بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
حياكم الله أيها الإخوة الكرام في هذه المجالس العلمية "الإلمام بآيات الأحكام" التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبارك فيها، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يتقبل منا ومنكم.
وجاء بعد ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ونحن دائمًا نضرب أبا بكر الصديق مثلًا لمن يتوقف عن التفسير عندما لا يعلمه، عندما سُئل عن معنى الأبّ في قوله تعالى: { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } [عبس:31] ، توقف وقال: (أي سماءٍ تُظلني وأي أرضٍ تُقلني إن أنا قلت في كتاب الله برأيي)، لكنه عندما سُئل عن آية الكلالة وهي من آيات الأحكام التي يترتب عليها قسمة تركة قال: (أقول فيها برأيي وأستغفر الله، الكلالة من لا والد له ولا ولد)، وهذا هو القول الصحيح في الكلالة، فإذًا أبو بكر الصديق رضي الله عنه مِمن فسر آيات الأحكام.
ثم لم تزل الحاجة تزيد – أيها الأخوة – لفهم معاني القرآن الكريم عمومًا، ولفهم معاني آيات الأحكام خصوصًا، فبدأ التأليف في آيات الأحكام مع انبثاق المذاهب الفقهية، وإلا هناك قبل المذاهب الفقهية من ألّف في آيات الأحكام مثل مقاتل بن سُليمان المتوفى سنة مائة وخمسين هجرية، له كتاب اسمه "خمسمائة آية من آيات التنزيل" ومُقاتل بن سليمان هو ممن عاصر أبا حنيفة النعمان، فهو قبل المذاهب الفقهية، ولذلك جاء تفسيره لآيات الأحكام مختصرًا.
ثم لما بدأت المذاهب الفقهية بدأت تُصنف آيات الأحكام على وفق المذاهب الفقهية، ومن أشهرها كتاب "أحكام القرآن" لأبي بكر الجصاص الرازي المتوفى سنة ثلاثمائة وسبعين هجرية، وهذا الكتاب من أجود كتب آيات الأحكام على مذهب الحنفية، وأجود منه كتاب "أحكام القرآن" لأبي جعفر الطحاوي المتوفى سنة ثلاثمائة وواحد وعشرين هجرية، وهو على مذهب الحنفية أيضًا ولكنه له ترتيبٌ خاص، يُعتبر هو أجود كتب أحكام القرآن من حيث الترتيب، حيث رتبه على الموضوعات، فبدأ بكتاب الطهارات وجمع فيه الآيات التي وردت في الطهارة، ثم كتاب الصلاة وجمع فيه الآيات التي تتعلق بالصلاة وهكذا، ولكن هذا الكتاب لم يُوجد إلا نصفه فقط وطُبع في مجلدين.
وهناك أيضًا كتاب "أحكام القرآن" لأبي بكر بن العربي المالكي وهو من أشهر كتب أحكام القرآن ومن أجودها، تناول فيه ما يُقارب ثمان مائة وست آيات من آيات الأحكام في أربعة مُجلدات، وابن العربي تُوفي سنة خمسمائة وثلاثة وأربعين هجرية.
أيضًا هناك كتاب "أحكام القرآن" للقاضي أو الكيا الهراسي الشافعي، وهو أيضًا كتاب من الكتب القيمة، وقد صرح في مقدمته وقال: "إنني صنفت هذا الكتاب لكي أستخرج الأدلة لمذهب الإمام الشافعي، فما كان الإمام الشافعي نص عليه في كتبه كـ "الأم" مثلًا أو "الرسالة" أو غيرها؛ فإنني أذكره، وما لم يكن فإنني أستخرج الأدلة له من القرآن الكريم" وهو كتاب قيم جدًا أيضًا على مذهب الشافعي.
ثم جاء القاضي أو الإمام القرطبي – رحمة الله عليه – صاحب كتاب "الجامع لأحكام القرآن" فجمع كل هذه الكتب وصنف كتابه الضخم "الجامع لأحكام القرآن" في عشرين مجلد، وهو يتناول كل آيات القرآن الكريم، وقال: "ما وجدت فيه حكمًا ذكرته ونصصت عليه، وما لم أجد فيه حكمًا ذكرت تأويله" يعني ذكرت تفسيره فقط.
نحن نُريد أن نُعرِّف – أيها الأخوة- المقصود بآيات الأحكام، لم أجد – أيها الأخوة – في كتابٍ من كتب آيات الأحكام عند المتقدمين تعريفًا للمقصود بآيات الأحكام اصطلاحًا، واستعرضت ما يُقارب عشرين كتاب من كتب آيات الأحكام المطبوعة والمخطوطة، ولم أجد أحدًا منهم نص على تعريفٍ للمقصود بآيات الأحكام، ولذلك اختلفت هذه الكتب من حيث عدد الأحكام أو عدد الآيات التي سُميت بآيات الأحكام.
ولذلك نحن نقول: إننا سوف نُعرف آيات الأحكام بتعريفين:
التعريف الأول: هي الآيات الدالة على أحكامٍ فقهيةٍ عملية نصًا أو استنباطًا.
هذا التعريف الأول هي الآيات الدالة على الأحكام الفقهية العملية نصًا أو استنباطًا.
طبعًا الأحكام جمع حكم، والمقصود بالحكم في هذه المحاضرات هو: الحكم الشرعي وليس الحكم العقلي ولا الحكم اللغوي، وإنما المقصود الحكم الشرعي، فالآيات التي تضمنت حكمًا فقهيًا عمليًا.
والمقصود بالأحكام الفقهية العملية : الأحكام التي تكلم عنها الفقهاء في كتب الفقه. كما يقولون: هي معرفة الأدلة التفصيلية للأحكام العملية، هذا هو الفقه، فكل آيةٍ اشتملت على حكم فقهي عملي، سواءً كان دلالتها على الحكم دلالة مباشرة أو دلالة نصية أو دلالة بالاستنباط -تكون دلالة خفية تستحق أنها تُستنبط أو تُستخرج- فهذه تُسمى آيات أحكام.
معظم أو كل آيات الأحكام أو كتب آيات الأحكام هي تعاملت مع الآيات التي تتوفر فيها هذه الصفة، ومنها كتابنا الذي معنا اليوم اللي هو كتاب "نيل المرام من تفسير آيات الأحكام" تعامل مع الآيات الفقهية العملية التي يترتب عليها أحكام عملية.
المعنى الأوسع للمقصود بآيات الأحكام هو أن نقول: هي الآيات التي تُبين الأحكام الشرعية، سواءً كانت أحكامًا فقهية، أو كانت أحكامًا اعتقادية، أو كانت أحكامًا أخلاقية وتربوية. فهذا المفهوم لآيات الأحكام أوسع من المفهوم السابق.
قد يكون ممن تعامل مع آيات الأحكام بهذا المفهوم هو الإمام القرطبي، حيث وسع دائرة مفهوم آيات الأحكام إلى أبعد مدى.
وهذا المعنى الثاني هو الذي نُؤيده، ولكن نحن عندما نتحدث عن التعريف الاصطلاحي لابد أن ننطلق من اصطلاح أهل الفن، فهم تعاملوا مع آيات الأحكام بالمعنى الأول، وهي الآيات الفقهية العملية التي تدل على الأحكام الفقهية العملية.
طيب هذا ما يتعلق بتعريف آيات الأحكام – أيها الأخوة -
نقول التعريف الأول: هي الآيات الدالة على الأحكام الفقهية العملية نصًا أو استنباطًا. نصًا يعني تكون دلالتها مباشرة، والاستنباط هو ما كان خفي ويستحق أو لابد في استخراجه من إعمال الذهن واستخدام التأمل والتفكير.
التعريف الثاني: هي الآيات القرآنية المشتملة على الأحكام الشرعية، سواءً كانت أحكامًا فقهية عملية، أو أحكامًا اعتقادية، أو أحكامًا أخلاقية وتربوية هذه مسألة.
المسألة الثانية: اختلاف العلماء – أيها الأخوة – في عدد آيات الأحكام هو مبني على هذه التعريفات، فالذين يرون أن آيات الأحكام هي الأحكام الفقهية العملية يرون أنها محدودة، ويمكن حدها بعدد محدد، والذين يرون أن آيات الأحكام هي أوسع؛ يرون أنها غير مُقيدة أو غير
مُحددة بعدد، لأن استخراج الآيات أو استخراج الأحكام منها مرتبط بالاستنباط، والاستنباط مرتبط بالعقل، وهذا فضلٌ من الله سبحانه وتعالى يُؤتيه من يشاء، فقد يستنبط بعضهم من الآية الواحدة حكمين، ويستنبط غيره عشرين حكمًا، ويستنبط غيره ثلاثين حكمًا.
ولذلك كان من قصة تأليف الرازي لكتابه "التفسير الكبير" أنه قال: إن سورة الفاتحة يُمكن أن يستنبط منها عشرة آلاف حكم، فقال أحدهم: أنت تُبالغ، فتحداه وصنف كتابه "التفسير الكبير" وفسّر الفاتحة في مُجلد استخرج منها ما يقارب ما أدري والله هل وصل عشرة آلاف أو دونها بقليل فهذه مسألة.
مسألة العدد -أيها الإخوة- بعضهم قال: خمسمائة آية كما قال مُقاتل بن سليمان، وبعضهم جعلها مئتين آية كما فعل صاحب كتابنا اليوم اللي هو الشيخ صديق حسن خان القنوجي، وبعضهم أوصلها إلى ثمان مائة آية كما في كتاب "أحكام القرآن" لابن العربي، فالمسألة تتراوح بين هذا وهذا.
وأنقل لكم – أيها الأخوة – كلامًا جميلًا هنا للطوفي الحنبلي فيما يتعلق بعدد الآيات، يقول الطوفي في كتابه "شرح مختصر الروضة" قال: "والصحيح أن هذا التقدير غير معتبر- يعني تحديد عدد آيات الأحكام بعدد محدد - وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصر، فإن أحكام الشرع كما تُستنبط من الأوامر والنواهي، كذلك تُستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فقلّ آية في القرآن الكريم إلا ويُستنبط منها شيءٌ من الأحكام، وكأن هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قُصد منه بيان الأحكام دون ما اسُتفيدت منه ولم يُقصد به بيانها". يعني يقصد يقصدون الآيات التي فيها دلالة مباشرة وصريحة على الأحكام الفقهية العملية. ومثله أيضًا قال ذلك القرافي وغيرهم.
والزركشي – رحمه الله – في كتابه "البرهان" قسّمها تقسيمًا جيدًا، قسم آيات الأحكام إلى صريحة وغير صريحة فقال: هما قسمان: أحدهما : ما صُرح به في الأحكام وهو كثير وسورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام مُشتملة على كثيرٍ من ذلك.
والثاني: ما يُؤخذ بطريق الاستنباط ، ثم هو على قسمين:
/ ما يُستنبط من غير ضميمة آيةٍ إلى أخرى، كاستنباط الشافعي -مثلًا- أو غيره في قوله: { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } [المسد:4] على صحة أنكحة الكفار.
/ وما يُستنبط مع ضميمة آيةٍ أخرى كاستنباط عليٍ وابن عباس أقل مدة الحمل من الآيتين – كما تعلمون - { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }[البقرة:233]، مع قوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، طيب.
هذا – أيها الأخوة – ما يمكن أن نُقدم به باختصار شديد بين يدي هذه الدورة العلمية حول تعريف آيات الأحكام والاختلاف في عددها، وأهم الكتب التي صُنفت في آيات الأحكام.
---------------------------------------------------------------------
شكر الله لمن قام بتفريغ الدرس وأجزل له المثوبة وقد نقلته (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق