السبت، 29 نوفمبر 2014

الحلقـ التاسعة والعشرون ــة / سورة الفيل


الحمد لله على فضله وكرمه والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف رسله و بعد ..
فالآيات التي سنشرُف بالحديث عنها وتفسيرها في هذا اللقاء المبارك هي سورة الفيل.
 قال أصدق القائلين : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) والحديث عن هذه الآيات المباركات وهي شهيرة المعنى من طرائق عدة:
 أولاً : هذه القصة لم تُثنى في القرآن مع أن سائر أو أغلب قصص القرآن يُثنى فالله مثلاً يقول : ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قالها في الصافات وقال جل وعلا في يونس : ( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ) وقال جل وعلا في القلم : ( وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) بل ذكر خبر موسى مع فرعون في سورة القصص مرتين و ذكره في سورة الدخان مرتين ، وأما خبر الفيل فإنه لم يثنى في القرآن ولم يُذكَر إلا مرةً واحدة وقد أجاب عن هذا الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في كتابه التفسير القيِّم التحرير والتنوير قال : "لأن هذه القصة لا يتعلق بها تكذيب للرسول" لأن هذه القصة لا يتعلق بها تكذيب للرسول .. هذا باب ، لكن يمكن أن يُضاف على ما قاله الطاهر -رحمه الله- مسألةً مهمة وهي أن هذه السورة المباركة من أغراضها..من مقاصدها بيان كيف كيف صنع الله جل وعلا بمن أراد أن يُذهب حُرمة الكعبة حتى يفقه القرشيون ماذا سيصنع الله بهم لو أرادوا أن يُذهبوا حرمة نبيِّه صلى الله عليه وسلم هذا الغرض المقصد الأسمى من هذا الخبر .. هذا واحد .
 الأمر الثاني : لم تُكرر لأن القرشيين كانوا يرون في أنهم سدنة للبيت وقائمون به أن في ذلك ما يجعلهم يشعرون بالعلو على المؤمنين وهذا يُفهم من قول الله جل وعلا في سورة التوبة : ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ) وهذا يدل على أنه قد انتشر بينهم واستقر في أذهانهم على أنهم وإن لم يكونوا مؤمنين فكفاهم شرفاً أنهم يسقون الحجيج ويعمرون المسجد ويُباهون بذلك أهل الإيمان قال الله جل وعلا : ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إذا ضُمَّ هذا إلى هذا عُرف لِمَ لَمْ تُثنى خبر أصحاب الفيل في القرآن .. هذا واحد .
الأمر الثاني : يوجد في لغة أهل الإصطلاح من أهل السير اليوم ما يُسمى بالمعجزة لكن القرآن لم يرد فيه لفظ المعجزة وإنما يسمى ما يؤيد الله به الأنبياء يسمى آية ، لكن اصطلح المتأخرون ممن گتب في السير على تسمية هذه الآيات بالمعجزات ، شيءٌ آخر غير الآيات يسمى إرهاصات يسمى إرهاصات والإرهاصات : هي الشيء غير المألوف الذي يصاحب النبي أو يقع قبل مبعثه وبعد ولادته قبل مبعثه وبعد ولادته فمثلاً ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى في طرقات مكة وصحرائها قبل أن يُنبأ يُسلِّم عليه الحجر يقول: السلام عليك يا نبي الله وهو لم يُنبأ بعد ، فهذا يسمى ؟ إرهاصات لنبوته، يسمى إرهاصات لنبوته ، لكن الصواب أن يُقال في الإرهاصات : هو الشيء غير المألوف الذي يقع للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ولادته وقبل مبعثه أوقريباً من ولادته فيصبح حادثة الفيل إرهاصاً من إرهاصات نبوة رسولنا صلى الله علبه وسلم والمشهور عند أهل التاريخ أن حادثة الفيل كانت في شهر الله المحرم والنبي عليه السلام في أي الشهور ولد ؟ في ربيع ، فبين ولادته وحادثة الفيل قرابة - ليس هناك قطع - قرابة خمسة وخمسين يوماً ما بين حادثة الفيل وولادته صلوات الله وسلامه عليه قرابة خمسة وخمسين يوماً
 يومٌ يتيه على الزمان صباحهُ ** ومساؤه بمحمدٍ غراءُ - 
صلوات ربي و سلامه عليه .. هذا ما يتعلق بمقدمة السورة .
 قال الله جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ) حتى يُبَيَّن عظيم القدرة وجليل النعمة ( بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) وكل شيءٍ لازم أحداً حتى لو في صراع يُسمى : صاحب ، فالله جل وعلا قال : ( وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) مع أنهم لم يؤمنوا به 
وقال : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) للملازمة
وقال : ( أَصْحَابُ النَّار ) للملازمة
 فأصحاب الفيل : من لازموا الفيل وساقوه من الحبشة واليمن إلى مكة ، والذي قادهم كما هو معلوم أبرهة وهي كلمة حبشية معناها الوجه الأبيض معناها الوجه الأبيض .
قال الله جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) أبرهة خرج مرَّ على قبائل العرب - نوجز - ومرَّ على رجل يقال له نُفَيل فأسره معه وتحاشت العرب أن يقاوموه لما رأوا شدة بأسه وكثرت جنده حتى وصل إلى وادي المُغمَّس قريباً من مكة ثم إن الفيل واسمه محمود - على المشهور - برك وقد قال عليه الصلاة والسلام عن ناقته : ( حبسها حابس الفيل ) الفيل لما برك قبل أن يبرك جاءه نُفَيل هذا وقال له في أذنه : أُبرك محمود فإنك في بلد الله الحرام أو انصرف راشداً من حيث عدت وصعد الجبل وهو يقول :
 أين المفرُّ والإله الطالب ** والأشرم المغلوب ليس الغالب
 ثم لما برك الفيل أخذوا يضربونه بالسياط فيأبى فإذا وجهوه إلى الشام شمالاً قَبِل، وجهوه إلى أي جهة غير البيت يقبل لكن إن وجهوه إلى البيت يأنف ويبرك ، الآن كل ما ذكره أهل السير والأخبار أطوه، لا يمكن أن يقع هذا إلا لتفقه أنت لِم وقع ؟ وقع لماذا ؟ هذا الفيل دابة عجماء لا تعقل ومع ذلك لما طُلب منها أن تقيِّض بيت الله جل وعلا أبت ، فكل مؤمن إذا طُلب منه أن يُسهِم ولو بخيط إبرة أن يُقوِّض دين الله يُفتَرَض أن يأبى ، لا تكن يوماً من الدهر لا بجاهك ولا بمالك ولا بقلمك ولا بسلطانك ولا بلسانك ممن يريد أن يهدم شيئاً من دين الله وليُعلَم أن دين الله غالب فإذا هذه دابة عجماء لمَّا وُجِهَت للبيت استعظمت أن يقع هذا منها ولم تقبل فأعظم ما يمكن أن يُنال منه دين الله وهناك من يسعى لهدم دين الله لكن هؤلاء أخبر الله أنهم شرٌّ من الدواب وتبقى أنت مسؤل مُحاسب على نفسك، لا يرينك الله تحاول أن تهدم أو تقوِّض شيئاً من دينه، أما أن تعصي الله يقع منك زلة يقع منك خطأ كل بني آدم خطاؤون ولو كُشِف حال بعضنا لبعض لما دفن بعضنا بعضاً نسأل الله الستر والمغفرة والعافية .. آمين ، لكن أن يأتي إنسان باختياره لنعمة أفاءها الله عليه ثم يجعل هذه النعمة في هدم دين الله أو في صرف الناس عن عبادة الله أو في صرف الناس عن طاعة الله أو في تهوين أمر امر مثلاً التوحيد في قلوبهم أو غير ذلك مما شرعه الله ،ما عظَّمه الله يجب أن يُعَظَّم وعلى النقيض من ذلك، على العكس كما أن هؤلاء في أقل الدركات -عياذاً بالله- فإن من وفقه الله لأن يكون يبني في دين الله وينشر الدين ويعلي الكلمة ويُحيي السنن فهذا برحمة الله له في أرفع المقامات ومن هنا تفهم قول الله : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) بما أنه لا أحد أعظم من الله فلا أحد أعظم مِمن يدعو إلى الله فالله جل وعلا يقول : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .
نحن نعلم أنه لا يُعقل أنه أحد منا ينتسب إلى الإسلام يُطلَب منه أن يهدم الكعبة سيذهب سيهدمها هذا لا يقع لكن كذلك يُفهم منه أن الإنسان يعرف لمِ خُلِق فإذا عرف العبد لمَ خُلِق اتقى الله وعَبَدَه ، جاء في الحديث -وهذا مرَّ معنا- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن رجلاً ركب بقرة فلما ركبها -اعتلاها- لتمضي به قالت له البقرة : ما لهذا خُلِقنا ، قال : سبحان الله بقرة تكلَّم ، فهذه البقرة لما ركبها صاحبها أنكرت أن تكون فُطِرَت خُلِقت للركوب ، خُلِقَت للحرث، ونحن ما خلقنا الله جل وعلا إلا لنعبده ، فلا ينبغي أن يصرفنا أحدٌ عن عبادة ربنا جل وعلا . الحياة الغربية المعاصرة فيها من اللهو والمجون والفجور ما لا يخفى على أحد وهي تُبَث للناس على هيئة ثقافات تأتي على هيئة مسلسلات -ما يُعرَف بالمسلسلات المدبلجة- أو على هيئة أفلام فيأتي بها من يأتي بها ويبثها للناس يراد من الناس أن يتأثروا بها فيصبحوا كأهلها وينسى أن هؤلاء والله ما عقِلوا لماذا خُلِقوا، ما عقِلوا لماذا خُلِقوا ، لكن من عَقِل أن الله جل وعلا خلق خلقه لا ليستكثر بهم من قلة ولا ليستنصر بهم من ذلة ما خلقهم جل وعلا إلا لعبادته ما كانت قدماه تنشط لشيء أعظم من العبادة، ولا يلهج لسانه بشيء أعظم من ذكر الله، ولا ينبغي أن تُعقَد أنامله بشيء أعظم من التسبيح لله، وأنت تعلم أن الله فطر الخلق كلهم على أن أعزّ ما يملكون جباههم فيكون أقربهم لله من رضي باختياره أن يسجد بجبهته في الأرض إجلالاً لله إن كان هذا في صلاة مفروضة أو كان هذا نافلةً لكن تذَكّر مسألة الفيل لا يكون الفيل أعلم منك بالله .
قال ربنا جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ) أي مكرهم ( فِي تَضْلِيلٍ ) تَضْلِيلٍ هنا: اضمحلال بمعنى هباء، بمعنى ذهاب ومن قرائنها في القرآن قول الله جل وعلا : (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أي ذهبنا واضمحللنا وفنينا في الأرض ( أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ ) أي على أصحاب الفيل ( طَيْرًا أَبَابِيلَ ) الطير معروف و ( أَبَابِيلَ ) أي جماعات عِظام يتبع بعضها بعضاً.
 ( تَرْمِيهِمْ ) أي تصيبهم ( بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) يقال في السجيل : الحجارة المقرونة بالطين ، بعض أهل العلم يقول : إن هذه الحجارة كل حجرٍ كان مكتوب عليه إسم صاحبه وهذا لا نعلم فيه نقلاً صحيحاً لكن ثمة في القرآن ما يؤيده ، أين ما يؤيده في القرآن ؟ أن اللغة العربية تساعد على أن يكون السجيل هو الشيء المكتوب بدليل آية الأنبياء قال الله جل وعلا : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) فالمراد من الآية الإخبار عن الشيء المكتوب والمقصود من هذا : هذه قرينة يُستأنس بها لمن قال من أهل العلم أن هذه الطير كل حجر منها يحمل اسم من تريد قرعه .
قال الله جل وعلا : ( فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) كلمة عصف توحي تدخل الرياح لأن الله سمّى الريح بأنها عاصف وهذا يدل على أن هذا المأكول مأكول من نفسه يعني غالب الأمر -والعلم عند الله- أن يكون هذا الزرع دخله ما يُعرَف بالسوس فنخره فجاءت الرياح فسهُلَ عليها قلعه وبعضهم يعبر يعني عصف مأكول بشيءٍ أُكِل ثم أُلقي لكن الأول لعله أظهر وأقرب إلى معنى الآية -والعلم عند الله والسورة في مُجملها المقصود منها العظة والعبرة وأن يتعظ الإنسان بالقرآن ويعتبر به .
 جعلني الله و إياكم من عباده الصالحين ، هذا والعلم عند الله والحمد لله رب العالمين .
_____________________________________
شكر الله للأخت (^_^) على قيامها بتفريغ الحلقة وجزاها كل خير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق