وقد وصفت هذه السُّورة بأحسن القصص في قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ) [يوسف: 3]؛ لما فيها من العِبر، والحِكم، والنُّكتِ، والفوائد الَّتي تصلْح للدِّين والدُّنيا، من سِيَر الملوكِ، والمماليكِ، والعُلماء، ومَكْرٍ النِّساء، والصَّبْر على أذى الأعداء، وحُسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد (2) .
وقال الآلوسيّ: "ووجه أحسنيّتها اشتمالُها على حاسدٍ ومَحسود، ومالكِ ومملوكٍ، وشاهدٍ ومشهودٍ، وعاشقٍ ومعشوقٍ، وحبْسٍ وإطلاقٍ، وخَصْبٍ وجَدْبٍ، وذَنْبٍ وعَفْوٍ، وفِراقٍ ووصالٍ، وسقمٍ وصحَّةٍ، ورَحلٍ وارتحالٍ، وذُلّ وعزِّ. قيل: ولكونها بتلك المثابة من الحُسن تتوفِّر الدَّواعي إلى نقلها؛ ولذا لم تتكرّر كغيرها من القصص"(3).
إن الدّارس للقصص القرآنيّ يلحظ ظاهرةً واضحةً هي أنَّ القصص الطّويل يتوزّع على مشاهد عديدة، وتتوزّع المشاهد على سُوِرِ عديدة في القرآن؛ فقصّة موسى عليه السّلام وزّعت في حوالي ثلاثين سورة، وهذه القاعدةُ لا تسري على سورة يوسف.
كما أنَّ قصّة يوسف تعدُّ أنموذج الرّواية التّامّة الحلقات المتسلسلة السَّرد، المصوِّرة للحوادث والأشخاص. وكأنَّ اللّٰه تعالى قد صاغ قصَّة هذا النَّبيّ الكريم في سورةٍ مستقلةٍ ليعلم هؤلاء الّذين يشترطون في الإبداع القصصيّ أنَّ القرآن لو شاء أن يُفرد كلّ نبيٍّ بقصَّةٍ خاصَّةٍ في سورةٍ خاصَّةٍ لفَعَل، لكنَّه يُكرِّر قصص الأنبياء في مختلف السُّور لحكمة عليا تقتضيها الدَّعوة الإلهيَّة الَّتي نهض برسالتها القرآن.
وتُقدِّم لنا سورة يوسفَ شخصياتٍ وأحداثًا مختلفةً، وكلُّ مَن حول شخصية يوسف من الأشخاص وما حوله من الأحداث يتّجه إليه مؤثّرًا أو مُتأثرًا، وقد أُحكمت حبكتُها الفنيَّةُ على نحرٍ واقعيٍّ لا يرقى إليه خيالُ مُتفنِنٍ، بحيث يُتبع العقدة حلّها الطّبيعيّ، وإذا كان لنا أن نجعل من رؤيا العزيز مِلاطًا يُمسك اللّبِنات في دور القصَّة الأوَّل، فإنّ صُواع المَلك واتِّهامَ الأخ بسرقته هو الملاط الآخر في الدَّور الثّاني، إذ دارت حولهما الأحداث في تتابع منطقيٍّ منتظم متتابع (5).
وأهمُّ ما يُميّز سورة يوسف عن غيرها من السّور أنّك لا تكاد تجد فيها آيةً من آياتها إلا أصبحت مَثَلا بين النّاس، من مثل: (وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ، بِدَمِ كَذِبِ) [يوسف: 18] و {وَشَرَوْهُ بِئَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف: 20] وأَكْرِمِي مَثْوَنهُ)
[يوسف: 21] و(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ) [يوسف: 26] و (قُضِىَ ٱلْأَمْرُ ٱلَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤) [يوسف: 41] و(لَا تَتْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ) [يوسف: 92] و {إِنَّمَآ أَشْكُوا بَتِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) [يوسف: 86] و (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٨) [يوسف:
28] و (الْعَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ» [يوسف: 51] وغيرها.
فضلًا عن أنّها انفردت بمجموعة من الألفاظ الّتي لم تَرد في سورة أخرى سواء أكانت أسماءً أم أفعالًا؛ من نحو:
- (اطْرَحُوهُ)
- (يَرْتَعْ)
- (دَرَهِمَ)
- (الزَّاهِدِينَ)
- (وَغَلَّقَتِ)
- (هَيْتَ)
- (شَغَفَهَا)
- (خُبْزًا)
- (حَصْحَصَ)
- (وَنَمِيرُ)
- (صُوَاعَ)
- (تَفْتَؤا)
- (تُفَنّدُونِ)
يُضاف إلى ذلك أنّ السّورة امتازت بأسلوبٍ عجيبٍ من الإيجاز والحذف، بين تتابُع المَشاهِد واختلاف البلاد، ومع ذلك لا يكاد يُحسّ القارئ بهذا التّنقّل بين مشاهدها.
*بلاغة الإيجاز في سورة يوسف
_____________________________________
1. السّمعانيّ،تفسير القرآن: 6 /3، والخازن، لباب التّأويل: 511 /2.
2. البغويّ، معالم التّنزيل: 212 /4، وابن عادل، اللُّباب في علوم الكتاب: 7 /11.
3. الألوسي
4. روح المعاني: 368/6.
5. البيومي، البيان القرآني، ص: 222.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق