الثلاثاء، 21 فبراير 2012

تفسير سورة النساء من أولها حتى (28) من دورة الأترجة

د. محمد بن عبد العزيز الخضيري




لحفظ المادة الصوتية :



المجلس الأول:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له। وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا।
أما بعد، ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلًا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلًا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وارزقنا علما ينفعنا، اللهم اجعلنا جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصته وأُذكِّر الإخوة بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده"[1].
اليوم معنا نصف سورة النساء وسنأخذها في تفسير إجمالي لأن الوقت المخصص لمعرفة وبيان آيات هذه السورة أقل مما ينبغي ولكن كما يقولون يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ، ونحن نشير إشارات ونذكّر بأمور.
هذا المجلس إن شاء الله سيتكون من ثلاثة فصول كل فصل أربعين دقيقة فتحملونا قليلًا في هذه الفصول الثلاثة وبعد العصر فصلان كل فصل أربعون دقيقة وبعد العشاء بإذن الله تعالى سيكون هناك فصلان كل فصل أربعون دقيقة وبهذا ننتهي إن شاء الله تعالى بيسر وتمام وكمال وإحسان من نصف سورة النساء.
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿١﴾ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴿٢﴾ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴿٣﴾ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴿٤﴾}[2]
هذه السورة سورة عظيمة أنزلها الله ـ عز وجل ـ ليبين فيها أمورًا كثيرة من أعظمها وأجلِّها وأرفعها المقصود الأعظم من هذه السورة "حفظ حقوق الضعفاء" ولذلك نراها تذكر بحقوق اليتامى وحقوق النساء وحقوق السفهاء وقسمة المواريث حفظًا لحق الضعفاء لأن العرب كانوا يقسمون المال على الأقوياء ويدعون الضعفاء فأنزل الله ـ عز وجل ـ هذه السورة بما فيها من القسمة والتأكيد على حقوق الضعفاء. إذن مقصود هذه السورة الأعظم هو حفظ حقوق الضعفاء وسيتبين لنا ذلك بشكل جليّ عندما نمر على كثير من آياتها.
هذه السورة نزلت في المدينة، قالت عائشةـ رضي الله تعالى عنها ـ "ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله " تعني قد بنى بها، يعني قد دخل بها عليه الصلاة والسلام.
فضل السورة: أما هذه السورة من حيث الفضل فلم يرد في فضلها شيء خاص لكن قال ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيما رواه الحاكم عنه في إسناده وصححه قال "إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا وما فيها " :
(إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) و(إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا (31)) و(إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء (48)) وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64)) وقوله
(وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ
يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110))
، هذا ما روي عن ابن مسعود. أما ابن عباس فروي عنه ـ رضي الله تعالى ـ عنه أنه قال مثل قول ابن مسعود لكنه زاد ثلاث آيات أُخر، قال ابن عباس: "ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت أولاهنّ (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)) والثانية (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27)) والثالثة (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)) ثم ذكر الخمس آيات التي ذكرت قبلًا في حديث ابن مسعود الآنف ذكره.
نبدأ هذه السورة أحبتي الكرام بقول الله ـ عز وجل ـ في الآية الأولى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)
قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هذه السورة افتتحت بهذه الافتتاحية لبيان أن المعاني التي فيها تتضمن جميع الناس ويؤمر بها كل الخلق وليست خاصة بأحد دون أحد، ففيها الوصية بتقوى الله لجميع الخلق وفيها الأمر برحمة الضعفاء لجميع الخلق وغير ذلك .
ولم يفتتح في القرآن سورة بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) إلا سورة النساء وسورة الحج وهذه في نصف القرآن الأول وتلك في نصف القرآن الثاني، وهذه في بداية الخلق وتلك في بداية الآخرة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) .
ثم قال (اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهي نفس آدم فجميع البشر مخلوقون من آدم حتى حواء، قال - جل وعلا - (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) حواء خلقت من آدم وقد بيّن ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال " إن المرأة خُلِقت من ضِلَع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها وإن استمعت بها استمعت بها على عوج" [3] فبيّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن المرأة خلقت من ضلع أي من أضلاع آدم وهذا معنى عظيم ولطيف فهذا الضلع ينضم إلى الإنسان والإنسان أيضًا يحتويه فبينهما من اللُحمة والرحمة ما يُستشفّ من هذا المعنى الجميل.
قال (وَخَلَقَ مِنْهَا ) قال (منها) ليؤكد حق أحدهما على الآخر وليحننه على صاحبه.
وقال (زوجها) ولم يقل امرأة ليبين أن بينهما من التزاوج والتناسب ما يدفع إلى أن يرحم أحدهما الآخر ويحفظ أحدهما حق الآخر.
/قال الله (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) قال العلماء قدّم الرجال لكونهم هم المطالَبون بأن يؤدوا هذه الحقوق بشكل أكبر وقدّمهم أيضًأ لأنهم أكمل ولأن لهم القوامة ، ووصف بالكثرة لبيان أن كثرة الرجال نعمة فإذا كثرت النساء صار من البلاء ما الله به عليم! ولذلك في آخر الزمان يكون للخمسين امرأة قيّم واحد [4] وهذا من علامات فساد الزمان وقرب نهاية العالم .
/ قال (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) في الأمر الأول لما كان أمرًا لجميع الناس قال (اتَّقُواْ رَبَّكُمُ) ربكم الذي رباكم وأنعم عليكم فذكّر بالربوبية، وفي الأمر الثاني لما كان فيه أوامر خاصة وفيها تعبد لله ذكّر بالألوهية. والربوبية فيها تحبب والألوهية فيها تخويف للناس ألا يدعوا أوامر الله وأن يحذروا من أن يخالفوا أمره . قال (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) تساءلون به يعني يسأل بعضكم بعضًا به فيقولون نسألك بالله ، فأنتم تعظمون الله إذا اتقوه في كل شيء حتى في حقوق هؤلاء الضعفاء.
(وَالأَرْحَامَ) أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها وهذا على قراءتنا التي هي قراءة النصب (والأرحامَ)। وأما القرآءة الثانية قراءة حمزة (والأرحامِ) أي وتتساءلون بالأرحام ، فإنه من عادة العرب أن يقولوا نسألك بالله وبالرحم، فيسألون بالرحم لشدة تعظيمهم حقها أو لمعرفتهم بعظم حقها عند الله، ولكنهم مع ذلك كانوا يفرطون فيها فيأكلون أموال النساء ويأكلون أموال اليتامى ظلمًا وعدوانًا .
/ قال الله (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) هذا تخويف من الله لمن سولت له نفسه أن يأكل أموال الأيتام وألا يفي للضعفاء بحقوقهم .
ثم بدأ الله بالضعيف الأول وهو اليتيم فقال (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) ونسبها إليهم ليبين أنها ملك لهم وليس للأولياء منها شيء إنما حقهم فيها هو أن يتولوها بصدق وأن يقوموا فيها بأمانة.
/ قال (وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) لا تتبدلوا الخبيث : تستبدلوا الخبيث من أموالكم بالطيب من أموالهم، فإذا كان عندك شاة مهزولة وعند اليتيم الذي أنت وليّه شاة طيبة لا تبدل هذه بهذه فصار الذي عندك خبيث والذين عنده طيب ، أو يكون العكس لا تستبدلوا الخبيث من أموالهم لأن أموالهم بالنسبة لك خبيثة لا يحل لك منها شيء بالطيب الذي أباحه الله لك وأحلّه لك ورزقك إياه من مال الله الذي يرزقه عباده .
/ قال الله (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم وهذا فيه تشنيع حيث أن الله رزقكم أموالًا ثم بعد ذلك أبيتم أن تقتصروا على أموالكم ثم اعتديتم على أموال اليتامى فضممتموها إلى أموالكم ، ولا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، فـ "إلى" هنا دلت على التضمين المعروف في لغة العرب معناها لا تأكلوا ضامين أموالهم إلى أموالكم .
(إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) أي إثمًا عظيمًا وهذا يدل على أن الآثام نوعان هناك آثام عظيمة هناك السبع الموبقات وهي الكبائر وهناك ما هو دونها وقد دلت هذه السورة على ذلك كما سيأتينا
(إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا (31)).
قال الله ـ عز وجل ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) كثير من الناس لا يدرون ما صلة الخوف من القسط في اليتامى بالزواج باثنتين أو ثلاث أو أربع لكن إذا قرأنا سبب النزول عرفنا القصة .
/ عن عروة ابن الزبير أنه سأل عائشة عن هذه الآية (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى) فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها" [5]عنده ابنة عمه يتيمة عنده أو ابنة خاله يتيمة عنده فيعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها لكنه لا يرغب في أن يعطيها كما يعطي المرأة البعيدة عنه لأنه هو وليها، فإذا كانت المرأة البعيدة تعطى أربعين ألفًا فهو يعطيها مثلًا عشرين ألفًا لأنه هو الذي رباها، لا، إن خفت أن لا تقسط في اليتامى فابعد عن هذه اليتيمة وتزوج من سائر النساء مثنى وثلاث ورباع، هذا هو معنى الآية। قال "فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثلما يعطيها غيره فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهن أعلى سنّتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن" .
/ قال الله ـ عز وجل ـ (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) "مَا طَابَ" : فيه الدلالة على أن الإنسان إذا أراد أن يتزوج عليه أن يتزوج بالطيب خَلْقًا وخُلُقًا ويحرص على البحث عن ذلك ولذلك أمر الإنسان أن ينظر إلى المرأة التي ينكحها لأجل أن تعجبه فتطيب نفسه بها ويرتاح إليها ، (مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) أي : اثنتين اثنتين أو ثلاثًا ثلاثًا أو أربعًا أربعًا ولا يحل لإنسان بإجماع المسلمين على أن يزيد على أربعة.
/ قال الله ـ عز وجل ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ) خشيتم ألا تعدلوا لكون مالكم قليلًا أو لكون عاطفتكم شديدة تخشون من الجَوْر أو لكونكم ضعفاء في أبدانكم أو نحو ذلك من الأسباب التي توقع الإنسان في عدم العدل (فَوَاحِدَةً) يعني اقتصروا على واحدة (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي عليكم بملك اليمين وملك اليمين يعني الأَمَة التي يملكها الإنسان ولا يشاركه أحد فيها لأن الأَمَة متى ما كانت مشتركة بين اثنين أو كانت لغيرك فلا يحل لك أن تتسرّى بها.
قال الله ـ عز وجل ـ (ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) أدنى بمعنى أقرب، ذلك أقرب إذا اقتصرتم على الواحدة أو تسريّتم بملك اليمين أقرب إلى ألاّ تجوروا ولا تظلموا وهذه مسألة ينبغي لنا أن ننتبه لها ، وروي عن الشافعي أنه قال "(ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) أي : أن لا يكثر عيالكم" وهذا ضعيف لأنه لو كان المراد عدم كثرة العيال لم يرشد إلى ملك اليمين لأنه قال (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) من دون عدد فلو كان عندك ألف أمة لك أن تتسرى بها فلو تسرّيت بألف وجئنا بألف إنسان صار كثرة العيال موجودة فما صار آخر الآية يتناسب مع أولها، ولذلك أدنى ألا تعولوا يعني ألا تجوروا .
(وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) الآن جاء بعد أن ذكر حق اليتامى عرّج بعده على النكاح من سائر النساء ثم ذكر حق النساء في الصداق، قال (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ) أي مهورهن. وسُمِيَ الصداق صداقًا لأن الرجل يعبِّر عن صدقه في طلب المرأة فسُميَ صداقًا لأجل ذلك وقد جاء اسمه في هذه السورة : صداق ونحلة وطول وأجر أربعة أسماء جاءت في القرآن للمهور.
قال (نِحلة) أي عن طيب نفس ، فينبغي لك إذا دفعت المهر للمرأة أن تدفعه بطيب نفس وهذا يقتضي أن لا تؤذيها في تسليمها إياه فتعطيها إياه بصدق وبطيب نفس لأنه حق لها من عند الله ـ عز وجل ـ وألا تمنّ عليها بعد أن تعطيها "أنا دفعت عليك أربعين، خمسين، مائة ألف!" وتبدأ كل يوم تسمعها هذا الموال هذا ما يليق بك ويخالف قوله (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ، قال (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا) هذا يدل على أنه لا يحل للإنسان من مهر امرأته الذي دفعه لها إلا ما طابت نفسها به فإذا طابت نفسها بشيء حلّ لك وإلا فهو حرام عليك ، فبعض الناس عنده المهر المؤخر يعني يقدّم بعض المهر ويكون بعضه مؤجلًا فهو يحرص على أن يضايق المرأة ويضغط عليها من أجل أن تلغي هذا المؤخر وأن تسقطه عنه، نقول : لا يسقط عنك إلا إذا كان من المرأة بطيب نفس منها. وأموال الناس عموما لا تحل لنا إلا بطيب نفس قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " [6] .
قال (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) أي إذا طابت أنفسهن بشيء من المال فكلوه أنتم هنيئًا مريئًا، معنى هنيئا حين الأكل ومريئًا أي في عاقبته فإنه لا يضركم منه شيء بإذن الله ، قال الله (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ) أي لا تعطوا السفيه المال، وأموالكم هنا هي أموال السفهاء لكنه نسبها إلى الأولياء لأنهم هم الذين يتصرفون فيها فقال (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) ولا يمنع أيضًا أن يكون المعنى لا تؤتوا السفيه أموالكم أنتم لأن السفهاء لا يحسنون التصرف فيها فيبذِّرونها ويضعونها في غير مواضعها ولذلك قال كثير من السلف أن المقصود بالسفهاء هنا همّ النساء لأن المرأة في الغالب لا تحسن التصرف في المال تحسن تدبير البيت وتربية الأولاد لكن لم يخلقها الله لكي تتصرف في المال ، لذلك وضع المال في يدها في الغالب يؤول إلى التلف والفساد، وليس هذا لكل النساء ولكنه موجو في كثير من النساء وهذا معروف بالتجربة والواقع .
قال (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء) السفيه هو : من لا يحسن التصرف في المال أو من لا يحسن التصرف أصلًأ وهو نوعان : سفيه لصغره وسفيه لضعف عقله ومنه المعتوه والمجنون وغيرهما وهؤلاء السفهاء يجب الحجر عليهم وهذا الحجر لحظ أنفسهم يعني من أجل أن يحفظ أموالهم ، وهناك حجر لحظ الغير وهو أن الإنسان إذا غلبت ديونه موجوداته وممتلكاته فعند ذلك نحجر عليه من أجل أن نحفظ حقوق الناس فلا يتصرف في ماله تصرفًا يضر بغرمائه.
قال الله (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) هذا فيه فضل المال وأن الله قد جعل فيه خيرًا للناس وهو أنه تقوم به حوائجهم ويقيمون به أمور دنياهم ويستغنون به عن الناس ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح". وهذا يدلّ على أن الإنسان ينبغي له أن يكتسب المال من حلّه وألا يضعه إلا في محله وأن يكون رشيدًا في التصرف في المال فلا يبذره ولا يفسد فيه قال الله (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا )[7] ،(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) هذه من دلالات القرآن الجميلة! قال ارزقوهم فيها ولم يقل ارزقوهم منها ليبين أن على الأولياء أن يتّجروا بهذه الأموال فيكون الرزق في هذه الأموال لا منها لأنه لو كان الرزق منها لنقصت حتى تفنى فإذا كان عندك مال لسفيه أو يتيم أوضعيف أو مجنون فينبغي لك أن تتّجربه في المواطن الآمنة حتى تعطيه من ريع ذلك المال فلا ينفذ عليه ولا يحتاج إلى آخرين ولذلك قال (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) ، وسيأتينا بعد قليل (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ) إذا جئنا لنقسم مال الميت فإن الورثة يأخذون حقهم، إذا حضر معهم يتيم أو مسكين أو فقير فإننا نعطيه من هذا المال هذا العطاء ينقص من المال إذا كنا سنقسم خمسة ملايين ريال نعطيه ألفين ثلاثة ألاف، أربعة آلآف من المال الذي هو خمسة ملايين، هذا هو الفرق بين فارزقوهم فيها وارزقوهم منه.
/ قال (وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) هم سيطالبون بأموالهم، أعطونا فلوسنا، نريد مالًا فيقال لهم إن شاء الله ستأخذون هذا المال إذا كثُر وصرتم قادرين وتزوجتم وكلمات طيبة حتى لا يجد في نفسه حرجًا وضيقًا، وأيضًأ هذا فيه بيان أهمية القول المعروف وسيأتينا أن عملية اللسان هذه هي أعظم عملية تدار بها المعاملات مع الناس القول المعروف (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا )[8] ، سيأتينا بعد قليل عدد من الآيات تدل على القول المعروف والقول السديد وغير ذلك .
/ قال (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ) لما ذكر أن أموال السفهاء تحفظ بيّن متى تسلم لهم فقال
لا يسلَّم المال لليتيم إلا بشرطين:
الأول : إذا بلغوا النكاح بلغوا السن الذي يصلحون فيه للنكاح وهو سن البلوغ ،هو أن يبلغ الخامسة عشر أو أن يُنبِت أو أن يُنزِل أو المرأة إذا حاضت
(إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ).
الشرط الثاني : (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا) علمتم منهم رشدًا في التصرف في أموالهم، كيف نأنس منه الرُشد؟ نختبره ، فيـأتي الوليّ ويقول يا فلان هذه عشرون ريالًا اشترِ لنا بها فإذا اشترى الشيء الرخيص بثمن غالٍ عرفنا أنه لم يحسن التصرف وإذا اشترى الشيء بثمنه جرّبناه في مال أكثر فإن اشترى كذلك وعرف كيف يأخذ السلعة ويشتري الطيب دون الخبيث فعند ذلك هو مستحق لأن يُسلّم إليه ماله ، قال الله (فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) والآيات من أولها إلى الآن تؤكد أن الأموال أموال اليتامى، هي ملك لهم، ولا يحق لكم منها شيء وأن ما أخذتموه منها فهو حرام عليكم بل هو نار في بطونكم.
قال (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا) أي على وجه الإسراف، لا تأكلوها على وجه التبذير، يعني بدل أن تشتري له ولك طعام غداء بعشرين ريالًا تشتري بمائة ريال أو تذهب به إلى مطعم فاخر تدفع مائتي ريال! لا تأكلوها على وجه الإسراف ، ولا تأكلوها أيضًا بدارًا يعني مبادرين أن يصلوا إلى سن يرشدون فيه فلا يجدوا مالًا، تبادرون في إنهاء المال، (وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ) أي قبل أن يكبروا ، (ومن كان غنيًا) من الأولياء (فليستعفف ) أن يأخذ من أموال اليتامى شيئًا أجرة له على حفظ مال اليتيم وعلى الإتجار فيه ، (وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) من كان فقيرًا وعنده مال يتيم فليأكل من هذا المال بالمعروف يعني يأكل بما تعورف عليه ، كم هي أجرة من يعمل على مال يتيم ، وقدر ذلك المال ، وهذا يقدره في العادة أهل الخبرة يقولون الأجرة في هذا كذا وكذا فلك أن تأخذ هذا المال ولا تزيد عليه .
/ قال (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ) لئلا يحتجوا عليكم فيما بعد فيقولوا نحن لم نستلم منكم أموالًا . (وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا) وهذا تهديد لليتيم الذي رشد وفي الوقت ذاته تهديد للولي أن يخون في هذه الأمانة .
قال الله مبينا مقدمة في آيات المواريث التي لم يكن العرب يعرفونها ، كانوا يقسمون للرجال الأقوياء ويدعون الأطفال الصغار والنساء لأنهم لا يقاتلون ولا يذودون عن العشيرة وليس بيدهم أو عليهم مسؤوليات فيأكلون المال عنهم فبيّن الله في هذه الآية أن للنساء حقًا في تركة مورّثيهم قال ـ عز وجل ـ (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) هذا ليبين أن هذا من شرع الله وأنه نصيب قد جعله الله لهن فلا يحل لأحد أن يحرمهن حقهن، قال (وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) يعني ممكن واحد يقول الذي تركه هذا الرجل عشرة آلآف بالكاد تكفيني أنا أصرف على من عندي!، قال (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) أكد على أنهن لهن حق في الكثير والقليل ولو مات عن ريال واحد فإن للمرأة ولهذا اليتيم حق فيه ، قال الله ـ عز وجل ـ (نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) إما معناها مقدّرًا لا يجوز لأحد أن يتعداه ، وإما أن يكون معناها نصيبًا واجبًا لا يجوز لأحد أن يقصّر فيه والآية تحتمل المعنيين .
/ قال الله (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) إذا حضر القسمة - قسمة التركة - قرابتك أو يتامى ، واليتيم هو : من مات أبوه قبل أن يبلغ (والمساكين) وهم الفقراء ، وإذا أُطلقت كلمة المساكين في القرآن دلت على المساكين والفقراء وكذلك إذا أُطلقت كلمة الفقير في القرآن دلت على الفقير والمسكين ، وإذا اجتمعا دل أحدهما على معنى والآخر على معنى آخر فالفقير أشد بؤسًا من المسكين . قال إذا حضر هؤلاء القسمة (فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ) تطييبًا لأنفسهم يرون أموالًا تقسم هكذا من دون جهد من أصحابها ولا عناء منهم، ما الحل؟ ينبغي لنا أن ندفع ما يقع في أنفسهم من الشفاحة -كما يسميها العامة عندنا- لأنهم تتشوف نفوسهم إلى هذا المال ويرغبون به وينظرون إلى الناس يقتسمون مالًا وليس لهم منه شيء! فيقول الله ـ عز وجل ـ أعطوهم منه إرضخوا لهم. قال بعض العلماء ومنهم الشيخ السعدي في تفسيره "وهذه قاعدة في كل من حضر قسمة ليس له فيها شيء أن يعطى منها شيئًا تطييبًا لأنفسهم" بل وأقول حتى مع البهائم إذا كنت أنت وأولادك تأكلون فجاءت قطة ينبغي لك أن لا تدعها، خذ قطعة من اللحم وارمها لها فإن هذا يدفع ما في نفسها وهذه الحيوانات لها أنفس خبيثة كما أن الناس لهم أنفس خبيثة فتدرأ هذه النفس الخبيثة بهذه العطيّة القليلة .
قال الله (فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ) وقوله (أُوْلُواْ الْقُرْبَى) يعني القرابة غير الوارثين بدليل قوله (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) لما قال القسمة دل على أن هناك من يُقسم له وهناك من لا يُقسم له وهم هؤلاء القرابة الذين لا يرثون ولا يقسم لهم. قال (فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) يعني وأنت تقسم لهم قل لهم ربي يرزقكم، نحضر إن شاء الله مجلسًا ترزقون فيه خيرًا مما رُزقنا فتطيب أنفسهم بهذا الكلام ويشعرون بأن الناس يتلطفون معهم ويتحننون عليهم.
/ قال الله - عز وجل - (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ) ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا لخافوا عليهم، لو تركوا ذرية ضعافًا لخافوا، هذا من حذف اللام في جواب (لو)। فالمعنى لو تركوا ذرية ضعافًا لخافوا عليهم (فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا) قال بعض العلماء هذه الآية في الوصية يعني إذا أراد أحدكم أن يوصي فليتق الله ـ عز وجل ـ في الوصية فلا يجور فيها يعطي أبناء هذه المرأة أو يوصي لأبناء هذه المرأة ويدع أبناء هذه المرأة أو يوصي لابنه فلان أو ابنته فلانة ويدع فلان أو فلانة، إحذر من ذلك لأن هذا مما يخالف تقوى الله ـ عز وجل ـ والقول السديد (فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا)، والقول الثاني - وعليه أكثر المفسرين - أن من تولّى مال يتيم فليتق الله في مال اليتيم كما يحب أن يُتقى الله في أيتامه هو إذا مات، تذكر أنه سيكون لك أيتام وضعفاء من بعدك فماذا تريد أن يُصنع بهم؟ ماذا تتوقع أوماذا ترغب أن يصنع بهم؟ إذا كنت ترغب أن يُعدل معهم ويُرحم ويُلطف بهم ولا يؤكل شيء من أموالهم ماذا إذن أنت اصنع في أموال اليتامى ما تحب أن يصنع في أيتامك من بعدك (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا) فليتقوا الله في أموال اليتامى وليقولوا قولا سديدا .
/ قال الله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) هنا ختم الله الحديث عن أموال اليتيم بالذات بهذا الوعيد الشديد (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ) وذكر الأكل دون غيره من أنواع التصرفات لأنه الأغلب وليس معناه أن من لم يأكل، بنى أو اكتسى من مال اليتيم أنه غير داخل في الآية وإنما ذكر ذلك لأنه هو الأغلب ، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) وهذا يدل على أن
الأكل من مال اليتيم نوعان :
1ـ نوع بحق.
2ـ ونوع بظلم.
فالذي بحق كما قال الله (وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ومثل أن تُدخِل مال اليتيم في مالك من أجل أن تتجر ومن أجل أن لا تكثر النفقة على مال اليتيم وتشتد. فمن أكل مال اليتيم ظلما استحق هذا الوعيد (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) قال العلماء نكّر كلمة نارًا ولم يقل النار ليدل على التهويل والتعظيم والتفظيع ، (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) أي سيجازون بالسعير يوم القيامة ، كلمة (وَسَيَصْلَوْنَ) أي يدخلون نار جهنم فيشوون بها يصلون بها، يصلون تدل على المعنيين الإدخال والشيّ يعني سيُدخلون نار جهنم ويُشوون بها سعيرا وهذه أشد آية في أمر اليتامى وقد جاء في الحديث اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها أكل مال اليتامى نسأل الله العافية والسلامة .
وبهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية المجاس الأول من مجالس التفسير في هذا اليوم نسال الله أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المجلس الثاني:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿١١﴾}
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فهذا هو المجلس الثاني من مجالس التفسير في سورة النساء نسأل الله ـ عز وجل ـ أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
وصلنا إلى قول الله (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) بيّنا في المجلس الأول أن الله بين أن للنساء حقًا في الميراث وكانت تلك هي الآية الإجمالية للدخول في هذه التفاصيل تفاصيل قسمة المواريث وهنا بدأ بالتفصيل وهذا يدلنا على جمال القرآن وعظمته حيث يذكر الأمر مجملًا ثم يأتي به مفصلًا لتتهيأ النفوس لقبول تلك التفاصيل.
قال الله ـ عز وجل ـ (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ولاحظوا كيف بدأ بالوصية، هو يوصينا بأولادنا أي هو أرحم منا بأولادنا !! وكونه - سبحانه وتعالى - يتولى ذلك ليبين لنا أنه رحيم بعباده كلهم وأن هذه التشريعات منه جاءت على وجه الرحمة لا يراد منها ظلم أحد ولا بخسه حقه (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) والأولاد يشمل جميع الأولاد لكن ما من عام في القرآن في الغالب إلا وهو مخصوص، قلّ أن تجد أمرًا عامًا إلا وهو مخصوص (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام) [9] هل هو على كل الناس؟ طبعًا (عليكم) يعني على القادرين ممن يستطيعون الصيام ، وهنا يوصيكم الله في أولادكم يخرج به الولد القاتل ويخرج به الولد الكافر - نسأل الله العافية والسلامة - ويخرج به الولد الرقيق لأنه لا يملك. إذن ما من عام إلا وهو مخصوص حتى هذه القاعدة وهي "ما من عام إلا وهو مخصوص" هي أيضًا مخصوصة لقول الله ـ عز وجل ـ (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فليس هناك شيء يخصصه (وكان الله بكل شيء عليما) لا مخصص لهذا العموم في سعة الله .
قال الله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي للإبن مثل حظ البنتين، فإن قلت لِمَ لم يقل للذكر نصف حظ الأنثى؟ وتكون أخف من قولك (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)؟
لأمور منها : كونه يقول (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الحظ زيادة وفضل والنصف نقص، لو قال للذكر نصف ما للأنثى فيه نقص، أما (مثل حظ) ففيه زيادة لأن البنت كانت في السابق لا تنال شيئًا فجاء الإسلام وأعطاها هذا الحظ العظيم وحفظه لها وقدّره أيضًا بحيث لا يدع مجالًا لأن تنقص منه ولا أيضًا أن تزاد عليه ، وأيضًا هو ابتعاد واحتراس عن ألفاظ مكروهة لو قال للأنثى نصف الذكر .
قال الله (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) ذكر الآن نصيب البنتين إذا لم يكن معهما ابن فقال لهما ولما هو أكثر منهما ثلاث وأربع وست عشر من البنات الثلثان من مال أبيهم أو من مال أمهم (فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) فإن قلت لِم لَم يقل فإن كن اثنتين فلهن ثلثا ما ترك؟ قلنا :
أولًا ليبين أن الفرض وهو الثلثان لا يزيد بزيادتهن
وثانيًا لأن سبب النزول يدل على دخول البنتين، نزلت في ابنتي سعد بن الربيع لما جاء عمهما وأخذ مالهما فجاءت امرأة سعد تشتكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت إن عمهما قد أخذ مالهما فأنزل الله هذه الآية فدخلت فيه بنتا سعد فدل ذلك على أن البنتين داخلتان.
الثالث أن الله ذكر في آخر السورة (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) فإذا كان للأختين الثلثان فكذلك يكون للبنتين .
قال الله (فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) هذا ميراث البنتين وما فوق البنتين. قال (وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أما الواحدة إذا لم يكن معها أخوها وهو الإبن لها النصف. وقال (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ) جاء بعد ذلك إلى ميراث الأبوين فبيّن أن لكل واحد من الأبوين الأب والأم السدس مما ترك إن كان له ولد ، الأم لها السدس إذا وجد الإبن ولها السدس وإن وجدت البنت ، والأب له السدس ليس له غيره إن وجد الإبن وله السدس إذا كان مع البنت ويزيد إذا كان عصب ، إذا لم يكن هناك أحد وفاض في المال شيء رجع إليه لأنه أولى رجل بذلك ، إذا ميراث الأبوين مع وجود الأبناء هو السدس لا غير إلا الأب مع البنت فله السدس إلا إن زاد شيء فإنه يرثه بالتعصيب زيادة على الفرض .
قال الله (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ) أي إن لم يكن للميت ولد والميت رجل أو امرأة وورثه أبواه ففي هذه الحالة لأمه الثلث فصار ميراث الأم مع عدم وجود الولد الثلث وصار الأب له الضعفان في هذه الصورة، وهنا تأتي مسألة العمريتان وهي أن يموت زوج عن زوجة وأم وأب فهنا يقول العلماء تأخذ الزوجة حقها وهو الربع وما تبقى يقسم بين الأب والأم، للأم ثلث الباقي وللأب ما تبقى فيكون للأب ضعف ما للأم تمامًا كما حكم القرآن وكأن الزوجة هذه غير موجودة. وكذلك لو ماتت امرأة عن زوج وأم وأب فللزوج النصف والباقي يقسم كالتالي:
للأم ثلث ما تبقى وللأب الباقي .
قال الله (فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ) إذا الأم في الأصل لها الثلث إلا إن وجد ابن أو بنت للمتوفى. أو وجد للمتوفى إخوة أيًّا كانوا، إخوة أشقاء أو إخوة لأب أو إخوة لأم ففي هذه الحالة ليس للأم إلا السدس. وقوله (إخوة) ليبين أن المراد إثنان فأكثر، إخوة جمع يراد به الاثنان فأكثر، أما إن كان أخًا واحدًا فإنه لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس.
قال الله - عز وجل - (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أو دين) هذه القسمة لأولادكم وآبائكم بعد أن تنتهوا من شيئين: قضاء الديون التي على الميت وأيضًا العمل بالوصية التي وصى بها الميت وهي من ثلث ماله يعني الثلث فأقل بحسب ما أوصى به ، أما ما زاد على الثلث فليس حقًا للميت وإنما هو حق للورثة إن أذنوا فلهم ذلك وإن لم يأذنوا فالمال مالهم . وهنا يأتي السؤال: أيهما أهم وأولى بالتقديم الدَيْن أو الوصية ؟ الدَيْن، إذن فلماذا قدّم الوصية ؟ يأتي الجواب وهو : أن الوصية قُدِّمت لأن الناس يهملونها فراعى الله حقها وقدّمها ، الوصية أحيانًا لا تجد أحد يطالب بها أما الدَيْن فله من يطالب به . إفترض أنه وصى لهذا المسجد ببيت هل سيأتي المسجد ويطالب بالبيت؟! ما يطالب ، فالله قدّم حق الضعيف وقلنا هذه سورة الضعفاء والوصية أضعف من الدين فقّدم حق الوصية لأنها أضعف من الدين ، فالدين له من يطالب به والوصية في الغالب لا مطالب بها وأكثر الوصايا لا تنفذ واسألوا القضاة عن ذلك .
قال (آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قوله آباؤكم وأبناؤكم هذه الآية هي في بيان ميراث الأبناء والآباء التي يسمون الأصول أصولك وفروعك من ينتجون منك، هذه الآية في بيان ميراث الآباء والأبناء. (لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) كان العرب يورثون بناء على المنفعة، من هو الذي يكسب الرزق، من هو الذي يدافع عن العشيرة، فالله يقول لا تدرون أيها الناس من هو الأقرب نفعًا إذن فاستسلموا لوصية الله وخذوا بها وإياكم أن تعرضوا عنها ، (فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا) علمه مقرون بالحكمة وحكمته مقرونة بالعلم لأننا نجد من الخلق من يكون حكيمًا لكن ما عنده علم ونجد من الخلق من يكون عليمًا لكن ما عنده حكمة والله حكمته مقرونة بالعلم وعلمه مقرون بالحكمة.
ثم انتقل بعد ذلك إلى إرث الحواشي ليسوا أصولًا ولا فروعًا وإنما هم يحيطون بالإنسان وهم الأزواج والإخوة وهذا ميراثهم في هذه الآية قال (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) أنتم أيها الأزواج لكم نصف ما ترك أزواجكم ، وسمى المرأة زوجة ليبين أنها مناسبة للإنسان ولذلك على الإنسان أن يعرف حقها ويرحمها ويلطف بها، ولم يقل ما ترك نساؤكم .
قال (إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ) إذا لم يكن للزوجة ولد فللزوج نصف ما تركت (فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) ما معنى ولد؟ كثير من الناس يفسرون الولد بالإبن، لا، الولد في لغة العرب وفي القرآن للمولود ذكرًا كان أو أنثى ، يعني إن لم يكن لهن أولاد لا أبناء ولا بنات منك أو من غيرك، قبلك أو بعدك المقصود إن لم يكن لهن ولد فلكم الربع ما تركن أي حقكم الربع مما تركت المرأة إذا كان لها ولد سواءً ابنًا أو بنتًا ، قال (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أو دين) شدد على أمر الوصية وعلى أمر قضاء الدين وأنه مقدم على قسمة التركة وأنه قدم الوصية اعتناء بقضائها وليس لأنها مقدمة على الدين بل لو مات إنسان وعنده مليون ريال وعليه دين بمليون ريال ووصى بثلث ماله وعنده ورثة أول شيء نبدأ بسداد الدين أولًا كم عنده دين؟ مليون، يسدد مليون والوصية لا ننفذها لأن الدين لم يبقي للوصية شيئًا.
/ قال الله ـ عز وجل ـ بعد أن ذكر ميراث الأزواج وقدمه ذكر ميراث الزوجات وأخّرهن لأن الله يقدم دائمًا الرجال على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم خلافًا لمن يقول في نشرات الأخبار (سيداتي سادتي آنساتي ....إلى آخر الكلمات) التي يتأنفون بها ويخالفون بها فطرة الله التي فطر الناس عليها .
/ قال الله - عز وجل - (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم) ميراث النساء على النصف من ميراث الرجال المرأة لها الربع إن لم يكن لزوجها ولد لا ذكر ولا أنثى ، ولها الثمن إن كان له ولد ويستوي المرأة والنساء في هذا الحق يعني ما يقال للمرأة ربع وللثانية ربع ثاني وللثالثة ربع ثالث، لا، بل يشتركن فيه ، قال (مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أو دَيْن) .
ثم قال (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً) يورث من جهة إخوانه، لماذا كلالة؟ الكلالة هو من لا والد له ولا ولد فكأن النسب تكلله ، أحاط به كما يحيط الإكليل برأس الرجل ، كأن النسب تكلله أي أحاط به لا له أصل ولا له فرع، لا له أب ولا أم ولا جد وليس له أيضًا فرع وارث لا ابن ولا بنت ولا ابن ابن ولا بنت ابن فهذا يسمى كلالة ، ولهذا نقول من شرط إرث الأخ في هذه الآية أن لا يكون للميت أصل وارث ولا فرع وارث ، قال (أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أجمع العلماء على أن الأخ هنا والأخت المقصود بها أخ من أم أو أخت من أم لأنه جاء في آخر السورة إرث الإخوة الأشقاء وإرث الإخوة لأب وبهذا نعرف الآية السابقة في إرث الأصول والفروع وهذه الآية في إرث الأزواج والزوجات والإخوة لأم والآية الأخيرة في آخر السورة في إرث الإخوة الأشقاء والإخوة لأب، وهذه آيات المواريث في كتاب الله ـ عز وجل ـ وعليها تدور عامة مسائل الفرائض مع آيتين أو ثلاث آيات أخر متفرقة في كتاب الله وحديث أو حديثين وبها تجتمع كل مسائل الفرائض ولذلك غالب مسائل الفرائض مما اتفق عليه وأجمع العلماء عليه .
قال (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أخت من أم كما هي في قراءة سعد بن أبي وقاص وهي قراءة شاذة لأنها مخالفة لرسم المصحف ولكن العلماء أجمعوا على معناها وحكمها. (فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ) إن ترك أخًأ من أم أو أختًا من أم لكل واحد منهما سدس المال فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يعني يرثون الثلث . لو مات رجل عن زوجة وأخوين لأم أو أخ أو أخت لأم فالزوجة لها الربع لعدم وجود الفرع الوارث والأخوين لأم لهما الثلث يقسم بينهما بالسوية .
قال (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أو دين ) هذا كله من بعد وصية يوصى بها أو دين. لاحظوا كم مرة أكّد على الحقوق في سورة الحقوق، الآن هذه المرة الرابعة. في الآية الأولى قال (يُوصِي بِهَا) وفي إرث الزوجات قال (يُوصِينَ بِهَا) وفي إرث الأزواج قال (تُوصُونَ بِهَا) وفي إرث هؤلاء الإخوة قال (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أو دين ) ليؤكد على الحقوق ولذلك هذه السورة سورة الحقوق والضعفاء بشكل خاص.
قال (أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ) أي غير مضار في الوصية فمن الناس من إذا حضره الموت ضارّ بالوصية فقال هذا البيت لزوجتي فلانة أو هذا المال لابني فلان أو ابنتي فلانة فيقال لا يجوز الإضرار بالوصية بل هو من كبائر الذنوب كما ذكر ذلك أهل العلم ، وكذلك الدين لو تدين دينًا أراد به الإضرار بورثته فإنه لا يُقر بذلك .
قال الله عز وجل (وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ) إن كنتم ترعون وصاياكم فارعوا وصية الله في قسمة المواريث فإياكم أن تتعدوها أو تخالفوها قال الله (وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) ، ثم قال (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ) لما قال تلك حدود الله عرفنا بها أن جميع الأنصبة والقسمة السابقة واجبة وأنه لا يجوز لأحد أن يتعداها وأن يخالف أمر الله فيها ومن هذا ما يفعله بعض الناس في الضغط على البنات في أن يأخذوا شيئًا قليلًا أو أن يرضوا بالأموال السائبة دون الأراضي والمزارع ونحوها وهذا كله من تعدي حدود الله ومن كبائر الذنوب فنحن نحذر من خلال هذا المجلس أن يقع مسلم في مثل هذا بل يجب أن يقسم المال قسمة صحيحة عادلة موافقة لأمر الله ولا ينظر إلى هذه الأشياء التي يراقبها الناس ويقولون هذه أراضينا هذه أملاكنا لا نريد أبناء الأجانب أن يأتوا إلينا فيشاركونا فيها فنقول هذا كله لا ينجيكم من عذاب الله، إن كنتم ترعون دنياكم فإن وراءكم أخرى تستحق أن تُرعى فاتقوا الله فيها .
قال الله (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما أمر الله به ورسوله وفي هذا بشكل خاص (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ثم قال خالدين فيها ليبيّن أن أهل الجنة ليسوا منفردين في الجنة بل هم جماعات يأنس بعضهم بعض على سرر متقابلين بل يتحدثون عما كانوا عليه في الدنيا (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) الطور) ويذكرون أنهم كانوا مشفقين في الدنيا أن لا ينالوا هذا الجزاء ولا يحصِّلوا هذا النعيم ، قال (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أنا كتبت أن هذه فردة معناه لا يوجد لها نظير في القرآن (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) كل الموجود (ذلك هو الفوز العظيم) (ذلك الفوز العظيم) (وذلك هو الفوز العظيم)، أما (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فلا توجد إلا في هذا الموطن ولذلك نحن نختبر بها الحفّاظ نقول أكمِل (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فإذا قال أي واحدة؟ عرفنا أنه ما حفظ جيدًا لكن إذا قال بعدها مباشرة (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ) عرفنا أنه حافظ متقن.
قال الله (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ) في عامة أوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم وفي هذا بشكل خاص وهو قسمة المواريث وحفظ حقوق الضعفاء، (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) بأن لا يلتزم بما شرع الله (يُدْخِلْهُ نَارًا) نكّرها من أجل التهويل والتعظيم والتفظيع ، ثم قال (خَالِدًا فِيهَا) لماذا قال خالدًا ولم يقل خالدين؟ قال العلماء ليؤكد على شدة الوحشة في النار فإن الإنسان إذا عُذِّب مع الناس أنِس بهم ولو كان عذابًا، العامة عندنا يقولون ( الموت مع الجماعة رحمة ) والمرض مع الجماعة رحمة، لكن أن تموت وحدك أو أن تمرض وحدك أو أن تصاب بمصيبة وحدك يكون فيها شدة عليك وهكذا أهل النار يدخل الواحد منهم والعياذ بالله النار ويظن أنه هو الوحيد الذي يعذّب بهذا العذاب ويقاسي هذا الحرّ الشديد ، قال (وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) يهينه كما أهان أمر الله وتعدى حدود الله - عز وجل - ولم يبال بما قسم الله .
ثم انتقل الله لبيان حكم المرأة التي تأتي الفاحشة والمقصود بالفاحشة هنا الزنا، قال (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ) الفاحشة تطلق على الخصلة المتناهية في القبح وهذه تدرك بالشرع وبالعقل قال الله (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ)[10] قال العلماء الفحشاء ما يدرك بالعقل فالزنا يدرك قبحه بالعقل واللواط يدرك قبحه بالعقلوالسرقة يدرك قبحها بالعقل أما المنكر فلا يدرك قبحه إلا بالشرع. إسبال الثياب منكر أدركناه بالشرع، الأكل بالشمال أدركناه بالشرع، صلاة النافلة بعد صلاة العصر أدركنا أنه محرّم بالشرع فهذا منكر ولذلك قال (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء) وهو ما يدل العقل على النهي عنه (وَالْمُنكَرِ) هو ما يدل الشرع على النهي عنه (وَالْبَغْيِ) وهو ظلم العباد .
قال (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ) لا بد أن يشهد أربعة وهذه قضية لم تُنسخ في أمر الزنا لشدة أمر الشهادة في الزنا وإثباته ولئلا يتخوض الناس فيه ويتهم البرآء منه شدد الله في أمره فلا تقبل فيه إلا شهادة أربع رجال وعدول لا تقبل فيه شهادة النساء ويجب أن يشهدوا على شيء صريح ويتلفظوا به بدليل قوله (فَإِن شَهِدُواْ) ، لم يقل (فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ) وسكت وإنما قال (فَإِن شَهِدُواْ) يعني أدلوا بشهادتهم قالوا نشهد أننا رأينا فلانًا يفعل الفاحشة ورأينا ذاك منه في ذاك منها كما يكون المِرود في المكحلة والرُشا في البئر ، لو قال رأيت رجلًأ فوق امرأة أو رأيتهما متضاجعين أو في سرير واحد أو رأيته قد ضمها أو اختلى بها في غرفة فهذه ليست شهادة ولا تقبل من صاحبها ولا تكون شهادة في الزنا بل ترد على صاحبها .
قال تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) هذا حكمهن في أول الإسلام أن يحبسن في البيوت. لماذا الإمساك في البيوت؟ الإمساك في البيوت رحمة من الله لئلا يشيع أمر الفاحشة لأنه لو زنت المرأة ثم قامت تبيع وتشتري وتتحدث مع الناس وتعرف هذه بأمرها وهذه بأمرها وتقول فلانة لفلانة أتدرين ماذا فعلت هذه؟ فعلت كذا وكذا صار أمر الفاحشة هينًا في الناس فإذا أُمسكت في البيت انقطع هذا الأمر فلم يُذكر وقُطع دابر الفاحشة وطُهِّر المجتمع .
قال الله (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) كيف يجعل الله لهن سبيلًا؟ قال العلماء هذه الآية ليست منسوخة مع أن هذا الحكم وهو (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) قد انتهى قالوا لأن الله قال بعدها (أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" قالوا فلما قال (أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بيّن أنه مؤقت والنسخ إنما يكون في الحكم غير المؤقت ،لو قال (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) وسكت ثم جاء حكم الرجم والجلد بعده لعرفنا أنه ناسخ فلما قال (أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) عرفنا أنه حكم مؤقت بوقت وقد جاء الوقت الذي رفع فيه الحكم الأول وجاء من بعده الحكم الثاني .
قال الله - عز وجل - (وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا) أكثر العلماء حملوا الآية على الرجل والمرأة اللذان يأتيان الفاحشة منكم من رجال ونساء فإذا جاء رجل وامرأة بهذه الفاحشة فآذوهما يعني عليكم أن تؤذوهما بأقسى أنواع العقوبات الكلام والضرب ونحو ذلك مما يؤذيهما رجل أو امرأة لكن المرأة تزيد بأنها إذا أؤذيت تُحبس بعد ذلك في البيت ، وقال بعض العلماء ولم أر إلا لشيخنا محمد ابن عثيمين وقرره وأكد أنه هو الصحيح أن الآية الأولى في الزنا والآية الثانية في اللواط (واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ) أي الرجلان يأتيانهما منكم يعني يأتيان الفاحشة منكم فآذوهما وكان أمرهما في أول الإسلام أن يؤذيا ثم جاء في السنة ما يدل على أنهما يُقتلان "من فعل فاحشة آل لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" [11] أو كما قال عليه الصلاة والسلام .
قال (فَإِن تَابَاوَأَصْلَحَا) تابا أي أعلنا توبتهما وأصلحا أي أصلحا العمل بعد التوبة فرؤي هذا الرجل لا يجلس مجالس السوء ويرتاد المجالس الطيبة ويبتعد عن الكلمات الخبيثة ولا يذهب إلى الأسواق التي فيها نساء أو المجتمعات التي فيها ريبة (فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا) أي أصلحا العمل (فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا) أي كفوا عنهما ودعوهما ولا يكن لكم عليهما سبيلًا (إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) .
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ) لما ذكر أنه تواب لمن تاب وأصلح والتواب هو الذي تكثر منه التوبة على عباده فهو يتوب على العبد ولو أذنب في اليوم مائة مرة ثم تاب وأناب مائة مرة بل إنه يفرح بتوبته كل مرة بل إنه يجازيه بأنه أكثر من التوبة ولو أكثر الذنوب أنه - سبحانه وتعالى - يغفرله ذنوبه جميعًا ويقول اعمل يا عبدي ما شئت .
ثم قال الله - عز وجل - مبينًا لمن تجب التوبة عليه فقد أوجبها على نفسه فقال (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ) أوجبها على نفسه للذين يعملون السوء بجهالة يعملون السوء أي السيئات، بجهالة يعني بأن تقدم أنفسهم على هذه المعاصي فيجهلون بإقدامهم على المعصية وليس يجهلون بأنها معصية لأنهم لو جهلوا أنها معصية ما صارت ذنبًا ، لو أن إنساناً مثلًأ أكل بشماله وهو لا يعلم أن الأكل بالشمال محرم فليس عليه شيء ولكن المقصود كل من عصى الله فقد جهل حق الله ولم يقدر الله قدره فهنا تسمى هذه جهالة. يوسف قال (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ) [12] كيف يكون من الجاهلين؟ لأنه إذا أقدم على المعصية لم يعظّم الله ولم يعرف حقه فصار جاهلًا بهذا وليس المقصود أنه صار جاهلًا يعني غير عالم بالحكم الشرعي لأن الجاهل الذي لا يعلم الحكم الشرعي لا ذنب عليه في الشريعة. قال الله - عز وجل - (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ) كل العلماء يقولون أن من قريب أي قبل الغرغرة قبل الموت هذا كله قريب لأن من تاب بعد الغرغرة أو بعد طلوع الشمس من مغربها فإن توبته لا تقبل عند الله . وقيل (من قريب) أي بعد الذنب كما حكى الله عن الأنبياء عندما يقعون في شيء من الذنوب فإن الله يبين لنا بأنهم يبادرون إلى التوبة مثلما قال عن نوح لما سأل ربه أن ينجي ابنه (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) [13] قال (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ )[14] في نفس الوقت كذلك في قصة داوود وفي قصة موسى وفي قصة آدم كلها عندما يذكر ما وقع فيه الأنبياء من ذنب أو قريب منه يذكر أنهم يبادرون إلى التوبة ويسرعون إليها ، وهذا وجدته للشيخ السعدي والآية تدل على شيء منه ولكن لا تُلزم به ، لأن اللازم الذي يقبله الله ـ عز وجل ـ هي التوبة التي تكون من قريب أي قبل الغرغرة فإذا وصلت الروح الحلقوم وتاب الإنسان فإن توبته لا تقبل كما صُنع مع فرعون لما أدركه الغرق (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً )[15] .
قال الله - عز وجل - (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا*وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ (18)) ليست التوبة لمن عمل السيئات والمقصود بالسيئات هنا ما دون الكفر لأنه قال بعدها (وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)। قال (حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) لو تاب صاحب المعصية عند الموت، عند الغرغرة لا تقبل توبته فيبقى تحت المشيئة بعد موته إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ، وقال (وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أيضًا هؤلاء ليست لهم التوبة ، ثم قال (أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي أعددنا لهم عذابًا مؤلمًا موجعاً .
بهذا نكون انتهينا من المجلس الثاني نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا.
المجلس الثالث:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً (22)}
إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثييرً أ ،،
أما بعد ،،،
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا وارزقنا علمًا ينفعنا اللهم لاسهل إلا ماجعلته سهلًا فأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلًا اللهم اجعلنا جميعًا من أهل القرآن الذين هم هلك وخاصتك واجعلنا ممن ينال شفاعة القرآن وينتفع به في الدنيا والآخرة ..
هذا هو المجلس الثالث من مجالس تفسير سورة النساء ونستفتح هذا المجلس بهذه الآية :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا) هذه الآية فيها قطع العادة الجاهلية التى كانت معروفة في الجاهلية وفيها إهانة للمرأة أيما إهانة حيث تُسلب منها إرادتها واختيارها ، فكان من عادة العرب إذا مات الرجل جاء أولياؤه فوضعوا أيديهم على المرأة جاء أبوه أو أخوه أو غيره ووضع يده على المرأة فكأنه يرثها يعني إما يتزوجها هو بغير اختيارها أو يزوجها لمن يشاء أو لا تتزوج بأحد حتى تعطيه ما يشاء فسمى الله ـ عز وجل ـ ذلك ( إرثًا) لأنه تصرف في المرأة بغير حق وكأنه تؤخذ المرأة كما يؤخذ سائر مال الميت. قال (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) ولما قال (كَرْهًا) فيه الدلالة على أنه لو كان بغير كره فإنه جائز، لو قال أخو الميت إني أريدك يا فلانة لنفسي وكان ذلك برضى منها وقبلت فإن ذلك جائز.
قال (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) العضل بمعنى المنع أي لا تمنعوا النساء من حقهن من أجل أن تستردوا منهن شيئًا من المال الذي آتيتموهن في المهر، فالرجل تكون له المرأة فلا يحبها ولكنه قد دفع عليها مالًا فهو لا يريد أن يطلقها حتى ترد هذا المال إليه فهو يعضلها بمعنى يدعها عنده لا معلقة ولا مطلقة، لا هي في عصمته فتنال حقوقها ولا هي مطلقة فتبحث عن زوج آخر ليضطرها إلى أن تفتدي منه بأن تدفع حقه أو بعض حقه ، قال (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ) وهذا يشمل جميع أنواع العضل حتى عضل الرجل لابنته مثل أن يمنع ابنته من الزواج من أجل أن يحصل على مال من ورائها لأنها مدرِّسة أو موظفة أو غير ذلك، أو من أجل أن يستفيد من مال الزوج الذي يأتي فهو لا يقبل إلا زوجًا يدفع أعلى ما يريد من المهر ليستفيد منه وينتفع به، أيضًا يدخل في عموم هذه الآية.
قال (لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) إلا في حالة واحدة وهو (أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) يعني إذا كانت لأحدكم امرأة فجاءت بفاحشة مبينة والفاحشة المبينة هي الزنا أو التعدي على الزوج بسوء الخلق وبذاءة اللسان والتعدي على أهله فإنه في هذه الحالة من حقه أن يعضلها حتى تفتدي منه بمال لكي تفك نفسها جزاء لها على سوء خلقها أو على ما فعلته من الزنا القبيح في حق زوجها وحق نفسها وحق ربها قبل ذلك ، قال (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) بعد أن نهى عن هذه الأفعال القبيحة مع النساء أمر بضد ذلك وقال (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) والمعاشرة بالمعروف يعني أن تكون معاشرة بالأخلاق الطيبة والمعاملة الحسنة ونسيان الهفوات وتجاوز الضعف الذي تعيشه المرأة وأن لا يؤاخذها الإنسان على كل خطيئة أو خطأ وأن لا يدقق معها في النفقة عليها أو في محاسبتها في تصرفاتها بل يعاشرها الإنسان بالمعروف كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "فإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها"[16] قال (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهذا فيه الاحتكام إلى العُرْف لأن المعروف يختلف في كل زمان وفي كل مكان بحسبه.
يعني لا يأتي واحد منا الآن إذا طلبت منه زوجته أن يضع لها مكيفًا في البيت فيقول لها أمي وجدتي وجداتي وجداتك كلهم ما كان عندهم مكيفات لماذا تطالبين بواحد؟! والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزوجاته وأمهات المؤمنين ما كان عندهم مكيفات! كيف تطالبين بهذا؟! نقول له لا، بل هذا الآن في هذا الوقت في هذه البلاد واجب عليك لكن في بلاد أخرى إذا لم يكن فيها كهرباء ولم يكن معروفًا عندهم فليس واجبًا عليك .
قال (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) هذه الآية ينبغي أن يكتبها كل زوج في البيت ويجعلها نبراسًا له إن كرهت زوجتك أو كرهت شيئًا من أخلاقها فعسى أن يكون هذا الذي كرهته في زوجتك من أخلاقها أو كراهيتك لزوجتك أن يجعله الله سببًا لخير كثير تحصِّله في الدنيا أو في الآخرة،
كيف؟!
أولًا بطاعتك لله عندما صبرت وقبلت وصية الله بالصبر عليها.
ثانيًا لأنك تجاهد نفسك على التخلّق بالأخلاق الحسنة.
ثالثًا ربما تزول هذه الكراهية ، أنت تزوجت امرأة واكتشفت بعد يوم أو يومين أنك تكره هذه المرأة ولا تحبها فصبرت امتثالًا لأمر الله فيجازيك الله بأن يبدل الله هذه الكراهة محبّة.
وأذكر في هذا الباب قصة حدثني بها رجل أعرفه عن ابني خاله وخالته تزوجا فيقول لما دخل بها جاء من الصباح ذهب إلى أبيه فقال يا أبي هذه المرأة لا يمكن أن أعود إليها قال يا ابني كيف لا تعود إليها؟ قال والله ما أحب فيها شيئًا أرفع إليه بصري وأنا استميحك العذر لا أرغب أن أدخل على هذه المرأة الموت ولا المرأة، فقال الأب يا ابني استرنا واستر أهل هذه المرأة لو طلقتها الآن لظن الناس بها سوءًا، إصبر عليها بعد سنة أنا أزوجك من مالي لا تدفع ريالا واحدًا قال أما إذا كان كذلك أنا راضي فبقيت معه المرأة حتى ماتت .
قال (وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) قال ابن عباس : " ربما رزقت منها ولدًا لا ترزقه من غيرها " وهذا رؤي ، يقولون في النساء المرأة التي في خلقها سوء دائمًأ تكون مُنجِبة يعني تأتي بالنجيب من الأولاد.
قال (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ) الآن ذكر قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) ثم قال (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ) إصبروا ولكن إن لم تصبروا وأردتم أن تستبدلوا زوجًا مكان زوج آخر وآتيتم الأولى قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا يعني متى أردتم أن تستبدلوا امرأة بأخرى تطلقوا الأولى فتأتوا بأخرى مكانها فإياكم أن تأخذوا من مهر الأولى شيئًا ولو كان ذلك الشيء قنطارًا (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) يعني مالًا كثيرًا، لا تقول أنا أعطيتها أكثر مما يعطى النساء فمن حقي أن أرجع بشيء مما أعطيتها فيقال لا، كل شيء أعطيتها إياه فقد أخذته هي بحقه لأنك قد استمتعت بها ، هذا الاستمتاع بذل للمنفعة مقابل المهر والأجرة .
(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا) قال العلماء فيه الدلالة على أن المهر الكثير جائز لأن الله قال (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا) لكن ليس هو الأولى وخصوصًا إذا تضمن كثرة المهر فسادًا بحيث يضر ذلك ببنات الناس فتصيبهن العنوسة أو يشق ذلك على الفقراء من الشباب فلا يستطيعون الزواج فيحصل الفساد فلذلك يستحب الإقلال فيه فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أكثرهن بركة أيسرهن مؤونة"[17] .
قال (فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا) كلمة (شيئًا) نكرة في سياق النهي فتدل على العموم يعني لا تأخذوا منه أي شيء ولو قلّ ، قال (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) يعني إذا أخذتموه فقد أخذتموه على وجه الظلم والإثم لأنك دخلت بهذه المرأة واستمتعت بها وأخذت المنفعة التي دفعت من أجلها المهر فبأي حق تسترده؟! ولذلك قال مُنكرًا (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) الإفضاء بالجماع يعني وصلت من امرأتك إلى شيء لا يصل إليه أحد لا أبوها ولا أمها ولا أحد من أهلها (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) سمى عقد النكاح بالميثاق الغليظ ليؤكده وليس في العقود شيء أعظم من عقد النكاح، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إن أحق الشروط أو توفوا به ما استحللتم به الفروج)[18] فأعظم العقود التي يجب الوفاء بها هو عقد النكاح لذا على الإنسان إذا أراد أن دخل بعقد النكاح أن يدخل صادقًا وأن يوطن نفسه على الوفاء بما عاهد عليه المرأة نسأل الله أن يجعلنا كذلك .
/ قال الله - عز وجل - (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) هذه أولى المحرمات الخمسة عشر التي ستأتي معنا في الآيات ، ثلاث آيات ذكر فيها المحرمات من النساء بدأها بهذه الآية وهي قوله (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) معنى "لا تنكحوا" النكاح في القرآن يطلق على العقد وليس على الوطء، على العقد غالبًا إلا في قوله تعالى في سورة البقرة (فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (230)) النكاح هنا بمعنى الوطء بدلالة السُنّة ، واختلف في سورة النور في قول الله (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ (3)) هل المراد لا ينكح لا يطأ أولا ينكح لا يعقد ، لا يتزوج إلا على زانية أو مشركة والصحيح الذي يبدو لي أنها جارية على مقتضى هذه اللفظة في القرآن وأن النكاح في آية النور المراد به العقد يعني الزاني لا يحل له أن يعقد على زانية مثله أو مشركة بل يعقد على عفيفة وهذا قبل أن ينسخ نكاح المشركات ، والزانية لا ينكحها إلا زانية أو مشرك وبذلك حرم على الإنسان أن ينكح امرأة زانية وتدل الآيات التي معنا بعد قليل على وجوب قصد العفيفة المحصنة (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) فلا يحل نكاح المرأة التي تعلن الزنا أو التي لم تتب من زناها .
قال (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً) فاحشة أي متناهي في القبح يدل العقل غير الشرع على قبحه كيف تأتي على فرج قد نكحه أبوك فتنكحه؟! هذا لا يليق ولا يحسن ، و(مقتًا) لأنه يورث المقت لأنه ما من زوج يأتي على امرأة إلا وهو في نفسه شيء من الزوج الذي قبله خصوصًأ إذا ذكرته المرأة فلان كان لا يقصِّر، فلان كان يفعل، فلان كان يعطيني فيورثه ذلك كره الأول، فكيف يقع هذا بين ابن وأبيه؟! قال (وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً) أي ساء طريقًا تسلكونه في قضاء شهوتكم والوصول إلى حاجتكم، هذا رقم واحد، ثم بدأ بالمحرمات من النسب فقال (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) بدأ بالأم كما أنه بدأ بمنكوحة الأب قبل قليل، في المحرّمات بالصهر بدأ بمنكوحة الأب وفي المحرمات بالنسب بدأ بالأم تعظيمًا لحقها ولأن هذا من أعظم القبائح وأشنع الخصال والأفعال وإن كان الآن يجري - والعياذ بالله - في الدول الغربية التي انفلتت من الأخلاق وانسلخت حتى أصبحت أشر من البهائم نسأل الله العافية والسلامة فنكاح المحارم شائع نعوذ بالله أن ندرك ذلك أو يًرى ذلك في مجتمعات المسلمين .
قال (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) والمقصود بالأم أمك وأم أبيك وأم أمك وأم أم أمك وأم أبي أبيك وأم أم أبيك يعني كل أم لك ليس المقصود أمك وحدك بل كل أم ؟؟ وكذلك قوله (وَبَنَاتُكُمْ) بناتكم مقصود بها كل بنت خرجت منك بنتك وبنت ابنك وبنت بنتك وبنت ابن ابنك وبنت بنت بنتك وبنت ابن بنتك كل من نتج منك فإنه لا يحلّ لك.
(وَأَخَوَاتُكُمْ) أختك لأبيك وأختك لأمك وأختك لأبيك وأمك. (وَعَمَّاتُكُمْ) عمتك أخت أبيك وعمة أبيك وعمة جدك وعمة أمك وعمة جدتك من أمك إلى آخره وإن علوا.
(وَخَالاَتُكُمْ) خالتك، أخت أمك وخالتك خالة أبيك وخالة جدك وجدتك وجدك من أمك وجدك لأبيك كل من كانت خالة لك أو لأصولك فهي خالة لك. (وَبَنَاتُ الأَخِ) بنت أخيك وبنت ابنه وبنت بنته وإن نزل (وَبَنَاتُ الأُخْتِ) بنت أختك وبنت بنتها وبنت ابنها وبنت ابن ابنها إلى آخره .
(وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ) إنتهى من المحرمات بالنسب وهن سبع وبدأ بالمحرمات من الرضاع وهن اثنتان ذكر في القرآن اثنتين قال (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) الأم والأخت ، ولما أثبت الأم لأنها هي المرضعة عرفنا أنه ثبت للأب الحق لأنه هو صاحب اللبن لصاحب اللبن حق لأنه صار أبًا ، ثم المحرمية تنتشر فيه ، ذا صار هذا أم وهذا أب فإخوان الأب أعمام له وإخوان الأم وأخواتها أخوال له وأبناؤهم إخوان له وهكذا فالمحرمية تنتشر في المرضِع والمرضِعة وأصولهم وفروعهم وحواشيهم . أما المرتضع الذي رضع اللبن فلا تنتشر المحرمية إلا فيه وفي فروعه فقط أما أبوه وأمه فلا شيء عليهم ، ولذلك يجوز لأخيك نسبًا أن يتزوج أختك رضاعة قال (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) .
إنتهى من المحرمات بالرضاع ثم جاء إلى المحرمات بالصهر
وهن أربع:
- حلائل الآباء وقد ذكرن أولًا (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ)
- وحلائل الأبناء كما سيأتي بعد قليل
- وأمهات الزوجات وهنا ذكرهن (وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ) أم زوجتك وأم أمها وأم أبيها وأم أبي أبيها وأم أم أمها وأم أبي أمها كل هؤلاء الأمهات يعتبرون حرامًا عليك بمجرد العقد .
(وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ)
من هي الربيبة؟
-الربيبة بنت الزوجة سميت ربيبة لأنها في العادة تتربى عند الزوج ولذلك قال (اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم) لا يقصد أنها إن كانت في حجرك فإنها محرمة عليك وإذا تربت عند أبيها فإنها غير محرمة عليك ولكن هذا كما يقولون خرج لبيان الواقع، الغالب، الغالب أن البنت تتربى عند أمها فتكون في حضانة زوج أمها أو في بيت زوج أمها ، قال (وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ) اللآتي في حجوركم لا مفهوم له ،ما له مفهوم لا يقول أحدهم هذه بنت زوجتي ما تربت عندي فيحل لي أن أتزوجها،لا، بدليل قوله (وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) ولم يقل فإلم يكن في حجوركم أو لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم فدل ذلك على أن قوله (اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم) لا يراد بها مفهومها وأن هذا جاء لبيان الغالب ، قال (مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) كل المحرمات بالصهر يحرمن عليك بمجرد العقد إلا الربيبة بنت الزوجة ما تحرم عليك إلا إذا عقدت على أمها ثم دخلت بأمها ، لكن لو عقدت على أمها ثم فكرت وقلت يا فلانة أنا أريد ابنتك فقالت لا مانع لدي من أن تتزوج ابنتي أو ماقالت لامانع المهم أنك طلقها ثم عقدت على ابنتها فجاز لك ذلك ما لم تكن دخلت بالأم فإذا دخلت بالأم حرمت عليك البنت وصارت من محارمك .
(وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ) هذه هي المرأة الأخيرة المحرمات بالصهر فصار المحرمات بالصهر أربعة حليلة الأب، أم الزوجة، بنت الزوجة وآخر واحدة حليلة الإبن أي زوجة الإبن .
قال (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) الآن جاء إلى المحرمات بالجمع وذكر في القرآن واحدة وفي السنة اثنتين، أما التي ذكرت في القرآن فهي (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) فلا يحل إنسان أن يجمع في عصمته بين أختين فإذا تزوج امرأة ثم أراد أن يتزوج أختها فلا بد أن يطلق الأولى وتنتهي من عدتها لأنها ما دامت في عدتها فهي زوجة له، فإذا انتهت من عدتها جاز له أن يتزوج من أختها، ولهذا يقال هل على الرجل عدة ؟ يقال نعم إذا طلق امرأة وأراد أن يتزوج أختها يعتد حتى تنتهي امرأته من العدة ثم يتقدم إلى أختها فيتزوجها . قال (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) وفي السنة نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها. قال (إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي في الجاهلية (إنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) .
ثم ذكر المحرمة الخامسة عشر وهي قوله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء) المحصنات يعني المتزوجات فكل امرأة في عصمة رجل لا يحل لإنسان أن ينكحها ولذلك لو أن امرأة فُقد زوجها لا تعرف أين هو ومضى سنة سنتين أو ثلاث فأراد أن يتقدم له ليخطبها لا يجوز له ذلك لأنها ذات زوج حتى يقضى عند القاضي بأن زوجها قد مات فتعتد عدة الوفاة ثم تحل للأزواج
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء) كلمة المحصنات، كلمة الإحصان في القرآن تطلق على ثلاث معاني كلها وردت في هذه الصفحة التي بين أيديكم: المحصنات بمعنى المتزوجات كما في هذه الاية والمحصنات بمعنى العفيفات والمحصنات بمعنى الحرائر والحرة ضد الأمَة .
هنا (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء) أي المتزوجات من النساء وفي الآية التي بعد قال الله - عز وجل - (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) المحصنات هنا بمعنى الحرائر من لم يستطع أن ينكح الحرة فله أن يتزوج من الأمة ، ثم قال في نفس الآية (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) محصنات هنا يعني عفيفات فجاءت محصنات في نفس الصفحة بثلاث معاني متزوجات، حرائر، عفيفات، وهذا ما يسمى عند العلماء بالوجوه والنظائر أو الأشباه والنظائر، هذه الكلمة لها ثلاثة وجوه: الزواج والعفة والحرية ولها نظائر يعني كل واحدة من هذه المعاني الثلاثة له نظائر في القرآن فيسمى علم الوجوه والنظائر. قال الله (إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يعني يباح لكم أن تنكحوا من كانت ذات زوج إذا وقعت في السبي عندكم فلو قاتلنا اليهود فوقعت امرأة في السبي وهي ذات زوج تستبرئ بحيضة ثم يحل لك أن تنكحها. قال (إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) فهذه الحالة الوحيدة التي يحل فيها نكاح من كانت ذات زوج وهي أن تصل إليك بملك اليمين وليس المقصود أن تكون بملك اليمين قد تزوجت أي زوّجها سيدها برجل ثم أنت انتقل ملكها إليك فتتزوجها أو تنكحها فلا يحل لك، ما دامت ذات زوج وهي مملوكة فلا تحل لك ، المقصود لو كانت كافرة وهي ذات زوج ثم وقعت في يدك أسيرة من السبايا جاز لك أن تنكحها بعد أن تستبرئها بحيضة ، قال (كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ) أي إلزموا كتاب الله الذي أوجبه عليكم ، ثم قال (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) صار معنا خمس عشرة امرأة محرمة بدأنا بمنكوحة الأب وانتهينا بالمحصنات من النساء.
(وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) غير هؤلاء أحل لك أن تنكح (أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ) أي طالبين العفاف لكم ولمن تتزوجون بهن. (غَيْرَ مُسَافِحِينَ) السفاح هو الزنا وهو ضد النكاح. (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) أوجب الله للمرأة المهر مقابل الاستمتاع ولذلك هذه المرأة متى ما نكحها الرجل ، دخل بها وجب لها المهر كاملًا ولو لم يسلمها شيئًا لو أن رجلًأ عقد على امرأة على مهر مقداره أربعون ألفًا ثم مات قبل أن يدخل بها لها المهر بالعقد ولها التركة لأنها صارت زوجة وعليها العدة أن تحاد عليه أربعة أشهر وعشرًا، هو لم يدخل بها وجب لها المهر بالعقد لأنه مات لكن لو طلقها قبل الدخول فإن كان سمى لها مهرًا فلها نصف المسمى وإن كان لم يسمِّ لها مهرًا (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) البقرة) كما قال تعالى في سورة البقرة (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ (237)) .
قال (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) يعني إن نقصت المرأة عن حقها وعفت عن شيء من مهرها فلا جناح عليكم وإن زدت أنت على المهر الذي قدرته لنفسك أو تراضيت به مع المرأة فلا شيء عليك ، قال (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) .
ثم قال (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً) الطول يعني مهر فسمي المهر صداقًا وسمي نحلة وسمي أجرًا وسمي في القرآن طولًا. (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) من لم يستطع نكاح الحرة فله أن ينكح الأمة، ينكح الأمة يتزوجها فتصير زوجة له وأمًأ لأولاده وليس يتسرى بها لأن التسري ليس زواجًا أن يكون لك ملك يمين تتسرى بها بمعنى يجوز لك أن تطأها وتنكحها وسمي تسريًا لأن الإنسان يفعله سرًا. لكن أنا لا أستطيع طول الحرة لأن طولها أربعون ألفًا لكن الأمة يمكن أن أجد إنسانًا عنده أمة فأقول زوجني إياها فيزوجني إياها بعشرة آلآف وأنا ما عندي إلا عشرة آلآف، يقول الله يجوز لك إن لم تستطع نكاح الحرة أن تتزوج أمة، لماذا لا يجوز إلا إذا لم تجد طول الحرة؟ لأنك إذا تزوجت الأمة كانت العاقبة وخيمة على أولادك وهي أن أولادك يتبعون أمهم في الحرية والرِّق فإذا نتج لك أولاد فهم أرقاء عند سيد تلك الأمة فلئلا يكون أولادك عبيدًا عند ذلك الرجل إياك أن تتزوج أمة إلا في حال الضرورة
وقد اشترط الله لزواج الأمة أربعة شروط:
الشرط الأول أن لا يستطيع طول الحرة .
والشرط الثاني أن يخشى العنت وهو الزنا .
الشرط الثالث أن يكن مؤمنات .
والشرط الرابع أن يكن عفيفات وسنأتي إليها.
قال (مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) قال المؤمنات والإيمان لا يدرك لأننا نعلم الإسلام والإيمان لا نعلمه، قال (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) لكن عليكم بالظاهر. (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) يعني لا يحل لكم أن تنكحوهن بالاتفاق معهن. (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سمى الآن المهر أجرًا (بالمعروف). (مُحْصَنَاتٍ) يشترط في الأمة أن تكون عفيفة (غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) يعني غير معلنات الزنا فالسفاح هو إعلان الزنا،و(وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) أي لهن أصدقاء يفعلن الفاحشة معهم في السر، قال (فَإِذَا أُحْصِنَّ) فإذا تزوجن (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) إذا تزوجت الأمة فوقعت في الزنا - نسأل الله العافية - فعليها نصف ما على الحرة، على الحرة مائة جلدة والأمة عليها خمسون جلدة، ولما قال نصف عرفنا أنه لا يكون الحد إلا في شيء يتنصف الرجم لا يتنصف هل يمكن أن نرمي أعلاها دون أن نرمي أسفلها؟! لا، هل يمكن أن نرجمها بسبعين حجارة بدل مائة وأربعين؟! لا. فاقتصر على ما يتنصف وهو الجَلْد وأما التغريب فإنه لا يمكن لأن للسيد فيه حقًا. قال الله (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) العنت يعني الزنا. فالشروط أربعة : ألا يجد مهر الحرة وأن يخشى العنت وهو الوقوع في الزنا وأن يكن مؤمنات وأن يكن عفيفات (وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
ثم قال الله (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) شرائع الهدى (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) هذا ما يريده الله إرادة شرعية، يريد الله لكم البيان والوضوح وأن تظهر لكم الأحكام فلا تقعوا فيما حرّم أو تقعوا في شيء فيه ضرر عليكم (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) وهم من سبقوكم من الأنبياء (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) الله يريد أن يتوب عليكم ، (وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ،(وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أكدها ليعطف عليها شيئًأ يغايرها وهو أن الذين يتبعون الشهوات يريدون شيئًا آخر وهو أن نقع في أوحال الرذيلة وننحرف عن الفضيلة ، (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ) ليس أي ميل وإنما (مَيْلاً عَظِيمًا) فهؤلاء الذين يدعوننا الآن إلى الاختلاط والتبرج وقيادة المرأة وغيرها والله لا يريدون حقوق المرأة ولا الانتصار للمرأة! أين هم عن اليتيمات وأين هم عن المطلقات وأين هم عن العوانس وقد بلغ عدد العوانس في المملكة ما يقارب المليونين !! ما رأينا واحدًا منهم يطالب بحقوقهن ولا أن تحل مشكلتهن لكنهم يبحثون عما يميل به المجتمع عن درب الفضيلة. ولا يريدون الميل الخفيّ، نحن الآن في ميل، ادخلوا الأسواق لتروا الميل ولكن هذا الميل لا يرضيهم لا يريدون إلا ميلًا عظيمًا مجانبًا تمام المجانبة للجادة التي وضعها الله لعباده وارتضاها لهم. (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ) بهذه الشرائع وهذه الأحكام (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) فعليه أن لا يتعرض للفتن لأنه ضعيف ولذلك سُئل سفيان بن عيينة قيل له ما ضعفه؟ أي ما ضعف الرجل؟ قال المرأة تمر بالرجل فلا يملك نفسه عن النظر إليها ولا هو ينتفع بها. صحيح، كم من امرأة نظرت إليها؟ عشرات ومئات! وأنت تعلم أنك لا تستطيع أن تنالها ولا أن تحصل منها على شيء وتعلم أن هذا محرم لكن نفسك تدعوك لأن تنظر وتؤنب نفسك على هذا فهذا من الضعف (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) وإذا علم الإنسان أنه ضعيف عليه أن يتقي الله فلا يرد الموارد التي يخشى منها على نفسه الفتنة.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم وأن يجعل هذا المجلس شاهدًا لنا لا شاهدًا علينا وأن يبارك لنا فيه وأن يجعلنا جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

----------------------------
شعب الإيمان للبيهقي [1 ]
سورة النساء [2]
صحيح البخاري باب الوصاة بالنساء . [3]
صحيح مسلم باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَقَبْضِهِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَالْفِتَنِ فِى آخِرِ الزَّمَانِ.[4]
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى ) . صحيح البخاري باب [5]
صحيح البخاري باب قَوْلِ النَّبِىِّ - - « هَذَا الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ » .[6]
(27) الإسراء [7]
(53) الإسراء) [8]
(183) البقرة [9]
(90) النحل [10]
سنن الترمذي وابن ماجة والدار قطني [11]
(33) يوسف [12]
(46 ) هود [13]
(47 )هود.[14]
(92) يونس[15]
باب الْوَصِيَّةِ بِالنِّسَاءِ. صحيح البخاري [16]
السنن الكبرى باب بركة المرأة [17]
باب الشروط في المهر عند عقدةالنكاح صحيح البخاري [18]
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق