الثلاثاء، 28 يونيو 2011

الوقفة الثانية جـ 5 مع قوله تعالى ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا )





قال الله تعالى ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ )أول ما تفقهه من الآية أن الـ "ما " هنا ليست لنفي الوجود وإنما للنهي والتحريم وهذا مهم إدراكه لأنها لو كانت لنفي الوجود فيستحيل أن يقتل أحد أحدا خطأ لأن ما أخبر الله أنه لن يكون لا يمكن أن يكون ،قال الله - جل وعلا - ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ) ثم قال ( مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ) هذا ليس نهي تحريم ، هذا نفي وجود يعني مُحال ، قطع الله الأطماع أن يأتي أحد ويُنبت الشجر ، لكن هنا ( مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ) هذا لنفي الوجود ، لكن قول الله - جل وعلا - ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ) ليس لنفي الوجود لأن هذا موجود يُرى برأي العين لا يُنكره عاقل وإنما المقصود النهي والتحريم .

/ ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا )القتل في كلام الله أجمع المسلمون علماء على أنه وقع على حالين : قتل العمد وقتل الخطأ ، أما قتل شبه العمد فقال به البعض وخالف آخرون ، الذين قالوا بوجود قتل شبه العمد في القرآن احتجوا بآية ( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) فإن الفتى القبطي مات ، قُتل ( أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ ) وموسى قطعا لم يُرد القتل لأنه جرت الأعراف والعادة أن الإنسان لا يموت بالوكز ، فهذا هو المُسمى بشبه العمد .
هذه الآية تتكلم عن قتل الخطأ وسيأتي الكلام على قتل العمد لكن ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا ) لما غلّظ الله هذا ، الخطأ في اللغة : العدول عن الجهة المرادة قال ربنا ( وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) هنا يأتي الكلام يُعرف عن شيء أصوليا يُعرف بالسبب ،عقليا ونقليا السبب ينقسم إلى قسمين :
- سبب مباح ينجم عنه محظور
- سبب محظور ينجم عنه محظور
والذي بين أيدينا في الآية السبب الأول ليس السبب الثاني ، بيان هذا :
إنسان خرج للصيد وأخرج بندقيته يريد أن يصيد فرمى فوافق رجلا يعبُر فأصابته الرمية فقُتل فهذا الذي قُتل قُتل خطأ بسبب مباح لأن الذي قتله مراد هذا الرجل أن يصيد ، فالصيد هو السبب في القتل ، والصيد في أصله مباح ومع ذلك قُتل الرجل به ، النتيجة محظورة نعم لكن السبب كان مباحا ، هذه الأولى .
الثانية : رجل - عياذا بالله - بينه وبين صديقه ألفة ومحبة ليست بينهما إحن ولا عداوة فاجتمعا على شراب - على مُسكر - فشرب كل منهما وأحدهما بالغ في الشرب فثمل ، فلما ثمِل أخذ سكينا ، أخذ أداة كانت عنده فقتل صاحبه فلما أصبحوا وفاق قال ما أردت قتله ، ليس بيني وبينه إحن لقد كنا صديقين بل له عليّ معروف لكنني كنت ثمِلا ، غائبا عن الوعي بالخمر . فالسبب الذي جعله يقتل السُكر ، لكن هل السُكر مباح ؟ السُكر محرم محظور .فالآن وُجد سبب محظور ونتيجة محظورة . في الأول وُجد سبب مباح ونتيجة محظورة فنحن لا نتكلم عن الثاني ، نتكلم عن الأول . لكن قد يقع القتل بغير هذا فأصل الخبر ، سبب نزول الآية :
أن عياش بن ربيعة - رضي الله عنه - كانت بينه وبين رجل يُقال له الحارث العامري إحن - أي عداوات - قبل الإسلام ، فأسلم ربيعة قبل الحارث وبقي الحارث على كفره ثم خرج عياش بن ربيعة هذا فإذا الحارث مقبلا يريد المدينة وقد أسلم لكن عياش لا يدري أن الحارث قد أسلم فقتله للإحن التي بينهم في الجاهلية ،فلما قتله أُخبر أنه مسلم فقال يارسول الله إنك تعلم ما بيني وبين الحارث العامري من إحن فوالله لم أشعر بإسلامه . يعني قتلته على أنه عدو كافر ولم أقتله على أنه مسلم فأنزل الله - جل وعلا - (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ)
"من" هذه أداة شرط تحتاج إلى جواب مع فعل الشرط ، جواب الشرط (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) ووفق الصناعة عند النحويين يقولون : إذا كان جواب الشرط جملة إسمية لابد أن يكون مُقترنا بالفاء ، فالجملة هنا اسمية فبدأت بالفاء (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) قال الله - جل وعلا - تحرير رقبة ثم وصف هذه الرقبة بأنها مؤمنة هذا الوصف في الاصطلاح يُسمى قيد فلا تنفع أي رقبة ، لكن على من يُطلق رقبة مؤمنة ؟ بمعنى : إنسان ما قَتَل مؤمنا خطأ فجاء إلى بلد فيها أرِقاء وأراد أن يشتري رقيقا ليُعتقه فوجد رقيقا صغيرا دون البلوغ لا صلاة عليه ولا صيام ، فلنقل إنه ست سنين هل يُجزئ أو لا يُجزئ ؟ هو قطعا رقبة لأن هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل لأن الله لا يقصد الحيز يقصد الجسد كاملا .
لكن هل يُطلق على أنه مؤمن ؟ فأكثر أهل العلم على أنه لابد أن يكون قد صلى وصام أي فوق البلوغ ، ولعض العلماء كعطاء - رحمه الله - يرى أنه يُجزئ ، لماذا يُجزئ ؟ قال : لأنه صغير من أب مسلم وما دام من أب مسلم فيُحكم عليه بأنه مؤمن . وبعض العلماء يقول : إن الضابط في إيمانه إذا مات هل يُصلى عليه ويُدفن في مقابر المسلمين أو لا ، هذا الضابط .لكنهم جعلوا ضوابط أخرى فلا يرون أن من كانت فيه إعاقات شتى كمقطوع اليدين والرجلين أنه يُجزئ في مثل هذه الحالة .

/ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) هنا نأتي إلى فائدة أخرى قلنا أن الطفل الصغير دون البلوغ يُنسب إلى أبيه ديانة كما أن الإنسان إذا كانت أمه جارية يُنسب إليها رِقاً . وفي الأطعمة - في الحيوانات ، في البهائم - فإن المتولد من محرم ومباح يُنسب إلى المحرم منهما ، فإذا نسبناه إلى المحرم لم يُبح مثاله : البغل ، فالبغل حيوان يتولد من أن الخيل يأتي الأتان، فالأتان محرمة والخيل مباحة ، حديث أسماء ( ذبحنا فرسا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكلناه ) فالخيل مباحة ، حلال ، والأتان محرمة فينجُم من هذا النزو البغل قيُلحق بأخبثهما فيُقال بأن البغل محرم ، يُحكم على أن البغل محرم .
هذا القول في قضية أن من نشأ صغيرا في بيوت المسلمين فهو مسلم .
ونختم بخبر يُنسب لأبي حنيفة - رحمه الله - أنه سُئل عن امرأة نصرانية متزوجة من رجل مسلم ماتت وهي حُبلى أين تُدفن ؟ في مقابر المسلمين أو في مقابر الكفار ؟وأبو حنيفة - رحمه الله - كان رجلا بالغ الفقه ، قال مالك أو الشافعي أظنه مالك ، قال " الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة " .
فقال - رحمه الله - "هذه المرأة لا تدفن في الكفار ولا تدفن في مقابر المسلمين ، تُدفن في أرض لوحدها وظهرها إلى القبلة " فقال تدفن في غير مقابر المسلمين حتى لا يتأذى المسلمون من عذابها ، ولا تدفن في مقابر الكفار حتى لا يتأذى الجنين من عذاب الكفار وتوضع ظهرها إلى القبلة لأن الجنين في بطن أمه يكون وجهه إلى ظهر أمه ، فإذا جعلنا ظهرهل للقبلة أصبح وجه الجنين إلى القبلة .
هذه بعد أن تُحكى ، بعد أن تُقال تُرى يسيرة لكن العِلم أن يقولها الإنسان ابتداء. وهذا فقه .
لكن أظن - والعلم عند الله - لما درسته من حياة هذا الإمام المبارك أن الورع هو الذي به
آتاه الله هذا الفهم ، كان أبو حنيفة إماما في الورع ، نهاه الوالي أن يُفتي فسأله ابنه في البيت عن مسألة في البيت وكانت ابنته طالبة علم قال سل هذه فإن الإمام نهاني أن اُفتي.
وهذه منزلة في الورع ، محمد بن الحسن كان أحد تلاميذه ، فلما جلس عنده كان سمينا لكنه كان وضيء الوجه لم تنبت فيه لحية فقال له قم واجلس خلف الكرسي ، حتى لا يُفتن برؤيته لأنه خاف أن يقع منه نظرة إليه فيقلّ ورعه ، وإن قلّ ورعه قلّ فهمه .
قبل أن أختم أعطيك فائدة : لا تظن أن العلم أو أي منزلة تُنال بسبب واحد ، يعني ليس العلم قراءة كتب وسماع أشرطة وتدوين ، هذه بعض العلم ، لكن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء طريقه الأول الخوف منه جلّ جلاله . والورع لا يمكن أن يؤتي الله رجل مثل هذا - رحمة الله عليه - ما آتاه إلا لورع شديد وخوف في قلبه من الله .
رزقني الله وإياكم ذلك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق