السبت، 20 سبتمبر 2025

تدبر سورة الكهف (٢٦)/ د. محمود شمس

 


بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ: فإني أحييكم بتحية الإسلام : السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف».
توقفت في اللقاء السابق عند قول الله : (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِياتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا )، ونبدأ اليوم من قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا ).
 قوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) معطوفةٌ عَلَى جملة: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا)، بعد أن بين الله لهم أنَّ ما بين أيديكم من نعم في تلك الدنيا هو زائل، والغرض من ذلك: هو الموعظة، أن يتعظوا ويعلموا أنَّ ما فيه أيديهم زائل، وأن المال وأنَّ البنين ما هو إلا زينة للحياة الدنيا ، فعليكم بالباقيات الصَّالِحَات لأنها هي التي ستنفعكم يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة.
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ) تسيير الجبال نقلها من مواضع إِلَى مواضع أخرى بزلزال يأتي لهذه الأرض ولهذه الجبال، الجبال هم كانوا يرون أنها أعظم المخلوقات ولذلك كانوا يسألون سؤال استهزاء وسخرية، إذا كانت الساعة ستقوم وهذه الجبال فأين تذهب؟ وأين ستكون هذه الجبال؟ ولذلك الله ذكر في الجبال بالذات أمورًا متعددة ومتنوعة ستحدث للجبال في الآخرة، هذه الجبال التي يرونها أنها أعظم مخلوق في الأرض، الله بيّن مراحل إنهاء هذه الجبال ومراحل هلاك هذه الجبال، ولذلك نجد رب العزة قبل التسيير تحدث أولا في قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا )  ما معنى (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا )؟ 
أي أن الله عندما تأتي الرجفة القوية للأرض الجبال تتحول إلى كثيب مهيل، «الكثيب»: هو الرمل المجتمع كالربوة المرتفعة. -تعرفون من يبني عمارة يأتي برمل ويضعه أمام المباني وَهُذَا الرمل يكون مرتفعا كالربوة - يعني كالجبل في هيأته، لكن الجبل صخر فيتحول الصخر إلى كثيب مهيل، يعني يتحول إلى رمل أولا، فالله يبين ها هنا نوعا من أنواع هلاك الجبال، أنها بدايةً تتحول إلى رمل وهو الكثيب، والمهيل:
● من هال إذا نثره وصبه في مكان، يعني الرمل قد يُمسكه الإنسان وينثره أو يصبه في مكان آخر
● أو من هال إذا وضع رجله أو قدمه عَلَى هذا الرمل فقدمه تغوص في هذا الرمل، إذا هذِهِ (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مهيلًا) .
ولذلك نلاحظ أمرًا: أنَّ الله أخبر عن رجف الجبال بقوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ والجبال ، وعندما أراد أن يتحدث عن كون الجبال كثيبًا مهيلا لم يذكر أن الجبال تصير كثيبًا مهيلا بأسلوب الجملة الفعلية كما قَالَ فِي (تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) إِنَّمَا أتى بـ«كان» التي تفيد إِلَى التَّحَوُّل، تتحول الجبال إِلَى كثيب مهيل، لماذا؟ لأن تحول الجبال إلى كثيب مهيل أمر مستغرب، وأمر يتعجب له، وأمر عجيب. يعني الرجفة تحدث للأرض والجبال نعم، لكن الجبال تتحول إلى كثيب مهيل، فهذا أمر عجيب.
وخل بالكم؛ لو نظرنا إلى الآيات التي ذكرت هلاك الجبال سنجدها تتحدث عن هلاك الجبال في محورين اثنين:
هذا هو المحور الأول: أنَّ الجبال تتحول إلى كتب مهيل، وبعد أن تتحول إلى كثيب مهيل، الجبال كما ذكر الله تبارك وتعالى (يَنسِفُهَا رَبِّي نَسَفًا ﴾ ، فالكثيب المهيل يعني: تحويل الجبال إلى رمل مجتمع يتناسب مع النسف، ولذلك في قوله: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ) تسيير الجبال هنا لم يذكره الله إلى أين؛ لأنَّ التسيير انتقال من مكان إلى مكان، فَإِلَى أين ستسير الجبال؟ ستسير إلى هلاك، بدليل  ﴿وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا﴾ إذا لكي تُنسف الله جل وعلا قادر على كل شيء أولا ، لكنه يخاطبنا بما نفهم : أنَّ الجبال تتحول إلى كثيب مهيل حَتَّى لا تقول: كيف تنسف الجبال دفعة واحدة هكذا؟! لا، هي تتحول إلى رمل مجتمع ، ثُمَّ بعد ذلك تُنسف الجبال كما قَالَ الله في سورة طه : ﴿وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسَفًا ﴾ أولا : نوع سؤالهم هنا أنه سؤال استهزاء وسؤال تعنت وسؤال سخرية، وليس سؤال استهداء، يعني ما يريدون أن يهتدوا ماذا سيصنع الله بالجبال يوم القيامة، يعني ما يريدون أن يعرفوا معلومة، لا ، هم يريدون أن يستهزئوا ويسخروا.
لو نظرنا إلى هذا السؤال لوجدناه هو السؤال الوحيد الذي اقترنت الإجابة فيه في قوله: «قُلْ» بالفاء، فَقَالَ الله : ﴿فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا ﴾ فهنا السؤال في هذا الموضع مع أنَّ السؤال ورد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة: (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ ، ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجَّ) ، فلماذا اقترن بالفاء؟ الله العليم بما يخفونه في أنفسهم، يعلم أنهم سيسألون هذا السؤال، فأجاب النبي قبل أن يسألوه، يعني: الله أخبر النبي الله بهذه الآيات قبل أن يسألوه وبعد ذلك سألوه، فكان السؤال هنا عَلَى سبيل الشَّرْط المُقدَّر، إن سألوك عن الجبال (فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا) ، والله يعلم أنهم سيسألون، وهم سألوا، كما قال في سورة البقرة في شأن تحويل القبلة: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) يعني: القرآن أخبر النبي ﷺ بما سيقوله هؤلاء السفهاء وَالنَّبِيُّ قرأ الآيات عَلَى الصَّحَابَة، وبالتأكيد هذه الآيات علموا بها، فلو كان عندهم أدنى عقل وفهم ما كانوا يقولون هذا القول، يعني: إذا أرادوا أن يكذبوا القرآن وأنه ليس بوحي من عند الله ما كانوا يقولون: (مَا وَلَاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) إِنَّمَا رَبُّ العِباد قَالَ لنبيه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ وقالوا، وهنا أَيْضًا قَالَ الله : إن سألوك عن الجبال (فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا)، إذا الإجابة هنا اقترنت بالفاء لماذا، وهو السؤال الوحيد الذي اقترنت الإجابة فيه بالفاء.
 هناك سؤالان في الأسئلة كل منهما كان الجواب فيهما عجيبا.
● سؤال لم يذكر الله فيه «قُل»، يعني: كل الإجابات فيها: «قل»، ما عدا سؤال لم يذكر الله فيه «قُل»، وَإِنَّمَا أجاب مباشرة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [سورة البقرة : ١٨٦]، إشارةً إِلَى قُرب الله من السائل ومن الداعي، وإشارةً إِلَى أَنَّ الله ﷺ لا يحتاج إلى واسطة في كونك ترفع أكف الضراعة إليه في أي وقت وتناجيه
● وهنا كانت الإجابة مقترنة بالفاء الوحيدة، لماذا؟ لأن السؤال لم يكن قد وقع ومع ذلك وقع، فالله أجاب النَّبِيَّ ﷺ وهو العليم الخبير، أجابه قبل أن يسألوا.
الفاء في: (فَإِنِّي قَرِيبٌ)  لأنَّ الشَّرط هناك مذكور، سؤالهم لم يكن قد وقع أيضًا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي) يعني: الشرط هنا مذكور، فقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ الفاء واقعة في جواب الشرط.
لكن هنا في (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ) لم يذكر الله أداة الشَّرْط، إِنَّمَا الفاء تدلُّ عَلَى أداة الشَّرْط المحذوفة (وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) ، و (نَسَفًا) جاءت لتؤكد ينسفها  أي: أنه نسف كما تنسفون الشَّيْء؛ لأنَّ النسف تفريق وإذراء، إذراء في الهواء، يعني الإنسان يمسك ببعض من الغبار أو من التراب، ويفرّقه في الهواء ويذريه، فهو تفريق وإذراء، فالله يؤكد أنَّ الجبال ستنسف نسفًا، (نَسَفًا) يعني: بمفهوم التفريق والإذراء التي تعرفونها.
ثُمَّ يبين أن قضية نسف الجبال لها أثر ولها غاية، الأثر والغاية: أن الله يذرها - أي يذر الأرض - بعد نسف الجبال (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفَا) القاع هي الأرض السهلة، الأرض السهلة يعني : الأرض المذللة، الأرض التي تستطيع أن تسير عليها بقدميك دون عناء.
و«الصَّفْصَف»: الأرض المستوية التي لا نتوء فيها، النتوء تعرفون في العصر الحاضر مثلا لو أنَّ البعض أراد إزالة جزء من جبل بالآلات، يأتون بآلات ويحطمون الصخر ويحملونه خارج المكان، لكنك تجد نتوءات في الأرض، تعرفون النتوءات؟ قطع صغيرة هكذا تكون مرتفعة في الأرض، فتجعل الأرض فيها منخفضات، وفيها بروزات صغيرة، وفيها يعني هذه هي طبيعة للحال، رب العباد يقول: لا، في الآخرة الله ينسف الجبال (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفَا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) أرضًا مستوية لا نتوءات فيها، أرضًا مستوية لا نتوء فيها.
ثم بعد ذلك يقول : (لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْنًا) كلمة «عوج» لها دلالتان في المعنى عندنا:
● عوجٌ حسي،
●وعوج معنوي.
العوج الحسي: يكون في الأشياء المحسوسة، الشارع يكون فيه عوج، العمارة يكون فيها عوج، العصا يكون فيها عوج، يعني: العوج الحسي في الأشياء الحسية التي نراها أو نحسها محسوسة في الشيء.
والعوج المعنوي: في الكلام، مثلا : الكلام والحوار يكون فيه عوج.
أهل اللغة إلى الآن لم يستطيعوا أن يحددوا الفرق بين العوج الحسي والعوج المعنوي، البعض يقول : إنَّ للكلمة استعمالين: عِوج، وعَوج ، يعني : عَوج -بفتح العين- وعِوج -بكسر العين- لكنهم من يفرّق بين المعنيين يقول بعضهم: العِوج بالكسر هو في الحسي، وبالفتح يكون في المعنوي، وفريق آخر يقول: لا، بالفتح هو الحسي، وبالكسر هو المعنوي.
الله تبارك وتعالى أعرض عن هذه الاختلافات، ولم يُنزل قراءتين في كلمة عوجاً ؛ لأنَّ عندنا في القرآن فيه عوج معنوي، كما قَالَ الله عن القرآن الكريم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، فالله جل وعلا أبقى الكلمة على استعمالها بالكسر، لكنه دلَّل عَلَى العِوَج الحسي بحرف الجر الذي يتعدى الفعل الذي قبل العوج إِلَى العِوَج، فجعل «في» التي تفيد الظرفية في العوج الحسي: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا) ولذلك العوج الَّذِي معنا اليوم هو من العوج الحسي، بدليل : فيها لأنَّ (فِي) حرف الظرفية علاقته بالأجسام وبالذوات وبالأشياء المحسوسة، وجعل العوج المعنوي يتعدى الفعل له باللام؛ ولذلك قَالَ: (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا) .
إذا هناك فرق بين العوج الحسي والعوج المعنوي، لم يعطنا الله الدلالتين من القراءات هذه المرة، إِنَّمَا أعطانا من خلال حرف الجر الذي يتعدَّى إِلَى العِوَج، فإذا كان حرف الجر «في»؛ يكون العوج حسيًا، إذا كان اللام يكون العوج معنويا، ولذلك (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ﴾ عِوَج معنوي، وهنا: (لَّا تَرَى فِيهَا عوجا) هُذَا عِوَج حسي.
وَهُذَا يؤكد أن القراءات وحي منزل من عند الله، ولم تتنزل لمجرد التنوع، ولا لمجرد أن تنوع الكلمة، لا ، تتنزل للدلالة على المعنى الَّذي أراده الله؛ ولذلك لم ينزل الله القراءتين هنا، يعني لم تُقرأ كلمة « عِوَج» بالفتح أبدا، لماذا؟ نظرًا لأنَّ أهل اللغة لم يستقروا على التفرقة بين العوج الحسي والمعنوي.
إِذَا (لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا) العوج ضد الاستقامة، طيب (الأمت)؟
الأمت هو: النتوء اليسير، النتوء اليسير جدا، النتوءات الصغيرة جدا، يعني: لا ترى في الأرض وهدة ولا نتوءة، الوهدة هي ماذا ؟ هي الانخفاض، الوهدة من الهدوء، فإذا كان هناك نتوءات فهناك انخفاضات بين النتوءة والنتوءة، هذه الانخفاضة تسمى: «وَهْدَة»، فقول الله تَعَالَى: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتَا) لأنَّ الأمت هو النتوء، والنتوء سبق أن قَالَ الله : (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) والصفصف معناها: أنَّ الأرض مستوية لا نتوءات فيها، فلماذا قَالَ : (وَلَا أَمْتَا)؟ لأنَّ الأمت هو النتوء الصغير، يعني ينفي الله أي نتوءات في الأرض لا صغيرة ولا كبيرة، النتوءات هذه يعني تأتي بمنخفضات بين النتوءة والنتوءة، الله قَالَ:(لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْنَا ﴾،
النسف هو تسيير، يعني: نسف الجبال تسيير، لكنه أفاد أن التسيير إلى الفناء، يعني: لن تُنقل الجبال من مكان إلى مكان، لا، إِنَّمَا تسيير إِلَى فَناءِ وَإِلَى هلاك، هُذَا معنى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) 
ذكر الله محورًا آخر لتسيير الجبال، المحور الآخر : أَنَّ الله تبارك وتعالى قَالَ: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) [سورة القارعة : ٥]، عهن منفوش، العهن هو الصوف، والصوف المنفوش كالجبل تراه منفوشا لكن لو وضعت فيه قدمك أو يدك تغوص إلى النهاية لا تجد شيئًا، طيب عندنا القطن يشبه الصوف في هذا الأمر، فلماذا لم يقل الله : وتكون الجبال كالقطن ؟ لماذا قَالَ : كَالْعِهْنِ) وهو الصوف؟ لأن الصوف فيه ألوان متعددة، والجبال كذلك ألوانها متعددة ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [سورة فاطر: ٢٧] ، إِنَّمَا القطن ليس إلا لون واحد وهو الأبيض، يعني: تأملوا الدقة في كلام الله : (وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) العهن - قلت - هو الصوف.
خل بالكم: هذه المرحلة أو هذا المحور يتناسب مع : ﴿إِذَا رُجَتِ الْأَرْضُ رَجًا * وَبُسَتِ الْجِبَالُ بَسَا فَكَانَتْ هَبَاءَ مُنْبَنَا ﴾ [سورة الواقعة : ٤-٦] . رأيتم، (وَبُسَتِ الْجِبَالُ بسا) البس يعني: التفتت، وهو تفرق الأجزاء المجموعة، أصبحت (هَبَاءَ) الهباء هو: ما نراه من شيء يُشبه الغبار عندما يطير في الهواء، أو يشبه شعاع الشمس إذا فتحنا الشباك. يعني أحيانًا عندما يفتح الشباك في الصباح يأتي الهباء هذا، فنجد هذا المحور يعني : ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾  ينتظم مع (فَكَانَتْ هَبَاءَ مُنْبَثا).
 إذا يبين الله هلاك الجبال من خلال محورين اثنين:
● محور أنها تبقى على هيئتها المعروفة فتتحول إلى كثيب مهيل، ثُمَّ تُنسف وهذا تسيير. وَذكره بأسلوب آخر: أنَّ الجبال تكون كالعهن والعهن يتناسب مع (هَبَاء مُنْبَثا) ، وهو تسيير أَيْضًا كما قَالَ الله في سورة النبأ: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ﴾ ماذا ؟ (سَرَابا)،  (سَرَابًا) يعني: كالسراب، السراب نراه من بعيد نظنه ماءً، فإذا وصلناه لا نجد ماء، هذا هو السراب.
يعني نجد التناسب بين كل المراحل إِمَّا مرحلة الكثيب المهيل تتناسب مع النسف، يعني: مرحلة العهن المنفوش لا تتناسب مع النسف، النسف يريد إذراء في الهواء، إِنَّما مرحلة العهن المنفوش تتناسب مع الهباء المنبث، وتتناسب مع (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)، هذا معنى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) .
(وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) هذا أثر لتسيير الجبال، لكن جعله الله جملة مستقلة، وَالَّذِي جعلنا نقول: إنه جملة مستقلة وجود الواو، الواو في قوله: (وَتَرَى الْأَرْضَ) الأرض أصبحت بَارِزَةً  لأنه لا يوجد شيء يغطيها، كانت مُغطاة بالجبال، ومُغطاة بالمباني، ومغطاة بأمور كثيرة، فأصبحت الآن الأرض الساهرة كما قَالَ اللهُ: (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) ، أرضُ حَتَّى إِنَّ الأرض أخرجت ما في جوفها كما ليس الَّذِي عَلَى ظهرها فَقَط، ألم يقل الله: ﴿وَإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾ ومن أثقال الأرض: المدفونون في باطن الأرض، في جوف الأرض، وفي جوف الأرض كنوز وأموال وذهب ... إلى آخره، الأرض (أَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) فأصبحت الأرض الآن بارزة؛ هذا معنى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ لأنه لا يوجد عليها ما يغطيها، وأنا قلت: إنَّ الواو تجعل (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) امتنان آخر ودلالة أخرى على قدرة الله ؛ لأنَّ الواو إذا تكررت بين الجملتين فتعني أنَّ الجملة الأولى غير الجملة الثانية، وإذا لم توجد الواو تكون الجملة الثانية خبر للجملة الأولى.
يعني : ويوم نسيّر الأرض ترى الأرض بارزة ، كان معنى ذلك أَنَّ (تَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) نتيجة مباشرة لتسيير الجبال، الواو أتت لتدل عَلَى أَنَّ تسيير الجبال دلالة عَلَى قدرة الله، ورؤية الأرض بارزة بعد ذلك دلالة أخرى عَلَى قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا الواو وجودها له دور كبير.
ولذلك خل بالكم - الواو أحوالها مع الصفات المتعددة، الصفات المتعددة عندما تذكر لموصوف واحد، فإننا قد نأتي بالواو بين كل صفة وأخرى، للدلالة على أن كل صفة في هذا الموصوف هي موجودة فيه على سبيل الاستقلال. يعني: أقول مثلا: سين من الناس شاعر وكاتب وأديب ونحوي وفقية ومفسر؛ هذه كلها صفات متعددة في الموصوف الواحد، وأتيت بالواو لأدلَّل عَلَى أَنَّ كل صفة توجد على سبيل الاستقلال في هذا الموصوف، وجاءت في القرآن الكريم: هو (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الحديد: 3] كل صفةٍ عَلَى سبيل الاستقلال.
إِنَّمَا لو أردت أن أجعل الصفات المتعددة كلها كالصفة الواحدة في الموصوف لا آتي بالواو، يعني: أقول: سين من الناس شاعر كاتب صحفي قارئ مفسر نحوي فقيه، لا آتي بواو عاطفة؛ ولذلك في القرآن الكريم: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [سورة الحشر : ٢٣] فهذه كلها صفات لم تأت الواو بينها لأنها كالصفة الواحدة في الموصوف. أَيْضًا فِي (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنكُنَّ مُسْلِمَاتِ مُؤْمِنَاتِ قَانِتَاتِ) [سورة التحريم : ٥] لم تأت الواو إلَّا بين (ثيْبَاتِ وَأَبْكَارًا ﴾ أتعرفون لماذا؟
 لأن الصفتين لا تجتمع في موصوف واحد أبدًا، يعني: لا يوجد امرأة ثيب بكر، إِنَّمَا إِمَّا ثيب وَإِمَّا بكر، إِنَّمَا الصفات التي قبلها تجتمع في الموصوف الواحد: مسلمة مؤمنة قانتة تائبة عابدة سائحة، لكن نأتي عند (ثَيِّبَاتِ وَأَبْكَارًا) .
أَيْضًا في آية: (التَّابِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ) [سورة التوبة : ١١٢] ما أتت الواو في هذه الصفات، لماذا؟ لأنَّ هذه الصفات كالصفة الواحدة في الموصوف، لا بد أن تجتمع في الموصوف كلها. (الْأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ) لماذا جاءت الواو بين هاتين الصفتين (الْأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ) لماذا ؟
 لأن هاتين الصفتين لو لم تأت الواو لفهم البعض أن واحدة منهما تغني عن الأخرى، لكن خل بالكم لأن كل آية لها دلالة، يعني: الأمر بالمعروف، لو قَالَ: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ لفهم البعض أن واحدة منهما تكفي، فأتى الله بالواو ليقول: لا، لا بد أن تقوم بكل صفةٍ عَلَى سبيل الاستقلال، لا بد أن تأمر بالمعروف في موضعه، وتنهى عن المنكر في موضعه، ولا يكفي أن تأمر بالمعروف فقط، أو أن تنهي عن المنكر فقط ، يعني : هنا أتى الله بالصفتين دلالة على ذلك : أنك لا ينبغي أن تفهم أن الأمر بالمعروف يكفي، أو النهي عن المنكر يكفي، لا، لا بد أن تأمر بالمعروف في موضعه إذا استدعى الأمر، أو تنهى عن المنكر في موضعه إذا استدعى الأمر.
أحيانا تأتي الواو - كما كتبت أختي الآن - في قوله تَعَالَى : (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّول) [سورة غافر : ٣] ، هذه أربع صفات، ذكر الله الواو بين صفتين اثنتين الأولى والثانية فقط، ولم يذكر الواو بين الثانية والثالثة، والثالثة والرابعة، لماذا؟ لأنَّ النَّاس تعُد مغفرة الذنب وقبول التوب صفة واحدة، الله يقول لك: لا، قبول التوبة ليس بالضرورة أن يغفر الله ذنوبك السابقة، فالمغفرة إحسان من الله، وقبول التوبة إحسان آخر من الله، هذه صفة وهذه صفة. ولذلك الله عندما يتحدث عن قبول التوبة في القرآن الكريم: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التوبة ﴾ ماذا؟ (عَنْ عِبَادِهِ) [سورة الشورى: ٢٥] ، يقبل التوبة عنهم وإلا يقبل التوبة منهم؟ إحنا فهمنا: يقبل التوبة منهم. التضمين -عند من يقول بالتضمين إحنا لا نقول بالتضمين- إِنَّمَا يقبل التوبة عنهم "عن" حرف يفيد التجاوز والمجاوزة، فمعنى التجاوز ماذا؟ أنه يقبل التوبة ويتجاوز عن سيئاتهم، يتجاوز عن سيئاتك السابقة، فقبول التوبة مسبوق بذنب، وأنت تبت إلى الله من هذا الذنب، طيب، إذا قبل الله التوبة مني فإنَّ الذنب السابق يؤرقني، الإنسان دائما ذنوبه تؤرقه، وعندما تؤرقه ذنوبه لا يستطيع الخضوع والانقياد الله في عبادته، والله يريد للعبد إصلاح باله، يعني تكفير السيئات إصلاح للبال، ألم يقل الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) [سورة محمد : ٢] ، ولذلك قبول التوبة في القرآن كله يكون بـ «عن»: (أَلَم يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ ، ﴿أُولَبِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
إِنَّما هناك قبول بـ «مِن»: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ ﴾ ، قبول «مٍن» ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ لأن المتقي ليس هناك ذنب يؤرقه حَتَّى يتقبل عنه، فَقَالَ الله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ، أما قبول التوبة فهو قبول بحرف التجاوز «عن»، الله تجاوز عن ماذا؟ تجاوز عن ذنوبك التي سبقت توبتك، فقبول التوبة إحسان من الله ، ومغفرة الذنب إحسان من الله لسوء أنت ارتكبته في حق نفسك، يعنى غفران الذنب إحسان من الله لسوء أنت فعلته، وقبول التوبة إحسان من الله مقابل إحسانك لنفسك؛ لأنك عندما تبت إلى الله فأنت أحسنت إلى نفسك .
إِذا (غَافِرِ الذَّنْبِ) الذنب سوء فعلته والله يغفره، فهو جل وعلا يُحسن إلي في سوء فعلته في نفسي، وقبول التوبة إحسان لنفسي أني تبت، والله يقبل التوبة إحسانًا منه يقابل إحساني لنفسي، واللهُ أَعْلَمُ.
ونتوقف هاهنا اليوم، وأسأل الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمْ الفهم والعمل بما نفهم، وأن يرزقني وَإِيَّاكُمُ الإخلاص في القول والفعل والعمل ...

دروس إيمانية وعملية من الآيات:
1. اليقين بزوال الدنيا مهما عظمت
الجبال التي هي أوتاد الأرض ستنسف وتزول، فكيف بما دونها من قصور وأموال ومناصب؟
⇒ تربية على عدم الاغترار بالدنيا.

2. تذكير بالقدرة المطلقة لله
تسيير الجبال ونسفها وتحويلها إلى سراب دليل أن الخلق كلهم بيده، لا يعجزه شيء.
⇒ يقوي التوكل واليقين.

3. مشهد البعث والنشور
الأرض تبقى بارزة لا تخفى منها خافية، ممهَّدة لوقوف الخلق للحساب.
⇒ استحضار أهوال يوم القيامة يبعث على الاستعداد.

4. إقامة الحجة على المعاندين
سؤال المشركين عن الجبال استهزاءً جاءه الجواب الرباني القاطع.
⇒ تربية على الثبات أمام الشبهات والسخرية.

5. تحذير من الغفلة والانشغال بالزائل
الدنيا بما فيها تفنى، فلا يبقى إلا العمل الصالح.
⇒ الحث على الزهد فيما يلهي، والإقبال على الباقيات الصالحات.

6. التأمل في الدقة البيانية للقرآن
التفريق بين العوج الكبير والأمت الصغير يعلم المؤمن أن الله لا يغفل عن أدق تفاصيل الحياة.
⇒ يورث مراقبة الله في الصغير والكبير.

7. الموازنة بين الخوف والرجاء
مشهد الهلاك والنسف يورث الخوف، وذكر مغفرة الذنب وقبول التوبة يفتح باب الرجاء.
⇒ يربي المؤمن على السير إلى الله بجناحي الخوف والرجاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق