الحمد لله الذي تقدّست عن اﻷشباه ذاته ودلّت على وجوده آياته ومخلوقاته وأشهد أﻻ إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافا بفضله وإذعانا لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين. عنوان درس هذا المساء المبارك: المُكرمون.
وهذه اللفظة القرآنية العظيمة وردت في كلام الله -عز وجل- بصيغة الرفع وبصيغة الجر.
فإذا قلنا بصيغة الرفع يعني (المكرمون) وإذا قلنا بالجر أو النصب تصبح (المكرمين) ﻷنها جمع مذكر سالم يُرفع بالواو ويُنصب ويُجر بالياء. وقد وردت في مواضع خمسة: وردت في اﻷنبياء ووردت في يس ووردت في الصافات ووردت في الذاريات ووردت في المعارج. هذه خمس سور وردت فيها كلمة المكرمين.
/ نبدأ باﻷنبياء: قال الله -عز وجل- (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(29)) [سورة اﻷنبياء]
نأتي للآيات: قال الله -عز وجل- (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا) القائل نفر من خزاعة -على اﻷكثر- وأما قريش فلم يُنقل عنها -إﻻ قليلا- أنهم قالوا أن الملائكة بنات الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا-.
اﻵن انظر كيف جاء النفي القرآني (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا) أول اﻷمر نزّه الله -جل وعلا- ذاته العلية بنفسه قال (سُبْحَانَهُ) فنزّه ربنا ذاته عما نسبه الكفار إليه ثم قال ( بَلْ ) "بل" هذه للإضراب واﻻنتقال والإبطال، إبطال ماذا؟ إبطال قول الكفار أن الملائكة بنات الله، والإضراب واﻻنتقال بمعنى واحد أي أنشأت قوﻻ جديدا يحكي الحقَ (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) من العباد المكرمون هنا؟ الملائكة (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) والمعنى: أن الله -عز وجل- لم يتخذهم أوﻻدا ﻷن الله غني عن ذلك كله لكنه -جل وعلا- جعلهم عبادا مكرمين مقربين إليه (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) خصّهم الله بأنواع ﻻ تُحصى من الكرامات. ثم ذكر الله -عز وجل- بعض أحوالهم عليهم السلام قال (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) والمعنى: ﻻ يقولون إﻻ بقول ربهم، وﻻ يعملون إﻻ بأمر ربهم، معنى اﻵية: ﻻ يقولون إﻻ بعد قول ربهم (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) وﻻ يعملون عملا إلا امتثالا ﻷمر ربهم، إذا كل عمل تعمله الملائكة هو امتثال ﻷمر الله لكن عملي وعملك ليس كل أعمالنا هي امتثال ﻷمر الله الشرعي، قد نخطئ، قد نصيب، قد نُطيع قد نعصي، وإن كان هذا داخل في قدر الله لكنه ليس امتثاﻻ ﻷمره، نمتثل أمر الله -عز وجل- ثم يغلبنا الشيطان فنعصي ربنا، لكن الملائكة أي عمل يعملونه يعملونه امتثاﻻ ﻷمر الله.
قال ربنا (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ* يَعْلَمُ) جل ذكره
(مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) علم ما يعملون قبل أن يخلقهم ويعلم ما سيعملون بعد أن خلقهم وﻻ يقدر على هذا إلا الذي خلقهم وهو الله.
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم وَلَا يَشْفَعُونَ) لعلمهم بعظمة ربهم وجلالة شأنه وعظيم قهره ﻻ يشفعون (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ) قال ابن عباس في هذا كلمة جامعة، قال: " (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) أي لمن قال ﻻ إله إلا الله" كل شيء يدخل تحت هذا والمعنى: أن من لم يقل ﻻ إله إلا الله مُحال أن تشفع له الملائكة، أما من قال ﻻ إله إلا الله، آمن بها، أتى بها على الوجه الحق فهذا أهلٌ ﻷن تشفع الملائكة له. متى تشفع الملائكة؟ الصواب: أن الملائكة تشفع في الدنيا وتشفع في اﻵخرة، تشفع في الدنيا باﻻستغفار ربنا يقول (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى: 5] أخبر الله -جل وعلا- وقال ( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر: 7] واﻻستغفار شفاعة ﻷن الملائكة لا يتحملون ذنوبا حتى يستغفروا وإنما يستغفرون للمؤمنين في اﻷرض، وقد يكون منهم -وهذا ظاهر اﻵثار- شفاعة للمؤمنين غير اﻻستغفار لكننا ﻻ نستطيع أن نُبين لك كينونيتها لكن سأدلك على أثر قاله المفسرون وهو: أن يونس -عليه السلام- لما كان يذكر الله في بطن الحوت قالت الملائكة: أي رب صوت معروف في بلاد غريبة، قال هذا عبدي يونس حبسته في بطن الحوت، فشفعت الملائكة له فكان من أسباب رحمة الله له أن الملائكة شفعت له.
وهذه أشياء -لا أدري ما أقول لك- لكن يا بني، يا أخي كلما كُنت في مجالس وأفعال وأقوال تحبها الملائكة كنت قريبا أن تكون أهلا أن تشفع الملائكة لك، بمعنى أن الملائكة إذا اعتادت على سماع صوتك، على رؤية وجهك، على حُسن فعلك كان لها شيء يجعلها تقدر على أن تشفع لك عند الله، لكن اﻹنسان إذا كان -عياذا بالله- غُدوه، رواحُه، المواطنُ التي يأتيها أبعد ما تكون أن تكون الملائكة عندها من أي اﻷحوال ستأتيك شفاعة الملائكة؟! ظاهر هذا؟. قال ربنا (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ) وإن كان ظاهر اﻵية يتكلم عن اﻵخرة. (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) معناها: أنهم رغم تلك الحال من العبادة والطاعة واﻻمتثال لله ﻻ يأمنون مكر الله وهم على تلك الحال قال ربنا (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).
ثم قال الله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من الملائكة (إِنِّي إِلَٰهٌ مِنْ دُونِهِ) من دون الله (فَذَٰلِكَ) هذا جواب الشرط (فَذَٰلِك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) الله قد علم أزﻻ أن الملائكة لن تقول أنها إله من دون الله لكن اﻵية سيقت ﻷمرين:
اﻷول: تفظيع الشرك
والثاني: تعظيم التوحيد.
وإﻻ قد علم ربنا أزﻻ أن أحدا من ملائكته لن يقول إني إله ونظير هذا في الرسل (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [سورة الزمر : 65] وقد علم الله أن نبيه لن يشرك. هذا سورة اﻷنبياء.
/ نأتي إلى سورة يس: ذكر الله فيها المُكرمين لكنه لم يذكرها عن الملائكة، ذكرها عن عبد عُرف عند المفسرين اسمه حبيب النجار وهذا مر معنا لكن نأخذ آخر اﻵية أن قومه -في ظاهر القرآن في أقوال المفسرين- قتلوه بعد أن دعاهم إلى التوحيد (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) [سورة يس : 25] فلما مات أو قتل -المفسرون يقولون أنه قتل لكن القرآن لم يقل أنه قتل- (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ماذا قال؟ (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) [سورة يس : 26] يعلمون ماذا؟ أمرين: (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [سورة يس : 27] إذا تستنبط منها: أن العاقل يدعو لنفسه يقول اللهم اغفر لي واجعلني من المكرمين. (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ*بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) لم قال هذا؟ قال القرطبي -وقال غيره-: ﻷحد سببين:
/ إما أن يكون قد قالها حتى يعلموا مآله وعاقبته الحميدة.
/ وإما أراد بقوله هذا أنه أراد أن يعملوا بعمله فيكون حالهم كحاله.
في اﻷول قال أبو حيان في [البحر المحيط] -وهذا كلام نفيس- قال: "وقد جُبلت النفوس وطُبعت على أنها إذا نالت شأنا تُحب من أترابها، وليداتها ومن عاشت معهم في السابق أن يعلموا ذلك عنها" مثلا: رجل، شاب، فتى يسكن في حي شعبي وله جيران يغدو ويروح معهم يعرفونه على إنه فلان ابن فلان، يعرفه نساء الحي، رجال الحي، فتيان الحي، ثم كبُر وانتقل أصبح رجلا ذا شأن، فلنقل أصبح وزيرا. جِبلّة يُحب أن أولئك الذين عاش معهم قبل أن يُعطى هذه العطية أن يعلموا عنه أنه وصل إلى هذا الحال. وذكروا لهذا مثلا قالوا: إن رجلا اسمه ذنك الدين المسير، المسير هذه قرية في مصر يُنسب إليها هذا الرجل، كان يسكن في قرية صغيرة جدا في أقاصي مصر ثم إنه أصبح وزيرا للملك، فذات يوم استأذن من الملك وخرج إلى القرية قال أحِب أن يرى عجائز مسير ما أنا عليه من الحالة، ﻷن عجائز مسير في اﻷول يعرفونه فلان بن فلان، ﻻ يعرفون عنه أنه وزير الملك. هو اﻵن اﻹعلام يقوم بهذا لكن في اﻷول ﻻبد أن يذهب الرجل بنفسه وذكروا لهذا مثلا قالوا:
والعز محبوب ومُلتمس ** وأحبه ما كان في الوطن
"والعز محبوب وملتمس" يعني مرغوب، مطلوب " وأحبه ما كان في الوطن" يعني أن اﻹنسان يُعزّ بين أهله، بين ذويه، بين قرابته، بين حيه حتى يروه بعد أن رأوه قبل ذلك غير ذلك. المقصود: أن الله -عز وجل- قال عن هذا العبد الصالح (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ*بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) هذه ثاني اﻵيات.
/ قال ربنا في الصافات (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ ۖ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)) [سورة الصافات] بيّن الله -عز وجل- أن الخُلّص من عباده يدخلون الجنة وهذا باتفاق المسلمين، قال ربنا (أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) كلمة - "معلوم" من حيث الصناعة اﻹعرابية تعرب صفة لـ "رزق" وهي تحتمل معان ثلاثة:
-المعنى اﻷول: قالوا معلوم في طيبه وحُسنه وعدم انقطاعه. ﻷن "معلوم" لم تأت مُفسرة.
- قال آخرون: "معلوم" فسرتها ما بعدها أي معلوم أنه فواكه يصبح (أُولَٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ*فَوَاكِهُ) هي الرزق المعلوم.
- وقال آخرون: ﻻ علاقة وإنما (رِزْقٌ مَعْلُوم) أي معلوم وقته، أين أخذوا هذه معلوم وقته؟ أخذوها من قول الله -عز وجل- (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم : 62]. أظن الوقت ﻻ يأذن بالاتمام لكني سأُتم على عجل. هذا ما ذكره الله -عز وجل- في الصافات.
/ في الذاريات: قال الله -عز وجل- (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) [سورة الذاريات : 24] هذا من جنس اﻷول كما مدح الملائكة إجماﻻ مدحهم هنا تعيينا، والمراد بـ (ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) جبرائيل وإسرافيل وميكال.
/ بقينا في المعارج: قال الله -عز وجل- (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّين (22)) [سورة المعارج] ثم ذكر صفاتهم قال في آخرها
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)) [سورة المعارج] .
إذا نخلُص من هذا كله أن المكرمين في القرآن اثنان: الملائكة ، ومن يمُنّ الله عليه بأن يدخل الجنة .
اللهم أدخلنا برحمتك الجنة، اللهم أدخلنا برحمتك الجنة، اللهم أدخلنا برحمتك الجنة. وصل اللهم على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق