{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ۖ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا }
نزل هذا القرآن العظيم قولاً ثقيلاً مُحكماً رصيناً على أمة كانت تعيش في جاهلية جهلاء وظلالة عمياء ،على قوم لا يرون موتاً ولا بعثاً ولا حياة ولا نشوراً ،قوم يقول قائلهم أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلى الدهر، لا يرون إلا أن يأكلوا ويتمتعوا كما تأكل الأنعام وتتمتع الأنعام ، فلما أراد الله بهم خيرا بعث فيهم هذا النبي العظيم وأنزل إليه هذا القول الكريم ليخرجهم من غفلتهم وسدرتهم، فحركت أذهانهم وهزتهم من غفلتهم وأيقظتهم من رقدتهم أولا في تأمل ما أودع الله تعالى في هذا الكون من الآيات البينات والحجج الباهرات -كما مر بنا في الدرس الماضي- فلفت الله انتباههم إلى مافي هذا الكون من الآيات العظيمة ليستدلوا بها على توحيد الألوهية وأن الله وحده هو المستحق للعبادة، وأنه لا يمكن أن يخلق هذا الكون سدى ولا عبثاً بل لحكمة بالغة.
/ فلما قرر الله تعالى ذلك فيما تقدم من الآيات ختمها بآيتين هما كالوصلة للآيات التالية فقال :
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا)
وفي هذا ملحظ بديع! كأن الله تعالى يقول: انتبهوا. هذه الجنات الألفاف أخرجها الله من أرض موات، فالقادر على أن يُحيي الأرض بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم أحياء، كما قال الله تعالى في سورة (ق) بعد أن ذكر إنزال المطر وإنبات النخيل قال بعد ذلك : (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ).
/ قال الله عز وجل: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)
(إن): حرف توكيد، فهذه جملة مؤكَّدَة، جملة تامة، ذات دلالة قوية.
ويوم الفصل هو: يوم القيامة. وهذا أحد أسمائه. وأسماء يوم القيامة كثيرة جداً، وقد عدَّ القرطبي -رحمه الله- منها خمسين اسماً، وعدَّ ابن كثير -رحمه الله- ثمانين اسماً. وهذه الأسماء بعضها مبثوث في كتاب الله، وبعضها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها أوصاف أطلقها بعض العلماء. فمما جاء في كتاب الله تعالى: (يوم الدين), (يوم التغابن), (الطامة), (الصاخة), (يوم التلاق), (الحاقة), (الغاشية), (القارعة), (يوم الحساب), (يوم التغابن), (يوم الحشر), (يوم الآزفة),و(يوم الفصل) كما هاهنا. فهي كثيرة جداً, وهذه الكثرة ليست فقط كثرة في الأسماء لكن لها دلالتها، فإن كل اسم من هذه الأسماء يُعطي دلالة معينة, فـ (القارعة) لأنها تقرع القلوب. و(الصاخة)؛ لأنها تصخ الآذان. و(الآزفة)؛ لقربها وحصولها. وهكذا في كل اسم من هذه الأسماء. وهذه الكثرة في الأسماء، تدل على عظيم العناية بالإيمان باليوم الآخر.
فقوله: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي: الفصل بين الخلائق، فريق في الجنة وفريق في السعير، الفصل في المظالم فينال الظالم جزاء ظلمه، ويُعوّض المظلوم عن مظلمته. فالفصل يتناول أمورا عدة .
/ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) أي: أنه موعد مؤقت قد وقّته الله سبحانه وتعالى وعلِمه ولكنه أخفاه. ولهذا اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل حين سأله عن الساعة فقال: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ "(١) فأعظم رسول بشري، وأعظم رسول ملكي كلاهما لا يعلمان متى الساعة كما قال الله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا . فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا . إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا) [النازعات/٤٢-٤٤] ، وفي الآية الأخرى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف/١٨٧]
(لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) فقد أخفاها الله تعالى، ولما سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال: "وماذا أعددت لها؟"(١) فلم يقل في يوم كذا وكذا. فالله تعالى قد أخفى عنا الساعة إلا أنا نعلم أنها تأتي بغتة وأنها مجهولة الموعد، وأنها شديدة الوقع. فالساعة يخاف منها المؤمنون لتعظيمهم لله سبحانه وتعالى قال عز وجل: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ . يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) [الشورى/١٧، ١٨].
والساعة لا تأتي إلا بغتة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الرجلين يتبايعان الثوب فتقوم الساعة فلا هذا يطوي ثوبه ولا هذا يأخذه، وتقوم الساعة والرجل يليط حوضه لإبله ليسقيه فلا يتمكن من ذلك، وتقوم الساعة والرجل يرفع لقمته إلى فيه فلا تبلغ فاه(٢) .
فأمرها يقع فجأة وسرعة (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)
وقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ. قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ" فلم يُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما بين النفختين. قَالَ: "ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ، لَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(٣). فابن آدم يتحلل ويفنى، ويعود تراباً ولا يبقى منه إلا عَجب الذنب؛ -وهو العصعص- فيحفظ الله تعالى في هذا المتبقي منه الصفات الوراثية التي منها يُركب الخلق.
/ قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) هذا بيان وتوضيح, أي: أن يوم الفصل هو يوم ينفخ في الصور, وأتى بصيغة الفعل الذي لم يُسمَّ فاعله لتفخيمه وتعظيمه.
( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، (الصُّورِ) : هو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام النفخة الأولى التي يكون بها الصعق، والنفخة الثانية التي يكون بها النشر. وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كَيْفَ أَنْعَمُ! وَقَدْ الْتَقَمَ صَاحِبُ الْقَرْنِ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَأَصْغَى سَمْعَهُ، يَنْظُرُ مَتَى يُؤْمَرُ"(٤) أي يقول نبينا صلى الله عليه وسلم كيف أتنعم وأهنأ بالعيش وصاحب القرن - إسرافيل عليه السلام- قد التقم قرنه، أي: وضعه في فِيه استعداداً للنفخ ، ينتظر أن يؤمر. فالذي يذكر هذا لا يطيب له عيش لأنه يخشى موعود الله عز وجل.
ففي قوله تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) مشهد مهيب.. مشهد رهيب، فهذا البعث أمره عجيب: كل من دب على وجه الأرض وتحلل فيها يجمع الله خلقه يوم القيامة, فيُبعث الناس ويقومون لرب العالمين على هيئة أفواج زمراً إثر زمرا! وتخيلوا هذا الخلق العظيم الذي من لدن آدم عليه السلام طوله ستون ذراعاً في السماء، ثم لم يزل الخلق ينقص بعد ذلك، إلى أن آل إلى ما نحن عليه، ولا ندرى إلى ما يؤول أيضاً بعدنا، فهذا الخلق على تفاوت أحجامه وأطواله وألوانه كله يُبعث لرب العالمين ، فتأتون أفواجا يعني فوجا إثر فوج ، والفوج هم الجماعة من الناس -الزمرة من الناس- .
ولما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصِف يوم القيامة بيّن أن تلك الصورة التي ذكرها سابقا من حال الدنيا واستقرارها تتغير بهذا الانقلاب الكوني الهائل، فالله تعالى وصف لنا فيما تلونا وشرحنا من آيات في الدرس الماضي قال عن السماء -مثلا- (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) محكمة انظر كيف يكون حال السماء الآن .
(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) إذا هذه السماء التي لا تكاد ترى فيها الآن ثقباً هل ترى فيها من فطور (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك/ ٤] لو أمعنا النظر في السماء لم نجد فيها ثقبا ولا قدر رأس الإبرة، يوم القيامة تصبح هذه السماء طُرقا (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) فإذا بهذه السماء المحكمة المتماسكة المبنية إذا بها تنشق وتنفتح فيها فُرج وطرائق ليهبط منها الملائكة (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) [الفرقان/25] تنشق كل سماء فيهبط ملائكتها فيحيطون بأهل الأرض إحاطة السوار بالمعصم (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) .
ولاحظوا (وفتحت)، و (ينفخ)، وما بعدهما كلها بصيغة الفعل الذي لم يُسمَّ فاعله وذلك من باب التفخيم والتعظيم.
/ قال تعالى: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) فهذه الجبال الذي قال عنها قبل بضع آيات: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) وإذا بهذه الجبال الراسيات يقول الله عز وجل (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) فهذه الجبال الراسيات تسيَّر بعد أن كانت تحفظ توازن الأرض، وتضبط استقرارها وإذا بها تُسيّر. إما أن يكون المراد بالسراب هو الهباء، أو هو تشبيه له بالماء، على صورة الماء وليس بماء كالذي يراه المسافر في شدة الحرّ يزول أمامه يظنه ماء (يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) فهذه الجبال تتراءى لأهل الموقف على هذه الصورة كالسراب أو كالماء الذي يبدو لعين الناظر شيئا وليس بشيء.
وهذا حال من أحوال الجبال يوم القيامة، ذلك أن الجبال يمر بها يوم القيامة أحوال متعددة: منها التسيير كما في هذه الآية.
وفي قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل/٨٨]
ويمر بها أيضاً حال الدّك والنسف قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه/١٠٥-١٠٧]
وقال في آية أخرى: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) [الواقعة/5] أي: نثرت ودُقت حتى تصبح كالرماد.
فالجبال يعتريها يوم القيامة هذه الأحوال إلى أن يتحول وجه البسيطة قاعاً صفصفاً ليس فيه مَعلم لأحد؛ ليس فيه مرتفع ولا منخفض بل تصبح الأرض كالقُرصة (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) الله أكبر .. إذا هذا انقلاب كوني، هذه تحولات هائلة، وما أحسن الإتيان بهذا بعد الإتيان بوصفها في حال الدنيا ليتضح الفارق الكبير بين الصورتين.
/ ثم قال الله عز وجل: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) جهنم: اسم من أسماء النار، وللنار أسماء كثيرة، وكل اسم من أسمائها يدل على وصف وحال، ومن أشنع أسمائها (جهنم) وهي من الجهومة والسواد (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا).
ومعنى (مِرْصَادًا) أي: مكان رصد وترقب أي أنها مُترصدٌ لا يجاوزها أهلها حتى يقعوا فيها، مكان ترصد وترقُب هذا هو المرصاد، فالرصد هو الترقُب والترصُّد كما قال الله عز وجل (إن ربك لبالمرصاد) (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) لمن؟ للطاغين -أجارنا الله وإياكم-
وذلك أنه ما من بشر إلا ويُعرض على النار يقول الله عز وجل: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)[مريم/٧١] ( إِلَّا وَارِدُهَا) أي: إلا مار فوقها، وذلك حين يؤمر الناس بالجواز على الصراط، وهو من أصعب مواقف يوم القيامة، حتى إن دعاء الرسل في ذلك الموطن: اللهم سلّم، سلّم! فحين يُعرض الناس على النار، ويمرون فوقها، يتضح كيف تكون (مِرْصَادًا).
أما أهل النار الذين هم أهلها فقد دلت النصوص على أنهم يُلقون فيها، تُجمع أيديهم إلى أعناقهم ثم يقذفون فيها، وإنما يمر فوق الصراط الموحدون. فمن سبقت له من الله الحسنى فإنه يجوزه دون أن يصيبه شيء، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من دون ذلك ولكن منهم من تخطفه كلاليب على جنبتي الصراط فتهوي به في النار. فلهذا كانت (مِرْصَادًا)، فهي مرصد للطاغين الذين هم أهلها، وكذلك لمن أراد الله عز وجل أن يعاقبه بقدر ذنبه من عصاة الموحدين.
/ وقوله تعالى: (لِلطَّاغِينَ مَآَبا) الطغيان هو مجاوزة الحد، فإذا تجاوز العبد حده كان حقيقاً بالعذاب إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه. والله يمكن أن يتجاوز عن كل شيء إلا عن ذنب واحد، هو الشرك (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء/٤٨] لكن لا ريب أن مُرتكب الكبيرة مجازف، مخاطر.
ومعنى (مَآَبا) أي: مرجعاً ومصيراً. فالأوب: بمعنى الرجوع والمصير.
(لِلطَّاغِينَ مَآَبا*لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): معنى (لَابِثِينَ) أي: ماكثين
(لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) و(أَحْقَابًا) جمع حقب. والمقصود بالأحقاب: المُدد الطويلة. وقد ورد تقديرها في أحاديث مرفوعة وموقوفة، وآثار عن بعض التابعين:
/ فمنهم من قال: الحِقب: ثمانون سنة، كل سنة فيها اثني عشر شهراً, كل شهر فيه ثلاثون يوماً كل يوم بألف سنة.
/ ومنهم من قال: سبعون سنة، على التقسيم السابق.
/ ومنهم من قال: أربعون.
/ ومنهم من قال أكثر، ومنهم من قال أقل.
وعلى أي حال، فالأحقاب تدل على مُدد طويلة، لكن ها هنا قد يثور إشكال، فربما قال قائل: وماذا بعد الأحقاب؟ أيخرج أهل النار الذين هم أهلها منها، أم لا؟
فالذين فسروا الأحقاب بالمُدد الطويلة خرجوا من هذا الإشكال، بأن قالوا: المراد بأنهم (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) أي: حِقباً إثر حِقب بحيث لا يتناهى - يستمر- فهذا خلود مستمر لا انقطاع فيه.
وأما من قال: إن أهل النار الذين هم أهلها يُخرجون منها بعد مُدد طويلة فربما استدل بهذه الآية على خروجهم.
لكن الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة: أن أهل النار الذين هم أهلها -دعك عن عصاة الموحدين- أي: الكفرة والمشركون لا يخرجون منها أبداً لأن الله عز وجل ذكر التأبيد في خلودهم في كتابه في ثلاثة مواضع. والجواب عن هذه الآية أن يُقال (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) يعني أحقاب إثر أحقاب لا تنقطع.
وذهب ابن جرير الطبري - رحمه الله- إلى توجيه آخر فقال: إن مُتعلق قوله (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) بما بعدها وهو قوله: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) أي: أنهم هذه الأحقاب في نوع ولون من أنواع وألوان الجحيم يمكثون فيه هذه الأحقاب ثم ينتقلون إلى لون آخر. فيكون هذا التحديد وهذه المدة، تختص بلون ونوع من أنواع العذاب.
/ (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) ومعنى (برداً): الهواء البارد، أو الماء البارد. وقيل: إن المقصود بالبرد: النوم، فإن العرب تسمي النوم برداً. فهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) . وهذا الاستثناء استثناء منقطع، لأنك لو رفعت (إِلَّا) ووضعت بدلاً منها (بل) صح المعنى، أي: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا) بل يذقون (حَمِيمًا وَغَسَّاقًا).
والحميم: هو الماء المتناهي في الحرارة يعني شديد الغليان، حتى أنهم -والعياذ بالله- إذا استسقوا أُتوا بالحميم ليشربوه فتسقط جلدة وجهه فيه -كما أخبر الله، عز وجل عن ذلك في سورة الكهف و غيرها- قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) [الكهف/٢٩]، وقال: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد/١٥] فهذه سقيا أهل النار- والعياذ بالله- الحميم، وبئس الشراب.
(إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) وأما الغساق : فقد ورد ذكره في القرآن في غير هذا الموضع (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)[ص/٥٧، ٥٨]. فالغساق: المراد به صديد أهل النار وما يخرج من قيحهم وجروحهم ودموعهم وغير ذلك من أذاهم الذي يُساق إليهم.
وقيل: إن الغساق معناه: المُنتن. ولا تنافي بين المعنيين، فإنه يكون من صديد أهل النار وقروحهم وجروحهم، ويكون أيضاً منتناً. ووُصِف أيضاً بأنه بارد، فهو يأتيهم على هذه الصفة يكون بارداً، مُنتاً كريه الرائحة لا يُطاق وهو من مُخرجات أهل النار -والعياذ بالله- (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا*إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) وبئس الحال -أجارنا الله وإياكم- (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر/٣٧] لكن هل ينفعهم هذا الندم؟ لا، ولات ساعة مندم.
/ قال الله عز وجل: (جَزَاءً وِفَاقًا) أي أن هذا الذي نالوه إنما هو بسبب كفرهم بالله عز وجل، (وِفَاقًا) على ما قدموا من سالف أعمالهم السيئة والجزاء من جنس العمل.
ثم علل الله تعالى استحقاقهم لهذا العذاب الشنيع فقال سبحانه: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا*وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا* وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا*فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) .
قوله سبحانه (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ) أي: كانوا في الدنيا لا يخافون فـ (يَرْجُونَ) هنا بمعنى يخافون. وإنما فسرت (يَرْجُونَ) بمعنى يخافون لأن الرجاء جاء هنا منفياً فإذا جاء الرجاء منفياً فإنه بمعنى الخوف لأنه رجاءٌ يُخاف ألا يتِم. فليس المقصود يرجون أي: يتمنون ويبغون ويطلبون، لا.. بل المقصود مقابل ذلك . وهذه قاعدة مطردة في القرآن العظيم لو تتبعتها لوجدتها كذلك.
/ (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) أي أنهم كانوا ينكرون البعث، حتى إن أحدهم وهو أبي ابن خلف يأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عظم بالٍ ففته أمامه وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذا بعد أن صار رميماً ؟ قال: نعم، يبعثك ويدخلك النار) وأنزل الله في شأنه: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس/٧٨-٧٩] فهذا منطبق على قوله (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) .
وفوق ذلك (وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا) أي: إن آياتنا قد جاءتهم تلوح كالشمس مُقنعة، مبهرة لكنهم كذبوا بها فلا عذر لهم.
وقوله: (كِذَّابًا) تأكيد، وإن كان هذا من غير فعله، لأن (كذب) مصدرها تكذيباً (وكذبوا بآياتنا تكذيبا) لكن يصح أن يأتي المصدر من غير فعله (وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا) وهذا كناية عن شدة تكذيبهم . وقد كانوا كذلك، فإنه يأتيهم الحق البيّن، يسمعون القرآن ينزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، يفلق لهم القمر فلقتين، يأتيهم بالآيات الواضحات، فلا يزيدهم ذلك إلا كفراً وتكذيباً (وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا) .
/ قال تعالى: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) فلم يخرج عنه شيء أبداً، فكل شيء أحصاه الله عز وجل.
ومعنى (أَحْصَيْنَاهُ) أي: ضبطناه وعددناه وحفظناه، لأن أحصى تأتي بمعنى العدّ كقول الله عز وجل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم/٣٤]. ويأتي بمعنى الضبط، كتسمية العرب للعقل بالحصاة فهو يدل على التعقل والحفظ.
وقوله: (كِتَابًا) أي: مكتوباً. وهذا من تمام عدله سبحانه وتعالى. لو شاء الله سبحانه وتعالى لما كتب ذلك لكن من باب إقامة العدل وإظهار الحجّة (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق/١٨] فقد وكّل الله تعالى بكل إنسان ملكين يكتبان ما يبدُر منه من قول أو فعل فلا يضيع شيء ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا)، ثم ماذا يوم القيامة؟ (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا*اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء/١٣-١٤]. حجة بالغة، ليس لأحد اعتراض عليها، حتى أنه إذا اعترض الكافر يريد أن يتشبث بأي شيء كالغريق الذي يتشبث بالقشة، يقول ظلمني الكتبة فيقول الله تعالى: ألا يرضيك أن نبعث عليك شاهداً من نفسك؟ فيقول بلى يا ربي! فيختِم الله تعالى على فِيه ويُنطق الله جميع جوارحه فيكون أول من يشهد عليه فخذه، وتشهد عليه جوارحه، ثم بعد ذلك يُخلّى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكن وسُحقاً فعنكن كنت أناضل(٥) يخاطب جوارحه -والعياذ بالله- (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس/٦٥] فهي حجة بالغة ليس لأحد اعتراض.
/ قال تعالى: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) يُقال إن هذه الآية هي أشد آية على أهل النار. وقد رُوي فيها حديث مرفوع لكنه لا يصح, ورُوي حديث موقوف عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن بعض السلف: أن هذه الآية أشد آية على أهل النار. ذلك أنهم يدعون الملائكة ويقول قائلهم: ( يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف/٧٧]، ويدعون الملائكة فتقول لهم الملائكة: (فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر/٥٠]، ثم يأتيهم الجواب الشديد الذي وقعه عليهم أشد من وقع العذاب الذي هم فيه: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) أي: ليس هذا فقط، بل إن عذابكم سيزداد.
وبعد هذا المقطع الرهيب ، هذا المقطع المُوحش الذي يُصوِّر حال القيامة وأهوالها، وحال أهل النار وهم فيها تحصل نُقلة بعيدة إلى ضفة أخرى، إلى جانب مخالف تماما يقول الله تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) الله أكبر .. -جعلنا الله وإياكم منهم - ما أعظم مجيء هذه الآيات وأحسن وقعها في نفس المؤمن بعد ذلك الحال الشنيع الذي تقشعِر له الأبدان وتجف له القلوب (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) المتقين هم الذين اتقوا الله عزوجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، هم الذين يخشون ربهم بالغيب هكذا التقوى
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التُقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ** إن الجبال من الحصى
التقوى وصف يُقيمه الله عزوجل في قلب العبد فيكون واعظا له من تلقاء نفسه كلما همَّ بمعصية قال : اتق الله .. خفِ الله .. خفِ اليوم الآخر ، فيردعه. تقول فاطمة بنت عبد الملك : كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يذكر الموت وهو على فراشه فينتفض كما ينتفض العصفور . (إن الذين يخشون ربهم بالغيب) إذا أراد الإنسان أن يقيس تقواه فلينظر إلى حاله حال غيابه عن أعين الناس. لا تقس تقواك وأنت بين الناس يركعون ويسجدون فتركع وتسجد معهم ، وهم يذكرون فتذكر معهم. إذا أردت أن تقيس تقواك فانظر إلى نفسك حينما تخلو هل يردعك واعظ الله في قلبك أم لا ؟ هاهنا التقوى .
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) (مفازاً) : أي : مكان فوز، وقيل : متنزه ، وقيل : ( مفازاً ) أي : الجنة كما فسرها فيما يأتي .
(حدائق) : جمع حديقة، وسميت بذلك لأنها تُحدِق بالأشجار والثمار وأنواع ما يخرج من زينة الأرض لذلك سُميت حديقة.
(وأعناباً) خصّ الأعناب بالذكر لأنه من أكرم الثمار الذي تعرفه العرب. وهو لا شك ثمرة كريمة وفاكهة طيبة .
ولكن لا يخفاكم أن الأمر كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما : " ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء " الأسماء واحدة لكن الحقائق مختلفة ، فليس عنب الجنة كعنب الدنيا ، اتفقت الأسماء لكن الحقائق والمسميات متفاوتة، حتى إن ثمار أهل الجنة التي من شكل واحد تتفاوت طعومها قال الله عز وجل : ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ) يعني تكون صورته واحدة فيظنون أنه هو الذي طعموا من قبل فيجدون طعمه مختلفاً لسعة كرم الله وإغداقه عليهم من النعم .
وعبّر بهذين الوصفين (حدائق وأعناباً) عن لونين من ألوان النعيم الحسي في الجنة وهما الأمكنة البهية والثمار الشهية .
/ (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) هذا لون آخر من المتع الحسية وهو الاستمتاع بالحور العين، والكواعب: جمع كاعب وهي الجارية التي تفلك نهدها واستدار. وهذا غاية ما يكون في الجمال وغاية ما يكون من الحُسن في النساء أن تكون كاعبا .
(أتراباً) أي : متساويات الأسنان. فهم يُرزقون هؤلاء الكواعب الناعمات، الأنيقات، الجميلات التي يُرى مخ ساق إحداهن من وراء سبعين حلة ولو اطلعت إحداهن على أهل الأرض لأشرق ما بين الخافقين ( وعندهم قاصرات الطرف أتراب ) فهذا لون آخر من نعيم الجنة .
(وكأساًً) الكأس: المراد به كأس الخمر، لكن أي خمر؟ قال تعالى : ( لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) يعني : لا تسبب لهم صداعاً وأذىً, وإنما هي خمر يلتذون بشربها ، لا تُضيع عقولهم ولا تُصدع رؤوسهم .
(دهاقاً) أي : ممتلئة ليست قاصرة ناقصة.
وقيل : متتابعة ما يكاد يشربها حتى تمتلئ من جديد .
وقيل: صافية. ولا مانع من اجتماع جميع هذه الأوصاف. فتلكم الكأس -أذاقنا الله وإياكم طعمها- ممتلئة، مترعة، متتابعة، صافية .
(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا) أي : أنهم قد صان الله أسماعهم أن يسمعوا اللغو الذي يحصل عادة بين المخمورين لأن المخمورين إذا شربوا الخمر فاهو بالكلام السوء واللغو والسباب، أما أهل الجنة فإنهم لا يسمعون هذا من جراء تعاطيهم لكأس الخمر.
( لغواً ) اللغو: هو الكلام الفاحش البذيء
(ولا كذاباً) أي : ولا الكذب .
(جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) يعني : أنهم يستأهلون لكنهم إنما نالوا ذلك برحمة الله لا بعملهم، فالله عز وجل من كرمه وفضله ومنِّه، أنعم عليهم بهذه النعم العظيمة المتتابعة التي أعمالهم لا تكافئ عشر معشارها، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : " لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ. قَالَ رَجُلٌ: وَلَا إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا إِيَّايَ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَلَكِنْ سَدِّدُوا" رواه مسلم.
فإن قلت : فما معنى قول الله عز وجل : ( وتلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ) ؟
فالجواب أن الباء في الآية للسببية ، يعني بسبب أعمالكم ، فالباء المثبتة هي باء السببية والباء المنفية هي باء المقابلة (ليس أحد منكم يدخل الجنة بعمله) فهذه الباء المنفية هي باء المقابلة والمكافأة.
ثم وصف الجبار نفسه فقال (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) الرب: هو الذي يربي خلقه بنعمه، هو الذي ينشئ من العدم ، هو الخالق المالك المدبر، فهو رب كل شيء ومليكه وخالقه ورازقه ومدبر أمره، فالله تعالى رب السموات والأجرام العلوية، ورب الأرض والآيات السفلية سبحانه وبحمده، لا يخرج شيءٌ عن ربوبيته وما بينهما أيضا.
(لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) أي : لا يستطيع أحدٌ أن يتقدم بين يديه بقول إلا ما استثني .
(رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا *يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَا يَتَكَلَّمُونَ) أي : إجلالاً لله وتعظيماً ومهابة .
(إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا) أي : لكمال إجلالهم وتعظيمهم وخوفهم وخشيتهم لمقام الله عز وجل لا ينطقون ببنت شفة إلا (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا) هذا الذي يُفسح له بالكلام.
ويدخل في هذا الشفاعة، فإن الله سبحانه وتعالى لا يأذن بالشفاعة إلا بشرطين : أِذن الله للشافع أن يشفع , ورضاه عن المشفوع له. فقوله: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ) يدل على الشرط الأول وهو أذن الله للشافع أن يشفع .
وقوله : (وَقَالَ صَوَابًا) يدل على الشرط الثاني وهو رضاه عن المشفوع له . لأنه لن يقول إلا في شئ قد صار محل رضا الله.
/ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَا يَتَكَلَّمُونَ) (الرُوح) قيل فيه أقوال عدة :
قيل : إن الروح ملك عظيم خلقُه يوازي خلق جميع المخلوقات.
وقيل : إن الروح هو جبريل عليه السلام.
وقيل : إن الروح هم بنو آدم.
وقيل إن الروح هي أرواح بني آدم.
وقيل إن الروح هو القرآن.
والأقرب عندي -والله أعلم- أنه جبريل عليه السلام لأن الله تعالى قد قال في سورة القدر: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) وإن كان قد وقع خلاف أيضاً في تفسير الروح في سورة القدر -سيأتينا إن شاء الله- من أنهم طوائف من الملائكة، لكن نظراً لعظم أمر جبريل وأنه سيد الملائكة لا عجب أن يُخصّ بالذكر .
(ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) أي : يوم القيامة . (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا) أي : مرجعاً وتوبة . فالله تعالى يقول: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً) النذارة : هي الإخبار بالأمر المخوف. وضدها البشارة وهى: الإخبار بالأمر السارّ.
(إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً) والمناسب لحال القوم النذارة لأنهم مُنكرون، معاندو ن فالأليق بهم النذارة.
(إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً) فيوم القيامة ليس ببعيد قال صلى الله عليه وسلم : (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) متفق عليه. فأمره قريب (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) [الأحزاب/٦٣].
(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) المرء : هو اسم جنس يعني كل مرء. وذهب الحسن -رحمه الله- إلى أن المرء هاهنا المؤمن خاصة بدِلالة التنظير فإنه قال : (وَيَقُولُ الْكَافِرُ) فلما قال (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) جعل بإزائه (وَيَقُولُ الْكَافِرُ) ، فالأول هو المؤمن والثاني هو الكافر. فكأنه -رحمه الله- جعل ذلك من باب التقسيم وأن الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا ويندم يوم القيامة، فأما الكافر فيندم لكفره، وأما المؤمن فيندم ألّا يكون قد استكثر من الخير .
(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) الله أكبر .. يا له من حال كما أخبر الله عزوجل في سورة الفجر يقول الله تعالى (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )
ولكن لا ينفعه هذا الندم وهذا الاستعتاب في ذلك الموقف.
(ويَقُولُ الكافر يا ليتني كنت تراباً) يتمنى الكافر -والعياذ بالله- أن لو كان تراباً ، أي : أن لو كان تحلل، وعاد كما كان في الحياة البرزخية. وقيل: إن سبب تمنيه هذا هو ما جاء في الآثار من أنه في يوم القيامة يُقام العدل حتى إنه ليُقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء لأنها نطحتها في الدنيا ثم بعد ذلك يقال لهذه الحيوانات: كوني تراباً! فيتمنى الكافر أن لو صار بمنزلة الحيوانات ليكون تراباً .
وبهذا تمّ التفسير التحليلي لهذه الآيات
الفوائد المستنبطة :
١- إثبات البعث وأهوال القيامة الكبرى.
٢- إثبات الحساب والفصل في الحقوق والله تعالى سماه يوم الفصل .
٣- إثبات النار - أجارنا الله وإياكم منها- وعذابها الحسي والمعنوي
٤- العدل الإلهي فالجزاء من جنس العمل نأخذه من قوله تعالى (جَزَاءً وِفَاقًا) بالنسبة للنار . وقوله تعالى (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) بالنسبة للجنة. فالجزاء من جنس العمل. وإن من معاني ( حساباً ) معنى الكفاية ومنه قول العرب : < أعطاني فأحسبني > يعني : حتى قلت حسبك .. حسبُك
٥- إثبات الجنة ونعيمها الحسي والمعنوي -جعلنا الله وإياكم من أهلها.-
٦- الاستئناس باسم الرحمن في تقوية الرجاء قال تعالى : (الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً) فمع أن المقام مقام مهول ومخوف إلا أنه أتى بهذا الاسم الرقيق الذي يدل على الرحمة، ففيه يتنسم المؤمن نسيم الرجاء، ولا ريب أن ذكر الأسماء الحسنى في ذيل الآيات, أو في أثناء الآيات له دلالة، ألم تروا أن الله سبحانه وتعالى قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ والله عزيز حكيم) ، ثم قال بعدها : (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) فختمها بقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة/٣٩] , فكل اسم من أسماء الله الحسنى يناسب ذكره في سياق معين.
٧- إثبات الملائكة وخشيتهم لربهم (صَفًّا ۖ لَا يَتَكَلَّمُونَ).
٨- إثبات الشفاعة بشروطها: ( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً )
٩- إثبات المشيئة الإنسانية والرد على الجبرية لقوله : (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا) فالإنسان يشاء وله مشيئة حقيقية خلافاً للجبرية الذين يقولون العبد مُسيّر مسلوب المشيئة مجبور على فعله. فالحق أن العبد له مشيئة حقيقية، ولكن هذه المشيئة داخلة تحت مشيئة الله لقوله تعالى: ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
١٠- قُرب أمر الساعة ( إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ) فقُرب العذاب دليل على قرب الساعة. وهذا القرب قرب نسبي فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) متفق عليه، فهذا القُرب قُرب نسبي لأنه منسوب إلى مجموع خلق العالم ، فلا يقال : كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقد مضى على مقالته أربعة عشر قرناً وزيادة ؟ فالأمور لا ريب أنها نسبية .
١١- بيان أعظم الندم -أجارنا الله وإياكم- قال تعالى : ( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ) .
. تصور أن الإنسان يتمنى أن يكون ترابا حاله كحال البهائم العجماوات التي يُقتصّ من بعضها لبعض ثم يُقال لها كوني ترابا، فلا ريب أن هذا يُنبئ عن ندم عظيم.
-----------------
(١) أخرجه البخاري برقم (50)؛ ومسلم برقم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وأخرجه مسلم برقم (8) من حديث عمر رضي الله عنه.
(١) أخرجه البخاري برقم (3688) ؛ ومسلم برقم (2639) من حديث أنس رضي الله عنه.
(٢) " وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا، فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ، وَلَا يَطْوِيَانِهِ. وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ، فَلَا يَطْعَمُهُ . وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ، فَلَا يَسْقِي فِيهِ. وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ، وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا". أخرجه البخاري برقم (6506) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) أخرجه البخاري برقم (4814)؛ ومسلم برقم ( 2955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) أخرجه النسائي في الكبرى برقم ( 11016)؛ والترمذي برقم (3243) . وصححه الألباني " الصحيحة (1078 ,1079) ".
(٥) أخرجه مسلم برقم ( 2968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وبرقم ( 2969) من حديث أنس رضي الله عنه بمعناه.
/ مصدر التفريغ : موقع العقيدة والحياة لد. أحمد بن عبد الرحمن القاضي (بتصرف يسير)
/ مصدر التفريغ : موقع العقيدة والحياة لد. أحمد بن عبد الرحمن القاضي (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق