) [الإسراء: ٢].
والتوكل على الله وحده، وتفويض الأمور كلها إليه والاعتماد عليه في جلب النعماء ودفع الضر والبلاء مقام عظيم من مقامات الدين الجليلة، وفريضة عظيمة من فرائض الله على عباده يجب إخلاصها الله وحده، وهو من أجمع أنواع العبادة وأهمها لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والطاعات الكثيرة، فإنه إذا اعتمد القلب على الله في الأمور الدينية والدنيوية ثقة به سبحانه بأنه الكفيل الوكيل لا شريك له صح إخلاصه وقويت معاملته مع الله وحسن إسلامه وزاد يقينه وصلحت أحواله كلها.
فالتوكل الأصل لجميع مقامات الدين ومنزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
وحقيقة التوكل هو: عمل القلب وعبوديته اعتماداً على الله وثقة به والتجاء إليه، ورضا بها يقضيه له، لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه أموره مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها، ففي التوكل جمع بين أصلين:
/ اعتماد القلب على الله وحده لا شريك له
/ مع فعل الأسباب المأمور بها والقيام بها، دون تعد إلى فعل سبب غير مأمور به، أو سلوك طريق غير مشروع
 وقد جمع بين هذين الأصلين في نصوص كثيرة كقوله تعالى: (فَاعْبُدُهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود: ۲۳] ، وقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: ٥]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
والتوكل مصاحب للمؤمن الصادق في أموره كلها الدينية والدنيوية؛ فهو مصاحب له في صلاته وصيامه وحجه وبره وغير ذلك من أمور دينه، ومصاحب له في جلبه للرزق وطلبه للمباح وغير ذلك من أمور دنياه، فهو نوعان:
 / توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه، وتوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والصلاة والصيام والحج والجهاد والدعوة وغير ذلك. ولذا روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس بن مالك له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فيتنحى عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ؟!» (٢).
وفي هذا دليل بيّن على عظم افتقار العبد إلى كفاية الله وهدايته ووقايته، وأنه لا غنى له عن ربه طرفة عين بأن يكون له حافظاً ومؤيداً ومسدّداً وهادياً.
والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به، والمرجو منه وحده أن يوفقنا أجمعين لحسن التوكل عليه.
_________________
(۱) «أضواء البيان) (٤٠٣/٣ - ٤٠٤ ) .
(٢) سنن أبي داود رقم: ۵۰۹۵) ، و جامع الترمذي (رقم : ٣٤٢٦) وحسنه. وانظر صحيحالترغيب والترهيب للألباني (رقم : ١٦٠٥).
اقرأ المزيد...

الجمعة، 7 نوفمبر 2025

 العمل بالآيات/ سورة الإنسان (۱-۱۱)

بسم الله الرحمن الرحيم


1- خلقك الله في هذه الدنيا، وأنعم عليك بالسمع والبصر والعقل، وشرّفك على غيرك من المخلوقات، وبيّن لك طريق الهدى ليبتليك: أتشكر أم تكفر .. أتوحّد أم تشرك .. أتطيع أم تعصي
فكن عبد الله الشاكر الموحد المطيع : (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا).

2- اقرأ ما ذكر الله عز وجل في القرآن من نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين مستحضرا حقيقته في نفسك، مصدقا به بقلبك موقنا أنه كائن لا محالة، مقارنا بين حال الفريقين؛ لتجد أثر ذلك في تصحيح عبوديتك، وتقويم سلوكك، فشتان بين من يكون في السلاسل والأغلال والسعير، وبين من عنده عين يتصرف فيها ويوجهها حيث شاء: 
(إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا * إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا).

3- اعلم أنك بشهادتك أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد التزمت بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر ونهي، فأوف بما التزمت به کاملا غیر منقوص مستعينا بالله على ذلك : (يوفون بالنذر).

4- الصالحون من عباد الرحمن يعيشون في الدنيا خائفين من عذاب الله وعقابه يوم القيامة، فتجدهم جادين في فعل كل ما يقربهم إلى الله والجنة، مبتعدين عن كل ما يدخلهم النار، فيجدون جزاءهم يوم القيامة بالوقاية من شرّ ذلك اليوم، وتحصيل النضرة والسرور، بينما تجد الغافلين آمنين من عذاب الله، مطمئنين إلى نعيم الدنيا، لاهين في حياتهم، عابثين بالنعم التي عندهم، لا يبالون بما فاتهم من الطاعات، ولا يكترثون بما ارتكبوه من المحرمات، يؤدون العبادات للتخلص من تبعاتها فحسب، فتراها في حياتهم شكلا لا روح فيها، فاحذر أن تكون منهم: (ويخافون يوما كان شره مستطيرا)، (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسًا قمطريرًا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا).

5- أنفق مما تحب من الأموال والأطعمة وغيرهما لتنال الدرجات العلى من الإيمان والبر والتقوى وليكن إنفاقك لمن هم أحوج حتى يكون أجرك أعظم: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرًا).

6- أخلص الله في أعمالك، قاصدًا وجهه الكريم، وخاصة في العبادات التي فيها إحسان إلى الناس، فلا تطلب منهم عوضا ولا ثناء ولا شكرا ولا دعاءً ولا دعما معنويا، ولا تحقيق أي منفعة دينية أو دنيوية لك، بل اطلب من الله وحده الأجر والثواب
( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 د. أبصار الإسلام / https://youtu.be/-2f5ZSYWKok
اقرأ المزيد...

فوائد سورة الإنسان الآيات (۱-۱۱)

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة اللهَ وبركاته
أبدأ بفوائد عامة في سورة الإنسان 
▪️عن أبي هريرة رضي اللهَ عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة بـ (الم تنزيل) - أي السجدة- في الركعة الأولى، وفي الثانية (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا)». «صحیح مسلم» (۲) (٥٩٩)

▪️وقال ابن تيمية رحمه الله: اعلم أن سورة (هل أتى على الإنسان) سورة عجيبة الشأن من سور القرآن على اختصارها، فإن الله سبحانه ابتدأها بذكر كيفية خلق الإنسان من النطفة ذات الأمشاج والأخلاط التي لم يزل بقدرته ولطفه وحكمته يُصرّفُه عليها أطوارا، وينقله من حال إلى حال إلى أن تمت خلقته وكمُلت صورته، فأخرجه إنسانا سويا سميعا بصيرا، ثم لما تكامل تمييزه وإدراكه هداه طريقي الخير والشر، والهدى والضلال، وأنه بعد هذه الهداية إما أن يشكر ربه وإما أن يكفره، ثم ذكر مآل أهل الشكر والكفر، وما أعد لهؤلاء وهؤلاء، وبدأ أولا بذكر عاقبة أهل الكفر، ثم عاقبة أهل الشكر، وفي آخر السورة ذكر أولا أهل الرحمة ثم أهل العذاب. فبدأ السورة بأول أحوال الإنسان وهي النطفة، وختمها بآخر أحواله وهي كونه من أهل الرحمة أو العذاب، ووسّطها بأعمال الفريقين، فذكر أعمال أهل العذاب مجملة في قوله: (إنا أعتدنا للكافرين)، وأعمال أهل الرحمة مفصّلة وجزاءهم مفصلا». «جامع الرسائل لابن تيمية» (١/ ٦٩).

▪️قوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا):
قال الطبري رحمه الله:" قيل: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) لأنه أتى عليه وهو جسم مُصوّر لم تنفخ فيه الروح أربعون عاما، فكان شيئا، غير أنه لم يكن شيئا مذكورا، قالوا: ومعنى قوله: (لم يكن شيئا مذكورا) لم يكن شيئا له نباهة، ولا رفعة، ولا شرف، إنما كان طينا لازبا وحمأ مسنونا".
 (تفسير الطبري (٢٤ / ٨٨)).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "قوله تعالى: (هل أتى) قال الفراء : معناه: قد أتى، و (هل) تكون خبرا، وتكون جحدا - أي نفيا- فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل وعظتك ؟ هل أعطيتك ؟ فتقرره بأنك قد فعلت ذلك. والجحد أن تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة.
وفي هذا الإنسان قولان:
أحدهما: أنه آدم عليه السلام. والحين الذي أتى عليه أربعون سنة، وكان مصورا من طين لم ينفخ فيه الروح، هذا قول الجمهور.
والثاني: أنه جميع الناس، روي عن ابن عباس، وابن جريج، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس، ويكون الحين زمان كونه نطفة، وعلقة، ومضغة". (زاد المسير في علم التفسير) (٤ / ٣٧٤).
وقال البغوي رحمه الله: "روي أن عمر سمع رجلا يقرأ هذه الآية: (لم يكن شيئا مذكورا) فقال عمر: ليتها تمت، يريد ليته بقي على ما كان" (تفسير البغوي (۸) (۲۸۹)). أي: ليته لم يُخلق ويُكلّف بهذا التكليف.

 ▪️قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا)
قال الطبري رحمه الله: "كان بعض أهل العربية يقول: المعنى: جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، فهي مقدمة معناها التأخير، إنما المعنى خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه، ولا وجه عندي لما قال يصح، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الآلات وسلامة العقل من الآفات، وإن عُدم السمع والبصر، وأما إخباره إيانا أنه جعل لنا أسماعا وأبصارا في هذه الآية، فتذكير منه لنا بنعمه، وتنبيه على موضع الشكر؛ فأما الابتلاء فبالخلق مع صحة الفطرة، وسلامة العقل من الآفة". (تفسير الطبري» (٢٤/ ٩١).
وقال البغوي رحمه الله: قال ابن عباس والحسن ومجاهد، والربيع: (من نطفة أمشاج): يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم، فيكون منهما الولد، فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له". (تفسير  البغوي (۲۹۲۸))

▪️قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) 
قال ابن القيم رحمه الله: "قسّم الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله، قال تعالى في الإنسان: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)، وقال نبيه سليمان: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)، وقال تعالى: {وإذ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد، وقال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم). وهذا كثير في القرآن يقابل سبحانه بين الشكر والكفر، فهو ضده. 
وقال تعالى : {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)، والشاكرون هم الذين ثبتوا على نعمة الإيمان، فلم ينقلبوا على أعقابهم". (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)
وقال ابن كثير رحمه الله: "(إنا هديناه السبيل) أي بيّناه له ووضحناه وبصرناه به كقوله: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)، وكقوله: (وهديناه النجدين) أي: بيّنا له طريق الخير وطريق الشر....
جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يُعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه، فإما شاكرا وإما كفورا)». «تفسير ابن كثير» (٨ ٢٨٦).

▪️قوله تعالى: (إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا) 
قال القرطبي رحمه الله: "عن أبي الدرداء كان يقول : "ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تُغل بالأغلال". وقال الحسن: "إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار، لأنهم أعجزوا الرب سبحانه، ولكن إذلالا". (الجامع لأحكام القرآن | (١٩/ ١٢٤)).

▪️قوله تعالى: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا)
قال ابن الجوزي رحمه الله: "(كان مزاجها) يعني مزاج الكأس (كافورا)، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الكافور المعروف قاله مجاهد و مقاتل، فعلى هذا في المراد بالكافور ثلاثة أقوال: 
أحدها: برده، قاله الحسن
 والثاني: ريحه، قاله قتادة
 والثالث: طعمه، قاله السدي.
والثاني : أنه اسم عين في الجنة، قاله عطاء، وابن السائب.
والثالث: أن المعنى مزاجها كالكافور لطيب ريحه، وأجازه الفراء والزجاج". (زاد المسير في علم التفسير \ (٤ / ٣٧٥)).
وقال السعدي رحمه الله: "(يشربون من كأس) أي شراب لذيذ من خمر قد مُزج بكافور، أي: خُلط به ليبرده ويكسر حدته، وهذا الكافور في غاية اللذة، قد سلم من كل مكدر ومنغص موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا تُعدم في الآخرة. كما قال تعالى: (في سدر مخضود وطلح منضود) ،(وأزواج مطهرة)، (لهم دار السلام عند ربهم)، (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين)". (تفسير السعدي) (ص ۹۰۱).

■ قوله تعالى: (عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا)
قال ابن القيم: قوله تعالى: "عينا يشرب بها عباد الله" فإنهم يضمنون ( يشرب) معنى (يروى) فيعدونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليل على الفعلين أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الري، وأن يقال: يروى بها؛ لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها، دل على الشرب بصريحه، وعلى الري بحرف الباء. فتأمله».
 بدائع الفوائد» (٢/ ٤٢٤).
وقال ابن القيم أيضا: وأما سورة الإنسان فقال تعالى: (إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا) فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة. ثم قال: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين. ثم قال: (عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصهم بالإضافة إليه، وأخبر أنهم يشربون بتلك العين صرفا محضا، وأنها تمزج للأبرار مزجا كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار: (ومزاجه من تسنيم* عينا يشرب بها المقربون).
 [طريق الهجرتين وباب السعادتين (١/ ٤٢١)]
وقال ابن كثير رحمه الله: "(يفجرونها تفجيرا) أي: يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم والتفجير هو الإنباع، كما قال تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا)، وقال: (وفجرنا خلالهما نهرا). تفسير ابن كثير) (۲۸۷/۸).

■ قوله تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) قال البغوي رحمه الله: "ويخافون يوما كان شره مستطيرا فاشيا ممتدا ، يقال : استطار الصبح، إذا امتد وانتشر".
قال مقاتل: "كان شره فاشيا في السماوات فانشقت وتناثرت الكواكب، وكورت الشمس والقمر، وفزعت الملائكة، وفي الأرض فنسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء". تفسير البغوي (٢٩٤٨).
وقال القرطبي رحمه الله: (يوفون بالنذر ) أي لا يخلفون إذا نذروا.
 وقال معمر عن قتادة: "بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات". 
وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه". وقال الفراء والجرجاني: "وفي الكلام إضمار ، أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة كان وتحذف أخرى وقد قال الله تعالى : (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة. وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله». (الجامع لأحكام القرآن» (۱۹/ ۱۲۷). يعني أن الواجبات في أصل الشرع داخلات في قوله تعالى : (يوفون بالنذر). والله تعالى أعلم.
وقال ابن كثير رحمه الله: "يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر، وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) رواه البخاري. ثم قال: "ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد، وهو اليوم الذي شره مستطير أي منتشر عام على الناس إلا من رحم الله». «تفسیر ابن کثیر» (۸) ۲۸۷).

■ قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا):
قال ابن الجوزي رحمه الله : "في الأسير أربعة أقوال:
أحدها: أنه المسجون من أهل القبلة، قاله مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير.
والثاني: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة.
والثالث: المرأة، قاله أبو حمزة الثمالي. - أخذا له من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن النساء (فإنهن عوان عندكم) -
والرابع: العبد
ذكره الماوردي». زاد المسير في علم التفسير (٤ / ٣٧٧).

وقال القرطبي رحمه الله: "(ويطعمون الطعام على حبه) قال ابن عباس ومجاهد: "على قِلته وحبهم إياه وشهوتهم له"
وقال الداراني: "على حب الله". وقال الفضيل بن عياض: "على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خثيم إذا جاءه السائل قال: "أطعموه سُكرا، فإن الربيع يحب السكر". الجامع لأحكام القرآن» (۱۹) .(۱۲۸)
وقال ابن تيمية رحمه الله : "أخبر عنهم بإطعام الطعام على محبتهم له، وذلك يدل على نفاسته عندهم وحاجتهم إليه، وما كان كذلك فالنفوس به أشح، والقلوب به أعلق، واليد له أمسك فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل.
فذكر من حقوق العباد بذل قوت النفس على نفاسته وشدة الحاجة منبها على الوفاء بما دونه، كما ذكر من حقوقه الوفاء بالنذر منبها على الوفاء بما هو فوقه وأوجب منه، ونبه بقوله : (على حبه) أنه لولا أن الله سبحانه أحب إليهم منه لما آثروه على ما يحبونه، فآثروا المحبوب الأعلى على الأدنى". «جامع الرسائل لابن تيمية (۱) (۷۲)».
وقال ابن القيم رحمه الله: فطر الله العباد على أن من تقرب إلى محبوبه بأفضل هدية يقدر عليها وأجلها وأعلاها كان أحظى لديه وأحب إليه ممن تقرب إليه بألف واحد رديء من ذلك النوع. وقد نبه سبحانه على هذا بقوله: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد)،
 وقال تعالى: { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه)، وقال: (ويطعمون الطعام على حبه) وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب، فقال: (أغلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها. 
«أعلام الموقعين عن رب العالمين) (۲/ ۸۹)».
وقال ابن كثير رحمه الله: "روى البيهقي، من طريق الأعمش عن نافع قال: "مرض ابن عمر فاشتهى عنبا أول ما جاء العنب فأرسلت صفية - يعني امرأته - فاشترت عنقودا بدرهم، فاتبع الرسول السائل - يعني المُرسل لشراء العنب اتبعه سائل فقير - فلما دخل به قال السائل: السائل، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: "أعطوه إياه" فأعطوه إياه، ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا، فاتبع الرسول السائل، فلما دخل قال السائل: السائل، فقال ابن عمر: أعطوه إياه، فأعطوه إياه، فأرسلت صفية إلى السائل فقالت: "والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا" ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به".
وفي الصحيح: (أفضل الصدقة أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى، وتخشى الفقر) أي: في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه". «تفسير ابن كثير (۲۸۸۸)»

■ قوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)
أخرج الطبري في تفسيره عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال في قوله تعالى:  (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) قال: "أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب". «تفسير الطبري» (٢٤/ ٩٨).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، والدعاء جزاء، كما في الحديث: (من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه).
وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول - المُرسل بالصدقة ـ : اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا، ويبقى أجرنا على الله.
وقال بعض السلف : "إذا قال لك السائل : بارك الله فيك فقل : وفيك بارك الله".
فمن عمل خيرا مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبيا أو رجلا صالحا أو ملكا من الملوك أو غنيا من الأغنياء فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصا الله يبتغي به وجه الله ، لا يطلب به من المخلوق جزاء ولا دعاء ولا غيره، لا من نبي ولا رجل صالح ولا من الملائكة". «مجموع الفتاوى» (۱) ۱۸۸).
وقال ابن تيمية رحمه الله: "فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا لأنه إنما عمل له ما عمل الله، كما قال الأبرار: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)، ولا يمُنّ عليه بذلك ولا يؤذيه فإنه قد عُلم أن الله هو المانّ عليه إذ استعمله في الإحسان، وأن المنة الله عليه وعلى ذلك الشخص - أي المُحسن إليه - فعليه هو : أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك: أن يشكر الله إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزق أو علم أو نصر أو غير ذلك".  «مجموع الفتاوى (١٤ / ٣٣٠)».

■ قوله تعالى: (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا)
قال البغوي رحمه الله: " (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا) تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، نسب العبوس إلى اليوم كما يقال: يوم صائم وليل قائم، وقيل وُصِف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة.
(قمطريرا) قال قتادة، ومجاهد، ومقاتل: " القمطرير: الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس". قال الكلبي: "العبوس الذي لا انبساط فيه والقمطرير الشديد"، قال الأخفش : "القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء يقال: يوم قمطرير وقماطر، إذا كان شديدا كريها». «تفسير البغوي (٢٩٥/٨)».

■ قوله تعالى: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا)
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد جمع سبحانه بين الجمالين - أعني جمال الظاهر والباطن - في غير موضع من كتابه:
منها قوله: (يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سواتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير).
ومنها قوله في نساء الجنة (فيهن خيرات حسان) فهن حسان الوجوه، خيرات الأخلاق.
ومنها قوله: (ولقاهم نضرة وسرورا) فالنضرة جمال الوجوه، والسرور جمال القلوب.
ومنها قوله : (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) فالنضرة تزين ظواهرها، والنظر يجمل بواطنها.
ومنها قوله: (وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا) فالأساور جملت ظواهرهم، والشراب الطهور طهر بواطنهم.
ومنها قوله: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب* وحفظا من كل شيطان مارد) فجمل ظاهرها بالكواكب، وباطنها بالحراسة من الشياطين. «مدارج السالكين» (٤) ٢٢١-٢٢٢).
وقال ابن كثير رحمه الله: "القلب إذا سُر استنار الوجه"، قال كعب بن مالك في حديثه الطويل: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وقالت عائشة: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه..) الحديث. «تفسير ابن كثير (۲۸۹/۸)».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. أبصار الإسلام https://youtu.be/PYB0PPmEIZM

اقرأ المزيد...

الاثنين، 27 أكتوبر 2025

التعليق على تفسير سورة الإنسان الآيات (۱-۱۱)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذه الفقرة المتعلقة بالتعليق على تفسير الآيات من سورة الإنسان من الآية الأولى وحتى الآية الحادية عشرة من المختصر في تفسير القرآن الكريم.

ن/ سورة الإنسان: مكية.
مِنْ مَقَاصِدِ السُّورَةِ تذكير الإنسان بأصل خلقه ومصيره، وبيان ما أعد الله في الجنة لأوليائه.
ت/ نعم من مقاصد سورة الإنسان، تذكير الإنسان بأصل خلقه، ومن أي شيء خلقه الله وأنه كان عدما قبل أن يخلقه الله، وتذكيره كذلك بمصيره الذي سيصير إليه في الآخرة من دخول الجنة أو النار، ومن مقاصدها كذلك بيان ما أعد الله في الجنة لأوليائه، وهذا ما جاء تفصيلا في هذه السورة، بينما جاء عذاب الكافرين مجملا في آية واحدة، أما في سورة المرسلات فقد جاء عذاب المكذبين مفصلا وجاء نعيم المتقين مجملا. نعم

ن/ قال تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَذْكُورًا )
 قد مر على الإنسان دهر طويل كان فيه معدوما لا ذكر له. 
ت/ نعم، قال: هل أتى على الإنسان؟ الاستفهام هنا استفهام تقريري، فـ (هل أتى) بمعنى قد مر على الإنسان، وقد أتى على الإنسان حين من الدهر، يعني زمن طويل من الدهر، لم يكن شيئا مذكورا. بمعنى أنه كان عدما لا أثر له ولا ذكر، وذلك قبل أن يخلق، وقبل أن تنفخ فيه الروح، نعم

ن/ قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)
 أي: إنا خلقنا الإنسان من نطفة خليطة بين ماء الرجل وماء المرأة 
ت/ نعم  قال: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) يعني أن النطفة مخلوطة بين ماء الرجل وماء المرأة،

ن/ نختبره بما نُلزمه به من التكاليف.
ت/ هذا معنى قوله (نبتليه) يعني خلقناه لنبتليه، لنختبره بما نلزمه به من الأوامر والنواهي الشرعية، نعم

ن/ فجعلناه سميعا بصيرا ليقوم بما كلفناه به من الشرع.
ت/ يعني أن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان سميعا ليسمع آيات الله سبحانه وتعالى، وجعله بصيرا ليرى دلائل الله في خلقه، فيكون سببا في إيمانه والتزامه بالتكاليف الشرعية، نعم

ن/ قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْنَهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)
أي بينا له على ألسنة رسلنا طريق الهداية، فاستبانت له بذلك طريق الضلال..
ت/ نعم قال (إنا هديناه السبيل) أي بينا له طريق الهداية، ومن عرف طريق الهداية استباkت له طرق الضلال، لأن الهدى واحد غير متعدد، وما عدا الهدى ضلال مهما كثر، فماذا بعد الحق إلا الضلال، نعم.

ن/ فهو بعد ذلك إما أن يهتدي للصراط المستقيم، فيكون عبدًا مؤمنا شكورا الله، وإما أن يضل عنها فيكون عبدًا كافرًا جحودا لآيات الله.
ت/ نعم، قال (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) فالله سبحانه وتعالى بيّن له طريق الهداية، و(هديناه) هنا، بمعنى بينا له، فهو إما أن يكون بعد ذلك شاكرا مهتديا، بمعنى أنه يوفق للهداية، وإما أن يكون كفورا جحودا لآيات الله سبحانه وتعالى.

ن/ ولما بيّن الله نوعي المهتدي والضال بيّن جزاءهما فقال:
 (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا) أي: إنا أعددنا للكافرين بالله وبرسله سلاسل يسحبون بها في النار، وأغلالًا يُغَلّون بها فيها، ونارًا مُسْتَعِرة. 
ت/ نعم، قال (إنا أعتدنا) أعتدنا أي: أعددنا للكافرين. 
(سلاسل وأغلالا وسعيرا) السلاسل: حِلق غليظة من حديد تشد بها أرجلهم، كما قال تعالى: (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه)، والأغلال: قيود من حديد تُغل بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها كما قال تعالى (فسوف يعلمون* إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون* في الحميم ثم في النار يسجرون) نسأل الله العافية. نعم

ن/ (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)
أي: إن المؤمنين المطيعين الله يشربون يوم القيامة من كأس خمر مملوءة ممزوجة بالكافور لطيب رائحته.
ت/ نعم، إن الأبرار الأبرار هم المؤمنون المطيعون لله سبحانه وتعالى، ذكر من نعيمهم أنهم يشربون من كأس، كان مزاجها كافورا، يعني يشربون من كأس خمر مملوءة ممزوجة بالكافور ليطيب الرائحة، وليكسر حدة الخمر، نعم

ن/ قال تعالى (عَيْنَا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِرُونَهَا تَفْجِيرًا )
أي: هذا الشراب المُعدّ لأهل الطاعة هو من عين سهلة التناول غزيرة لا تَنْضَب ، يَرْوَى بها عباد الله، يسيلونها ويُجرونها أين شاؤوا.
ت/ نعم، ذكر أن مزاج كأس الخمر من عين يشرب بها عباد الله، فإما أن تكون الخمر نفسها من هذه العين، أو يكون مزاج الخمر الذي هو الكافور من هذه العين، قال: (يشرب بها) ولم يقل (يشرب منها، وتعدية فعل يشرب بالباء يدل على تضمين فعل يشرب معنى فعل آخر، فيكون مضمنا معنى يروى بها عباد الله، أو يتلذذ بها عباد الله، فهم يشربون منها، ويرون بها، ويتلذذون بها. وهذه العين لا تنضب بمعنى أنهم لا يخشون نفادها وانتهاء مائها، ثم قال (يفجرونها تفجيرا) بمعنى أنهم يوجهونها حيث شاءوا، يتحكمون في مجرى هذه العين نسأل الله من فضله نعم.

ن/ قال تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا )

أي: وصفات العباد الذين يشربونها أنهم يوفون بما ألزموا به أنفسهم من الطاعات، ويخافون يوما كان شره منتشرا فاشيا وهو يوم القيامة.
ت/ نعم ذكر صفات الأبرار التي استحقوا بها النعيم المقيم، فذكر من صفاتهم أنهم يوفون بالنذر، يعني أنهم كانوا في الدنيا يوفون بما ألزموا به أنفسهم من الطاعات مما لم يكن واجب عليهم بأصل الشرع، والوفاء يدل على أنهم يؤدون ما ألزموا به أنفسهم كامل وافيا دون نقص، فإذا كان هذا حالهم مع ما أوجبوه هم على أنفسهم ولم يكن واجبا عليهم بأصل الشرع، فلا شك أن حالهم مع ما هو واجب عليهم بما أوجبه الله يكون أعلى وأكمل.
ثم ذكر من صفاتهم أنهم يخافون يوما كان شره مستطيرا، يعني أنهم يخافون يوم القيامة، وهذا ما ذكره الله عنهم في آيات كثيرة. من ذلك ما جاء من قول الله سبحانه وتعالى (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون* قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين*فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم) فحالهم في الدنيا أنهم يخافون من يوم القيامة فيعملون لذلك اليوم، ويخافون أن يكونوا من المعذبين في ذلك اليوم الذي شره منتشر عام يصيب كثيرا من الناس. والله المستعان، نعم

ن/ قال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينَا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) ويطعمون الطعام مع كونهم في حال يحبونه لحاجتهم إليه واشتهائهم له، يطعمونه المحتاجين من الفقراء واليتامى والأسارى.
ت/ نعم ذكر من صفاتهم ثالثا أنهم يطعمون الطعام على حبه، أي مع حبهم لهذا الطعام لحاجتهم إليه، أو لاشتهائهم له مع ذلك يطعمونه المسكين وهو الفقير، واليتيم وهو: من فقد أباه صغيرا، والأسير: الذي أسره الكفار نعم

ن/ قال تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شَكُورًا)

أي: ويُسرون في أنفسهم أنهم لا يطعمونهم إلا لوجه الله، فهم لا يريدون منهم ثوابًا ولا ثناء على إطعامهم إياهم.
ت/ نعم قال: ويسرون في أنفسهم أنهم لا يطعمونهم إلا لوجه الله، لو قالوها في وجوه المساكين واليتامى والأسارى، لكان فيه نوع منٍّ عليهم، ولكان فيه نوع من عدم الإخلاص التام لله سبحانه وتعالى، لكنهم حينما يطعمون الطعام يقولون في أنفسهم إنما نطعمكم لوجه الله، أي ابتغاء ثواب الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، لا نريد منكم مقابل هذا الإطعام مدحا، ولا شكرا، ولا ثناء ولا مالا، ولا جاها، ولا غير ذلك، نعم

ن/ قال تعالى (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبَّنَا يَوْمًا عَبُوسًا فَتَطَرِيرًا )

أي: إنا نخاف من ربنا يوما تكلح فيه وجوه الأشقياء لشدّته وفظاعته.
ت/ نعم، قال (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) كرر ذكر خوفهم من يوم القيامة، بعد أن ذكره قبل آيات قليلة فقال سابقا (ويخافون يوما كان شره مستطيرا)، ثم قال هنا (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) فحالهم في الدنيا أنهم خائفون، وجلون من عاقبتهم ومصيرهم يوم القيامة مع أنهم يعملون الصالحات كما قال الله سبحانه وتعالى (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون* والذين هم بآيات ربهم يؤمنون* والذين هم بربهم لا يشركون* والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون). عائشة رضي الله عنها (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أهم الذين يزنون ويسرقون ويخافون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، إنما هم الذين يصلّون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل منهم) فحالهم الخوف الشديد من عذاب الله سبحانه وتعالى، ومن عدم قبول أعمالهم، وهنا وصف اليوم بأنه عبوس قمطرير أي: أن الوجوه فيه تعبس وتتقطب الجباه، وفيه من الضيق والشدة ما الله به عليم. نسأل الله السلامة والعافية، نعم

ن/ قال تعالى (فَوَقَتَهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَتَهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)

أي: فوقاهم الله بفضله شر ذلك اليوم العظيم، وأعطاهم بهاءً ونورا في وجوههم؛ إكراما لهم، وسرورًا في قلوبهم.
ت/ نعم. قال (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) لأنهم خافوا من ذلك اليوم في الدنيا كما قال في آية سورة الطور (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) قال (فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم).
(ولقّاهم نضرة وسرورا) أي وجعلهم يلقون النضرة وهي البهاء والنور والحسن في الوجوه، والسرور: الذي هو سرور القلب. فاجتمع لهم سرور الظاهر والباطن.

من فوائد الآيات:

ثبوت الاختيار للإنسان، وهذا من تكريم الله له،
نعم، وهذا مأخوذ من قول الله سبحانه وتعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) جعله الله سميعا بصيرا عاقلا. ليختبره بالتكاليف.
الوفاء بالنذر، وإطعام المحتاج، والإخلاص في العمل، والخوف من الله، أسباب للنجاة من النار، ولدخول الجنة،
نعم هذه الأربعة جاءت في الآيات السابقة:
 الوفاء بالنذر في قوله (يوفون بالنذر)
وإطعام المحتاج في قوله (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)
والإخلاص في العمل في قوله (إنما نطعمكم لوجه الله)
والخوف من الله في قوله (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) ، وكذلك في قوله (ويخافون يوما كان شره مستطيرا)
فهذه الأربعة كلها أسباب للنجاة من النار ولدخول الجنة.
نسأل الله الجنة من فضله ونعوذ به من النار .

هذا آخر ما في هذا المقطع. أسال الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما وعملا وهدى وتقى، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_________________________________________

اقرأ المزيد...

الأربعاء، 22 أكتوبر 2025

الدرس الثاني والخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٦١) (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد..)

 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: 
ن/  "قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) أي: واذكروا إذ قلتم لموسى على وجه التملل لنِعم الله والاحتقار لها (لن نصبر على طعام واحد) أي جنس من الطعام وإن كان كما تقدم أنواعا لكنها لا تتغير، (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) أي نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، وقثائها وهو الخيار، وفومها أي ثومها، والعدس والبصل معروف.
قال لهم موسى (أتستبدلون الذي هو أدنى) وهو الأطعمة المذكورة (بالذي هو خير) وهو المنّ والسلوى فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم أي مصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي منّ الله تعالى به عليكم فهو خير الأطعمة وأشرفها فكيف تطلبون به بدلا؟! ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم، واحتقارهم لأوامر الله تعالى ونِعمه، جازاهم من جنس عملهم فقال: (وضربت عليهم الذلة) التي تشاهد على ظاهر أبدانهم، (والمسكنة) بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم عزيزة، ولا هممُهم همم عالية بل أنفسهم أنفس مهينة وهممهم أردى الهمم، (وباؤوا بغضب من الله) أي لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا إلا أن رجعوا بسخطه عليهم فبئس الغنيمة غنيمتهم، وبئس الحالة حالتهم، (ذلك) أي الذي استحقوا به غضبه (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) أي الدالات على الحق الموضحة لهم، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم وبما كانوا (يقتلون النبيين بغير الحق) وقوله (بغير الحق) زيادة شناعة وإلا فمن المعلوم أن قتل النبيين لا يكون بحق لكن لئلا يُظن جهلهم وعدم علمهم، (ذلك بما عصوا) بأن ارتكبوا معاصي الله، (وكانوا يعتدون) على عباد الله فإن المعاصي يجر بعضها بعضا فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير، ثم ينشأ عنه الذنب الكبير، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك فنسأل الله العافية من كل بلاء"
ت/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: قول الله جل وعلا (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) لا يزال السياق في هذه الآيات في خطاب بني إسرائيل بدءا من قوله سبحانه وتعالى (يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم)، وعرفنا أن قوله عز وجل (وإذ) في بداية كثير من الآيات التي مرت والتي ستأتي أي: (واذكروا إذ)، واذكروا يا بني إسرائيل حين كذا وحين كذا، يذكرهم بأمور كانت من أسلافهم، منها نِعم عظيمة أنعم الله عز وجل بها عليهم، ومنها ذكر أفعال شنيعة وأمور قبيحة حصلت منهم، فالله عز وجل والى عليهم النعمة وكانوا يقابلون ذلك بالبطر والمعصية والتكذيب والمخالفة وهنا في هذه الآية يقول سبحانه وتعالى (وإذ قلتم يا موسى) أي: واذكروا يا بني إسرائيل حين قلتم أي: قال أسلافكم لأن الخطاب موجه للموجودين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وهو تذكير بما كان من أسلافهم أوليهم، (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) هذا قالوه بعد مِنة الله سبحانه وتعالى عليهم بالمنّ والسلوى، قد تقدم ذكر ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم المنّ والسلوى، والمنّ طعام حلو، والسلوى طير شهي، فمنّ الله عز وجل عليهم بهذا الطعام الطيب الحسن الذي يكفي في فضله ونفعه أنه اختيار الله لهم سبحانه وتعالى، لكن القوم بطروا نعمة الله عز وجل وهذا الفضل وهذا الاختيار، بطروا نعمة الله عز وجل وقالوا (لن نصبر على طعام واحد) يعنون بالطعام الواحد المنّ والسلوى، ومعنى (طعام واحد) أي ثابت لا يتغير، أي كل يوم لا نأكل إلا هذا الطعام ليس هناك طعام آخر، هذا معنى قولهم (لن نصبر على طعام واحد) يعني مجرد نوع واحد كل يوم نأكل منه هذا ما يكفي، ولا نرغب في ذلك ولا نصبر على ذلك، وأصابنا منه الملل، (لن نصبر على طعام واحد) قال الحسن البصري رحمه الله: " فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه القثاء والفوم والعدس...الخ". (قالوا لن نصبر على طعام واحد) (فادعوا لنا) أي يا موسى (ربك يُخرج لنا مما تُنبت الأرض)، (مما تُنبت الأرض) الذي كانوا يأكلونه قبل أن ينزل المنّ والسلوى، قالوا نريد شيء تنبته الأرض من ماذا؟ من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، البقل هي: البقول والخُضر التي هي الزروع، أنواع البقول من الخضر المعروفة، والقثاء هو الخيار وما كان بمعناه، والفوم قيل هو الثوم وقيل الحنطة وأنواع الحبوب التي تؤكل، والعدس والبصل المعروفان، قالوا (مما تُنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها).
قال لهم موسى عليه السلام مقرعا وموبخا (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) (تستبدلون) تتركون الخير، الاستبدال فيه ترك وأخذ، والباء تدخل على المتروك -كما عرفنا- (أتستبدلون الذي هو أدنى) يعني الأقل قدرا، الأقل شأنا (بالذي هو خير) ويكفي في بيان أن هذا خير لهم أنه اختيار الله لهم (بالذي هو خير) خير لكم أي: أنفع، حلو وطيب ونافع وتتركونه وتأخذون شيئا أدنى منه وأقل شأنا منه، يقول ذلك مُقرعا ومُوبخا لهم (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) الآن هم طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو الله مثل ما مر معنا واضح (فادعوا لنا ربك) فهل في السياق أن موسى دعا لهم؟ لا ليس فيه، فيه أنه وبخهم في هذا الطلب وقال هذا طلب غير لائق تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهذا الذي تطلبونه موجود في كل الأمصار اذهبوا إلى مصر من الأمصار، أي مدينة من مدن، أي بلد، هذه أشياء موجودة، هذا معنى الكلام.
 قال (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) الشيء الذي طلبتموه موجود، أي مصر من الأمصار، أي مدينة من المدن، أي قرية من القرى، ادخلوا تجدون هذا في المزارع والأسواق متوافر، (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم)
(مصرا) أيُراد بها البلد المعروف أو يراد بها مصرا من الأمصار؟قولان لأئمة التفسير في معناها:
●لأنه جائز أن يراد بقوله (مصرا) أي مصرا من الأمصار، (اهبطوا مصرا) أي من الأمصار
●وجائز أن يراد بمصر أي بعينها المعروفة. ويأتي ذكرها باسمها في مواطن من القرآن (تبوءا لقومكما بمصر)، (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)، وتأتي - يعني في مواطن من القرآن- ويُراد مصر البلد المعروف، لكن هنا جائز أن يكون المراد البلد المعروف، وجائز أن يُراد مصر من الأمصار، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "وقال مصر مصرا أي مصر من الأمصار" المعنى ماذا؟ اهبطوا مصرا اذهبوا إلى أي بلد، إلى أي مدينة، كل هذه الأشياء التي تطلبون موجودة، (اهبطوا مصرا) أي بلد من البلدان (فإن لكم ما سألتم) أي: تجدون فيها هذا الذي تطلبونه، أي بلد موجودة هذه الأشياء.
 وجاء عن أبي العالية قال: "يعني بها مصر فرعون" يقصد البلد المعروف، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "والحق أن المراد مصرا من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره" ويكون المعنى حينئذ هذا الذي طلبتم ليس بأمر عزيز ادخلوا أي بلد من البلدان تجدونه، (اهبطوا مصرا) أي بلد، هذا المعنى (اهبطوا مصرا) أي بلد تجدونه، وقال البغوي رحمه الله تعالى: "والأول أصح" الأول مصرا، من الأمصار، ذكر القولين وذكر أول القولين مصر من الأمصار وقال: "والأول أصح" قال: "لأنه لو أراده لم يصرفه" ما معنى لم يصرفه؟ الصرف التنوين لم يصرفه أي لم ينون، قال (مصرا) ويقوي هذا أنك إذا نظرت إلى ذكر مصر -البلد المعروف- في القرآن في كل موارد ذكرها وجاءت في مواطن جاءت غير مصروفة لأنها ممنوعة من الصرف قيل للعلمية والعجمة، اجتماع الأمرين العلمية والعجمة، وقيل لاجتماع العلمية والتأنيث، لكن الآن لما لم يرد بلد معين انتفى ماذا من الأمرين؟ العلمية، انتفت العلمية فلم يصبح متحققا فيه ما يمنعه من الصرف ولهذا يقول البغوي "والأول أصح لأنه لو أراده لم يصرفه" يعني جاء منونا، جاء منون (مصرًا) قال (اهبطوا مصرا) أي بلد من البلدان (فإن لكم ما سألتم) أي تجدون ما شئتم، هذه الأشياء التي تطلبونها هي موجودة في كل في كل بلد، إذا موسى عليه السلام لم يدعٌ، لما قالوا (ادع لنا ربك) لم يدعُ، وهذا الذي يطلبونه هو موجود، يقول لهم موجود اذهبوا أي بلد تجدونه.
 (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) الذلة أذلهم الله، الذلة: الصغار، (ضربت عليهم الذلة) أي ضرب الله عليهم الصغار، أذلهم سبحانه وتعالى، والمسكنة: الفاقة وفقر النفس، (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) فماذا كان العاقبة؟ كساهم الله ذلا وصغارا، هذا في الدنيا موصولا بذل الآخرة. وعقوبتها عند الله سبحانه وتعالى (ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب) رجعوا وانصرفوا مصحوبين بغضب من الله سبحانه وتعالى من أجل ماذا؟ الغضب، ذلك الإشارة هنا للغضب (باءوا بغضب من الله) ذلك يعني الموجب لهذا الغضب السبب له (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) جمعوا بين الكفر بآيات الله الواضحات البينات وما فيها من الحجج الظاهرات يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين الذين جاءوا بهذه الآيات نورا وضياء للناس (يقتلون النبيين).
قوله (بغير حق) ليس هناك قتل لنبي بحق لكن هذا القيد المراد به شناعة العمل وعظم قبح هذا الإجرام الذي كان منهم (ويقتلون النبيين بغير الحق)
(ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) أيضا أمر آخر وسبب آخر في هذا الغضب، (ذلك) الإشارة إلى الغضب، (بما عصوا) أي بعصيانهم فعل المناهي والمحرمات، (وكانوا يعتدون) الاعتداء: مجاوزة الحدود المأذون فيها، قال الشيخ رحمه الله تعالى في قوله (وإذ قلتم): "أي واذكروا إذ قلتم ومعنى (إذ) أي حين، اسم بمعنى حين، (واذكروا إذ قلتم) أي حين قلتم لموسى على وجه التململ لنِعم الله والاحتقار لها (لن نصبر على طعام واحد) أي جنس من الطعام وإن كان كما تقدم أنواعا لكنها لا تتغير" المنّ والسلوى، المنّ يعني قيل تحته معان هو منّة من الله، منّة وفضل من الله عز وجل، قال: "وإن كان كما تقدم أنواع لكنها لا تتغير" هي تتكرر عليهم لكنها من أطيب الطعام واختيار الله سبحانه وتعالى لهم.
قالوا (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) أي نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه لأن النبات منه أشجار والذي يقال له شجر ما يقوم على ساق، له ساق يقوم عليه، والنوع الآخر زروع لا تقوم على ساق وإنما هي نباتات، (وقثائها) قال: "وهو الخيار" (وفومها) أي ثومها  وقيل المراد بفومها الحنطة وعموم الحبوب التي تؤكل القمح والشعير ونحو ذلك، قال: "والعدس والبصل المعروف"، قال لهم موسى مقبحا: (أتستبدلون الذي هو أدنى) الأطعمة المذكورة التي تقدم ذكرها القثاء والفوم، (بالذي هو خير) الذي هو المنّ والسلوى، فهذا غير لائق بكم فإن هذه الأطعمة التي طلبتم أي مصر هبطتموه وجدتموها، (اهبطوا مصرا) أي أيَ مصر هبطتموه وجدتموها، أما طعامكم الذي منّ الله به عليكم فهو خير الأطعمة وأشرفها فكيف تطلبون به بدلا؟! هذا كله تقبيح لهذا الأمر ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونِعمه جازاهم من جنس عملهم، وقاعدة الشريعة دائما في العقوبة أنها من جنس العمل جزاء وفاقا، جازاهم من جنس عملهم فقال (وضربت عليهم الذلة) التي تشاهد على ظاهر أبدانهم، والمسكنة بقلوبهم، الذلة الصغار، والمسكنة الفاقة -فقر النفس- قال: "والمسكنة بقلوبهم فلم تكن أنفسهم عزيزة ولا لهم همم عالية بل أنفسهم أنفس مهينة، وهممهم أردئ الهمم" (وباءوا بغضب من الله) أي لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا إلا أن رجعوا بسخطه عليهم فبئس الغنيمة غنيمتهم، وبئس الحالة حالتهم". قال: "ذلك -أي الغضب الذي استحقوه- (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) أي الدالات على الحق الموضحة لهم فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليه، وأيضا بما كانوا يقتلون النبيين بغير الحق" قال الشيخ: "وقوله (بغير الحق) زيادة شناعة وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق لكن لئلا يُظن جهلهم وعدم علمهم، لا، هم يقتلون عن علم" وكأن هذا المعنى عن علم وعن معرفة، وأنهم أنبياء وأن لهم شأن، وأنهم رسل من الله يعلمون ويقتلون، هذا معنى (بغير حق) حتى لا يُظن أنهم قتلوهم جهلا بمكانتهم أو بشأنهم أو منزلتهم.
 قال: (بغير حق ذلك بما عصوا) بأن ارتكبوا معاصي الله وكانوا يعتدون على عباد الله فإن المعاصي يجر بعضها بعضا، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير، ثم ينشا عنها الذنب الكبير، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك، ولهذا قالوا: "المعصية بريد الكفر" وأن الواجب على العبد لا يستهين بالمعصية لأن المعصية تنادي أختها تدعو إليها وهكذا، وكذلك البدعة لا يستهين الإنسان ببدعة، البدعة تدعو إلى بدع والبدع تُوصل إلى الكفر، ولهذا ينبغي أن يكون المرء حازم مع نفسه ولا ينساق مع المعاصي ولا ينساق مع البدع، قال: "فنسال الله العافية من كل بلاء". نعم

ن/ قال رحمه الله: "واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم ونُسبت لهم لفوائد عديدة".
ت/ الخطاب بدءا من قوله (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) وما تبعتها من آيات إلى هذه الآية (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر) الخطاب كله لبني اسرائيل وسيأتي أيضا تتمة لهذا الخطاب فينبه الشيخ رحمه الله أن هذا الخطاب الذي لبني اسرائيل كان خطابا للموجودين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، هل الموجودون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام هم الذين قالوا لن نصبر على طعام واحد هل هم الذين حصل منهم الأشياء التي ذكرت قبل؟ حصلت ممن؟
من آبائهم -أسلافهم- فقد يسأل السائل: كيف يخاطبون بهذا الخطاب وهو إنما حصل من آبائهم الأولين وأسلافهم ما الحكمة في ذلك؟
الشيخ وقف هنا وقفة جميلة جدا ونافعة يبين وجه كون هؤلاء يخاطبون بهذه الاعمال يقال: قلتم، فعلتم، يخاطبهم بهذه الأمور وهي حصلت من آبائهم الأولين وأسلافهم فما وجه ذلك؟ ما الحكمة؟
 ذكر عدة أمور موضحة للحكمة من ذلك قال: "كان خطابا للموجودين وقت نزول القرآن وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي من فعل أسلافهم ونسبت إليهم، ما معنى نُسبت إليهم؟
 قلتم، فعلتم، يخاطبون بها فما وجه هذا الخطاب؟
يذكر الشيخ عدة أمور توضح الحكمة من ذلك. نعم
ن/ قال رحمه الله: "منها أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم ويزعمون فضلهم على محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن به فبين الله تعالى من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ما يبين به لكل واحد منهم أنهم ليسوا من أهل الصبر، ومكارم الأخلاق، ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم، فكيف الظن بالمخاطبين"
ت/ نعم، يعني أن المخاطبين سيكونون شر من أولئك، وأسوء حالا من أولئك فالسياق الذي مرّ يدل على أن الأولين لا صبر عندهم ولا عندهم مكارم أخلاق ولا عندهم معالي الأعمال فهذه حال أسلافهم وهم يتمدحون بحالهم وحال أسلافهم فذُكروا بالحالة التي كان عليها أسلافهم قال: "مع أن المظنة أنهم أولى -يعني الأسلاف- وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين" ولا يأتي على الناس الزمان إلا والذي بعد شر منه فإذا كانت هذه حال أسلاف فما الظن بحالهم، إذا كانت هذه حال أسلافهم وهم مع موسى عليه السلام نبي الله يعظهم ويبين لهم فكيف بحال هؤلاء مع الانقطاع والبُعد. نعم

ن/ قال رحمه الله: "ومنها أن نعمة الله تعالى على المتقدمين منهم نعمة واصلة إلى المتأخرين، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء فخوطب بها لأنها نِعم تشملهم وتعمهم".
ت/ نعم يعني النعم الواصلة لآباءهم هي نعم لهم هي نعم لهم (نعمتي التي أنعمت عليكم) أنعم بها على أبائهم هذه النعم الواصلة لآبائهم هي من إنعام الله عليهم أكرم آبائهم بتلك النِعم. نعم.

ن/ قال رحمه الله: "ومنها أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها حتى كأن مُتقدِمهم ومتأخِرهم في وقت واحد وكأن الحادث من بعضهم حادث من الجميع".
ت/ نعم ولا سيما أنهم هم منتسبون اليهم ويتمدحون بانتسابهم إليهم وهذا يؤكد المعنى الذي ذكر الشيخ رحمه الله تعالى أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد كان مُتقدمهم ومتأخرهم كأنهم في وقت واحد، وكان الحادث من بعضهم حادث من جميعهم. نعم.

ن/ قال رحمه الله: "لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع، ومنها أن أفعالهم اكثرُها لم ينكروها والراضي بالمعصية شريك للعاصي... إلى غير ذلك من الحِكم التي لا يعلمها الا الله. ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(

نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما. اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. جزاكم الله خيرا
--------------------------------------

 

اقرأ المزيد...

السبت، 18 أكتوبر 2025

اسم الله (الحسيب / الكافي) من كتاب [فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر]

 بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
قال الله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [النساء : ٦] ، وقال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ، وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر : ٣٦].
و«الحسيب»: هو الكافي الذي كفى عباده جميع ما أهمهم من أمور دينهم ودنياهم، الميسر لهم كل ما يحتاجونه، الدافع عنهم كل ما يكرهونه.
ومن معاني الحسيب أنه الحفيظ على عباده كل ما عملوه (أحصاه الله ونسوه) وعلم تعالى ذلك، وميز الله صالح العمل من فاسده، وحسنه من قبيحه، وعلم ما يستحقون من الجزاء ومقدار ما لهم من الثواب والعقاب.

و «الكافي»: الذي كفاية الخلق كل ما أهمهم بيده سبحانه، وكفايته لهم عامة وخاصة :
أما العامة: فقد كفى تعالى جميع المخلوقات وقام بإيجادها وإمدادها وإعدادها لكل ما خُلقت له، وهياً للعباد من جميع الأسباب ما يغنيهم ويُقنيهم ويُطعمهم ويسقيهم.
●وأما كفايته الخاصة فكفايته للمتوكلين، وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: ٣] 
 أي: كافيه كل أموره الدينية والدنيوية، وإذا توكل العبد على ربه حق التوكل بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتمادًا قويا كاملا في تحصيل مصالحه ودفع مضاره، وقَوِيَتْ ثقتُه وحَسُنَ ظنه بربه؛ حصلت له الكفاية التامة، وأتم الله له أحواله وسدده في أقواله وأفعاله، وكفاه همه وكشف غمه.
وهذه منة عظيمة وفضل كبير ينبغي للمسلم أن يكون على ذكر له ليكون حامدًا لربه على كفايته، شاكرا له على فضله ونعمته.
وقد ثبت في صحيح مسلم (١) أن رسول الله الله كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي). والعبد لا غنى له عن ربه طرفة عين، بأن يكون له حافظا وكافيًا ومسدّدًا وهاديا، ولذا شُرع للمسلم في كل مرة يخرج فيها من بيته أن يقول: (بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، ليكفى همه وحاجته، وليوقى من الشرور والآفات، وليحفظ من عدوان معتد أو ظلم ظالم.
روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فيتنحى عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي» (٢)، أي: هديت إلى طريق الحق والصواب، وكفيت من كل هم دنيوي أوأخروي، ووقيت من شر أعدائك من الشياطين وغيرهم.
وقد دل القرآن أن تحقيق العبودية لله وحسن التوكل عليه أمر لا بد منه لنيل كفاية الله الخاصة بأوليائه المؤمنين وعباده المتقين، قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وقال تعالى : ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
قال ابن القيم رحمه الله: "والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك؛ فإن الله حسبه: أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقِيَهُ فلا مَطمَع فيه لعدوه، ولا يضره إِلَّا أذى لا بد منه، كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له ـ وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه - وبين الضرر الذي يتشفى به منه" .
قال بعض السلف: جَعَلَ الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه، وجَعَل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، ولم يقل : نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهنَّ لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونَصَرَه" (٣).
وربط الكفاية بالتوكل من ربط الأسباب بمسبباتها، فالله عزوجل كافي من يثق به ويحسن التوكل عليه ويحقق الالتجاء إليه في نوائبه ومهماته، وكلما كان العبد حسن الظن بالله عظيم الرجاء فيما عنده صادق التوكل عليه فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة.
ولا يستبطئ العبد كفاية الله له إذا بذل أسبابها، فإنَّ الله بالغ أمره في الوقت الذي قدره له، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: ٣].
قال ابن القيم رحمه لله : «فلما ذكر كفايته للمتوكل عليه فربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فعقبه بقوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: ٣]، أي: وقتا لا يتعداه فهو يسوقه إلى وقته الذي قدره له، فلا يستعجل المتوكل ويقول: قد توكلت ودعوت فلم أر شيئًا ولم تحصل لي الكفاية، فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له» (٤).
وفي مثل هذا المقام كثيرًا ما يتنازل بعض الناس عن مثل هذه المعاني الجليلة إلى استخذاء للمخلوقين وتذلل لهم وانكسار بين أيديهم لينال بعض مآربه ويحصل بعض مطامعه، غير مبال بكون ذلك على حساب دينه ونيل رضا ربه عز وجل، فيخسر كفاية الله لأوليائه. ومن اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤونة نفسه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم» (٥) .
روى الترمذي في «جامعه»(٦) أن معاوية رضي الله عنه كتب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية:
سلام عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله الله يقول: (مَنْ التمس رِضاءَ الله بسَخَطِ النَّاسِ كفاه اللهُ مُؤنة الناس، ومَنْ التمس رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهُ وَكَلَهُ الله إلى الناس، والسلام عليك).
ومما يحقق للعبد السلامة في هذا الباب أن لا يجعل الدنيا مبلغ علمه وأكبر همه، وفي الحديث: «من جعل الهموم هما واحدًا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك». رواه ابن ماجه (٧).
وروى ابن أبي شيبة (٨) عن أبي عون (٩) قال : كان أهل الخير إذا التقوا يوصي بعضهم بعضا بثلاث، وإذا غابوا كتب بعضهم إلى بعض بثلاث: من عمل لآخرته كفاه الله دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته».
____________________________
(۱) (رقم: ٢٧١٥).
(۲) رواه أبو داود (رقم : ۵۰۹۵)، والترمذي (رقم : ٣٤٢٦) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة» (رقم: (۸۹)، وابن حبان (رقم (۸۲۲)، وغيرهم من طريق ابن جريج، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس به. وحسنه الترمذي، ولكن في إسناده ابن جريج وهو مدلس وقد عنعن. غير أن له شواهد يتقوى بها؛ وقد صححه الألباني في صحيح الجامع) (٥١٣).
(٣) بدائع الفوائد» (٢/ ٧٦٦ - ٧٦٧).
(٤) أعلام الموقعين» (١٦١/٤).
(٥) «الفوائد لابن القيم (ص/ ۱۹۷).
(٦) (رقم: (٢٤١٤) ورواه عقبه موقوفاً بإسناد أصح. وله شواهد ولذلك صححه الألباني في صحيح الترمذي».
(٧) (رقم : ٤١٠٦) وغيره، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (۲۰۷).
(٨) في مصنفه» (۲۱۷/۷).
(٩) هو محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الكوفي أحد التابعين الثقات. له ترجمة في تهذيب الكمال (٢٦/ ٣٨)
اقرأ المزيد...

الخميس، 16 أكتوبر 2025

الوقف والابتداء في سورة المرسلات

 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذه الفقرة المتعلقة بالوقف والابتداء في سورة المرسلات.
عامة آيات سورة المرسلات آيات قصيرة، يُوقف على رؤوسها اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هناك مواضع في غير رؤوس الآيات سأتكلم عنها.

/ الآية الثالثة والعشرين: (فقدرنا) هل يصح الوقف هنا قبل قوله: (فنعم القادرون)؟
الجواب: نعم، نص عليه جماعة من علماء الوقف والابتداء ووجهه: أن الله سبحانه وتعالى قال في الآيات السابقة: (ألم نخلقكم من ماء مهين*فجعلناه في قرار مكين* إلى قدر معلوم* فقدرنا) فأخبر عن نفسه سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان من ماء مهين، وجعله في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدر على ذلك سبحانه، ثم جاءت جملة معطوفة يثني بها الله سبحانه وتعالى على نفسه في قوله: (فنعم القادرون) بعد أن أخبر عن مراحل الخلق، فصح الفصل بين ذكر مراحل الخلق وقدرة الله على ذلك، وبين ثناء الله على نفسه. والله تعالى أعلم.

/ الآية السابعة والعشرون: (وجعلنا فيها رواسي شامخات) هل يصح الوقف هنا؟
لم ينص أحد من علماء الوقف والابتداء على وقف هنا، لكن إذا تأملنا فإن قوله سبحانه وتعالى بعدها : (وأسقيناكم ماء فراتا) جملة معطوفة على جملة: (وجعلنا فيها رواسي شامخات)، وهي جملة قائمة بنفسها، ظاهرة في المراد منها، فالوقف هنا له حظ من النظر، لكن لم يقل به أحد من علماء الوقف والابتداء. والله تعالى أعلم.

/ الآية الثامنة والثلاثون: (هذا يوم الفصل) هل يصح الوقف هنا؟نص السجاوندي رحمه الله على جواز الوقف هنا، ووضعت هنا علامة الوصل الأولى (صلى) في مصحف المدينة.
وإذا تأملنا: فإن قوله تعالى بعدها : (جمعناكم والأولين) جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، فالله سبحانه وتعالى أخبر أن هذا هو يوم الفصل، ثم أخبر أننا جمعناكم فيه وجمعنا الأولين، فصح الفصل بينهما. والله تعالى أعلم.

/ الآية الثالثة والأربعون: (كلوا واشربوا) هل يصح الوقف هنا؟نص على الوقف هنا الهبطي رحمه الله وحده دون بقية علماء الوقف والابتداء، وإذا تأملنا فإنه قال بعدها : (هنيئا بما كنتم تعملون):
● فمن جعل قوله: (هنيئا) منصوبا على كونه حالا من الأكل والشرب، أي: كلوا واشربوا حال كون الأكل والشرب هنيئا لكم، فإنه لم يُصحح الوقف هنا. وهو الذي ذهب إليه عامة علماء الوقف والابتداء.
●ومن نظر إلى أن قوله: (هنيئا) منصوب بفعل محذوف تقديره اهنئوا هنيئا بما كنتم تعملون، واعتبر قوله : (كلوا واشربوا) أمرا مستقلا، فإنه صحح الوقف هنا
 والأقرب ما ذهب إليه عامة علماء الوقف والابتداء؛ وذلك أن (هنيئا) متعلق بالأكل والشرب ليهنؤوا بأكلهم وشربهم، فالأقرب عدم الوقف هنا. والله تعالى أعلم.
هذا خلاصة ما يتعلق بالوقف والابتداء في سورة المرسلات.
 أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علما وعملا وهدى وتقى. والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
--------------------------------------
اقرأ المزيد...