الثلاثاء، 28 يناير 2020

دلالة التعبير بـ (من فوق) في اللفظ القرآني

(من فوق) تدل على ثلاثة معان متلازمة:
  المعنى الأول: الابتداء وبيان مبدأ جهة الشيء أي الشيء مبتدئ من كذا، لذلك يغلب أن تسبق بفعل تكون هي ابتداء له أو ما يقوم مقام الفعل نحو {لهم} أي كائن، مستقر، استقر.

المعنى الثاني: على القُرب الشديد بلا فاصل وأنه يعمهم ويحيط بهم من جميع جهاتهم إحاطة قريبة جدا بلا فاصل، وهو مأخوذ من الابتداء منهم بلا فاصل لأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية.

  المعنى الثالث: التأكيد.

 وردت في القرآن الكريم في عدة مواضع هي:
 1- (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة:66]
الجملة الكريمة استعارة عن سبوغ النّعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم وإدخال (من) لبيان جهة المأكول أنه من جهة الفوق والتحت، وأنه يعمهم من جميع جهاتهم بحيث جعلوا مغمورين فيه مع القرب وفيها التأكيد، والأكل من جميع الجهات كناية عن سبوغ النعمة وكثرتها وأنها عمتهم.

 2- (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام:65] إدخال (من) يعطي عدة فوائد:
 1. بيان جهة ومبدأ العذاب فهو عذاب كائن من هاتين الجهيتن.
 2. أنه يحيط بهم من الفوق ومن التحت إحاطة قريبة جدا، ففيها بيان قربه الشديد منهم.
 3. فيها التأكيد فيبعث العذاب من الجهة التي لا يستطيعون دفعها من فوقهم أو من محل استقرارهم، ولم يقل من تحتكم بل قال {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فهي تُصور العذاب الغامر من فوق، أو النابع من تحت لا مقاومة له ولا ثبات معه، وهذا أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال. ولا يمكن أن يقال يبعث عليكم عذابا فوقكم؛ لأنه ليس المراد تعميم جهات الفوق وأنه عال وليس المراد أن شيئا فوق شيء، بل المراد ما تقدم.

 3- (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف:41]
 على قوة إحاطة النار بهم من تحت ومن فوق، وأنها قريبة منهم بلا فاصل، مطبقة عليهم، وبيان الجهة التي يعذبون منها فهم محاطون بالعذاب من تحتهم ومن فوقهم، والغواشي جمع غاشية، وهى ما يغشى الشيء أي يغطيه ويستره.

 4- (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم:26]
 لما أريد بيان جهة الاجتثاث أنها كائنة من فوق الأرض، مع بيان أن عروقها قريبة من الأرض ليس بثابتة ولا متأصلة كالشجرة الطيبة مع التأكيد في القلع ذكر(من). قال البيضاوي: "{مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} لأن عروقها قريبة منه". قال أبو حيان: "واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله: (أصلها ثابت) أي: لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض، وإنما هي نابتة على وجه الأرض".

 5- (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل:26] {مِنْ فَوْقِهِمْ}:
 1) تبين الجهة وأن الخرور من جهة الفوق.
 2) وأن السقف سقط محيطا بهم كأنه ملاصق لهم فهي تفيد القرب وأنه أطبق عليهم.
 3) التأكيد.
وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل، يطبق عليهم من فوقهم، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم، وفي ذكر {من فوق} بيان كانوا تحته فوقع عليهم فهلكوا. قال ابن عطية: "ومعنى قوله {مِنْ فَوْقِهِمْ} رفع الاحتمال في قوله {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته، كما تقول: انفسد عليه متاعه، وقوله {من فوقهم} ألزم أنهم كانوا تحته".

 6- (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل:50]
 (من): تدل على شدة خوفهم من الله واستشعارهم لعظمته ورقابته وجلالته فوقهم، وأنها قريبة وهذا السر في ذكر من بخلاف {وهو القاهر فوق عباده} هناك لبيان عظمة القهر وتعاليه علوا كبيرا عظيما فحُذفت (من). قال البقاعي: "خوفاً مبتدئاً {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب، فهم عما نهوا عنه ينتهون".

 7- (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج:19]
(من) في (من فوق): لبيان جهة الصب وأنها من فوق رؤسهم؛ للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء، ولتفيد إطباق العذاب مع قرب الصب لأن (من) لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية فتفيد أن ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة،لأن الحميم إذا صب عن قرب أشد من أن يصب عن بعد؛ لأن الصب عن بعد ينقص من حرارته بخلاف ما إذا صب عن قرب نزل كما هو لأنه أشد. قال السامرائي: "أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم".

 8- (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت:55]
 العذاب يغشاهم قال مبتدأ من جهة الفوق، وملتصقا بهم مستعليا عليهم من مكان قريب، ويحيط من جميع جهات الفوق ففيها بيان لإحاطة العذاب.

 9- (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب:10]
 في ذكر (من) بيان الجهة، مع الابتداء القريب، وأنهم حصروهم؛ لأن المراد أنهم حصروا المدينة من أعلاها وأسفلها وهذا يناسبه ذكر (من) أي جاءوكم من جهة الفوق ومن جهة التحت مع القرب مع التأكيد حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها.
{مّن فَوْقِكُمْ}: من أعلى الوادي من فوقه قِبَل المشرق وهم بنو غطفان ومن تبعهم من أهل نجد وبنو قريظة وبنو النضير.
{وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}: من أسفل الوادي من قِبَل المغرب من جانب الغرب، وهم قريش ومن تابعهم من الأَحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة. تحزبوا حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لبيان قوة العدو وإحاطته فنسبة الفوتية اليهم للملابسة، وانما الفوقية لبعض الوادي على بعض.

 10- (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:16]
 ذكر (من): لبيان أن الظُلل من جهة الفوق ومن تحت الأرجل، وقربها وإحاطتها بهم، بحيث تحتوي عليهم من جميع الجوانب، وفيها تأكيد.

 11- {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20]
 بيان أن الغرف طوابق متتابعة بعضها من فوق بعض يعتلي طابق على طابق، مع التأكيد في مقابلة ما قال للكافرين لهم من فوقهم ظلل من النار، ومن تحتهم ظلل مع التأكيد.

 12- (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت:10]
 أفادت (من) أن الرواسي من جهة الفوق كائنةً من فوقها مرتفعةً على الأرض قريبة بحيث تنتفعون بها وليست مغمورة جميعها في أعماق الأرض فمع أن أكثر أجزائها في أعماق الأض لكنه سبحانه من رحمته جعل جزاء كبيرا منها فوق الأرض، ولم يجعلها بعيدة عن الأرض بحيث لا تنتفعون بها بل هي من فوق الأرض؛ لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة لمحصليها، بالمتنال قريبة، وليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب وفيها تأكيد. قال السامرائي: فـ (من) تدل على الابتداء قال تعالى {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} ولم يقل (فوقها) لأن كلمة فوق تحتمل المسافة القريبة والبعيدة قال تعالى {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم} وقال {ورفعنا فوقكم الطور} ، وقال {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن}.

 13- (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الشورى:5].
 (مِنْ) لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بـ (يتفطرن) أي مبتدئاً تفطرهن من فوقهن؛ لأن المراد يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية، وتخصيصها لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه تعالى من تلك الجهة من عظيم العظمة والجلال والكبرياء والعزة، أي: يتفطرن من فوقهن من عظمة الله وجلاله وعلو شأن الله وعظمته، يدل عليه مجيئه بعد العلي العظيم، وفي (من) أيضا تأكيد.
---------------------------------------------------------------- 
*المصدر: بحث تفصيلي للشيخ علي هاني في الفرق بين (فوق) و (من فوق) في اللفظ القرآني (باختصاربسيط)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق