الاثنين، 11 نوفمبر 2013

الوقفــ الثالثة ــة من جـ 21 / مع قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ...)


الوقفة الثالثة من الجزء الواحد والعشرين عند قول الله -جل وعلا- (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) هذا من المفصّل لما أُجمل في القرآن ، قال الله -جل وعلا- في سورة الأنعام (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) وقال هنا (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) والربط بين الآيتين في السورتين ما أخرجه الإمام أحمد في المسند قال : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ  إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وبيان ذلك على ما يأتي : 
(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) تقديم الجار والمجرور -الظرف- دلّ على الحصر أي لا أحد يعلم الساعة إلا هو ، وجبرائيل جلس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال وهو يضع يديه على فخذيه ( أخبرني عن الساعة قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي أن علمي وعلمك فيها سواء ، وفي قوله -جل وعلا- (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) هذه الساعة متى تقع؟ لا يعلمه إلا الله ، لكن جعل الله لها أشراطا ، جعل لها علامات قال ربنا (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) بعثته -صلى الله عليه وسلم- من علامات قُربها ، فتح بيت المقدس ، إلى غير ذلك مما توالا وسيأتي بعد ، فهذا معنى قول الله (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ لكن الساعة لا تكون إلا يوم جمعة ولهذا ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة تخشى قيام الساعة .
(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) الغيث : المطر ، وإذا قيل الغيث يُحمل على الرحمة اتفاقا ، وإذا قيل المطر يحتمل الإثنين الغيث والهلاك . (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) هذا كذلك مما اختصّ الله بعلمه فليس لمن برز في هذا الشأن من علماء الأرصاد إلا تلمس وتحسس أخبار وإلا وقت نزوله -قطعا- لا يعلمه إلا الله ، وقد سمّى الله -جل وعلا- الغيث في كتابه رحمة قال -جل وعلا- (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب فدخل عليه رجل وأخبره بجدب الديار وقلة الأمطار وقال : يارسول الله استسقي لنا فرفع -صلى الله عليه وسلم- يديه واستسقى " اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا" فما أن أنزل يديه حتى أقلتهم سحابة ثم إنها أمطرت فمكث الناس على هذا سبتا -أي اسبوعا- فلما رقى المنبر في الجمعة التي بعدها دخل عليه رجل -قيل هو وقيل غيره- فقال : يارسول الله -يذكر آثار السيول- وكيف أن السيول قطّعت الطرائق بين الناس فقال : يارسول الله اُدع الله أن يُمسكها عنا ، فعلِم -صلى الله عليه وسلم- أن الغيث رحمة وليس من الأدب مع الله أن يقول أمسك عنا رحمتك فقال -صلى الله عليه وسلم- "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر" وأصبح يُشير بيده ميمنة وميسرة ، وشرقا وغربا ، قال أنس -راوي الحديث- : فوالله ما أشار إلى جهة إلا اتجه السحاب إليها . الشاهد منه : أنه سمّى الغيث رحمة (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) 
(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ثم قال ربنا (وَيَعْلَمُ) -جل ذكره- (مَا فِي الأَرْحَامِ)  "ما" هذه موصولة نكرة مُبهمة تُفيد العموم لا تتعلق بشيء واحد ، ربنا يعلم إن كان ذكرا أو أنثى ، وربنا يعلم إن كان صغيرا أو كبيرا ، وربنا يعلم إن كان شقيا أو سعيدا ، وربنا يعلم هل يُولد حيا او يُولد ميّتا ، وربنا يعلم هل يولد تماما أو يُولد خِداجا ، كل ما يتعلق به يعلمه الله ويشمله لفظ "ما" لأنها موصولة  نكرة مُبهمة تُفيد العموم ليست مختصة بذكورية ولا بأنوثية ، أما ما أفرزه الطب الحديث مِما يُعرف باظلشعة فإن الأشعة نقلت الأمر من الغيب إلى الشهادة فهذا ليس بغيب ، شيء تراه بعينك لا يُسمى غيبا ولذلك لا افتخار فيه لأحد على أحد .
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا) لفظ  (تكسِب) غير لفظ (تعمل) فكل أحد يعرف ماذا سيعمل غدا بل من الناس من لهم مكاتب عامة أو خاصة تصنع جداولهم لشهور ممتدة لكن هل يكسب هذا العمل؟ هل يقع؟ هل ينفذ؟ هل يكون؟ هذا هو المجهول ، وإلا غدا سبت ونحن متفقون على أن الدرس كذا وكذا نرجو الله أن نكسبه بإذن الله لكن هل يقع هذا؟ هل نكسبه؟ هذا عِلمه عند الله فقال رب العالمين -جلّ جلاله- (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا) وهذا من عِلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله فكم من مؤمل لأمر لم يحصل عليه .
ثم ختم الخمسة -جلّ جلاله- بقوله (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) لكن جاء في المُسند أن الله -جل وعلا- إذا أراد أن يقبض عبدا في أرض ما جعل له حاجة إليها ، وكم مِمن خرج من أهله وذويه فمات بعيدا عنهم ، والأرض لا تضع أحدا ولا ترفعه لكن العبرة على أي شيء مات ، والعبرة كل العِبرة عندما خرج -وهذا هو الفيصل- بأي نية خرج فربما يخرج ثلاثة رجال على طائرة واحدة أحدهما بيّت أن يذهب ليأتي الفواحش والمُنكرات ويقضي منها وطره ، والثاني بيّت أن يأتي المباحات ولا يقربن الفواحش إنما خرج سياحة ، والثالث بيّت أنه خرج ليدعو إلى الله -تبارك وتعالى- ثم رحلت بهم الطائرة ثم قبل أن تصل إلى المكان الذي هو فيه -توجهوا إليه- ماتوا الثلاثة ، فالناس يقولون ، يحكمون -جهلا- على الطائرة كلها ، فهؤلاء متجاوروا المقاعد لكن نياتهم تباينت والعبرة لا بالأجساد ولا بالبلدة التي خرجوا منها ، ولا بالبلدة التي خرجوا إليها ، العبرة بالنية والله يتولى السرائر فلا سبيل للناس إلى معرفة السرائر ، على أي شيء يُحاسبون يوم القيامة؟ على السريرة التي حملوها وهم ذاهبون إلى تلك البِقاع ، هذا يُثاب وذاك الله أعلم بمراده ، والأول -نسأل الله لنا ولكم العافية- الأمر واضح فيه .
المقصود: على الأقل إن لم تستطع العمل فلتحمل في قلبك نية صادقة مع الله مع كل خروج لك من بيتك ، لا يكن همّك إلا الله ، والأئمة والخطباء والمحاضرون والمدرسون يقع عليهم ما لا يقع على غيرهم ، لا ترقى مِنبرا ليُقال ما أفصح فلان وما أعلمه لكن اِرقَ المنبر لتُحبب الخلق في ربهم -جل وعلا- ، لا تخطو إلى المسجد وفي نفسك أن يغيب من يُصلي لعلك تُصلي مكانه بل اخطو إلى المسجد علّ الله أن يمحو عنك ذنبك بصلاتك ، لا تذهب إلى والديك رجاء أن تتخلص منهما قبل أن تتفرغ لموعد آخر ولكن اذهب إليهما وأنت تستصحب قول الله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) ، لا تخرج من بيتك إلى عملِك وقد بيّت قبل أن تخرج أن تؤذي فلانا فقد -والعياذ بالله- تموت قبل أن تؤذيه فلا أنت الذي آذيته ، ولا أنت الذي قابلت الله بنية طيبة ، لكن من عرف الله حقا إذا أمسى ناجى ربه ألاّ يتولاه أحد إلا الله ، ويسأل ربه وهو يُناجيه أنه -جل وعلا- يتولاه بولايته وألاّ يجعل في قلبه أحد إلا الله ، ويتذكر قول الله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) فإن استودع الإنسان ربَه دينه وسأل الله أن يحفظه وأن يسلم الناس من شره ولسانه ، وأن يوفقه الله لصادق القول ، ودعا الله بنية صادقة فالله أجلّ وأكرم من أن يُضيّع من لجأ إليه . أما أن يُصبح الإنسان وقد مُلئ قلبه أشرا وبطرا وحقدا وحسدا من نزغات الشيطان على ولاة المسلمين أو على علمائهم أو على عامّتهم أو على خاصتهم أو على تُجّارهم فيقضي يومه -عياذا بالله- دون أن يستقر قلبه ، لكن من عرف الله حقا أوكل نفسه روحا وجسدا إلى ربه -جل وعلا- ووجد في لذة السجود له في الليل طريقا إلى أن يستدر به رحمة خالقه -جل وعلا- ، والعلم عند الله .
هذا ما تيسر إيراده في الجزء الواحد والعشرين وصلى الله على محمد وآله .    
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق