السبت، 18 أكتوبر 2025

اسم الله (الحسيب / الكافي) من كتاب [فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر]

 بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
قال الله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [النساء : ٦] ، وقال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ، وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر : ٣٦].
و«الحسيب»: هو الكافي الذي كفى عباده جميع ما أهمهم من أمور دينهم ودنياهم، الميسر لهم كل ما يحتاجونه، الدافع عنهم كل ما يكرهونه.
ومن معاني الحسيب أنه الحفيظ على عباده كل ما عملوه (أحصاه الله ونسوه) وعلم تعالى ذلك، وميز الله صالح العمل من فاسده، وحسنه من قبيحه، وعلم ما يستحقون من الجزاء ومقدار ما لهم من الثواب والعقاب.

و «الكافي»: الذي كفاية الخلق كل ما أهمهم بيده سبحانه، وكفايته لهم عامة وخاصة :
أما العامة: فقد كفى تعالى جميع المخلوقات وقام بإيجادها وإمدادها وإعدادها لكل ما خُلقت له، وهياً للعباد من جميع الأسباب ما يغنيهم ويُقنيهم ويُطعمهم ويسقيهم.
●وأما كفايته الخاصة فكفايته للمتوكلين، وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: ٣] 
 أي: كافيه كل أموره الدينية والدنيوية، وإذا توكل العبد على ربه حق التوكل بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتمادًا قويا كاملا في تحصيل مصالحه ودفع مضاره، وقَوِيَتْ ثقتُه وحَسُنَ ظنه بربه؛ حصلت له الكفاية التامة، وأتم الله له أحواله وسدده في أقواله وأفعاله، وكفاه همه وكشف غمه.
وهذه منة عظيمة وفضل كبير ينبغي للمسلم أن يكون على ذكر له ليكون حامدًا لربه على كفايته، شاكرا له على فضله ونعمته.
وقد ثبت في صحيح مسلم (١) أن رسول الله الله كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي). والعبد لا غنى له عن ربه طرفة عين، بأن يكون له حافظا وكافيًا ومسدّدًا وهاديا، ولذا شُرع للمسلم في كل مرة يخرج فيها من بيته أن يقول: (بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، ليكفى همه وحاجته، وليوقى من الشرور والآفات، وليحفظ من عدوان معتد أو ظلم ظالم.
روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فيتنحى عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي» (٢)، أي: هديت إلى طريق الحق والصواب، وكفيت من كل هم دنيوي أوأخروي، ووقيت من شر أعدائك من الشياطين وغيرهم.
وقد دل القرآن أن تحقيق العبودية لله وحسن التوكل عليه أمر لا بد منه لنيل كفاية الله الخاصة بأوليائه المؤمنين وعباده المتقين، قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وقال تعالى : ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
قال ابن القيم رحمه الله: "والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك؛ فإن الله حسبه: أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقِيَهُ فلا مَطمَع فيه لعدوه، ولا يضره إِلَّا أذى لا بد منه، كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له ـ وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه - وبين الضرر الذي يتشفى به منه" .
قال بعض السلف: جَعَلَ الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه، وجَعَل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، ولم يقل : نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهنَّ لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونَصَرَه" (٣).
وربط الكفاية بالتوكل من ربط الأسباب بمسبباتها، فالله عزوجل كافي من يثق به ويحسن التوكل عليه ويحقق الالتجاء إليه في نوائبه ومهماته، وكلما كان العبد حسن الظن بالله عظيم الرجاء فيما عنده صادق التوكل عليه فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة.
ولا يستبطئ العبد كفاية الله له إذا بذل أسبابها، فإنَّ الله بالغ أمره في الوقت الذي قدره له، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: ٣].
قال ابن القيم رحمه لله : «فلما ذكر كفايته للمتوكل عليه فربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فعقبه بقوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: ٣]، أي: وقتا لا يتعداه فهو يسوقه إلى وقته الذي قدره له، فلا يستعجل المتوكل ويقول: قد توكلت ودعوت فلم أر شيئًا ولم تحصل لي الكفاية، فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له» (٤).
وفي مثل هذا المقام كثيرًا ما يتنازل بعض الناس عن مثل هذه المعاني الجليلة إلى استخذاء للمخلوقين وتذلل لهم وانكسار بين أيديهم لينال بعض مآربه ويحصل بعض مطامعه، غير مبال بكون ذلك على حساب دينه ونيل رضا ربه عز وجل، فيخسر كفاية الله لأوليائه. ومن اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤونة نفسه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم» (٥) .
روى الترمذي في «جامعه»(٦) أن معاوية رضي الله عنه كتب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية:
سلام عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله الله يقول: (مَنْ التمس رِضاءَ الله بسَخَطِ النَّاسِ كفاه اللهُ مُؤنة الناس، ومَنْ التمس رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهُ وَكَلَهُ الله إلى الناس، والسلام عليك).
ومما يحقق للعبد السلامة في هذا الباب أن لا يجعل الدنيا مبلغ علمه وأكبر همه، وفي الحديث: «من جعل الهموم هما واحدًا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك». رواه ابن ماجه (٧).
وروى ابن أبي شيبة (٨) عن أبي عون (٩) قال : كان أهل الخير إذا التقوا يوصي بعضهم بعضا بثلاث، وإذا غابوا كتب بعضهم إلى بعض بثلاث: من عمل لآخرته كفاه الله دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته».
____________________________
(۱) (رقم: ٢٧١٥).
(۲) رواه أبو داود (رقم : ۵۰۹۵)، والترمذي (رقم : ٣٤٢٦) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة» (رقم: (۸۹)، وابن حبان (رقم (۸۲۲)، وغيرهم من طريق ابن جريج، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس به. وحسنه الترمذي، ولكن في إسناده ابن جريج وهو مدلس وقد عنعن. غير أن له شواهد يتقوى بها؛ وقد صححه الألباني في صحيح الجامع) (٥١٣).
(٣) بدائع الفوائد» (٢/ ٧٦٦ - ٧٦٧).
(٤) أعلام الموقعين» (١٦١/٤).
(٥) «الفوائد لابن القيم (ص/ ۱۹۷).
(٦) (رقم: (٢٤١٤) ورواه عقبه موقوفاً بإسناد أصح. وله شواهد ولذلك صححه الألباني في صحيح الترمذي».
(٧) (رقم : ٤١٠٦) وغيره، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (۲۰۷).
(٨) في مصنفه» (۲۱۷/۷).
(٩) هو محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الكوفي أحد التابعين الثقات. له ترجمة في تهذيب الكمال (٢٦/ ٣٨)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق