الجمعة، 24 يناير 2020

تفسير سورة الكهف / موسى والخضر (2) / د. عويض العطوي


 بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد ..

 أيها الأخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. مازال الحديث متصلاً عن هذه السورة العظيمة سورة الكهف ومازال الحديث أيضاً متصلاً عن القصة الثالثة وهي قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح.

 نحن تحدثنا في اللقاء الماضي أيها الأخوة الكرام عن القسم الأول من هذا اللقاء بعدما لقي موسى عليه الصلاة والسلام العبد الصالح وحصل بينهما حوار وقلنا إن هذا الحوار تركز على اشتراطات محددة في قضية التعلّم لموسى عليه السلام من العبد الصالح فاتفقا على مجموعة من الشروط ولعل أهم هذه الشروط أن لا يبادر موسى عليه السلام بالسؤال عن أي شيء يراه إلا أن يُحدِث الخضر أو العبد الصالح لموسى عليه السلام ذكراً من ذلك الأمر الذي حدث، وهذا الأمر وهذا الاشتراط في أول أمره نراه سهلاً ميسوراً ولكن إذا عدنا إلى طبيعة الإنسان وأيضاً أحياناً ما يحمل الإنسان من مبادئ واصطدامها ببعض الأشياء المخالفة لما يراه ويعتقده نرى أن هذا الأمر يكون صعباً، فكثير من الأشياء أحياناً نراها نظرياً سهلة لكن عندما تواجه الواقع يختلف الأمر، وهذا هو البون الشاسع بين التعليم النظري - بمعنى أن نسمع محاضرات ونتلقى دروساً ونقرأ في الكتب وبين أن نمارس - هناك فرق كبير، فقد تجد إنساناً يتحدث مثلاً أو يقتنع حتى بالصفح والعفو عن الناس والتجاوز ويقول هذا شيء جميل ولكن بمجرد أن يقع في موقف فيؤذَى ويؤذيه أحد تجد أن هذه الأشياء وهذه المبادئ تخلّف منها شيء الكثير .
 هذا الأمر أيها الأخوة الكرام لا بد أن يكون في ذهن الإنسان ، ما سنراه الآن أو ما سنتحدث عنه في شأن موسى عليه السلام هو يتعلق بمعتقده عليه الصلاة والسلام وما يراه خطأ ومنكراً يجب أن يُنكَر - وسنبين ذلك في موقعه إن شاء الله - ، وأيضاً ننظر فيه إلى المصالح والمفاسد هل المصالح خاصة أم المصالح عامة وهذا له تعلق كبير باختيار أي الاختيارين يختاره الإنسان فكثير من الناس يختار الخيار الخاص به والمصلحة الخاصة به بينما كل قرارات الأنبياء سواءَ في القرآن أو في السَّيَر تجد أنها متعلقة بمصلحة الأمة وليست بمصلحة الأفراد ، وهذا الأمر يجب أن نتعلم ونتخلص منه أيضاً، نتخلص من الانتصار للذات ونفكر في مصلحة الناس حتى ولو كان ذلك فيه تخلُّف لمصلحة خاصة فردية أو لعدد قليل من الناس.
 أيضاً تعلمنا في الجلسة الماضية أن العبد الصالح بيّن لموسى عليه السلام أن ما سيراه أو ما سيحصل أمر لا طاقة له بالصبر عليه فقد نبهه على هذا الأمر من أول لقاء بل من أول كلمة {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } وقلنا كلمة ""لن" و "تستطيع" والفعل المضارع الدال على التجدد في المستقبل هذه كلها أشياء تدل على أنه سيقول له شيئاً أو سيرى منه شيئاً فوق طاقته في الصبر مع ما عُرف عليه موسى عليه السلام وهو نبي وهو من أولي العزم من الرسل لكن هذا ما أراده الله سبحانه وتعالى وليعلمنا ذلك في صورة حياة نبي حتى لا يحتجّ مُحتجّ .
هذه الأمور -أيها الأخوة الكرام- التي أحببت أن أبدأ بها حديثي الآن سنرى بعدها ما الذي حصل بعد هذه الاشتراطات هذه نسميها في علم التربية الآن نسميها اشتراطات التعلم، يريد إنسان أن يتعلم منك لك أن تشترط عليه نعم تتعلم لكن بالشروط الآتية وتذكر واحد واثنان وثلاثة فإذا أخلّ هذا المتعلم بهذه الشروط لك الحق أن تتوقف عن تعليمه، وقلنا لكم كلما كان التعليم فيه شرط واشتراط وخصوصاً لنبهاء الطلاب كان ذلك أقوى في التعليم.
لماذا ايضاً قلنا هذا؟ قلنا لأن هذا الأمر وهو الاشتراطات وهو الأخذ بها هو جزء من عملية التعليم نفسها فعندما يلتزم الإنسان بالوعد، يلتزم الإنسان بالشرط، يلتزم الإنسان بالشيء المتفق عليه هذا جزء من التربية، والتربية هي أن نتعلم بعد ذلك نطبق فهذا ميدان للتطبيق .
   {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} بعد هذا الشرط  قال الله عز وجل :{فَانْطَلَقَا } وكأن هنا كلاماً يُبنى عليه الكلام السابق وهذا الكلام اللاحق يُبنى على الكلام السابق بدليل الفاء، فهذه الفاء تدل على أنه أصبح هناك اتفاق أي فاتفقا على هذا الشرط وبعد الاتفاق انطلقا، والانطلاق هو ضد التقييد وكأن هناك قيداً يمنعهما من الانطلاق وبعد ذلك فُك هذا القيد وانطلقا، وهذا القيد هو المتمثل في اللقاء الأول والاشتراطات فقبل أن يتحركا أي تحرك وقبل أن يقول له أي كلام في قضية التعلم القادمة كان هذا مثل القيد. ليس هنا دليل على أن موسى عليه السلام وافق يعني ليس هناك نص لكن هذا دليل بما أنهما أنطلقا دليل على أنهما قد اتفقها وأن موسى عليه السلام قد وافق وهذا أمر طبعي لأن موسى عليه السلام جاء ليتعلم، إذاً { فَانْطَلَقَا} وكأنهما كانا محجوبين عن الانطلاق ، مقيدين عن الانطلاق بسبب القيود والشروط التي قيلت.
  الآن اتفقا على الشروط بدأت الرحلة الآن ولذلك الله عز وجل قال:{ فَانْطَلَقَا}، قوله تعالى :{فَانْطَلَقَا} الإثنان دليل على أنهما انطلقا سوياً دون أن يتقدم أحدهما عن الآخر أو يكون هناك مزية لواحد منهما، ولو قيل فانطلق العبد الصالح الخضر وموسى بمعنى لم يشتركا في الضمير لكان هناك أمر آخر مثل قوله تعالى :{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } ولم يقل اسكنا، بينما في الأكل قال : {فَكُلَا} ولم يقل وكل أنت وزوجك فالاشتراك في الضمير يدل على الاشتراك في الفعل. {فَانْطَلَقَا} أي الإثنان بدون تمييز لأحدهما دون الآخر.
 / {فَانْطَلَقَا حَتَّى}
{حَتَّى} أداة يؤتى بها للدلالة على الغاية من الفعل السابق، إذا هذا الانطلاق وهذه البداية والانطلاق لها غاية ستنتهي إليها، انطلقا ومشيا حوادث .. أحداث .. قصص لا تعنينا المهم أنه مباشرة جاءت الغاية المطلوب قصّها، المطلوب أن نعلمها فكانت الغاية هي التي جاءت بعد حتى {حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } وتقدير الكلام حتى خرق السفينة أو حتى خرق السفينة لما ركبا فيها فالغاية التي وصل إليها هو خرق السفينة، إذاً هنا انطلقا لم يذكر لنا كما ذكر في التفصيل السابق أنه مسهما جوع أو نسيان أو أي شيء من ذلك أو فقدا بعض متاعهما أو أي تفصيل في هذه الرحلة لماذا؟ لأن هذا لا يتعلق به أمر مهم بل الأمر المهم هنا ما الذي حصل، ما الذي حدث، فبعد الانطلاق ما الذي حصل {حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا} فجاء بعد {حَتَّى} التي هي للغاية -لغاية الفعل انطلقا- { إِذَا} و "إذا" ظرف يدل على الزمن فالخرق الذي ذُكر هنا أين زمنه؟ أين وقته؟ أين ظرفه؟ ظرفه هو {إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَة} أي وقت ركوبهما في السفينة.
 وإذا قال قائل: لمَ لم يكن : فانطلقا فخرق السفينة وقت ركوبهما دون أن يقال "إذا" يعني ما فائدة إذا أن تأتي هنا دون أي ظرف آخر مثل وقت وإلا لحظة وإلا زمن وإلا ... الخ ؟ لأن "إذا" فيها ميزة أخرى وهي المفاجأة أو حصول حدث غير متوقع، فالمتوقع عندما يركبا في السفينة ليس هذا الأمر، بل المتوقع عندما يركبا في السفينة أن يجلسا مع أهلها أن يتعرفوا عليهما أن يأخذوا مكانهما أي شيء آخر لا أن يُخرّب أحد السفينة بخرقها، والخرق هنا هو بقلع بعض خشب السفينة المتعلق ببدن السفينة من الأسفل أي من جهة الماء ، وهذا تخريب -في الظاهر يعني- فهذا ليس أمراً متوقعاَ ولذلك جاء "إذا" لتُشعر بهذا الحدث الغريب غير المتوقع.
 {فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا} أيضاً في قوله تعالى : {رَكِبَا} واشتراكهما في الضمير -في الفعل- يدل على أن ركوبهما كان سواءً ولم يكن ركوب الخضر أولاً وبعد ذلك تبعه موسى عليه السلام أو موسى أولا أو بينهما زمن وهذا فيه دلالة على أنهما كانا متصاحبين فلم يغب أحدهما عن الآخر حتى يُأوَّل الأمر أو يُشَك فيه أو يُظن ظنٌ ، كلاهما مع بعضهما فموسى عليه السلام إذاً معه ويراه وينظر ماذا يفعل فبمجرد أن ركبا في السفينة حصل منه هذا الفعل وهذا أمر غريب، تخيل أنك تذهب مع إنسان وتركب معه في سيارته وأول ما تركب في سيارته تُخرِّب سيارته أمر ليس مقبول في الظاهر وأمر مستغرب طبعاً.
 في قوله تعالى :{حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} طبعاً يسبقها أنهم اتفقوا معهم وربما دفعوا لهم أجرة أو لم يدفعوا وركبوا، المهم فيه اتفاق، لا يمكن أن يأتي أناس هكذا يركبون بدون شيء لكن كل هذه الأحداث ليس لها قيمة لذلك لم تذكر.
 {حَتَّى ٰإِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَة} الأصل في فعل "ركب" أن يُعدى بنفسه فيقول : ركب فلان الدابة ، أو يُعدَى بـ "على" فيقال : ركب فلان على الدابة ولا يقال ركب فلان في الدابة إلا إذا كان مكان الركوب مظروفاً بالدابة، فالدابة مثلاً - على سبيل الخصوص- لا يمكن أن يركب الإنسان في وسطها ولكن لابد أن يركب عليها {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} ولم يقل لتركبوا فيها، بينما الأشياء الأخرى التي يركبها الإنسان فغالباً ما يركب في جوفها وليس عليها تجد أنها جاءت بـ "في" و "في" حرف جر يدل على الظرفية بمعنى شيء في داخل شيء فقوله تعالى :{حَتَّى ٰإِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَة} دون أن يقال حتى إذا ركبا على السفينة لأن هذا هو الأمر الخطير، فلو كان الركوب على لكان قلع هذا العود أو هذه الخشبة كان من ظاهر السفينة وهذا لا يضر السفينة بشيء إنما الذي يضر السفينة هو قلع هذا الخشب أو هذا اللوح من بدنها الموالي للماء وهو الأخطر لكن لو خلع له شيء من فوق ما ضر فدل ذلك على أن "في" هنا أشارت إلى فعل مقدر وهو {حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا} ودخلا في السفينة وهذا نسميه في علم اللغة التضمين فيأتي حرف الجر ليدلك على فعلٍ غير مذكور {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} أي يشرب ويروَى بها والمقصود الرِي هنا وغيرها كثير، فدل حرف "في" هنا على أن الركوب ما كان فوق، كان في داخل السفينة فوصلا إلى بدن السفينة من الداخل وقلع اللوح فبدأ الماء يدخل في جسم السفينة وهذا الذي دلنا عليه هو حرف الجر "في" فأصبح فوقهم جزء من السفينة وعن يمينهم جزء من السفينة ومن تحتهم جزء من السفينة فهم مظروفون فيها في داخلها وليسوا عليها.
 {حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ } السفينة هنا جاءت مُعرّفة أي معرفة لهما، وأكيد أنهم تعرّفوا على هذه السفينة وإلا كيف ركبوا فيها، فالسفينة الآن مذكورة بالنسبة لهما فهو "ال" هنا للتعريف الذهني الموجود بمعرفتهما هما فإنهما مؤكد أنهما قابلوا أناسا واستكروا هذه السفينة أو دفعوا لهم أجرا المهم أن السفينة بالنسبة لهما معروفة.
 {حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } لاحظوا معي أن الأفعال السابقة كلها كان يشترك فيها موسى عليه السلام مع العبد الصالح، في قضية الإنطلاق {فَانْطَلَقَا}، في قضية الركوب {رَكِبَا}، وقضية الخرق واحد الذي خرق {خَرَقَهَا} ومؤكَد هنا أن الضمير هنا يعود على الخضر -على العبد الصالح- بدليل الإنكار الذي بعده، فإن الإنكار الذي بعده صدر من موسى عليه السلام فعلمنا من الذي خرق.
 {حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } أي خرق العبد الصالح السفينة، والخرق هو كان بقلع لوح فيها، والخرق يعني إحداث فجوة في المكان وهذا المكان هو بدن السفينة فبدأ الماء يدخل إلى السفينة، وأخطر شيء على السفينة هو دخول الماء فيها، وكلما كان الخرق متسعاً كان الأمر أصعب، لكن هنا لا يظهر أن الخرق كان كبيراً لكنه في أصله تخريب ولذلك أنكره موسى عليه السلام، والناس في البحر وبعدما مشت السفينة خُرِقت هذا الأمر يشير إلى خلل كبير فيها قد يتسبب في غرقها وإذا غرقت غرق أهلها ولذلك قال موسى عليه السلام مباشرة، يعني لاحظوا معي سرعة الأحداث ركبا في السفينة أول ما دخلوا في جوفها قلع اللوح الذي فيها دخل الماء مباشرة أعترض عليه موسى عليه السلام قائلاً : {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } قائل {أَخَرَقْتَهَا} هو موسى عليه السلام {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} أخرقتها أي: السفينة، لتُغرق أهلها؟ ليس بالضرورة أن يكون قد علِم مُراد الخضر وأنه يريد إغراق أهلها لكن لأن هذا هو الأمر الحتمي الذي سيؤل إليه أو ستؤل إليه نتيجة هذا الفعل فإنه إذا خُرقت السفينة دخلها الماء وإذا دخلها الماء غرقت وإذا غرقت غرق معها أهلها.
{لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} إذاً اللام هنا فيها إشارة إلى نتيجة هذا الفعل وهو الخرق {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} ولا شك أيها الأخوة الكرام أن كلمة {أَهْلَهَا} تدل على أن في السفينة جمع من الناس فليست فرداً واحدا ولا شك أن إهلاك أناس والتسبب في موتهم وكلما كثرت الأنفس أن هذا أشنع.
{لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} من الأشياء الدالة على سمو أخلاق الأنبياء والتي دفعت موسى عليه السلام لأن ينكر هذا الإنكار أنه رأى عليه الصلاة والسلام أن في هذا الفعل تسبباً في إلحاق الضرر بالناس الذي قد يصل الحد به إلى موتهم وغرقهم ولذلك قال : {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وهو عليه الصلاة والسلام على متنها ومعه مُعلِّمه الذي يريد أن يتعلم منه فهُم الآن من أهلها ولكنه أظهر الحديث عن الأهل أي أهل السفينة تناسياً لحاله عليه الصلاة والسلام فلم يكن يُهِمه نفسه بقدر ما كان يُهمه حال الناس ولذلك تحدّث عن الناس أكثر من تحدثه عن نفسه عليه الصلاة والسلام رغم أن الأحداث تدل على أنه لا يعرفهم وربما حتى لا يعرف ديانتهم ولا من هم ولم يسدي إليهم شيئاً ولم يسدوا إليه شيئاً فليس هناك سابق معرفة لكن من حق الإنسان أن تُحفظ نفسه وأن يدافع عنه ولذلك قال : {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} ولم يقل أخرقتها لتغرقنا، وهذا هو السائد في أغلب كلام الناس فإن الإنسان وقت الأزمات غالباً ما ينتبه لنفسه أكثر ما ينتبه لغيره إلا أصحاب القلوب الكبيرة والمبادئ العظيمة فإنهم غالباً ما ينتبهون إلى الناس أكثر من انتباههم لأنفسهم، ولذلك هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يبقى ليلة كاملة يقرأ آية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آية ليلة كاملة لم يدعُ فيها لنفسه صلى الله عليه وسلم بشيء بل كلها لأمته عليه الصلاة والسلام ، فهل نحن نحمل همّ الناس ومشاكل الناس وأمور الناس أكثر مما نحمل همومنا ؟
في هذه اللحظة التي ربما يموت فيها كل من في السفينة اهتم موسى عليه السلام بحال الناس قال : {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} ولم يقل لتغرقنا وربما يكون عند بعض الناس شيء أشد من ذلك فيقول لتغرقني فبعض الناس لا يهتم حتى بصاحبه بل يهتم في مثل هذه المواضع بنفسه فقط.
 {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} إذاً هو عليه الصلاة والسلام بيّن له سبب الاعتراض بقوله {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} فسبب اعتراضه أن هذا الأمر يؤدي إلى إتلاف الأنفس.
 ثم قال أيضاً في بيان لأهمية أو لشدة وقع هذا الأمر على نفسه عليه الصلاة والسلام فقال : {لَقَدْ جِئْتَ} أي لقد فعلت {شَيْئًا إِمْرًا} إمراً يعني عظيماً، وهذا الذي قاله هرقل لما كان يسأل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أحواله قال : "لقد أمِرَ أمْرُ أبي كبشة" عليه الصلاة والسلام أمِرَ يعني عظُم. وأمِر أيضاً فيها دلالة العِظم بالتكرر أحياناً، المهم أنها في النهاية كلمة تدل على عِظم الأمر أي لقد جئت شيئاً عظيماً هذا الشيء العظيم هو التسبب في قتل الناس أو إزهاق أرواحهم.
 وقد جاءت القراءة - قراءة الجمهور - {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وفي قراءة أيضاً { لِيَغْرَقَ أَهْلُهَا} ، {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} يعني أنت تتسبب في إغراق الأهل فتكون على سبيل التخاطب وتوجيه الكلام إليه. أما {لِيَغْرَقَ أَهْلُهَا} فأصبح الفاعل هنا الأهل.
 وفي كلا الحالتين أو في كلا القراءتين يتم هناك تواصل المعنى أو تكامل المعنى فيكون في القراءة الأولى بيان للمتسبب، وفي القراءة الثانية بيان لمن وقع عليه الغرق، وعلى كل فهذا الأمر الذي حصل مع موسى عليه السلام دعاه لأن ينكر ويخرج عن الشرط السابق الذي بينهما، وهذا الخروج أيها الأخوة الكرام علّله موسى عليه السلام بأنه كان على سبيل النسيان للشرط وجاء ما يؤيد ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( كانت الأولى من موسى عليه السلام نسياناً ) إذاً الحادثة الأولى التي حصلت واعترض عليها موسى عليه السلام كانت نسياناً منه وقد قال ذلك هو بنفسه وقد جاءت أيضاً في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ذُهل ونسي الشرط رغم قصر المدة لأنه اهتم بأمر الناس ونسي ما بينهما من التشارط السابق فنسي ما حصل بينهما وأنكر على سجيته وطبيعته عليه الصلاة والسلام فيما هو ضرر للناس.
 {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي شيئاً عظيماً .
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} القائل هنا هو الخضر عليه السلام {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ} (ألم) استفهام والاستفهام هنا يعني التقرير والعتاب ، معنى التقرير معناه أنه يريد منه أن يُقِرّ بأن هذا الأمر حصل منه سابقاً {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} أليس هذا الكلام قد حصل بيني وبينك وقلت لك هذه العبارة { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وهذا دليل على دقة هذا الشرط وهذه المعلومة التي قالها في أول الحديث وأنها مقصودة فذكّره بها والاستفهام هنا للتقرير أي لدفع المخاطب بأن يقر بنصّها بأن يقول : نعم أُقِر بأنه قلت لي هذا الكلام،هذا يسمى الاستفهام التقريري مثل لما تقول لشخص : ألم أقل لك ذلك ؟ ألم تفعل هذا الأمر ؟ تريد منه أن يقول بلى فعلت هذا الأمر، هذا يُسمى التقرير، ولكن هذا التقرير ليس مقصوداً لوحده بل المراد منه أيضاً التقرير والتذكير والعتاب فإنه يريد أن ينبهه إلى أن الشرط الذي بسببه يستمر التعلّم هو أن لا تعترض وأنت قد اعترضت وقد اتفقت معي سابقاً على أن لا تعترض على شيء وأن تصبر فالآن أنا أذكّرك.
 في قوله تعالى :{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} ولم يذكر ولم يأتي هنا متعلق الفعل بمعنى أن يُقال: ألم اقل لك؟ فيُحدد المقول له القول قال: لأن المقام يقتضي ذلك فالحديث كان بينهما وليس هناك طرف ثالث حتى ربما يُتوهم أن يذهب إليه الكلام، فالكلام بينهما لذلك لا حاجة لأن يُذكر المُوجه إليه الكلام كأن يقول (ألم أقل لك) فالحديث السابق بينهما ولم يكن هناك طرف ثالث، لكن سيأتي معنا موقف الآن  سيذكر (لك) سنعرف ما سببها.
 {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} والعبارة نفسها تكررت من قبل في أول لقاء بينهما وفي أول كلام دار بينهما {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وهذه العبارة مؤكدة حقيقة بمجموعة مؤكدات: (إن) في بدايتها وهي حرف توكيد ونصب -كما تعلمون- وهي تدل على توكيد الجملة الواقعة في حيزها {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ} وأيضاً (لن) و (تستطيع) بالمضارع الدال على تجدد الأمر.
 ولكن هناك خصيصة ذكرناها سابقا ونشير إليها الآن وهي قوله :{مَعِيَ} و(معي) هنا نسميها قيداً وكأنه يريد أن يقول له : أنت ربما تصبر في مواقف كثيرة لكن معي لا ولذلك قال : {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ولم يقل له: إنك لن تستطيع صبراً، فهو يصبر لكن معه هو بالذات لا يصبر ، ولذلك الإنسان قد يكون هناك مواقف يصبر فيها ومواقف لا يصبر فيها هذه طبيعة الإنسان فهو ذكر له هذا قال {مَعِيَ} وهذا دليل على أن هناك مواقف قادمة أيضاً سيكون موسى عليه السلام فيها غير صابر بسبب أنها حدثت مع هذا العبد الصالح الذي بين له هذه الحقيقة في أول كلامه {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}.
 لما ذكّره العبد الصالح،ذكّر موسى عليه السلام بهذه القضية لاحظوا معي أنه ذكّره ولم يُعنِّفه ، ولم يقل له ما علاقتك بهذا الأمر؟ أين ما دار بيني وبينك؟ أين الاشتراطات؟ ذكّره فقط {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ} وهذا من حُسن الأدب وأيضاً من كمال العقل في معالجة الأخطاء فقد يخطئ أي إنسان معك فليس من الحكمة المواجهة مباشرة، فهو لم يُحدِّثه عن قضية خرق السفينة ولماذا اعترضت عليها، هذا لم يتحدث فيه، هو ركّز فقط على قضية الشرط السابق {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ففهم عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر تذكير من هذا المُعلم له عليه الصلاة والسلام فماذا قال؟ لم يناقش الأمر كثيراً أو يُعلل أو يُبرر أنا فعلت هذا لكذا وهذا فيه إزهاق للأرواحُ لم يعترض على هذه الأشياء، نبهه على الخطأ الذي حصل وهو عدم الالتزام بقضية الشرط فعلل موسى عليه السلام ليس الفعل ، ليس خرق السفينة أو غيرها بل علّل فعله هو وهو الاعتراض بقوله :{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}.
لاحظوا أنه قال له : {لَا تُؤَاخِذْنِي} ولم يقل له اعذرني، وهناك بون شاسع بينهما ، ما قال له اعذرني أني نسيت فيجعل النسيان سبيلا للعذر بل جعل النسيان سبيلا لعدم المؤاخذة وهذا دليلٌ على أنه عليه الصلاة والسلام رأى أن في إخلافه الشرط سبباً للمؤاخذه، فلو آخذه الخضر بهذا معه الحق ولو مرة واحدة.
 لاحظوا الآن كيف اختلف الوضع ، في أول اللحظة أنكر عليه بشدة وأن هذا أمر عظيم للغاية ولكن بالمراجعة والمناقشة والمحاورة لاحظ كيف حدّثه بعد ذلك {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي} وإن حصلت منك المؤاخذة فلك الحق في ذلك ولم يقل له اعذرني لأن كلمة اعذرني تُشعر بأنه ليس لك الحق في المؤاخذة فأنا لم أفعل شيئاً يستحق المؤاخذة.
لاحظوا معي الآن لو حصل هذا مع واحد منا كيف يكون تعبيره كيف يكون كلامه -أنا ما فعلت إلا الخير، وهذا خطأ ، وهذا يجب أن يُنكَر- لاحظوا بعض التعبيرات التي تدور أحيانا ، وقد ينكر على عالم جليل أو إنسان له نظرة معينة أو عنده رؤية أبعد من هذا.
 ونحن دائماً نريد بعض الأشياء بسرعة ، ونريد أن يفعل الناس ما نراه نحن. هذا ليس بصحيح فظُن بالناس الخير والنظر إلى ما هو أبعد ، قد يفوتك أنت هذا الأمر فكن حكيماً في عبارتك ولطيفاً فيها وفي حديثك وظُن بإخوانك وبالناس خيراً.
  فلاحظ معي -وهو موسى عليه السلام- قال لا تؤاخذني أنا أخطأت وأنا حقيقُ بالمؤاخذة.
 و {لَا تُؤَاخِذْنِي} هي هذا مأخوذ من فعل (أخذ) أخذه بكذا أو بجريرة كذا ، ولكن إذا بولغ في الفعل جاء على صيغة المفاعلة وهي الواردة هنا تؤاخذ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} هذه صيغة مفاعلة تدل على المبالغة ، {لَا تُؤَاخِذْنِي} لا تأخذني بشدة.
 {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أي الحادثة الأولى نسيان فأنا نسيت الشرط الذي بيني وبينك ودفعتني طبيعتي واهتمامي بهذا الأمر ورؤيتي لما هو خطأ أن أنسى هذا الشرط وأفعل ما ينبغي أن أفعله.
  {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} وهذا أيضاً -يا إخواني الكرام- إذا كان موسى عليه السلام قد رجع عن الخطأ الذي رآه خطأ في هذه اللحظة في لحظة بسيطة وزمن قصير وبعضنا لا يتراجع بل يريد أن يبرر الخطأ بخطأ آخر وغير ذلك وهو نبي عليه الصلاة والسلام، فرجع قال له {لَا تُؤَاخِذْنِي} أنا أخطأت لكن لا تؤاخذني بهذا الخطأ.
 {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} لا تحملني على أمرٍ أعسر من هذا، وهذه بداية تدل على أن موسى عليه السلام أدرك أن القادم قد يكون أعظم، فهو من أول لحظة لم يصبر ، من أول اختبار لم يصبر ، فكأنه أشار إليه أن ترفق بي ، ترفق بي فأنا إذا كنت ما صبرت على هذا فلن أصبر على ما هو أعلى منها وأعظم.
 {وَلَا تُرْهِقْنِي} الرهق هو: الإتعاب أو حمل الإنسان على ما لا يطيق فلا تحملني على ما لا أطيق من أمري ويكون فيه عسر ومشقة علي. وهذا يسمونها بيان طبيعة الطالب أو المُتعلم يبين طبيعته أو وضعه أو ظروفه لمن يُعلّمه حتى يعذره في بعض الأشياء ، فممكن يبين له بعض الأمور التي يعامله من خلالها.{وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا*فَانْطَلَقَا}.
الآن انتهت المحاورة ولاحظوا معي قِصر المحاورة ودقة العبارات فيها والوصول إلى نتيجة ، ولاحظوا حواراتنا الآن في أشياء أقل من هذا، دعونا لو حصل هذا الأمر بين اثنين دعوني أقول مثلاً شابٌ يريد أن يتعلم من عالم رآه قدوة ومثالاً وذهب إليه من مسافات طويلة ولكن عندما وصل عنده رأى منه ما لا يحب أو رأى منه ما لا يرى أنه يجوز فعله، ماذا يحصل؟ لاحظ الكلام ولاحظ الاتهامات ولاحظ أنه لا يستحق هذا المشوار كله. لاحظ الكلام الذي يقال وحتى لو أراد هناك تبرير ومحاورة لاحظ طول الحوار والإتهامات للنفس وأحيانا الاتهام في معتقد الإنسان أو في نيته.
 الأمور هذه لازم نتعلمها يا جماعة ، في لحظة ، في حوارٍ قصير انتهى كل شيء واتضح البيان ورجعنا لأصل الحوار. وهذا أيضاً نقطة مهمة جداً في التعامل ، الموضوع كله ليس قضية أن نركب سفينة أونخرقها أو لا نخرقها ، القضية كلها أن موسى عليه السلام جاء لهدف وهو التعلّم وبالتالي حصل الاشتراط إذاً كل الأشياء الأخرى يمكن تأجيلها بعد ذلك للنقاش في القضية الأصلية وهي أن نعود إلى التعلم والاشتراط في التعلم. فعاد مباشرة ودليل ذلك {فَانْطَلَقَا} ، وأيضاً كلمة {فَانْطَلَقَا} تدل على أن الخضر عليه السلام قَبِل عُذر موسى عليه السلام وإلا ما انطلقا بدليل اشتراكهما في الفعل {فَانْطَلَقَا} إذاً قد انطلقها على هيئتهما يوم انطلقها أول مرة وهما سواء.
 {فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا } هل طال هذا أو لم يطُل ، هل حصلت أحداث أخرى الله أعلم ، الذي يهمنا أنه هذا هو الحدث الذي ذُكِر. {حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا} أيضاً هنا جاءت (إذا) للإشعار بأن الذي سيحدث فيها -وهي وقت وزمن وظرف-  أمر غريب عجيب ، وهذه المرة لم يحصل خرقٌ لسفينة بل قتلٌ لغلام ، وجاء فيه ما لم يُذكَر في السابق وهو حرف الفاء في قوله تعالى { حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} بينما في السابق قال الله عز وجل : {حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} ولم يقل فخرقها والسبب: أن الفاء هنا تُشعر بالتعقيب السريع وذلك أنه لما ركب السفينة ، السفينة تُركب من فوق عادة فلابد من النزول وأيضاً تكامل الركاب والدخول في البحر قليلاً و..الخ فهناك زمن ولم يحصل الخرق مباشرة بمجرد الركوب ولكنه ليس زمناً طويلاً ، بعدما دخلت السفينة في البحر وركب الناس فيها ومشت حصل الخرق ، أما الذي حصل مباشرة بعد اللقيا فهو قتل الغلام بدليل الفاء {حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا} أي هو والخضر.
 وأنا قلت لكم إن وجود الضمير في فعل واحد وهما للإثنين حتى لا يُظَن أن موسى عليه السلام فعل فعلاً مختلفاً ، أو أن الخضر عليه السلام ذهب إلى مكان أو كلم أحداً أو عرف أناساً أواطّلع على شيء لم يطلع عليه ، أو أن هؤلاء الناس أذوه ، لكن كلهم مع بعض فهو يراه ويمشي معه ، فأول ما وصلوا إلى غلام ليس بينهم معرفة ولم يسبقه هو إليهم حتى قد يكون حصل شيء ، هما مع بعضهما انطلقا.
 أيضاً {لَقِيَا غُلَامًا} والملاقاة عادة تكون للزائر أو للعدو المهم أن فيها نوع من المواجهة والانفراد -غالباً- فيكون وجهاً لوجه وعليه ورد قوله تعالى :{ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} وكأنه شيء ننتظره ، بعض الناس كأنه ينتظر الخبر السيء انتظاراً ، كأنما يتلقاه تلقياً كتلقي الغائب ، الغائب في سابق العهود كان الإنسان إذا جاء من سفر أو غائب يتلقاه الناس خارج البلد ، واليوم يتلقونه في المطارات أو بالاتصالات أو غير ذلك فهذا طبيعي في الناس.
 المهم أنه لقيه أي واجهه {حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا} وذِكر الغلام يدل على حداثة سنة ولكننا الآن لا نعرف هذه السن كم هي لكنه غلام وربما نعرف بعد ذلك نوعاً ما هذه السن كم هي أو قريباً من ماذا لكن في البيان الأول دل على أنه غلام ليس رجلاً كبيراً ، وعادة لما تُذكَر كلمة غلام بمعنى أنه ليس هناك ما يؤهله لأن يكون مجرماً أو قاتلاً أو بينه وبين أحد شيء حتى يُفسَّر هذا القتل.
{حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} أي بمجرد أن قابله قتله ونفهم من هذا أنه لم يتكلم معه ، ولم يحصل بينهما أي حوار ولا كلام ولا فعل ولا أذى ولا أي شيء ، بمجرد ما لقيه قتله. وهذا الأمر يا أخواني الكرام أمر ليس سهلاً ، وكما قلنا لكم جاءت الفاء لتدل على أن حصول القتل كان بمجرد اللقيا لا كما حصل في قضية الخرق فقد تأخر قليلاً والفاء هي التي تدل على ذلك.
 {فَقَتَلَهُ} قتل إنسان -يا إخواني الكرام- أمر بشع ، وقتل طفل أو غلام أمر أبشع ، وصعب على الإنسان مهما كان أن يلقى إنسان أو يكون هو يمشي ومعه آخر وهذا الآخر بمجرد أن يرى طفلاً أو شاباً يقتله هكذا بدون شيء، الإنسان لا يتحمل هذا ، أمر صعب ، ولم يرَ منه شيء ولا يعرفونه وليس بينهم علاقة.
  فتحدّث وتكلّم عليه الصلاة والسلام { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } أقتلت طبعاً مثلها {أَخَرَقْتَهَا } الاستفهام هنا إنكاري.
 وأنا ذكرت لكم الآن في هذا اللقاء ثلاثة أنواع من الاستفهامات : استفهام تقريري ، واستفهام للتقريع والتوبيخ ، واستفهام للإنكار، هذا النوع من الاستفهام للإنكار، فكثير من الأسئلة التي نطلقها لا نريد من الناس أن يجيبونا عليها ولكننا نريد معاني أبعد من ذلك وهي الإنكار على الشخص أو تقريره أو توبيخه أو غير ذلك. فهذا الأخير هو إنكار يعني كيف تقتله ، يعني لا تقتله فهو أنكر عليه القتل {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} وليس المراد من هذا النوع من الاستفهامات هو الإجابة بمعنى أنه لا يريد منه أن يقول نعم قتلت، لم يسأله ليقول هذا الكلام بل هو يريد منه أن يعلم إنكاره عليه الصلاة والسلام لهذه القضية وهي قتل النفس.
 لاحظوا معي يا أخواني الكرام أنه ذكّره في خلال إنكاره عليه بثلاثة أمور -وهذه تغيب عنا عندما نُنكر على الآخرين- كلما كان الإنكار مُسبَبَاً كلما كان أكثر قبولاً عند الشخص الذي تنكر عليه. لكن تجد الإنسان لا تفعل هذا حتى لو تقول له أي عبارة أخرى حاول أنك تضيف إليه شيء يجعله أكثر فهماً وأكثر اقتناعاً.
 لاحظوا ماذا قال له : {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا } ذكر النفس مجرد النفس تُشعر بنوع من الرحمة والشفقة ، نحن نقول النفس البشرية ، إزهاق النفس ، ما نتكلم عن رجل أو عن امرأة ، ما نتكلم عن صغير أو كبير، ما نتكلم عن رجل مذنب أو غير مذنب ، نحن نتحدث عن نفس. فتذكيره بأن هذه نفس المفروض أن تُصان فيها نوع من استحضار الشفقة وحق هذه النفس.. هذه واحدة { أَقَتَلْتَ نَفْسًا}.
 الأمر الثاني: { زَكِيَّةً } قالوا { زَكِيَّةً } يعني: لم تُقارف ذنباً ، فدل ذلك على أنه دون البلوغ ، أنه صغير لأنه قال : { زَكِيَّةً } وهو نبي عليه الصلاة والسلام يعرف هذا فقال :{زَكِيَّةً} لم تقارف ذنباً ، لم تعرف الذنوب هذه ولم تقارفها ولم تُكتب عليها فكيف تقتلها!! {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } وقد يكون {زَكِيَّةً} أيضاً فيها إشارة إلى أنه في طور النمو وأنه طفل صغير ما زال ينمو وفيه نمو وجمال وزينة { زَكِيَّةً}.
 الأمر الثالث : أنه قال : {بِغَيْرِ نَفْسٍ} كل هذا دون أن يكون له سبب مقابل فالنفس لا تُقتَل إلا بمقابل نفس أو بأسباب أخرى يعني يأتي بيانها في التشريع لكن هذا لم يعمل شيئاً ، لم يؤذينا، ولم يحصل منه أذى ، ولا نعرفه ، وصغير في السن كيف تقتله.

 { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} والمرة هذه قال له : {نُكْرًا} والمرة السابقة قال له :{إِمْرًا} والنُّكر- وفي بعضها {نُكُرَاً}- النُكر: أي المنكر العظيم ، فتعبيره هنا يدل على أن إنكاره قد زاد عن السابق . والنُّكر أعظم من الإمر لماذا ؟ 
قالوا : لأن الكلام عن السفينة رغم أن عدد أهلها كثير ولا شك أن إهلاك الأنفس الكثيرة أعظم ضرراً من إهلاك النفس الواحدة ولذلك بعض المفسرين قالوا : إن { إِمْرًا } أعظم من {نُكْرًا} والنظر في ذلك يكون لعدد الناس المُهلَكين، فهناك أهلها عدد كبير سيهلك .. سيموت ولذلك قال :{ إِمْرًا } يعني عظيماً وقالوا: وأقل منها {نُكْرًا} لأنها قتل نفس واحدة ، لكن الصحيح أن {نُكْرًا} أعظم من {إِمْرًا} ودليل ذلك أمران:
 الأمر الأول : أن الحديث عن قتل أهل السفينة وإهلاك أنفسهم أمر متوقَع لا محقق ، فخرق السفينة لا يمكن أن يغرقهم مباشرة لكن قد يؤول وقد يصل بهم إلى الموت، إذاً هم لم يموتوا إذاً الإنكار الآن على حالة ولذلك لم يقل عليه الصلاة والسلام : أقتلتهم ، قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} لاحظ الخرق يؤول إلى الإغراق، لكن الثانية حديث عن قتل مُحقق أمامه قد حصل وانتهى، وقتل نفس واقعة أعظم من توقع قتل نفوس كثيرة هذا الدليل الأول.
 الدليل الثاني: أنه أشار إليه بـ (لك) قال:{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} وهذه اللام والكاف الموجودة في أل الخطاب قد تشير إلى أنه صرْفٌ للكلام له لينتبه على ما سنبين ، أو أيضاً لها دلالة على أن الأمر عَظُم ، عَظُم أكثر من الأول ولذلك لم تصبر عليه.
وقد يشير إليه ما سبق أن ذكرناه من قوله :{ُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} فإنه هناك شعر أن كل ما سيأتي بعد ذلك قد يكون أعظم. لذلك أيها الأخوة الكرام ننتبه إلى هذه النقطة الأمر الحاضر .. الضرر الحاضر أعظم بكثير من الضرر المتوقع ولو كان على كثيرين. 
مثال : إنسان في لحظة الموت الآن لابد أن يُعالَج غير أناس قد يكونوا كثيرين لكن بالإمكان تأجيل وضعهم فيُعالَج هذا أولاً ، فالحالة الحرجة تقدم على غيرها. {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}
ماذا قال له بعد هذه العبارة الآن {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ونحن نلحظ في هذه اللغة وهذه الصورة من المحاورة والمخاطبة يعني تلك الثقة وأيضاً الهدوء في المحاورة رغم أنه خالفه وللمرة الثانية فلم يزد في كلامه معه إلا حرفين {لَكَ} لام وكاف عن العبارة الأولى كل الذي قاله له أنه ذكّره بالشرط الأساسي {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} واللام هذه يسمونها لام التبليغ وهي تدل على تقوية نسبة الفعل أو القول إلى المقول له القول أو المخاطَب وكأنه يقول له : ألم أقل لك أنت ، ألم أوجه إليك الكلام أنت؟ وهذا الأمر -حتى نقرب المعنى- موجود عندنا في خطاباتنا فأنت عندما تحدِّث ولدك أو ترسله في مهمة فيخطئ أول مرة أو لا ينتبه لكلامك أو يحضر شيئاً غير الذي طلبه ترسله المرة الثانية ويخطيء الخطأ نفسه تجدك بدون ما تعرف حتى لا بلاغة ولا لغة ولا غير ذلك تقول له : ألم أقل لك .. أنا ما قلت لك، كأنك تقول لك لا لغيرك يعني افهم هذا الكلام لك وليس لغيرك، فهنا أشار إليه أن الشرط لك ، هذا الشرط لك. وهذه فيها علو في نبرة المخاطبة وأن الأمر اقترب، الآن في الأولى مجرد تذكير، الآن تذكير وتنبيه على أن الكلام موجه إليك والشرط  كان بيني وبينك فانتبه.
 {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} فكيف أجاب ؟ قال - لاحظوا يا إخوان النسيان انتهى- بعض أهل العلم يقول قد يكون نسي للمرة الثانية وهذا قد يكون ولكنه استحيا أن يعتذر بالنسيان مرة أخرى وهذا من علو أدبه عليه الصلاة والسلام فإن الكرماء وأصحاب الأخلاق العالية الذي يسامحهم أول مرة ما يأتي المرة الثانية ويعتذر ومرة ثالثة ويعتذر والمرة الخامسة ويعتذر يرى حياءً أنه لا يكرر هذا إنما يبحث عن أسلوب آخر. ولذلك اتبع أسلوب الشرط ، اشترط شرط وجعل الشرط عليه هو وليس على المعلم وهذا أيضاً من حسن التصرف للقبول.
 وقد يكون عليه الصلاة والسلام ما نسي ولكن ما هناك حيلة أن يبقي معه إلا أن يبني كلامه على شرط ، والشروط من طبيعة أسلوب الشرط  أن يكون مقبولاً عند الإنسان لأن فيه نوع من أنواع التعهد فتقول له : إن فعلت كذا لك كذا ، تجد أن الإنسان المقابل لك يقبل. ولذلك كل أسلوب جاء في الشرط أكثر موثوقية من الشيء الذي لا يأتي بالشرط ، والحمد لله أن الله عز وجل قال :{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } فجعله في صورة شرط وهو رب العالمين سبحانه وتعالى ، فإذا رأيت أن النصر قد تخلف عن الأمة فاعلم أن المشكلة في فعل الشرط لا في جواب الشرط ، لأنه معروف دائماً أن جواب الشرط يترتب على فعل الشرط ، افعل هذا يحصل هذا، فالله عز وجل يقول أنصركم بشرط ماهو الشرط؟ إن تنصروا الله في أنفسكم وفي ذواتكم وفي أهليكم -أمور كثيرة- انصر دين الله في نفسك .. وفي بيتك، في كل مكان ، طبِّق شرع الله في نفسك .. وفي أهل بيتك ...الخ ، فلو فعل الناس ذلك هذا أسهل عليهم من الحوارات والخطابات والكلام الكثير أنت تستطيع أن تسيطر على نفسك وعلى أهل بيتك فإذا نصرت الله عز وجل في هذا، وكل منا قام بهذا الأمر نحن حققنا جزء من نصر الأمة ، لكن المشكلة أن أكثرنا لا يهتم بهذا فتجده في المنتديات والكتابات والإنترنت يسب فيها الناس ويتكلم وناسي نفسه. يا أخي اترك عنك الناس، عُد إلى نفسك وعدّل منها واعتني بأخطائك، دع عنك هذه الأشياء هذه لها من يقوم بها ومسؤوليتها على من يفعلها لكن أنت ماذا فعلت؟ والله بعضنا يكذب ، وبعضنا يخلف الوعد ، وبعضنا يظلم ، وبعضنا يسب الظالمين وهو ظالم ، قد يكون تحت يده عمال أو زوجة أو أولاد أو خدم أو غير ذلك وهو ظالم ولا يرى شيئاً لكنه يسب الظالمين ولربما يلعن الظالمين وهو أحدهم. المسألة -يا إخوان- تحتاج إلى عودة.
 فهنا نلحظ كيف أن موسى عليه السلام أخرج الأسلوب الثاني في الاعتذار بأسلوب الشرط {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ} مباشرةً {عَنْ شَيْءٍ} إذا سألتك سؤال عن شيء ولذلك لاحظوا أيضاً دقة التعبير لم يقل إن اعترضت {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ} والسؤال يمكن من أقل درجات الاعتراض لأنه هو ليس اعتراض في الأصل إنما هو نوع من أنواع محاولة معرفة السبب في هذا الأمر، لكنه اختار الكلمة التي جاءت في الاشتراط ، ما الذي جاء في الاشتراط؟ قال له في الاشتراط {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي} المسألة على سؤال وهو أدنى درجات الاعتراض ، فهنا أعطاه الذي يريد وعرف أنه لن يبلغ معه إلا هذا {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ} على الاشتراط الذي بيني وبينك.
 {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} وقوله : {بَعْدَهَا} معناه سبق لي وأن سألتك لكن بعد هذه ، فيكون الآن عندي السؤال الأول أعتذر بالنسيان ، الآن جعل العذر هو الشرط ، إذاً بقي معي حادثة ثالثة وقد سبق لهذا حادثتان.
 {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْء ٍبَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي } {فَلَا تُصَاحِبْنِي} ولم يقل فلا أصاحبك أو سأنفصل عنك، قال:{ٍفَلَا تُصَاحِبْنِي} فجعل القرار له لا لموسى عليه السلام ، لاحظوا معي قال له :{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍبَعْدَهَاٍ فَلَا تُصَاحِبْنِي} إن أردت أن تصاحبني هذا أمر يعود لك، وإن ما أردت أن تصاحبني فالأمر إليك، فالقرار أنت الذي تقول لي أصاحبك أو لا أصاحبك.
 {ٍفَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ } وهنا أيضاً تعليل {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} من جهتي و(لدن) أقرب من عندي ، يعني أنت صبرت علي في المرة الأولى والثانية ولو حصل أنك لم تجلعني أصاحبك ولا أمشي معاك فأنت معذور في ذلك والسبب أنني أنا لم ألتزم بهذه القوانين أو القواعد ، وهذا أيضاً من حسن الأدب في رفع التبعة عن الآخر ، وهذا فن لا يتقنه إلا قليل من الناس ، أن تُشعِر الإنسان الذي أمامك أنه عندما يتخذ قرار أنه ما عليه تبعة ولا مسئولية ، وهذا نوع من الكرم ، الكرم ليس دائماً يكون مال لكن تُشعِر الإنسان -مثلاً- إذا انتهى العمل بينك وبينه -أنت والله ما قصرت وإن حصل هذا فأنا لا أحملك شيء- ترى هذا الكلام جميل يا جماعة بينما تستطيع أن تُحمّله نوع من التأنيب وأنت ماشي، الكريم من لا يُحمِّل الآخرين شيئاً بل هو يتحمل.
فهو قال : إن حصل وتركت صحبتي ولم تجعلني أصاحبك فلست ملوماً في ذلك {قَدْ بَلَغْت َمِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} لقد قبلت عذري أكثر من مرة فما قصّرت في ذلك.
{فَانْطَلَقَا} فدل ذلك على أنه قبِل عذره للمرة الثانيةالثانية.
الآن دخلنا في الحادثة الثالثة ، الأولى - يا اخواني الكرام - كانت كما رأينا بداية ، الثانية ما كان فيها نسيان فاشترط ، الثالثة ستكون هي النهاية ولذلك قال الله سبحانه وتعالى :{فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} الانطلاق الآن دل على أنهم مشوا في طريقهم ولا ندري ما هي الحوادث كما ذكرنا سابقاً أو التفصيلية لكن المهم أنهم وصلوا إلى قرية {حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} فالغاية التي ذُكرِت هنا هي إتيان أهل القرية والغاية التي ذكرت أولاً هي الركوب في السفينة وخرقها ، والغاية الثانية هي لقيا غلام وقتله ، أما هنا إتيان أهل قرية والاستطعام.
لاحظ هنا {إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} ولم يقل إذا أتيا قرية وهذا دليل على أن أهل القرية شعروا بهم ، لأنه ممكن يدخل الإنسان في قرية ولا يعرف به الناس ولكن تسمية القرية أو هذا المكان بالقرية دائماً القرى يعرفون الغريب إذا دخل لأنهم غالباً ما يعرفون بعضهم ، وكلما صغُر المكان كلما كان الناس أكثر تماسكاً وتظهر فيهم غالباً كثير من صور الكرم وكثير من صور المساعدة للناس وكلما كثُر الناس وتفرقوا كلما قلّت عندهم هذه القِيم ، وكلٌ يعرف هذا فتجد الناس الآن لو أننا منا مجموعة -مثلاً- ذهبوا إلى بلاد بعيدة عن هذه البلاد وكان عددهم عشرة وإلا عشرين تجد بينهم تكاتف وتآزر ويقومون مع بعضهم ولكن إذا عادوا إلى بلدهم كل واحد ذهب في طريقه ، فالغربة والقِلة تجمع ، فالقرى دائماً أكثر تمسكاً بكيثر من القيم من المدن ، ومن القيم المعروفة في القرى وفي البادية وغيرها التجمعات هذه البعيدة عن المدن الكثيرة قيمة الكرم ، تكاد تكون واجباً وهذا معروف ومن يقرأ قصصاً قديمة أو حديثة يدرك هذا ، يعني ممكن يخرج الإنسان من ماله كله من أجل ضيف ، وهذه أمور موجودة حتى من العصر الجاهلي وممتدة إلى يومنا هذا ، فالكرم قيمة عالية لأن هذا أمر تُوجبه الحياة عليهم أن يساعدوا بعضهم بعضاً ويوجد بينهم كثير من التكاتف.
 {فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } أحببت بهذه المقدمة على الكرم أن أمهّد الحديث بسبب الاعتراض الذي اعترض به موسى عليه السلام لهذا الأمر ، لأنه قد يأتي في الذهن ما هو الخطأ الذي قام به الخضر عليه السلام حتى يعترض موسى عليه السلام ، فإن الأخطاء والأمور السابقة واضحة ، إغراق الناس .. قتل غلام ، لكن الحادثة الثالثة هي بناء وهي معروف يُقدَّم وليس أمر يُنكر فلماذا قال ما قال عليه الصلاة والسلام ؟ سنعرف الآن إن شاء الله. .
إذاً {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} دخلوا على الناس على أهل القرية لاحظوا معي {أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} إذا طلبوا الطعام ونحن لو رجعنا إلى الوراء قليلاً تذكرنا الحالة التي كان عليها موسى عليه السلام فقد أصابه الجوع من الرحلة والتقى بالخضر والله أعلم ما الذي حصل بينهما بعد ذلك في هذه القضية هل كانت الأحداث متتالية وراء بعضها؟ هل كانوا في حالة شديدة من الجوع؟ وهذا يظهر -والله أعلم- لأنه ليس مثل هؤلاء العظام الكرام أن يطلبوا طعاماً إلا إذا وصلت بهم الحالة إلى درجة معينة ، فهم أول ما وصلوا إلى القرية كانوا محتاجين إلى طلب الطعام وهذا لا عيب فيه إذا الإنسان كان محتاجاً ، استطعموهم بمعنى أنهم طلبوهم الطعام وخصوصاً إذا طُلب الطعام للحاجة ممن لا يستغرب منه الطلب ومن هو الذي لا يستغرب منه الطلب ؟ مثل ما ذكرنا أهل القرى الذين يتعودون على هذا الأمر ، أو -مثلاً- أحياء معينة ، أو كريم معروف بالكرم ، فإذا جاء الإنسان طلب منه أمر عادي فمثل أهل القرى عادة أنه إذا جاء فيهم الغريب يكرموه عرفوه أو لم يعرفوه حتى في الجاهلية كانوا يعدون الرجل الكريم أساس للمصاهرة ، أساس للمدح والثناء حتى يقولون رجل اسمه المُحلَّق كان عنده بنات وكان رجل بخيل جداً وكانت العرب تكره البخيل فلم يتزوج أحد من بناته بسبب بخله فقالت له زوجته : ما الحل؟ أو استشارها فقال ما الحل ؟ قالت : الحل أن تأتي بشاعر وتُكرِم الشاعر وتجعل الشاعر يمدحك فإذا مدحك الشاعر بالكرم سمع الناس بذلك فجاءوا إلينا. فجاء إلى صنّاجة العرب وهو الأعشى   -الصنّاجة يعني هذه الأداة التي يضربون بها الصوت العالي- وكان معروفا وشِعره له دوي وله انتشار ولكن هذا الشاعر حتى يؤتَى به يحتاج إلى مبالغ وصرف وهذا الرجل لا يريد أن يصرف شيئاً فأتى له وذبح له جزوراً على غير رغبة منه وأكرمه ... الخ فبعد ذلك قال فيه قصيدة من ضمنها يتحدث عن النار :
لعمرك قد لاحت عيون كثيرة ** إلى ضوء نار في يفاع تحرَّق اليفاع : يعني الصحراء ، يحلف هو بنفسه وبعمره إن هناك عيون كثيرة بدأت تنشَدّ إلى ضوء نار في صحراء من هذه النار؟
 لعمرك قد لاحت عيون كثيرة ** إلى ضوء نار في يفاع تحرَّق تُشبُّ لمقرورَين يسطليانها وقد ** بات على النار الندى والمُحلَّق  صاحبنا -أبو البنات اسمه المُحلَّق - فيقول هذه النار تُشَّب لمقرورَين ، المقرور هو : الذي أصابه شدة البرد فعندنا (قرٌ) يعني برد و(حر) متضادان ، (تُشبُّ لمقرورَين يسطليانها وقد بات على النار) الذي يجلس على النار اثنان من هما ؟ الندى: يعني الكرم صوّره في شكل إنسان، الكرم في شكل إنسان ، الثاني الذي يجلس معه من؟ المُحلَّق، يعني هذا المُحلَّق من الذي يجلس معه؟ الكرم نفسه ، فانتشر هذا ، يقولون فلم يمضِ شهر حتى تزوجت بناته جميعاً . فإذا الكرم هذا أمر معهود فلو جاء الإنسان يطلب الكرم من الكرماء هذا أمر معتاد ، لكن أن تأتي تطلب الكرم من بخيل هذا الأمر الذي غير معتاد . إذاً هم استطمعوا وهذا أمر ليس عيبا إذا كان الإنسان محتاج يطلب قدر حاجته وهم لاحظوا قال: { اسْتَطْعَمَا } أي طلبا طعاماً ، فهناك فرق أن تطلب طعاماً وأن تطلب مالاً ، الطعام لو طلبه الإنسان غالباً ما يُجاب إليه من كل أحد لأنه طعام ، لكن دائماً الناس ينفرون من الذي يطلب المال ، يستجدي المال إذاً هما { اسْتَطْعَمَا } طلبا طعاماً ، السين والتاء هنا للطلب {اسْتَطْعَمَا} أي طلبا طعاماً .
 {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } لاحظوا معي أنه كان الحديث أولاً {حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } إذاً الحديث عن الأهل مرتين ذُكر والمعتاد في مثل هذا أن يقال حتى إذا اتيا أهل قرية استطعموهم فيُعبّر بالضمير عن الظاهر لكن ذُكر الأهل مرة ثانية السبب في ذلك -والله أعلم- قالوا: إن هذا فيه إشارة إلى أن المُستَطعمين هم الذين الذين لقُوهم في أول دخولهم فهم يعرفون أنهم غرباء ، الآن لو افترضنا أنهم جاءوا ودخلوا القرية لابد أن يقابلهم أحد في أول الأمر فمن يراهم أول الأمر يُدرك حاجتهم وأنهم غرباء ويعرف ما بهم من وجوههم ومن حالتهم ، وأيضاً هو يعرف أنهم ليسوا من أهل البلد فهم يحتاجون إلى ضيافة وغير ذلك، فالاستطعام أيضاً حصل لأهل البلد الذين هم إما رأوهم أو  يعرفون من يراهم هذا قد يكون جانب ، وقد يكون جانب لزيادة اللوم والتوبيخ عليهم فإنهم دخلوا القرية ولم يستطعموا أناسا من خارج القرية أو من دُخلاء القرية أو من ضيوف القرية بل استطعموا أهل القرية القائمين فيها .
وهذا الأمر قررته الشريعة حتى في ديننا فإن الضيف ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ، قالوا : وما جائزته يارسول الله) اليوم الأول بعض أهل العلم يراه واجباً ، اليوم الأول والليلة الأولى واجب وبقية الأيام -هي ثلاثة أيام- والبقية الثلاثة تكون سُنّة وتكون من مقدور البيت وميسوره ، وهذا ليس فيه فضل لأحد على أحد هذا مفترض ، طبعاً إذا وُجِد ما هو مهيأ مثل الفنادق الآن هذا شيء آخر ، لكن إذا ما وُجد مكان يُؤي الناس فلابد أن يقوم الناس بمثل هذه الضيافة ، وهذه القيمة يجب أن لا تُلغَى ، يجب أن تبقى ونُشعر الناس بهذا الأمر ، يؤسفنا يا إخواني الكرام بدأت هذه القيم تذهب لدرجة أنه أصبح غريباً يعني لو جاء إنسان مقطوع أو غيره وأدخله عنده في بيته وأجلسه وآواه ربما يكون أمراً غريباً ، حتى إني أذكر مرة من المرات جاء رجل أمريكي هنا في تبوك وتقابلنا معه -هو مسلم وهو من أصول شرقية بعيدة هناك ولكنه قديم جداً في تلك الدول- فأذكر تقابلنا بعد ذلك ذهبنا إلى أحد الزملاء وبعد ذلك تغدينا وبعد ذلك جاء العشاء وكنا نريد نجلس معه ونعرف أخباره لا نعرفه من قبل لكنا تحدثنا معه ، الذي لفت النظر أنه قال له الأخ الزميل تنام عندنا الليلة قال : كل هذا مجاناً!! يعني الصباح والفطور والغداء والعشاء وأبيت عندكم الليلة ، هذا أمر مستغرب لماذا ؟ لأنه ليس مثل هذه القرية التي نتكلم عنها ، وليست مثل القيم التي كنت أتكلم عنها قبل قليل ، لأن قِيم المجتمعات الغربية قِيم فردية ، الإنسان لا يعرف إلا نفسه حتى ولو كان هذا الإنسان الآخر أبوه وإلا أمه وإلا أخوه وإلا صاحبه ، صُحبة لكن بدون مال .. بدون كرم .. بدون عطاء ، فهو مُستغرِب بالرغم من أنه مُسلم لكن البيئة التي تعيش فيها تفرض عليك القيم التي أنت فيها ، فيؤسفنا الآن أنه كلما زاد التحضر عند الناس كلما فقدنا كثير من القيم ، علينا أن نعود حقيقة نُعيد هذه القِيم ونتعود على العطاء والسخاء وجمعة الناس وغيرهم ، كبار السن عندنا إلى الآن يفرحون إذا جاء الضيفان لكن بعضنا الآن ينزعج إذا جاء الضيفان ولو كان هؤلاء الضيوف من أقربائه بل ربما من أشقائه أحياناً إلى هذه الدرجة وصل الناس وهذا خطر ، المال هذا جزء منه جزء من الخير الذي فيه وجزء -الحقيقة- من الأجر الذي فيه إكرام الضيف، إكرام الضيف هذا من الدين .. من الإيمان ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وكما نعتني بالقيم الأخرى الإيمانية كذلك نعتني بهذه القيمة. على كل حال {حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} فعرفنا سبب تكرار الاسم الظاهر هنا. 
{ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا } الإباء هو : الامتناع الشديد {أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} وهذا دليل على أنهما لم يطلبا أكثر من ما هو متعارف عليه في حق الضيافة فهم لم يطلبوا شيئا غير الضيافة الطبيعية التي هي حق مشروع ومتداول ومعروف في مثل هذه المجتمعات {أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} ، وكان الرفض للتضييف لهما جميعاً.
{فَوَجَدَا} بعد هذا التصرف الذي حصل ، وهذا يدل على أنهم على حالة صعبة من ربما الجوع والفاقة وغير ذلك ، أو مكان الذي يأوون إليه وحصل ما حصل وطلبوا الاستطعام ثم رُفِضوا ، ثم بعد ذلك -وهذا يُشعِر والله أعلم- أنهما لم يكن هناك ما يملكون من المال الكافي لكفاية أنفسهم من الطعام وإلا ما احتاجوا لمثل هذا الطلب. {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } في جدار مائل يريد أن يسقط فأعاده الخضر عليه السلام قيل -في روايات كثيرة لا تعنينا- قيل أنه مسحه بيده فعاد سوياً كما كان، كان على وشك السقوط فأعاده كما كان على وضعه الطبيعي فاقترح عليه أو فعرض عليه موسى عليه السلام في اللحظة هذه لو كنت ونحن في مثل هذه الحاجة الشديدة ، لو قمت بهذا العمل الخيّر الطيب ولكن بمقابل أجر حتى نأخذ هذا الأجر ونأكل به ونشرب به خصوصاً ونحن في قوم لا يُقدِّرون المعروف ولم يقوموا بحق الضيافة. ولذلك لاحظوا معي الأسلوب الذي اتبعه هذه المرة.
في الأسلوب الأول ما الأسلوب الذي استخدمه ؟ الاستفهام الإنكاري ، الثاني: الاستفهام الإنكاري لماذا ؟ لأنها منكرات خرق سفينة ، قتل غلام ، الحالة الثالثة ماذا قال له ؟ هل سأله سؤالاً إنكارياً؟ لا .. بل قال له { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} و(لو) هذا نسميه أسلوب العرض وهو من الأساليب اللطيفة التي تُوصل بها فكرتك دون أن تؤذي الآخر في شيء ، تُوصِل الفكرة بأسلوب لطيف (لو) يعني كأنه يقترح عليه لو فعلت هذا لكنه لا يُلزمه وليس فيها إنكار عليه ، ما اخطأت لكن كان هناك أفضل من هذا. لكن فرق كبير جداً بين هذا وهذا.
موسى عليه السلام هنا الوضع اختلف معه عن الوضع في السابق وبدأ الآن في الاشتراط الأخير أنه لا يعترض اعتراضاً كاملاً هذا قد يكون ، والذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس هذا ، بل لأن الفعل ليس منكراً في ذاته بل هو فعل في أصله خيّر ، أليس بناء جدار لأي أحد كان أليس عملاً طيباً .. أليست مساعدة الإنسان في إعادة جداره كما هو عملاً طيباً .. إذاً هو في أصله عمل طيب وهو لم يعترض على أصل العمل بل اعترض على آلية العمل، لو حصل هذا ، يعني لو بنيت البناء المتفق عليه لكن لو حصل هذا البناء بأجر يكون أحسن { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} يعني مقابل حتى نأكل أنا وأنت.
هنا قال له الخضر : {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ما راجعه أبداً والسبب أن موسى عليه السلام اشترط على نفسه في الاشتراط الأخير أنه إذا سأله عن شيء سيكون هو نهاية المطاف.
طيب قد يقول سائل الآن : طيب هو ما سأله ، وما قال له كيف تفعل هذا ألا تأخذ عليه، هو عرَض عليه فكرة؟
نقول له المقام أحياناً -حتى ولو كان في أسلوب العرض- المقام أحياناً يضفي على الأسلوب معنىً معين فالحديث كله على الاعتراضات ففُهِم الأمر الأخير بأنه أيضاً اعتراض المفترض أن تسكت كما كان بيني وبينك { فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} دعني أفعل الشيء وأنا أُخبرك ، لا تتحدث لا تعترض .. لا تقل شيء .. لا تذكر فكرة ، والدليل على أنه فِهم ذلك من الموقف أنه لم يعترض على المُفارقة ، خلاص انتهت ، ما اعترض على المفارقة {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} انتهى، فهذه ثلاثة وقد قال النبي ﷺ في بعض الرويات ( رحم الله موسى لو صبر لظفِر بأكثر من هذا) الآن عرف ثلاثة أشياء بعد تفسيرها له ، لكن هذا الذي أراده الله سبحانه وتعالى .
{قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ } لاحظوا معي الدرس المهم هنا :
الدرس الأول : أن هذا المعلم كان صارماً في الشروط، أعطاه مهلة أولى وثانية ، حصل شرط ثاني لكن الشرط الثاني هذا من المُتعلم نفسه بعدما لم يلتزم به أنهى هذه الصحبة {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ولذلك مهم جداً أحياناً أن تكون فيه نوع من الصرامة لأن أي شرط لا يُنفَّذ اعلم أنها تربية على التسيب. عندما نضع قوانين ولا نُنفذها فهذه تربية للناس على التسيب ، خير لنا أن لا نضع القوانين أصلاً ، ولذلك إذا وضعت على نفسك شروط أو مع زميل أو مع أهلك أو مع أهل بيتك أما أن تُنفِّذ أو لا تضعها أصلاً لأن وضعها مع عدم تنفيذها هذا يعطي تربية عكسية ، فعندما نحن نسُن القوانين ثم لا نطبق منها شيء ، القوانين هذه في داخلها عقوبات فلا نطبق منها شيء فنحن نربي على التسيب بل إن عدم وضع العقوبة أحياناً أفضل بكثير من وضعها مع عدم تنفيذها. ولذلك كان صارماً في التنفيذ {قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} انتهى ، غير هذا { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} مع أنه لم يطلب ذلك منه وإذا قال له لك الحق أنك تتركني لكن علمني ما قال له ذلك ، وهذه أيضاً صفة مهمة في المُعلم أن لا يمنعُه الخلاف بينه وبين طالبه أو الخلاف بينه وبين من يتعلم منه حتى لو خالف شروطه ، حتى لو أغضبه أن يُوصل إليه التعليم لأن من حقه أن يتعلم ، القضايا الشخصية يجب أن تكون جانباً. للأسف يؤسفنا الآن أن المعلم إذا غضب على من عنده من الطلاب قد يحجب عنهم علماً ، قد يحجب عنهم موعظة ، قد يحجب عنهم معلومة مفيدة ، هذا ليس صحيح.
الآن هو لم يلتزم بالقوانين والأنظمة التي بينهما ومع هذا قال لا هذا شيء ومن حقك أن تعرف لماذا هذه الأشياء الثلاثة حصلت {سَأُنَبِّئُكَ} وهذه تدل على أنه سيقوم بهذا العمل لاحقاً -يعني بعدما ينتهي من كلامه- و(السين) أخف في طول المدة من (سوف) يعني لو قال: سوف، يمكن تطول المدة قليلاً لكن {سَأُنَبِّئُكَ} يعني بمجرد من أن أنتهي من كلامي معك في مستقبل الحديث سأفسر لك .. سأخبرك .
وقال له : {سَأُنَبِّئُكَ} دون أن يقول له (سأخبرك) للإشعار بأن ما سأخبرك به أمر عظيم ، فإن الإنباء دليل على الإخبار بشيء مهم أو عظيم ، ولذلك سميت سورة النبأ بالنبأ لأنه شيء عظيم ، فأنبأ غير أخبر ، أخبر للأشياء العادية التي تحصل أما أنبأ تكون للأشياء العظيمة.
{ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيل مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ما قال بتفسير ولا بتعليل قال : {بِتَأْوِيلِ} لأن التأويل هو: الوصول بالشيء إلى ما يؤول إليه ، إلى مقاصده وكانت المعرفة بهذه الأشياء مُتعلقة بالمقاصد البعيدة ، فكل الأشياء التي ذُكِرت تفسيرها قادم بعيد وليس قريب ، ومحتاج مثل هذا النوع من المعلومات إلى صبر وهذا الصبر -يا إخواني الكرام- هو الذي نفتقده ويفتقده كثير من الناس ، وإذا كان هذا حصل من موسى عليه السلام وهو نبي عليه الصلاة والسلام فهذا تعليم لنا نحن أن نحاول أن نصبر لا نستعجل الأمور ، لا نحكم على الناس ، لا نحكم على الأشخاص لأن النبي ﷺ في غزوة الحديبية في ظاهر الأمر الذي حصل أن النبي ﷺ تنازل عن بعض الشروط طبعاً النبي ﷺ ينظر إلى مصلحة الأمة ولكن بعض الصحابة رأوا أن في ذلك نوع من المضرة للمسلمين فاعترضوا على ذلك .. إلى غير ذلك. فالصبر نحن نحتاجه أحياناً لرؤية أبعد. على كل حال {بِتَأْوِيل مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} ولذلك قال تأويل لأنه ما يؤول إليه الأمر {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} .
 النقطة الأخيرة التي أريد أن أختم كلامي بها :
ما علاقة هذه الحوادث الثلاثة؟
 لن أدخل في التفصيل الآن لأنه سيكون هناك لقاء قادم لكن سأختم حديثي : ما علاقة هذه الحوادث الثلاثة ؟ ولماذا هي بالذات جاءت مع موسى عليه السلام في هذه القضية -قضية التعلم- سفينة تُخرق .. غلام يُقتل .. جدار يُبنى؟
حاول بعض المفسرين وبعض الذين يكتبون هذا أن يربطوا ذلك بحياة موسى عليه الصلاة والسلام وهو اجتهاد قد يُصيب فيه الإنسان وقد يخطيء لكنه ملمح لطيف ، فالمتأمل لحياة موسى عليه السلام يجد أن هذه الأحداث متمثلة في حياته عليه الصلاة والسلام:
 الحدث الأول : إغراق السفينة يُشبه حالته عليه الصلاة والسلام عند ولادته ووضعه في اليم ، فإن وضعه في اليم لو تأمل الإنسان فيه لوجد أن مصير من يوضع في اليم -غالباً- أن يغرق ويموت فكذلك حال أهل السفينة عندما تُخلَع منها هذه اللوحة حالهم إذا مشوا في اليم يغرقون ويموتون فهو تذكير له عليه الصلاة والسلام بحالة في حياته .
الثانية : أنه لما شبّ وكبر استغاثه رجل من بني إسرائيل على رجل من القبط فدفعه موسى عليه السلام قيل بقبضة يده وقيل براحة يده فقضى عليه فمات ، فكان لمصلحة نُصرة ضعفاء ، وهذا قُتل هذا لأجل دفع الضرر عن أبويه في المستقبل بعلم الله سبحانه وتعالى في قتل الطفل.
الثالثة : تُشبه حاله عليه الصلاة والسلام لما ورد ماء مدين فوجد فيه امرأتين تذودان لا يعرفهما وليس بينهم أي شيء وكان على حالة كبيرة من الجهد والنصب والتعب تشبه حالته الآن لمّا دخل هذه القرية فهو هناك لم يطلب مقابلاً في مساعدة هاتين المرأتين فكأنه ذكّره هنا لماذا يا موسى تطلب مني أجراً وقد فعلت ذلك من قبل بدون أجر .
هذه هي بعض الأشياء والروابط التي قد تكون فيها إلماحات جيدة في هذا المجال.
ولقاءنا القادم في بقية القصة وأسأل الله للجميع التوفيق هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق