الثلاثاء، 24 يناير 2017

من المتشابه في سورة الأنبياء

/ قوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) وقال في الشعراء: (مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ) ؟
 جوابه: لما تقدم هنا: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) وذكر إعراضهم وغفلتهم وهو وعيد وتخويف فناسب ذكر الرب المالك ليوم القيامة المتولى ذلك الحساب.
وفى الشعراء: تقدم (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) لكن لم يفعل ذلك لعموم رحمته للمؤمنين والكافرين لم يشأ ذلك، ويقوى ذلك تكرير قوله تعالى في السورة: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). [١]

 / قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غفْلَةٍ مُعْرِضونَ)
إن قلتَ : كيف وصف الحسابَ بالقُرب وقد مضى من وقت هذا الِإخبار أكثرُ من تسعمائة عام ولم يوجد ؟
 قلتُ : معناه إنه قريبٌ عند اللّه وإن كان بعيداً عندنا كقوله تعالى : " إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً " وقوله : " وإنَّ يَوْماً عند رَبِّكَ كأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدوُّنَ ".
 أو إنه : قريبٌ بالنسبة إلى ما مضى من الزمان.
 أو إن المراد : قربُه لكل واحدٍ في قبره ويؤيده خبرُ " من ماتَ قامتْ قيامته ". 

/ قوله تعالى : (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ، قاله هنا : بلفظ " من ربِّهم " وفي الشعراء بلفظ " منَ الرحمنِ " لأن " الرَّبَّ " يأتي مضافاً ، بخلاف " الرحمنِ " لم يأتِ مضافاً غالباً.
ولموافقة ما هنا قوله بعد : " قالَ ربِّي يعلَمُ القَوْلَ " وموافقة ما في الشعراء قوله بعد : " وإنَّ ربَّكَ لهوَ العزيزُ الرحيمُ " إذِ الرحمنُ والرحيم أخوان.[٣]

*******
/ قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا) ثم قال تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والسقف: المستوى، والفلك: هو المستدير؟.
 جوابه: أن السقف لا يلزم منه الاستواء، بل يقال لكل بناء عال على هواء سقف سواء كان مستويا أو مستديرا، كقولهم: "سقف الخباء " وإن كان مستديرا. 

/ قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)، وقال في إدريس وعيسى عليهما السلام أنه: رفعهما إليه فهما حيان باقيان وهم من البشر؟ 
جوابه: أن المراد من الخلد في الدنيا التي هي عالم الفناء المعهود عندهم ، وإدريس وعيسى عليهما السلام في عالم آخر غير المعهود عنده.[١]

/ قوله تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ... ) ، وقال في سورة الفرقان: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ... )  للسائل أن يسأل عن إظهار الفاعلين في: (رآك الذين كفروا) من سورة الأنبياء، وإضمارهم من سورة الفرقان.
 والجواب أن يقال: إنّ ماقبل الآية في سورة الأنبياء: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥)} فلم يجر للكفار ذِكر في الآية التي قبل هذه، فكان الاختيار الإظهار. وأمّا في سورة الفرقان فإن قبل الآية: { ... أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (٤٠)} أي: ألم ير الكفار في زمانك القرية التي أمطرت مطر السّوْء، فيحذروا، فلما كان الذكر متقدّماً في أقرب الكلامم  إليها كان الاختيار الإضمار.[٢]

 / قوله تعالى: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥)} ، وفى النمل والروم: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}.
 والصم كافٍ فما فائدة ولوا مدبرين؟
 جوابه: أن آية الأنبياء نسب فيها السماع إليهم فلم يحتج إلى توكيد ومبالغة فيه، ولذلك قال: (إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) أي يتشاغلون عن سماعه، فهم كالصم الذين لايسمعون. وفى آية الروم والنمل نسب الإسماع إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فبالغ في عدم القدرة على إسماعهم بقوله تعالى: (وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) لأن المُولي عن المتكلم أجدر بعدم القدرة على إسماعه من الماكث عنده، ولذلك شبههم بالمُولي، وفيه بسط عذر النبى - صلى الله عليه وسلم - [١]

 / قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣)} . 
وقال في سورة الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)}.
 للسائل أن يسأل عن اختصاص هذا المكان بقوله: (بل) وخلوّ المكان الأول منها. 
والجواب أن يقال: إن الآية الأولى وقع السؤال فيها على وجه لا يقتضى "بل" في الجواب، لأنه قال: ما هذه الأصنام التي نحتّموها تماثيل وعكفتم عليها، فكأنه سفّه آراءهم وقال لهم: لم تفعلون ذلك، وتعبدون ما تنحتون فقالوا: وجدنا ، وفي سورة الشعراء تقدم سؤالل أضربوا عنه ونفوا ما تضمّنه، لأنه: (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) فقالوا مضربين عن هذه الأشياء التي وبّخوا عليها من عبادتهم مالا يسمع ولا ينفع ولا يضر وما يعلمون أنه جماد لاحياة فيه ولا نفع ولا ضرر عنده، وكأنهم قالوا: لا، بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فلأنّ السؤال هنا يقتضى في جوابهم أن ينفوا ما نفاه إبراهيم عليه السلام أضربوا عنه إضراب من ينفى الأول ويثبت الثاني، فاختصاص المكان بـ "بل" لهذا.[٢]

/ قوله تعالى : {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)} وقال تعالى في الصافات: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)} ؟
 جوابه: أنهم أرادوا كيده بإحراقه فنجّاه الله تعالى وأهلكهم وكسر أصنامهم، فخسروا الدنيا والآخرة.
 وفى الصافات قالوا: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ) أي من فوق البناء في الجحيم، فناسب ذكر الأسفلين لقصدهم العلو لإلقائه في النار والله أعلم.[١]

/ قوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)} ، وقال في سورة الصافات (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)} . للسائل أن يسأل فيقول: هذا في قصة واحدة، فجاء في موضع: (الأخسرين) وفي موضع (الأسفلين) فهل في كلٍ من المكانين ما يختص باللفظ الذي خصّ به؟
والجواب أن يقال: أمّا في سورة الأنبياء فإن الله تعالى أخبر فيها عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: (وتالله لأكيدنّ أصنامكم..) ، ثم أخبر عن الكفار لمّا ألقوه في النار وأرادوا به كيداً: (فجعلناهم الأخسرين) والكيد: سعي في مضرة لتورد على غفلة، فذكر مكايدة بينهم وبين إبراهيم عليه السلام، فكادهم ولم يكيدوه فخسرت تجهارتهم وعادت عليهم مكايدتهم، لأنه كسّر أصنامهم ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم، فذكر الأخسرين لأنهم خسروا فيما عاملهم به وعاملوه من المكايدة التي أضيفت إليهما.
وأما الآية التي في سورة الصافات فإن الله تعالى أخبر عن الكفار فيها بما اقتضى من الأسفلين، وهو أنه قال: (قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم) ، فبنوا له بناء عاليا ورفعوه فوقه ليرموا به من هناك إلى النار التي أجّجوها، فلما علوا ذلك البناءَ وحطّوه منه إلى أسفل، عادوا هم الأسفلين، لأنهم أهلكوا في الدنيا وسفُل أمرهم في الأخرى، والله تعالى نجّى نبيّه - عليه السلام - وأعلاه عليهم، فانقلب عاليّ أمرهم في صعود البناء وسافل أمر إبراهيم عليه السلام. د فلمّا حُطّ إلى النار صار ذلك سافلا، وأمر النبي عليه السلام عاليا، فلذلك اختصت هذه الآية بقوله: (فجعلناهم الأسفلين). [٢]
*******
 / قوله تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) وقال في سورة ص: (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً) والعاصفة ة الشديدة، والرخاء: الرخوة؟ 
جوابه: أنها كانت رخوة طيبة في نفسها، عاصفة في مرورها كما قال تعالى: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ).
 أو أن ذلك كان باعتبار حالين على حسب ما يأمرها سليمان عليه السلام.[١]

/ قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤)}.
 وقال في سورة "ص ": (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣٣)}.
 للسائل أن يسأل عن الفرق بين موضعي قوله (رحمة من عندنا) و (رحمة منا) وقوله (وذكرى للعابدين) وقوله: (وذكرى لأولى الألباب) وهل في كل مكانٍ من المكانين ما يختص بذلك دون غيره؟.
 والجواب أن يقال: أخبر الله تعالى في سورة الأنبياء عن أيوب عليه السلام بأنه نادى ربّه وشكا إليه ما مسّه من الضرّ وسوء الحال بالمرض الذي طالت به أياّمه حتى تآكّل جسمه وتساقط لحمه، ثم بالفقر الذي ناله واجتاح مالَه، وكان الله تعالى ابتلاه بجميع ذلك وأحدث فيه المرض الذي أضعفه عن تعهّد حاله حتى زال جميع ماله ليعطيه على صبره الثوابَ العظيم، وليعوِّضه من نعيم الجنّة ما هو خير له ممّا سلبه من ماله وصحة بدنه، فكأنه لما قال: (مسّنيَ الضرّ) قال: مسنى من عندك يا ربِّ ما تعلم، وأنت الأكرم الأرحم، فقال: (وآتيناه أهلَه ومثلهم معهم رحمة من عندنا) أي: كما كان الضر من عندنا كان كشفه والرحمة مكانه من عندنا.
 ومعنى (من عندنا) أي من حيث لا تناله قدرة العباد، فكل مكان اختص بقدرة الله تعالى وحده يطلق عليه "عند الله ". 
وأما قوله: (وذكرى للعابدين) فالمعنى: فعلنا به ما فعلناه رحمة له منا، وتذكرةً لمن عبد الله بعده بإخلاص منه، فلا يحُول عن حمده وطاعته مع ما يُصَبّ عليه من شدائد الدنيا ومصائبها التي ينزلها الله به، بل يثبت معها على إدامة العبادة، وإمدادها بالزيادة كما فعله أيوب عليه السلام. 
وأما في سورة ص فإن الله تعالى لما أخبر فيها عنه أنه قال: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربَّه أني مسّني الشيطان بنُصْبٍ وعذاب) ، وشكا إلى الله تعالى ما يلحقه من أذى الشيطان بوسوسته إليه، وفنون احتياله عليه ليضيّق صدره وينقص حمدَه وشكرَه، فهان عليه المرض الذي ينقص من الأبدان في جنب ما يؤثّر في الأديان، ويُخلّ بالطاعات، ويشغل من الزمان في مدافعة الوسواس، فلمّا كان هذا له أعمّ وخاف من جهته الضررَ الأشدّ أغاثه الله برحمة منه مضافة إليه مختصة بإرادته، إذ كانت أفعال الله تعالى منها ما يختصّ به، ويضيفها إلى نفسه كقوله تعالى: (.. أن تسجُد لما خلقتُ بيدّي..) ، ومنها ما يأمر به بعض ملائكته وإن أخبر أنه من فعله ومختصّ به كقوله: (.. فنفخنا فيها من روحنا ... ) ، يقال: أنه أمر جبريل عليه السلام فنفخ الروح في فرجها وخلق الله عيسى في رحمها، فلما كانت شكوى أيوب - عليه السلام - فيما أخبر الله تعالى به في سورة (ص) أعظم والبلوى به أكبر، أخبر أنه رحمه رحمةً، وأنعم عليه نعمةً لا يُجري أمثالها على أيدي خلقه، بل هي ممّا يختص بفعله، ولا يولّيه مقرَّباً من ملائكته، وإن كان ما يقدّرهم عليه من مثل ذلك مضافا إلى قدرته تعالى، فهذا فرق ما بين قوله: (رحمة من عندنا) و (رحمة منّا) .
 وأما قوله: (وذكرى لأولي الألباب) فلأنّ أولي الألباب أعمّ من العابدين، واستدفاعُ وساوس الشيطان أعمّ من الاستشفاء للأبدان،  فخص كلّ آية بما اقتضاه صدر الكلام وتعريض أيوب عليه السلام بالسؤال.[٢]

 / قوله تعالى: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) وفى التحريم: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) ؟
 جوابه: أن لفظ التذكير عند العرب أخف من التأنيث، وها هنا لم يتكرر لفظ التأنيث كتكريره في التحريم فجاء فيها مؤنثا.
 وفى التحريم تكرر لفظ التأنيث بقوله تعالى: (ومريم) و (ابنت) و (أحصنت) و (فرجها) فناسب التذكببر تخفيفا من زيادة تكرر التأنيث.[١]

 / قوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ، وقال في سورة التحريم: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)
للسائل أن يسأل فيقول: هل كان مختاراً أن يعود ضمير المذكّر في الآية من سورة الأنبياء فيجيء "فنفخنا فيه" كما جاء في الآية الأخيرة؟ أم لكلّ مكان ما يختص باللفظ الذي جاء عليه؟.
 والجواب أن يقال: لما كان القصد في سورة الأنبياء إلى الإخبار عن حال مريم وابنها، وأنهما جُعلا آية للناس، وكان النفخ فيها ممّا جعلها حاملا والحامل صفة للجملة فكأنه قال: (والتي أحصنت فرجها) فصيّرها النفخُ حاملا حتى ولدت والعادة جارية أن لا تحمل المرأة إلا من فحل، ولا يُولد الولد من غير أب، فلما كان القصد التعجب من حاليهما، وأنها بالنفخ صارت حاملا ردّ الضمير إلى جملتها، إذ كان النفخ في فرجها نفخاً فيها أوجب القصد إلى وصفها بعد النفخ بصفةٍ ترجع إلى جملتها دون بعضها، كان قوله: (فنفخنا فيها) أولى من قوله: (فنفخنا فيه) . 
وأما قوله في سورة التحريم: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) فلما لم يكن القصد فيه إلى التعجّب من حالها بالحمل عن النفخ وولادتها لا عن اقتراب فحل لم يكن ثَمّ من القصد إلى وصف جملتها بغير الصفة التي كانت عليها قبلها ما كان في الآية الأولى، فجاء اللفظ على أصله والمعنى: نفخنا في فرجها ولم يُسَقِ الكلامُ إلى ما سيق إليه في سورة الأنبياء من وصف حالها بعد النفخ، فاختلفا لذلك.[٢] 
 ******** 
/ قوله تعالى: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا) وفى المؤمنين: (فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا) ؟
 جوابه: أما قوله: (فَاعْبُدُونِ) فلأنه خطاب لسائر الخلق، فناسب أمرهم بالعبادة والتوحيد ودين الحق ، وقوله: (فَاتَّقُونِ) خطاب للرسل فناسب الأمر بالتقوى ويؤيده: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) و (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ).
 وأما " الواو"، و " الفاء"، فلأن ما قبل " الواو" لا يتعلق بما بعدها، وما قبل "الفاء" متعلق بما بعدها لأن ذِكر الرسل يقتضي التبليغ ولم يُسمعوا فكأنه قيل: بلّغهم الرسل دين الحق فتقطعوا أمرهم، ولذلك قيل هنا: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) وفى المؤمنين: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ) أي من الخلاف بينهم فرحون.[١] 

/ قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣)}
وقال في سورة المؤمنين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)}.
 للسائل أن يسأل عن اختلاف قوله: (فاعبدون) وقوله (فاتقون) في الآيتين، وعن الواو والفاء في قوله: (فتقطعوا) (وتقطعوا)؟
 والجواب أن يقال: في قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) ثلاثة أقوال:
 أحدها: أن تكون الإشارة بـ "هذه " إلى أمم الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - ويكون المعنى: أمتكم في حال كونهم جماعة واحدة وعلى دين واحد في أصول الشرع كالتوحيد وصفات الله عز وجل وإثبات النبوات والمقام على طاعة الله، فمتى تفرّقوا في طرق الباطل لم تكن بينكم وبينهم نسبة.
 والثانى: أن يكون المعنى: (إن هذه أمتكم أمةً واحدة) مقصوداً بها دين واحد، والأمة كل جماعة يسلَك بها مقصد واحد، والأمة من أمّ إذا قصد، أي: أممكم وإن تفرّقت أزمنتها فإنها يقصَد بها دين واحد فهي أمتكم، مقصود بها التوحيد وهو إفراد الله تعالى بالعبادة والإخلاص له فيها.
 والثالث: أن تكون الأمة: الملّة، وهي الدين، أي: هذه ملتكم ملة واحدة، لأنها الإسلام وقوله: (وأنا ربكم فاعبدون) أي: وربكم القائم بمصالحكم من ابتداء كونكم إلى انتهاء أحوالكم هو أنا فأخلصوا لي العبادةَ وحدي.
/ وقوله: (وتقطّعوا أمرهم) جاء بالواو، لأنه لم يكن ما بعد الواو كالجواب لما قبلها كما كان ذلك في الفاء، لأنه يجوز أن يكونْ تقطّعهم أمرهم قبل خوطبوا بقوله: (فاعبدونِ) فلا تصلح الفاء، ألا ترى أن تفرّقهم فِرقا وتقطّعهم أمرهم قطعاً، فصار بعضهم يعبد الله وحده، وبعضهم يعبد معه غيره، وبعضهم لا يعبده، كان قبل إخبار الله تعالى جميع الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أن هذه الأممَ أممهم جماعة واحدة غير متفرقة، وهو الذي دعا إلى أن نبّههم فقال: خالقكم واحد، والذي يربّيكم هو، فاقصدوه بالعبادة دون من سواه، وإذا كان كذلك كان قوله: (وتقطعوا أمرهم بينهم) أي: تقطعوا أمر دينهم قطعا وافترقوا فيه فِرقاً، خبراً غير متعلق بما قبله تعلّق الجواب بالابتداء، بل ذلك هو ما بعد الفاء في عقب هذه الآية: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) أي: تفرقوا فرقا فمن كان من فرقهم يعمل الصالحات وهو مؤمن فإنّ سعيه مقبول وهو على عمله مثاب، ومن عمل صالحا ولا إيمان معه مثل معونة الضعيف ، وإغاثة اللهيف ، وصلة الرحم، وإفاضة النعم، والكف عن الظلم لم يقبَل سعيُه، وهو في ضمن قوله: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) . 
وأما قوله في الآية الأولى: (وأنا ربكم فاعبدون) واختصاصها دون قوله: (فاتقون) فلأنه خطاب للفِرق التي تفرقت في طُرق الباطل ولم تُخلص العبادة لله فنبّأهم إلى أن يعبدوه.
 والتي في سورة المؤمنين إنما هي خطاب للرسل عليهم السلام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)} وقد جاء في خطاب الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والمؤمنين والصالحات بعدهم: (اتقوا الله)  قال الله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ... ) ، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، فلمّا كان أكثر مَن خوطب في السورة الأخيرة الأنبياء والمؤمنون، وهم يعبدون الله جل ذكره، وضمّ إليهم غيرهم من الفرق غُلِّبوا عليهم فخوطبوا بما يخاطَب به المؤمنون وهو: (اتقوا الله) إذ كان أكثرهم له عابدين، ومعنى (اتقوا) : احترزوا بطاعته ممّا أعدّه لأهل معصيته، وامتنعوا بموجبات الثواب عن موجبات العقاب، فكان هذا موضع (فاتقون) وفي الأولى موضع (فاعبدون).
 وأما الفاء في سورة المؤمنين في قولهْ (فتقطّعوا) فلأنه لما ذكر الزبر صار قوله: (فتقطّعوا) كالجواب لما قبله، لأنهم قطّعوا أمر دينهم كتباً منزلة من الله عزّ اسمه، فمنهم من دان بالتوراة وكفر بما سواها من الإنجيل والقرآن، ومنهم مَن دان بالإنجيل وكفر بالتوراة والقرآن. فلمّا كان ما قبل الفاء خطابا للرسل وأممهم، وقال: كونوا جماعة واحدة ذات دين واحد، صار كأنه قال: أمرتهم بالائتلاف والاتفاق في الدين فتقطعوا أمرهم فيه قِطعا، وافترقوا فِرقا، وكلٌّ يقدّر أنه على الصواب وممتثل بما في الكتاب، فهو فرح بما لديه ومعوّل عليه، فكان ما بعد الفاء هنا في تعلّقه بالأول تعلّق الجواب بالمبتدأ، كما بعد الفاء في قوله في الآية الأولى، وهو: (فمن يعمل من الصاحات وهو مؤمن ... ) في أنه متعلّق بما قبله تعلّق الجواب دون قوله: (وتقطّعوا). والله أعلم. [٢]  
******
 / قوله تعالى: (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ) وقال تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ) وقال تعالى: (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ) إلى غير ذلك مما  يدل على سماعهم؟
 جوابه: لعل ذلك باعتبار حالين: فحال السماع والمحاجّة والمخاصمة قبل اليأس من الخلاص من النار. وحال اليأس لا يسمعون، لما رُوى أنهم يجعلون في توابيت من نار ويسد عليهم أبوابها فحينئذ لا يسمعون. [١]  
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
(١) كشف المعاني في المتشابه من المثاني.
(٢) درة التنزيل وغرة التأويل.
(٣) فتح الرحمن 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق