الجمعة، 29 يونيو 2012

الحلقــــ العاشرة ــــة / سورة المطففين


الحمدلله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لاشريك له اعترافا بفضله وإذعانا لأمره ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ماجزى به نبيا عن أمته , وصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحّد الله وعرّف به ودعا اليه , وبعد أيها المباركون :
هذا لقاء من لقاءاتنا في التفسير في هذا الجامع المبارك جامع الدخيل ونستعين الله - جل وعلا - في التأمل في بعض آيات من سورة المطففين , وسورة المطففين سورة اختلف العلماء في نزولها بمعنى هل هي نزلت في مكة أو نزلت في المدينة , فمن قال إنها سورة مكيه احتج بقول الله جلا وعلا فيها (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) وقالو أن هذا يدل على أن المخاطب بها منكروا البعث , وهذا شأن السور المكية ، وهذا حق من هذا الوجه في الإستدلال .
وقال آخرون أنها أول سورة نزلت في المدينة وأن أهل المدينة كانو أسوأ الناس كيلا كما عند ابن مارية في السنن , وقال بعضهم وروي هذا عن الكلبي عن زيد ابن جابر أنها نزلت مابين مكة والمدينة ، واستحسن كثير من المفسرين كالطاهر بن عاشور مثلا في التحرير والتنوير على أنها نزلت بين مكة والمدينة لأن هاتين المدينتين كان أهلها قبل الإسلام ، قبل الشرائع من أسوأ الناس كيلا .
سنتأمل بعضا من أياتها , نتأمل صدرها قال الله - جل وعلا - (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ )
"ويل" هذا دعاء وثمة سور في القرآن صُدرت بالدعاء كقول الله - جل وعلا - (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) وقول الله - جل وعلا - (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) فهذا دعاء .
 التطفيف في الكيل والميزان المقصود من الأية - وهو ظاهر - أن الإنسان ينبغي أن يأتي الناس بما يحب أن يأتي الناس به إليه , وقد كان بعض أهل المدينة لهم مكيالان , أحدهما أقل من الآخر فيبيع بواحد منهما ويشتري بالآخر ، وهذا من التطفيف ، والمقصود من هذا أنه حتى يكون هناك مجتمع مسلم متحاب مترابط لابد أن يكون أهل ذلك المجتمع ينصح بعضهم بعضا ويخاف بعضهم الله - جل وعلا - في بعض فإذا كان هناك تطفيف وغش وخداع ونجش وغير ذلك مما يقع في بيعهم وشرائهم وتعاملهم المالي والمعنوي كان ذلك أدعى لتفكك المجتمع ، فإذا قلنا إن هذه السورة المباركة أول ما نزل في المدينة فكانت تهيئة المجتمع المدني أن يكون مجتمعا مترابطا والنبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم يقوي أن تكون السورة هذه نزلت أول ما نزل من القرآن في المدينة .
/ (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) يعني يأخذون حقهم كاملا (وَإِذَا كَالُوهُمْ) أي كالوا للناس (أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ولا يمكن حصر الأمر في المكِيلات والموزونات فقط , وإنما يتبع ذلك المذروعات وغيرها من الأمور التي يتعامل الناس بها , وهذا كله كما قدمت حتى يكون هناك مجتمع مترابطا يتراحم أهله ويتوادوا , هذا من الناحية معنى الأية .
أما ما يتعلق بها من المباحث النحوية فإنه يأتي سؤال ظاهر وهو أن الله - جل وعلا - قال (وَإِذَا كَالُوهُمْ) وقال (أَو وَّزَنُوهُمْ) وهذا في اللغة على تقدير محذوف والصحيح يعني والمعنى وإذا كالوا لهم واذا وزنو لهم فحذفت اللام . لابد ممن يطرق باب التفسير أن يكون ولو على الأقل ملما إلماما عاما بلغة العرب نحوا ولغة وشعرا ونثرا لأن العلم بأساليبهم وطرائق كلامهم يعينك على أن تفقه عن الله كلامه لأن الله قال (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) هنا نقول العرب تعرف هذا في كلامها هذه الطريقة في التعبير، ثمة أبيات يستشهد بها النحاة وتمر عليك اذا كتب الله لك أن تطرق باب النحو يسمونها أبيات لايُعرف قائلها فالأئمه متفقون على أنها صحيحة لكن لا يعرفون قائلها , وهي في كتاب سيبويه الى خمسين بيتا يظهر لي يظهر لي بعض المتأخرين توصل الى بيت بقي تسعة وأربعون إلى اليوم مجهولة القائل , من هذه الأبيات قول القائل :
ولقد جنيتك اكماءا وعساقلا ***ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
 الذي يسمع البيت " بنات الأوبر" يظن أن المسألة غزل وهي ليس لها علاقة بالغزل لا من قريب ولا من بعيد . أولا نقتضب الشاهد ، الشاهد : ربنا يقول (وَإِذَا كَالُوهُمْ) أي كالوا لهم (أَو وَّزَنُوهُمْ) أي وزنوا لهم , البيت " ولقد جنيتك " معنى "ولقد جنيتك" : ولقد جنيت لك فالللام المحذوفة في جنيتك هي الللام المحذوفة في كالوهم أو وزنوهم ، والبيت يتحدث عن رجل يكلم أحد الناس يظهر أنه ابنه أو غيره يقول له : تعرفون الكمأة يخرج من الأرض والكمأه هذا جمع  - حتى يستبين الأمر- نحن نقول ثمرة أو تمرة ما جمعها ؟ تمر ، ونقول شجرة جمعها شجر ، فنضع التاء في المفرد ونحذفها في الجمع . هذا أصل في أصول اللغة مما خالف هذا الأصل كلمة "كمأة" ، فكلمة كمأة هذه جمع وليست مفرده ومفردتها كيمئ المفرد منها كيمئ على وزن فلس ، تُجمع على كمأة وتُجمع على أكمؤ ولهذا عده علماء العربية من النوادر لأن الأمر فيها مقلوب , فالتاء أصل أن تكون في المفرد لاتكون في الجمع وهي هنا في الجمع ليست في المفرد فهذا يقول لابنه يقول لصاحبه أفضل مافي الكمأ أفضل مافي الكمأ أخترته لك جنيته لك لكنك لم تقبله وقد نهيتك عن بنات الأوبر وبنات الأوبر نوع من الكمأة لكنه ردئ غير جيد الطعم نهيتك عنه وأنت تحبه هذا معنى ولقد نهيتك عن بنات الأوبر وهي أصلها بنات أوبر لكن الألف واللام زائده يسمونها النحاة زياده إضطرارية داخلة على العلم مقبولة هنا كما في الشاهد النحوي . المقصود من هذا التوسع في اللغة يعينك كثيرا على فهم كلام رب العالمين - جل جلاله - إذا طوينا هذا نأخذ آيات أخرى من نفس السورة .
/ الله يقول (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) تأصيلا للمسألة :
 أهل الجنة - أدخلنا الله وإياكم إياها - على فريقين من حيث العموم مقربين وأبرار ويقال للأبرار أصحاب اليمين , فالمقربون هم درجات لكنهم أعلى منزلة من الأبرار، والجنة فيها عيون وفيها أنهار ، وأنهار الجنة على قسمين : أنهار في الجنة جارية وعلى هذا يحمل قول الله (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ، وأنهار في الجنة تكون إذا طلبها صاحبها وعلى هذا يحمل قول الله (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) يعني إذا رغبوها ، إذا اشتهوها تكون ، وفي الجنة عيون - بنص كلام الله - (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) من هذه العيون عين في أعلى الجنة تسمى تسنيم وهي أعلى عيون الجنة فيما يدل عليه ظاهر القرآن قد يكون هناك أعلى منها لكن نتكلم على مبلغ علمنا مما دل عليه القرآن ، من الذي يشرب من تسنيم ؟  الأن نعود للآيات قال أصدق القائلين : (إِنَّ الأَبْرَارَ) وهؤلاء أصحاب الفريق الثاني (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ *تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ ) , في وجوه الأبرار (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) , الإنسان الشيء الذي يراه ينعكس على صباحة وجهه بحسب ما رأى فأهل الجنة يمتعون برؤية وجه العلي الأعلى فبدهي جدا أن تغشى وجوههم النضره ، بل أن من عباد الله في الجنة وهؤلاء من المقربين من يرون وجه ربهم في الجنة بكرة وعشية - جعلنا الله وإياكم في هذه المنازل - .
/ قال (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) هذا شراب الأبرار، شراب الأبرار عندهم عين في جنانهم ، تسنيم تأتي من أعلى الجنة فتصل إلى الأبرار فيأتون بالماء الذي عندهم يمزجونه بتسنيم ثم يشربونه . السؤال : هل يشرب الأبرار من تسنيم خالصة أم ممزوجة؟ ممزوجة ، من الذي قال أنها ممزوجة ؟ رب العالمين , قال (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) مثاله : يغدو أحد يغدو أحدكم إلى مكة ويُمكّن بأي طريق كان له علاقة بأمير مكة قال : هذا أكرموه ، أعطوه من بئر زمزم مباشرة ,أخذ جالونين ملأهما من ماء زمزم , دخل البناية التي يسكنها تسامع الجيران أنه معه جالونان من زمزم مباشرة كل يريد ، قال أحد الجالونين لي والجالون الآخر الوعاء الآخر أقسمه بينكم , فجاء كل أحد من الجيران بكوب ماء فارغ وأخذ يسكب من ماء زمزم لكل جار فكل أحد أخذ كوب ماء من زمزم ذهب به إلى بيته فسأل أهله أين ماؤكم فأتوا بالماء مزجه بماء زمزم ، الفرق بين هذا وهؤلاء أنه هو يشرب من زمزم خالصا وهم يشربون من زمزم ممزوجه بمائهم , وأضح ، كذلك تسنيم تنزل على الأبرار فيشربون منها ممزوجه هذا قول رب العالمين (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) يبقى السؤال من يشرب منها خالصة ؟ قال الله (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فالمقربون يشربون من ماء زمزم خالصة غير ممزوجة , وهذا يؤكد ما نقوله مرارا ، قلناه في مع القرآن واحد ونقوله الآن " الجنة دخولها بالفضل والمنازل فيها بالعدل " فكل من يدخل الجنة يدخلها بفضل الله حتى العصاة من المؤمنين , لكن إذا أخذوا الناس درجاتهم فإنما هي بحسب أعمالهم في الدنيا , فلا يمكن أن تكون منزلة الصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على جهاده العظيم والصحبة الجليلة كمنزلة غيره مثلا من أهل زماننا فكلاهما دخل الجنة دخلوها بالفضل لكن المنزلة فيها بالعدل .
 / وتلحظ أن الله قال (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) المقربون قلنا هم أرفع الناس ، لم يقل الله المتقربين مع أنهم تقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة حتى يبين الله - جل وعلا - أنهم إنما نالوا هذه المنزلة بفضل منه - جل وعلا - هو الذي قربهم فهل يعقل أن أحد ممن يسكن أحد المدنتين المباركتين مثلا أو أحد منكم أيها الأخيار سافر إليها في صيف أو في شتاء ثم وهو في بيته أو في فندقه يجلس ثم ترك قهوته وأهل بيته وخرج إلى المسجد الحرام أو المسجد النبوي ثم أنه قام يصلي ويتعبد الله - جل وعلا - فكُتب له أجر ووصل الى مرحلة المقربين, السؤال : لِمَ خرج ؟ الجواب : لأن الله قذف في قلبه حب أن يخرج فما خرج إلا بهداية من الله , الله زين له في قلبه أن يخرج , فخرج بأن أعانه الله وهيأ له ذلك في قلبه ثم أعانه ورزقه العافية على الخروج فخرج فصلى .
على النقيض - عياذا بالله - من يأتي السيئات خذله الله ، فلما جاء الشيطان ووسوس له أن يخرج لم يوفقه الله أن يبقى , يقول الله (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) أي جعلهم لايُعانون على الخروج , لم يُزينه له .
 ومن هذا تفهم مثلا - وهذه من أعظم آيات القرآن عبرة -  فرعون وآله كانوا يسكنون مصر ، ومصر أرض خصبة يقول السيوطي - رحمه الله -  "من مات في مصر وهو مؤمن إنما ينتقل من جنة الدنيا إلى جنة الآخرة" , لأن كان فيها زروع , هؤلاء كانوا في أنعم عيش فسوّل الله في قلوبهم ، قذف الله في قلوبهم أن يخرجوا جميعا يتبعوا موسى فخرجوا , خرجوا بقدر الله فأغرقوا وهلكوا , قال الله (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) والله لو جئتهم بالسياط على ظهورهم أن يتركوا هذا النعيم وراءهم مافعلوا , لكن الله مكرا بهم زيّن لهم الخروج فخرجوا حتى يهلكوا ، سرائر سوء أضمروها في قلوبهم فعاقبهم الله بمثلها , لاتطنن أن الله ظلمهم , لكنهم هؤلاء رأوا موسى وهو يلقي عصاه , ورأوا السحرة وهم يسجدون ويقولون : "آمنا برب العالمين رب موسى وهارون" , وتبين لهم أن موسى جاء لهم بالحق مع ذلك أبوا أن يؤمنوا قال الله (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) لكنهم نسوا أن مكر الله أعظم من مكرهم فزين الله هذا في قلوبهم , والمقصود : لِمَ قال الله المقربون ؟ قال الله المقربون حتى يُعلم أن حتى أصحاب الدرجة العالية والمنازل الجليلة في الجنة إنما الله - جل وعلا - حبب اليهم ذلك كما قال ربنا في كتابه (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) فالإنسان يسأل الله أن يكون وليه , ينبغي أن يكون سؤالك في صلاتك أن تسأل الله أن يتولاك ، من تولاه الله لا يضيع , ألا ترى أن الله يقول في سورة الشورى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ) قال بعدها (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) حتى يُفهم أن الولي لا يضيع أوليائه , فليس أمرا هينا أن يقول النبي - عليه السلام - للحسن - صبطه - أن يقول له أن تقول في الدعاء : (اللهم إهدني فيمن هديت , وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت) .
 تولاني الله وإياكم في رحمته والحمدلله رب العالمين . 
---------------------------------------------------------
الشكر موصول لمن قامت بتفريغ الحلقة الأخت : جروح باردة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق