الاثنين، 17 نوفمبر 2025

| الدرس الثالث والخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٦٢) (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين…)


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: 
ن/ "ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة لأن الصابئين الصحيح أنهم من جملة فِرق النصارى، فأخبر الله تعالى أن المؤمنين من هذه الأمة واليهود والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر، وصدقوا رسلهم فإن لهم الأجر العظيم والأمن ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر فهو بضد هذه الحال فعليه الخوف والحزن، والصحيح أن هذا الحكم بين الطوائف من حيث هم لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم لأنه تنزيل من يعلم الأشياء قبل وجودها، ومَن رحمته وسعت كل شيء، وذلك - والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم وذكر معاصيهم وقبائحهم ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم فأراد الباري تعالى أن يبين من لا يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يُوهم الاختصاص بهم ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها ليتضح الحق ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين"

ت/
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أما بعد:
 قول الله جل وعلا (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
 هذه الآية الكريمة جاءت بعد آيات كثيرة فيها ذم لليهود، وذِكر لأعمال سيئة وقبيحة كانوا عليها من تكذيبٍ بآيات الله وقتلٍ للأنبياء بغير حق، وعدم قبول وإذعان لأوامر الله وما جاءت به رسله عليهم صلوات الله وسلامه، ذكر الله جل وعلا عنهم أعمالا كثيرة من هذا القبيل من سيء فعالهم وقبيح صفاتهم، فجاءت هذه الآية كأنها - والله تعالى أعلم - يعني يُبين فيها أن الخير باقٍ، يعني وإن نسمع ونقرأ هذه الصفات إلا أن فيما قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام هناك خير باق، وهؤلاء الذين هم على خير لهم أجرهم عند رب العالمين، حتى لا يتوهم من يقرأ تلك الصفات أن هذا الفساد عام وفي الناس كلهم فجاءت هذه الآية مثل الاستثناء وأن الخير موجود، هناك أناس على خير وهؤلاء لهم أجر عند رب العالمين ولهم الثواب.
●قال (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله) الصحيح في معنى الآية: أن الحديث فيها عن ما قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، ما قبل البعثة سواء قبلها بالزمن القريب أو البعيد، فالآية فيها الخطاب عن هؤلاء، أو بيان حال أولئك الذين قبل البعثة (الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا) كل من كان قبل المبعث اجتمعت فيه هذه الصفات: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والأعمال الصالحة المقربة إلى الله، فله أجره عند رب العالمين ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولهذا بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام لا يقبل الله دينا إلا ما بُعث به عليه الصلاة والسلام، ولا يقبل عملا إلا العمل الذي بُعث به عليه الصلاة والسلام، ولهذا ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخه بقوله تعالى (ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وفي الآخرة من الخاسرين) قالوا: هذه ناسخه لها، والأظهر - والله اعلم - أن الآية الحديث فيها عن من كانوا قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، كل من كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهذه حالهم آمنوا بالله، آمنوا باليوم الاخر، عملوا الصالحات، هؤلاء لهم أجرهم عند رب العالمين ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لكن بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام فإن الله لا يقبل دينا سوى الدين الذي بُعث به..
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان حقا على الله أن يدخله النار) وهذا المعنى الذي في الحديث جاء في القرآن في قول الله سبحانه وتعالى (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) هذا نفس المعنى الذي في هذا الحديث، فمن يكفر بالنبي عليه الصلاة والسلام يبلغه مبعث مبعثه ويقول أنا أريد أن أبقى على نصرانيتي أو على يهوديتي أو غير ذلك فالنار موعدهم لأنه لا دين بعد ماذا بعد مبعثه إلا الدين الذي بُعث به (ومن يبتغِ غير الإسلام) أي الذي بُعث به عليه الصلاة والسلام دينا فلن يقبل منه (وهو في الآخرة من الخاسرين)
 إذا قوله (إن الذين آمنوا والذين هادوا..) الخ الآية هذه في بيان حال من أحسن من الأمم السالفة من أصناف الطوائف، كل من أحسن من أصناف الطوائف من الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، وفي قراءة عشرية (والصابين) بترك الهمزة، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وفي معنى الصابئين أقوال.." يقول ابن كثير بعد أن أورد ما قيل في معناها قال: "هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين لهم - يعني لا ينتمون لدين- متقربين لربهم" يعني عندهم توحيد بالفطرة، عندهم إيمان بالفطرة، هذا مما قيل في المعنى. (والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا) وعمل صالحا بهذه الضوابط الثلاثة إيمان بالله وإيمان باليوم الآخر.
● إيمان بالله لأنه سبحانه وتعالى المقصود بالعبادة المقصود بالعمل المتقرب إليه.
● وباليوم الآخر لأن اليوم الآخر هو دار الجزاء على العمل والحساب.
● وعمل صالحا هذه التي تُنال بها الجنة وتُنال بها الدرجات (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون).
●قال (فلهم أجرهم عند ربهم)
(فلهم) هذه عائدة إلى قوله (من آمن)، و(مَن) هذه قد تطلق على الواحد وعلى الإثنين وعلى الجمع، وعلى الذكر وعلى الأنثى، يقال (من آمن) يُقصد واحد، ويُقصد جمع، وأيضا الذكور والإناث.
 قال: (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، (ولا خوفٌ عليهم) هذه فيها قراءة أخرى (ولا خوفَ عليهم)
●(ولا خوفٌ عليهم) على اعتبار أن (لا) نافية تعمل عمل ليس
● و(لا خوفَ عليهم) (لا) نافية للجنس، لا نافية للجنس (ولا خوفَ عليهم).
 الخوف يتعلق بما هو آت، والحزن فيما هو تاركه المرء، يعني لا تحزن على ما أنت تارك من الدنيا، ولا تخف مما أنت مقبل عليه فيما يتعلق بلقاء الله والدار الآخرة.
 قال الشيخ رحمه الله: "وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة لأن الصابئين الصحيح: أنهم من جملة فرق النصارى"
هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم وفيها أيضا آثار مروية:
  جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصابئين قال: "هم قوم من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب".
 وجاء عن أبي العالية والضحاك قالوا: "الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور"
 وجاء عن مجاهد قال: "الصابئون قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين" قال شيخ الاسلام ابن تيمية في معنى قول مجاهد "ليس لهم دين" قال: "أي ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي ولم يُرد بذلك أنهم كفار، فإن الله قد أثنى على بعضهم فهم متمسكون بالإسلام المشترك وهو عبادة الله وحده، وإيجاب الصدق والعدل، وتحريم الفواحش والظلم ونحو ذلك مما اتفقت الرسل على إيجابه وتحريمه، فإن هذا داخل في الإسلام العام الذي لا يقبل الله سبحانه وتعالى دينا سواه".
وقال أيضا رحمه الله تعالى: "أما من قال من السلف الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور كما نقل ذلك عن أبي العالية والضحاك والسدي وجابر بن يزيد والربيع بن أنس، فهؤلاء أرادوا من دخل في دين أهل الكتاب منهم.
قال: " الصابئين الصحيح أنهم من جملة فِرق النصارى فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة واليهود والنصارى والصابئين من آمن بالله منهم واليوم الآخر وصدقوا رسلهم فإن لهم الأجر العظيم والأمن ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر فهو بضد هذه الحال فعليه الخوف وعليه الحزن.
هذا مفهوم المخالفة. إذا كان الآية تثبت أن من آمن له أجره فمن كفر فلا أجر له وعليه الخوف وعليه الحزن قال: "والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف من حيث هم لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام"
أما بعد البعثة ما شأن الأمر؟
من لم يؤمن به لا يقبله الله، لأن بعد مبعثه لا يقبل الله عز وجل دينا إلا الدين الذي بعث به. قال: "وإن هذا مضمون أحوالهم" وهذه يقول الشيخ "طريقة القرآن" هذه لفتة أيضا جميلة في دلالة وجه إيراد هذه الآية في هذا السياق قال: "وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس عند سياق الآيات بعض الأوهام فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم لأنه تنزيل مَن يعلم الأشياء قبل وجودها ومَن رحمته وسعت كل شيء وذلك والله أعلم أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم وذكر معاصيهم وقبائحهم ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم فأراد الباري تعالى أن يبين من لا يلحقه الذم منهم بوصفه" ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يُوهم الاختصاص بهم ذكر تعالى حكما عاما شاملا يشمل الطوائف كلها ليتضح الحق ويزول التوهم والإشكال قال: "فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين" نعم.

ن/ قال رحمه الله: "ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون* ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) أي واذكروا إذ اخذنا ميثاقكم وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم برفع الطور فوقهم، وقيل لهم (خذوا ما آتيناكم) أي من التوراة (بقوة) أي بجد واجتهاد وصبر على أوامر الله عز وجل، (واذكروا ما فيه) أي: ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه، (لعلكم تتقون) عذاب الله وسخطه أو لتكونوا من أهل التقوى، فبعد هذا التأكيد البليغ توليتم وأعرضتم وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين".
ت/ نعم. ثم عاد السياق بعد هذه الآية التي فيها إزالة شيء من التوهم الذي قد يأتي على بعض الأذهان والمرء يقرأ أنواع الذم الذي يذكره الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل فجاءت هذه الآية رافعة لتوَهم أن هذا شيئا عاما في الناس كلهم، ففيها أن في الناس من هو على خير وعنده إيمان وهؤلاء لهم أجرهم وثوابهم عند رب العالمين.
ثم عاد السياق مرة أخرى لبيان حال بني إسرائيل وأيضا تذكيرهم بحال أسلافهم من حيث النِعم المتوالية عليهم ومن حيث حال أسلافهم مع تلك النعم فهنا يقول جل وعلا (وإذ أخذنا ميثاقكم) أي: واذكروا يا معاشر بني إسرائيل حين أخذنا ميثاقكم، الميثاق: العهد الذي أُخذ عليهم ألا يعبدوا إلا الله وأن يخلصوا دينهم لله وأن يفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، قال أبو العالية - رحمه الله -: "أي أخذوا مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره" ميثاق ماذا؟ الميثاق ميثاق التوحيد وهو أعظم ميثاق، وانظر هذا الميثاق في قولك في كل ركعة من كل صلاة (إياك نعبد وإياك نستعين) هذا ميثاق، هذا عهد بينك وبين الله، هذا ميثاق وعهد بينك وبين الله أن لا تعبد إلا الله وأن تخلص دينك لله سبحانه وتعالى، وأن تُفرده جل وعلا بالعبادة.
 قال (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) 
(ورفعنا فوقكم الطور) هذا أيضا بيان للحالة السيئة الشنيعة التي كانوا عليها لما جاءهم موسى عليه السلام بالتوراة وما فيها من أحكام وما فيها من أوامر، وبيّن لهم أوامر الله عز وجل أبو أن يقبلوا فيقول سبحانه (أخذنا ميثاقكم) يعني قبول شرع الله وامتثال أوامر الله وإخلاص الدين لله سبحانه وتعالى فأبيتم فرفعنا فوقكم الطور (رفعنا فوقكم الطور) الطور أي: الجبل، لا يقصد جبل معين اسمه الطور وإنما  الطور هذه الكلمة اسم لكل جبل، فمعنى الطور أي: الجبل، مثلها الآية التي في الأعراف (واذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) (نتقنا الجبل)، الطور أي: الجبل، فـ (ورفعنا فوقكم الطور) أي رفعنا فوقكم الجبل، (رفعنا فوقكم الطور) هذا تخويف لهم وتحذير وإنذار.
 ما معنى رفعنا الجبل؟ أي اقتُلع الجبل، الجبل الضخم الكبير العظيم اقتلع من مكانه ورُفع فوقهم كأنه ظلة، كأنه سحابة وقيل تأخذون وإلا ننزل هذا الجبل عليكم فيهلككم أجمعين، سبحان الله هؤلاء رأوا آيات يعني ملزمة، آيات يعني قوية من يراها تأخذ بقلبه ومع ذلك سنقرأ بعد قليل (ثم توليتم) حتى بعد هذه الآية وآيات كثيرة يعني سبحان الله هذه كلها تكشف غلظة الأكباد، أكباد هؤلاء شعب بني إسرائيل، الحالة السيئة التي كانت عليها نفوسهم، تقرأ في قصصهم في القرآن عجبا في غلظة أكبادهم وسوء نفوسهم وأحوالهم إلا من هداه الله سبحانه وتعالى ونجاه - كما تقدم – (من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا).
 قال (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم وهذا من أجل تخويفهم وإلزامهم"
 (ورفعنا فوقكم الطور) تخويفا لهم وتحذيرا (خذوا ما آتيناكم بقوة)، (ما آتيناكم) المقصود ماذا؟ نعم التوراة، (خذوا ما آتيناكم) التوراة، خذوها واعملوا بما فيها.
 (خذوا ما آتيناكم بقوة) ما معنى بقوة؟ أي بطاعة، بقبول، بجد، بامتثال.
 (خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه) أي: لا تنسوا ما في التوراة، (واذكروا ما فيه) أي ما في هذا الكتاب الذي آتيناكم الذي هو التوراة، اذكروا ما فيه لا تنسوه، لا تغفلوا عنه، قال أبو العالية: "أي اقرأوا ما في التوراة واعملوا به" هذا معنى قوله: (واذكروا ما فيه) أي: اقرأوا ما في التوراة واعملوا به، أي بما في التوراة، (لعلكم تتقون) لتنالوا بذلك تقوى الله وتتحقق منكم التقوى وتكونون بذلك من أهل التقوى، فماذا فعلوا والجبل فوقهم -التهديد الشديد والوعيد- ماذا فعلوا؟ أقروا وقالوا نمتثل ونطيع ونفعل ما أمرنا به في التوراة ولا نعصي، (ثم توليتم من بعد ذلك) حتى بعد هذا الأمر توليتم أي بعد هذا الميثاق المؤكد نقضتم هذا العهد،عصيتم مرة أخرى.
 (فلولا فضل الله عليكم) أنت تلاحظ في الآيات تعداد نِعم (اذكروا نعمتي)، تعداد نِعم وأيضا كشف لأحوال مع تلك النعم، غالب الآيات هكذا، يعني نِعم وكشف لأحوال بني إسرائيل مع تلك النعم المتوالية الكثيرة العديدة التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليهم.
 (ثم توليتم من بعد ذلك)  الإشارة في قوله (ذلك) إلى ما سبق في الآية التي قبلها.
 قال (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) رحمته بالتوبة والتوفيق لها، بعثة الرسل هداة ودعاة إلى الحق فيهتدي من كتب الله سبحانه وتعالى له هداية منهم (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين)، قال: "أي واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم برفع الطور فوقهم وقيل لهم قولا مصحوبا مع هذا التخويف (خذوا ما آتيناكم) من التوراة (بقوة) أي بجد واجتهاد وصبر على أوامر الله (واذكروا ما فيه) أي ما في كتابكم الذي هو التوراة بأن تتلوه وتتعلموه وتعملوا به.
 (لعلكم تتقون) أي تتقون بذلك عذاب الله وسخطه وعقوبته أو لتكونوا من أهل التقوى قال: "فبعد هذا التأكيد البليغ توليتم وأعرضتم وكان ذلك موجبا لأن يحل بكم أعظم العقوبات ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين نعم.

ن/ قال رحمه الله: "قوله (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين* فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) أي ولقد تقرر عندكم حالة الذين اعتدوا منكم في السبت وهم الذين ذكر الله تعالى قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت).. الآيات فأوجب لهم هذا الذنب العظيم أن غضب الله عليهم وجعلهم قردة خاسئين أي حقيرين ذليلين وجعل الله تعالى هذه العقوبة نكالا لما بين يديها أي لمن حضرها من الأمم وبلغه خبرها ممن هو في وقتهم، (وما خلفها) أي من بعدها فتقوم على العباد حُجة الله وليرتدعوا عن معاصيه ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات".
ت/ ثم أورد قول الله عز وجل (ولقد علمتم) أي يا معاشر اليهود، يا معاشر بني إسرائيل (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) هذه اشياء هم يعرفونها ولما يأتي هذا النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب بمثل هذه التفاصيل التي هم يعرفونها تُعد أيضا آية من آيات نبوته عليه الصلاة والسلام وهو يكشف لهم كل هذه التفاصيل التي يعلمونها لأن قوله (ولقد علمتم) يعني هذه أشياء أنتم تعرفونها وتعلمونها (ولقد علمتم) أي معشر بني إسرائيل ما أحله الله عز وجل بالذين اعتدوا منكم في السبت، السبت: اليوم المعروف، والذين اعتدوا منهم في السبت: هم أهل قرية ساحلية من قرى السواحل التي على مقربة من الشاطئ، والقرى التي هذا شأنها أكثر طعامهم ماذا؟ السمك، يصطادون ويأكلون أكثر طعامهم، أكثر قوتهم السمك، فابتلاهم الله عز وجل وامتحنهم بأن لا يصطادوا سمكا يوم السبت  ابتلاء وامتحان فكانت كل أيام الأسبوع الأسماك قليلة جدا يتعبون ما يجدون شيء ويوم السبت تأتي الأسماك وتكثُر ابتلاء وامتحان ...
سبحان الله قريب من هذا الابتلاء تماما ابتلاء حصل للصحابة رضي الله عنهم، ابتلاء حصل للصحابة بتحريم الصيد عليهم وهم حُرم وهم يحبون الصيد، والصيد يجذب من يراه ولاسيما من كان أيضا محتاجا إليه فابتلاهم الله سبحانه وتعالى، ابتلى الصحابة بالصيد تناله أيديهم ورماحهم، يعني لو أراد أن يمسك بيده يستطيع، ولو أراد أن يصيبه برمحه يستطيع، فما صادوا منه شيئا ولا أخذوا منه شيئا رضي الله عنهم، وهؤلاء لما حرم عليهم الصيد يوم السبت عملوا حيلة على الشرع، ولهذا كل من يحتال على شرع الله سلفه اليهود وقدوته اليهود احتالوا على شرع الله فصاروا يعملون حُفر ويعملون شباك قبل يوم السبت ثم إذا جاءت  الأسماك يوم السبت أمسكتها هذه الشباك ثم يأخذونها يوم الأحد، هذه حيلة على شرع الله، هذا الصيد هو صيد يوم السبت لكن عملوا حيلة على شرع الله عاقبهم الله عز وجل عقوبة عظيمة (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) مُسخوا قردة عقوبة عظيمة عاقبهم الله بها قال (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) (الذين) أي أهل القرية، المقصود أهل القرية مثل ما جاء في سورة الأعراف (وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) ما معنى حاضرة البحر؟ مجاورة للبحر، من القرى الساحلية التي على الساحل غذاؤهم في الغالب جُله أو كله من البحر، (وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون) يعني بقية أيام الأسبوع لا تأتيهم، والسبت شُرعا كثيرة جدا ابتلاء وامتحان، فاعتدوا بالحيلة التي صنعوها قال (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قرده خاسئين) أي مسخهم الله عز وجل قرده خاسئين أي حقيرين ذليلين، وكل من مُسخ لا نسل له ينقرضون وينتهون كما ثبت بذلك الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ولهذا لا يقال إن القردة التي موجودة هي نسل لأولئك، كل من مُسخ نسله ينقرض ينتهي، فهؤلاء مُسخوا قردة وهلكوا قردة، نعم مُسخوا قردة وهلكوا قردة، ماتوا وهم على هذا المسخ (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين)، (فجعلناها) الضمير عائد على ماذا؟ عائد على القرية التي إليها الإشارة في قوله (الذين) يعني أهل القرية، (فجعلناها) أي القرية، والمراد أهل القرية الذين صنعوا ذلك الصنيع الذي تقدم ذكره، (فجعلناها نكالا) أي عبرة، (نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين)، (ما بين يديها وما خلفها) هل المراد الزمان أو المكان؟ لأن اللفظة (ما بين يديها) تحتمل، لما يقال بين يديه وخلفه يحتمل الزمان ويحتمل مكان (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) هذا زمان قبله وبعده، الأنبياء (النُذر) يعني الرسل. هنا (لما بين يديها وما خلفها موعظة) عبرة لما بين يديها وما خلفها المراد الزمان أو المكان؟ الأقرب -الله تعالى أعلم- أن المراد المكان، يعني ما بين يديها وما خلفها يعني ما حولها من القرى لما رأوا خبرهم وشاهدوا أمرهم فصارت عبرة لهم، القرى والمدن التي بين يديها وخلفها، أمامها، وراءها وحولها، لكن لو قيل الزمان هم عبرة لمن بعدهم لكن من خلفهم، من في الزمان ما علموا بخبرهم، فالأقرب أن المراد المكان. قال (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)
(وموعظة للمتقين) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لمن حولها من القرى (ما بين يديها وما خلفها) المراد ماذا؟ في الزمان والمكان قال: "ما حولها من القرى" هذا معنى (ما بين يديها وما خلفها) يعني ما حولها من القرى. وقوله سبحانه وتعالى (وموعظة للمتقين) أي متقين الله عز وجل، أيضا قال ابن عباس رضي الله عنهما: "المتقين الذين من بعدهم إلى يوم القيامة" وها هو نبأهم في آيات تتلى في كتاب الله يقرأها أهل الإيمان وفيها عبرة وعظة للمتقين، 
وفيها التحذير الشديد من الحيلة على شرع الله والاحتيال على شرع الله وأن من يحتال على الشرع من أجل أن يتوصل بالحيلة إلى تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى فسلفه في هذه الحيلة اليهود وفي هذه الآية موعظة له وذكرى بليغة وعبرة بليغة قال: (وموعظة للمتقين) فالآية فيها التحذير من الحيل على شرع الله سبحانه وتعالى.
قال الشيخ رحمه الله: "ولقد تقرر عندكم حالة الذين اعتدوا منكم في السبت وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرت البحر إذ يعدون في السبت..) الآيات، فأوجب لهم هذا الذنب العظيم" هنا كُتب الآيات والأقرب الآية لأن قصتهم ذُكرت في هذه الآية، فأوجب لهم هذا الذنب العظيم أن غضب الله عليهم وجعلهم قردة خاسئين أي حقيرين ذليلين، وجعل الله هذه العقوبة التي حصلت لهم، فُعلت بهم (نكالا لما بين يديها) أي لمن حضرها من الأمم وبلغه خبرها ممن هو في وقتهم، (وما خلفها) أي من بعدها فتقوم على العباد حجة الله، وليرتدعوا عن معاصيه ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين وأما من عداهم فإنهم لا ينتفعون بالآيات كما قال الله عز وجل: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)
 نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. جزاكم الله خيرا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق