الجمعة، 9 نوفمبر 2012

تفسير سورة المائدة (27 - 50) / من دورة الأترجة



بسم الله الرحمن الرحيم , الحمدُلله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وسلّم تَسلِيماً كثيراً . فهذا هو المجلس الثَّالث من مَجالِس تفسير سُورة المَائدة في هذه الدَّورة المُباركة دورة الأترجة.
 المَقطع الأول:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِين*إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ*مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)
بَعد أَن تَحدَّثنا أيُّــها الإخوةُ الكِرام عن أوائِلِ سُورةِ المائدة،وتحدثَّنا عن ما أحلَّه الله تعالى وما حرَّمه, ذكَر الله فيها طَرفاً من نَبأِ بني إسرائيل وعِصيانهم وتمرُّدِهم على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام,وتستمر السُّورة في الحديث عن مسألة الوفاء بالعقود، والاستجابة والانقياد لأوامر الله سبحانه وتعالى . فيَأتينا هذا المَثَل الذِّي يذكره الله عزَّوجل، والقصَّة التي يَرويها لنا عن ابني آدم فيقول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ) أَيّ اتل عليهم بالحقّ نبأ ابني آدم , وابني آدم في هذه الآية بإجماع المُفسِّرين هما أبناء آدم من صُلبه، وهما (قابيلُ وهابيل) وقد وقع بينهما من الحَسَد الذِّي وقع من قابيل لأخيه هابيل، ممَّا حمل قابيل على أن يقتل أخاه هابيل ظُلماً، وعدواناً كما في هذه القِصَّة, ويذكرُ المفسّرون أنَّ قابيل كان يُريد أن يتزوج أخته التي وُلدت معه في نفسِّ الرَّحم , لأنّ آدم عليه السَّلام كان في شريعته أنّه إذا وُلِد له ذكرٌ وأنثى في نفس البطن، ثم وُلد له ذكر وأنثى في بطن آخر فإنّه يُزوِّجُ هذا الأوَّل من البنت في الرَّحم الثاني والعكس , فحَسَدَ قابيل أخاه هابيل على أنّه سيتزوج أخته التي وُلدت معه في نفس الرَّحم كما ورد ذلك في بعض الرِّوايات الإسرائيلية. لكنَّنا نقول: أنّه قَد وقع بين قَابيل وهَابيل، ما دَفَع قَابيل إلى أن يَحسِد أخاه هابيل ويعتدي عليه ظُلماً، وعُدواناً فيقتُلَهُ دون أن ندخل في تفاصيل ذلك فليس ثمّة دليل على ذلك . والقرآن الكريم فيه الكثيرٌ من القَصص التي لم يُفصِّل فيها، لأنَّ العبرة مُتحققة مع هذا الإبهام فلا يُهمُنا ما هو سبب التَّحاسد الذِّي وَقَع بينهما، بقدر ما يُهمِّنا كيف كانت الثَّمرة والنتيجة وكيف تعامَل أحدُهُمَا مع الآخر.
 قال تعالى (واتلُ عليهم نَبأ ابني آدم) سمَّاهُ الله نبأً لِعَظَمته ولأَهميته قال الله (إذ قرَّبا قُرباناً فتُقبِّلَ من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر) لأنّهم قالوا أن آدمَ أرادَ أن يُصلِح بينهما فقال: ليُقرِّبَ كُلُّ واحدٍ مِنكما قُرباناً إلى الله، فأيُّكُمَا تقبّل الله قربانه زوّجته بهذه البنت أو نحو ذلك, قال (فتقبُّل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر) وكانَ من عَلامةِ قَبول القُربان أن تأكُلَهُ النَّار كما ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في سورة آل عمران (لقد كَفر الذِّين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتُب ما قالوا وقتلَهُمُ الأنبياءَ بغيرِ حقّ ونقولُ ذوقوا عذابَ الحَريق ذلك بما قدَّمت أيديكم وأنَّ الله ليس بظلّامٍ للعبيد. الذِّين قالوا إنَّ الله عهِد إلينا أن لا نؤمن لِرَسولٍ حتى يأتيَنا بقربان تأكله النار) فهذا دليل على أنّه قد تُقبِّل منه وأنّه رسولٌ صادق, قال الله في المائدة: (إذ قَرَّبا قُرباناً فتُقبّل من أحدهما) أيّ فكان علامة قبول أحدهما أنّ النّار قد أكلت قُربانه الذِّي قَرَّبه, قال الله: (فتُقبِّل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر) وهم يقولون أنّه تُقبِّل من هابيل ولم يُتقبَّل من قَابيل لأنَّه كان ظالماً ومُعتدياً, قال قابيلُ لأَخيه هَابيل (لأقتلنَّك) ويقولون أنَّ هابيل كان هو الأكبرَ سِنّاً من قابيل، وكان أقوى منه، ولكنّه كان رجلاً صالحاً. قال: (لأقتلنّك)، قال هابيل (قال إنَّما يَتقبَّلُ اللهُ المُتَّقِين) أنت الآن تقتُلُني لماذا؟ لأنَّ الله تقبّل مِنِّي؟ هل هذا ذنبٌ بالنسبة لي؟ بل هذا ليس ذنباً. كما قال الشّاعر:
إذا مَحاسنِي اللاَّئي أُدِلُّ بها ** كَانت ذُنُوبِي فَقُلْ لي كيف أعتذِرُ
 أيّ أنت الآن تَعيبُنِي بِمَحاسِني. فكان عيبُه عند أخيه أنَّ الله تقبّل منه , قال (إنَّما يتقبَّل اللهُ من المُتَّقين*لئن بَسطت إليَّ يَدَكَ لتقتلني) يقوله المظلوم لئن مَددتَ إليَّ يَدك لتقتلني ظُلماً وعدواناً (ما أنا بباسِطٍ يَدِيَ إليكَ لأقتُلك) وهذا من كَمال أُخوَّتِه، وكَفِّه يَدَه عن الاعتداء, يقول حتى لو مَددتَ يَدَكَ لكي تقتلني فلن أُبادِلَكَ الاعتداء بمثله (ما أنا بباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتلك) لماذا؟ قال (إنِّي أخافُ الله ربَّ العَالمين)، (إنِّي أريدُ أن تَبوءَ بإِثمي وإِثمك) أيّ تتحمَّل وِزرَ هذا الذَّنب العَظيم (أن تبوءَ بإثمي وإثمِكَ فتكونَ من أصحاب النَّار وذَلك جَزاءُ الظَّالمين) وفِي هَذا الحِوار دلالةٌ على كَمِالِ فهمِ،وعقلِ هذا الأخ، وكمالِ إيمانه وانقياده لأوامر الله سبحانه وتعالى، وكفِّه يده عن الظُّلم و عن الاعتداء , وفيه أيضاً دلالة على ظُلم أخيه، وجبروته، واعتدائه .
(فطوَّعت له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبحَ من الخَاسرين*فبَعَث الله غُراباً يبحث في الأرض) يقولون أنه قتل أخاه وكان هو أول واحد يقتل واحد ولذلك ورد في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُقتل نفسٌ ظُلماً إلا كانَ على ابن آدم الأوَّل كِفلٌ من دَمِها لأنَّه أوَّل من سَنَّ القتل) فلما قَتَل أخاه تحيَّرَ، ماذا يصنع به؟ وبَقِي يحمله بين يديه, فأراد الله سبحانه وتعالى أن يَهديَه إلى كيف يتخلَّص من جثّة أخيه بدفنها،ممّا يُشير إلى أنَّ هذه أوَّلُ حالة قتلٍ في التَّاريخ (فبعث الله غُراباً يَبحثُ في الأرض لِيُريَهُ كيف يُواري سَوءة أخيه) وقد تكون أوَّل حالة وفاة في التَّاريخ لأنّه من صُلبِ آدمَ عليه السَّلام , وهذه الآية فيها إشارة إلى أنَّ الحيوان مُعلِّمٌ للإنسان .
• فالغُرابُ هو الذِّي علَّم الإنسان كيف يَدفِن .
 • والطير تعلَّم منه الإنسان الطَّيران.
 • والسَّمَكُ تعلَّم منه الإنسان كيف يَسبَح
 • وكثيرٌ من المَهارات التي يُتقِنُهَا الإنسان قد تعلَّمها مِن الحيوان .
 فلاحظوا هنا أنَّ الله تعالى قال: (فبَعَث الله غُراباً يبحثُ في الأرض ليُرِيَه ُكيف يُواري سَوءَة أخيه) كيف يَدفِنُ أخيه ، ولاحظوا قال الله : (يبحث في الأرض) ممّا يَدُلّ على أنّه قد بذل جهدًا في تعميق الحفرة.
 قال الله في سورة البقرة ( وعلَّم آدم الأسماء كُلَّها ) ما المقصود بتعليم الأسماء؟
اختلف العلماءُ فيه كثيراً، ولكنَّ المقصود به كما قال ابن عباس أنَّ الله علَّم آدم عليه الصَّلاة والسَّلام أسماء الأشياء، ولكن هَل يدخل في هذا الأفعال، والمهارات، والتَّدابير ونحو ذلك؟ الآية تدُلّ على أنَّه لَم يَعرِف كيف يَدفِنُ أخاه، وأنَّ الله لم يَهدِهِ إلى كيفية الدَّفن، إلاَّ بعد أن أرسل الغُراب ليُبيِّن له كيف يفعل ذلك فاستفاد هَذه المهارة منه. فليس ثمّة تعارض بين هذا وهذا.
(َقالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ الظُلم مَانعٌ من الفَهم لأنَّه قَد ظلم أَخَاه واعتدى عليه فلم يَهدِه الله تعالى إلى كيفية دفن أخيه, فلذلك قال الله :(من أجل ذلك) أيّ من أجل حُرمة القتل وعظيم شأنه (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أيّ قضينا عليهم (َأنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ) أيّ من قتل نفساً مُؤمنةً مَعصومةً بغير نفس أيّ لم يَقتُلها قِصاصاً (َأوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ) أيّ لم يقتلها بسبب فسادها في الأرض إمّا بِرِدّةٍ، أو قطعِ طريقٍ، أو حِرابة أو نحو ذلك, أي يقتلها هكذا لمُجرّد القتل ظُلماً وعدواناً, قال (كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) وهذا فيه إشارة إلى حُرمة النَّفس المعصومة المؤمنة أنّ قتلها أمره عظيم, وهذه الآية فيها إشارة إلى تعظيمِ أمر القتل وأنَّه منكر عظيم وذنب كبير , ولذلك قال: (فكأنَّما قتَلَ النَّاس جميعاً ومن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاس جميعاً) أيّ من أحيا نفساً مؤمنة ،أنقذها من الهَلاك فكأنّه أحيا النَّاس جميعاً تعظيمٌ وتقدير لهذه النَّفس التي بين جَنبي الإنسان .
 قال (وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أيّ هؤلاء المُعاندون والمُكذِّبون من بني إسرائيل جاءتهم رسُلنا, وفي التَّعبير هنا بقوله: (جاءتهم رسُلُنا) ولم يَقُل: (ولقد أرسلنا رُسُلنا) لأنَّها تحتمل أنّهم أُرسِلوا، لكن هل بَلَّغوا أم لم يُبلِّغوا؟ تحتمل هَذا وذاك, لكن عندما يقول ( ولقد جاءتهم رسُلُنا) الإِشارة إلى أنّه قد وَصلهم هذا الأمر وقامت عليهم الحُجَّة فجاء التعبير بقوله: (وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أيّ جاءتهم رُسُلُنا بالآيات الواضِحات البيِّنات التِّي لا لَبس فيها ولا خَفاء ولكنّهم على الرَّغم من ذلك لم يُؤمنوا ولم يَستجيبوا.
/ ثم يقول الله مُبيِّناً حَدَّ الحِرابة ، كيف ناسب الآن ذكر الله لنا قِصَّة ابني آدم وكيف أنَّ أحدهما اعتدى ظُلماً وعدواناً وجَوراً على أخيه فقَتَلَهُ بغير حقّ, فجاءَ هُنا بيانُ عُقُوبة من يفعلُ ذلك , الذِّي يعتدي على النَّاس بالقتل، وبالتَّرويع، وبالنَّهب ونحو ذلك فهو مُحاربٌ فلابدّ أن يُطبِّق فيه حُكُم وحدّ الحِرابة وهي من الحُدود والأحكام التِّي لم تَرِد إلاَّ في هذه السُّورة .
يقول تعالى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا) يُحاربون الله، فلا أحد يستطيع أن يُحارب الله ، ولكنّه سمَّى إفسادهم في الأرض، وقتلهم للآخرين بغير حقّ، واعتداءهم على الآخرين كأنَّه محاربةً لله ورسوله. ثم قال (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا) ليسوا مُفسدين فقط , بل فسادهم عريض، فكأنّهم يَسعَون سَعياً في نَشره وفي تعميمه, ولاحظوا التَّعبير أنّه قال: (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا) ولم يقل: "يُفسدُون في الأرض" فيه إشارة إلى انتشار فَسادِهِم وشِدَّته. ما جزاؤهم؟ قال الله (أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ)، لاحظوا هُنا هذا الحدّ الرَّهيب، وهذا الحُكم الذِّي هُوَ في غَاية الحَزم. ولاحظوا بالرَّغم من أنَّ سورة المائدة اشتملت على الكثير ممَّا أباحه الله للعباد، والكثير من التوسعة، والكثير من الرَّحمة إلا أنَّها أيضاً فيها من الحَزم، والحَسم، والقُوَّة، والقَطع ما يُمثّل جَوهر الدِّين الإسلامي، صحيح أنّ الدِّين الإسلامي دينُ السَّلام، ودينُ المحبَّة، لكنَّه أيضاً دينُ الحَسم، ودينُ القُوَّة فهو أحلَّ لنا الطَّيبات وأحلّ لنا ... وأحلّ لنا ... الخ ولم يُحرِّم إلاَّ أشياءَ قليلة،ولكن لابد أيضاً من رَدعِ المُعتدين لذلك جاء هُنا بحدّ الحرابة وهو في غاية القَسوة لمن يَسعى في الأرض فساداً، أو يَسفك أو يَسرق، أو يُروّع الآمنين , قال الله: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ) لاحظوا كيف وَصَفَهُم (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ) ولم يَقُل "أن يُقتَلوا" بل قال (يُقَتَّلُواْ) أيّ يُبالغ في قتلهم قتلاً ذريعاً وتتبُّعِهم،ولذلك قال (يُقتَّلوا) بصيغة التَّشديد، (أو يُصلَبُّوا) والتَّصليب هو التَّعليق حتى يَكونَ عبرة لمن أراد أن يعتبر, ويُمكن أَن يُجمَع له بين الأمرين فيُقتَل ثم يُصلَب قال (أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ) تُقطَّع يَده اليُسرى، ورجله اليُمنى أو رجله اليُسرى ويَده اليُمنى وهكذا .
 • (أو يُنفَوا مِنَ الأرض) يُخرجُوا من الأرض التي هم فيها.
 • وبعض العلماء يقول: (يُنفَوا من الأرض) يُنفَّذ فيه السِّجن ، فإنَّ السِّجن يعتبر نفي من الأرض. ولذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أراد أن يَنفي أحد سَجَنَه لأنَّه يقول إذا نَفيتُه وصَل شَرُّهُ وفَسادُه إلى من نفيتُهُم إليه. ولذلك المُفسِّرون يقولون إنَّ هذه العُقوبات تعود للآمِر أو الحَاكم (الإمام) فهو الذي يُنفِّذ هذه الأحكام فقد يكون جُرم المُجرم أنّه قتَلَ ونَهَب، فيُقتَل ويُصلَب أو يُقتَل وتُقطَع يديه ورجليه من خِلاف، ويُجمَع له أكثر من عقوبة من هذه العقوبات , فهي مسألة ترجع إلى اجتهاد الإمام بما يَراه مناسباً.
/ ثم يقول سُبحانه وتعالى (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فيه إشارة إلى أنَّ هذا الحَدّ الذِّي يُقام عليهم في الدُّنيا لا يَدرأ عنهم عقوبة الآخرة. بعض العُلماء يقول إذا تابُوا ولم تُقام عليهم الحُدود فإنَّ الله يُكفِّر عنهم في الآخرة ,ولكن دائماً الحَديث عن المصير في الآخرة إنَّما هُو من شَأن الله سبحانه تعالى. فما لم يُصرِّح الله سبحانه وتعالى به تصريحاً واضحاً فلا يجوز لنا أن نجزم به، فلا نجزم هنا بأنَّه يُعفَى عنهم في الآخرة أو لا يُعفى، وإنَّما يُرجع أمره إلى الله تعالى.
/ ثم قال في الآية التي بعدها (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) أيّ الذِّين تابُوا عن الإفساد في الأرض قبل أن يُقدَر عليه - قبل أن يُقبَض عليه - فيَسقُط عنه الحدّ، لكنّه لا يُترك حقُّ الآخرين عنده . مثال: رجُلٌ سَرَقَ مَالاً وهَربَ به،ثم تَاب بعد ذلك، فهل توبته هذه تُسقط حق الذِّي سُرِقَ ماله؟ الجواب: لا، ولَكنَّ تَسقِطُ عنه حدُّ الحِرابة فلا تُقام عليه، بدلالة هذا الاستثناء الذّي في الآية ( إلاّ الذّين تابُوا من قبلِ أن تقدروا عليهم) .
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى في نداءٍ آخر من نِداءاتِ هذه السُّورة العظيمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هذه من الآيات الجَامعة في سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ) اتقوا الله: فيها إشارةٌ لاجتنابِ كُلِّ المَناهي لأنَّ التقوى هي اجتنابُ ما نَهَى الله عنه واتقائه هذه هي التَّقوى أن تَجتنب ما نَهاكَ الله عنه ،(وابتغوا إليه الوسيلة) أن تفعل ما أَمَركَ الله به، والشَّريعة لا تخرج عن هذه الأعمال وهي : اجتنابُ النَّواهي، وفعلُ الأوامر ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ) والوسيلة: هي كُلُّ ما يُتوَسَل به إلى طاعة الله سبحانه وتعالى من الأعمال. ولذلك نحن نقول بعد سماع النِّداء (آتِ مُحمداً الوسيلة والفضيلة) يعني آته كُلَّ ما طَلبَهُ، وتوسَّلَ إليك ياربِّ بِطلبه.
 ثم يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فَعطَف الجِهاد في سبيل الله على التَّقوى، وعلى ابتغاءِ الوسيلة مع أنَّ الجهاد في سبيل الله هو من ابتغاء الوسيلة إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنَّه من باب عطِف الخاص على العام إشارةً لأهميته وعَظَمَتِه. ولا شك أن الجهاد في سبيل الله من أعظم الأعمال وأزكَاها عند الله سبحانه وتعالى.
/ ثُم يذكر الله - سبحانه وتعالى عن الذين كفروا الذِّي يموتُ منهم كافرا فلو أنفق يوم القيامة مِلءَ الأرض ذهباً وحَاوَلَ أن يَفتدِي به يوم القيامة من عذاب الله فلن يُتقبَّل منه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) وهذا طبعاً في حَقِّ من لم يَتُب قبل وَفاتِه ويُسلِم, أمَّا الذِّي يتوب فإنَّ الله يتوب عليه، لكن الذِّي يموتُ كافراً فإنَّه لن يُغفر له، ولن يُتقبَّل منه فديةٌ، ولا يؤخذ منه عدل ولا يَقبلُ الله منه صَرفاً ولا عَدلًا. ولاحظوا أنّه يقول ( لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) يُشير الله سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى أنّ جزاءَ الكافرين في الآخرة هو الخُلُودُ والإقامةُ الدَّائمة في النَّار- والعياذ بالله-
/ ثم يقول سبحانه وتعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) انتقل الحديث من السَّرقة الكُبرى، إلى السَّرقة الصغرى , فالسَّرقة الكُبرى هي الحِرابة ويحصل فيها السَّرقة، والقَتل، والتَّرويع، والنَّهب لذلك كان الجزاءُ في غايةِ الحزمِ، من التَّقتيل، أو الصَّلب، أو النَّفي، أو تقطيع الأرجل والأيدي من خِلاف، وهذه عقوبةٌ شديدة , ثم جاء الحديث عن السَّرقة الصُغرى قال (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
السَّرقة: هَيَ أخذُ مالِ الغير خِفيَةً من حِرز . فإذا أخذته عنوة وبشكل ظاهر فلا يُسمى سرقة وإنما يُسمى غصبا ، لكن إذا أخذتها خفية فهي سرقة ولابد أن تكون من حِرز  بمعنى أنك إذا وجدت مالاً مثلاً مُلقىً في الشّارع وأخذته، فلا تسمى سَرقة. والآية تَدُلُّ على أنَّ من سَرَقَ أيَّ شيء قليلاً أو كثيراً فإنَّها تُقطَعُ يَدُه . لكنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يَقطع إلاَّ في نصابٍ مُحدد وهو (رُبعُ دينارِ-عشرة دراهم) فتُقطع يدُه إذا سَرَقَت هذا النِّصاب, أما إذا سَرقَت ما هو أقلَّ من ذلك فلا تُقطَع ، ثم أيضا ما هُو حَدُّ القَطع؟ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) اليَدُ تُطلق على الكَفّ وعلى الذِّراع كُلُّها يد.(تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ) فالعُلماء بعضهم يقول أنّها تشمل من الكَفّ وبَعضهم يقول أنّها من الكفّ إلى المرفق ، وبعض يقول أنّها من الكــــفّ إلى الـــــذراع. وكلُّها يُطلق عليها لفظةُ (اليد) فالنَّبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قَطَعَ، قَطَعَ من الرُّسغ الذِّي هو كَفُّ اليَد، ولذلك يَقطَعُ العُلماء اليَد من الرُّسغ.
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) قدَّم السَّارق على السارقة، لأنَّ السَّرقة في الرِّجال أكثر منها في النساء ،وكما قدَّم في سُورة النُّور فقال: (الزَّانيةُ والزَّانِي) فَقدَّم الزَّانية لأنَّه أقبح في حَقِّها.
/ (فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وهذا إشارة إلى جُرم السَّرقة وقُبحِهِ، وأنّ المسلم لا يُقدِم عليه ، وقد ذكر أهلُ التَّراجم قصة طريفة عن الأصمعي رحمه الله وهو طفل صغير. قال: كنتُ أقرأُ في أحدِ مساجد البصرة فقرأتُ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ والله غفورٌ رحيم) فقال لي أعرابي: أبصِر ما تقرأ يا غُلام - ما أعجبَت الأعرابي- كيف تقول: (فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ والله غفورٌ رَحِيم) فقلت له: هل تقرأ القرآن؟ قال: لا، ولكن هذا لا يقولُهُ بَليغ . قال: فنظرتُ فإذا هي (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال: الآن نعم، عَزَّ فَحَكَم فَقَطَع،ولو غَفَرَ ورَحِم مَا قَطَع . وهذا إشارة إلى أنَّه لا بدّ لِكُلِّ واحدٍ منّا وهو يَقرأ القرآن الكريم أن يُراعِيَ خواتيم الآيات ويتدبَّرَ فيها لماذا خُتِمَت هذه الآية بهذا الخَتم؟ مثلاً في سورة المائدة سيأتي معنا في آخر السُّورة وربما تأتي مع غيري (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كثيرٌ من النَّاس يقول "فإنَّك أنت الغفور الرحيم" لأنّه مناسب , ولكنّ الآية ليست كذلك (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) هذه أبلغ من أن لو قال "فإنَّك أنت الغفور الرَّحيم" لأنّ معناها : وإن تغفر لهم تغفر لهم عن عِزَّةٍ، وَحِكمة وليس عن ضَعف ، وهذا لا شَكَّ أنَّه أَبلغ في الاستلطاف والاسترحام عن الله تعالى (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العَزيز أيّ القَادِر على الانتقام ولكنك تغفر ،الحَكيم تغفر، فتأمَّلُوا فِي خَوَاتِيم الآيات دَائِماً تَجِدُوا فيها من البَلاغَة ومن الدِّلالة على عَظَمة هذا القرآن وأنَّه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد .
/ قال الله بعدها: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) تُلاحِظُون أيُّها الإخوة كيف يُذَكِّرُنا الله تعالى بين كل آية وآية، بِسِعَةِ رحمته وفضله، وأنَّه سبحانه يقبَلُ التَّوبة ويُحِبُّ التوابّين، ويَدعوهم إلى التوبة، ويذكِّرَهُم بأنَّه غفورٌ رحيم.
 ما معنى أن يقول تعالى (فإنَّ الله غفور رحيم). (وهُو الذِّي يقبَلُ التّوبة عن عباده ويعفُو عن السَّيئات ويعلَمُ ما تفعلون) لماذا؟ الله سبحانه وتعالى لا يَصِف نفسَه بهذه الأوصاف إلّا دعوةٌ لك، ودعوةٌ لي إلى التوبة والإنابة والإقبال عليه سبحانه وتعالى لأنَّه هُو الغفور، وهو الرَّحيم، وهُو التَّواب وهذا كُلُّهُ فتحٌ لبابِ التَّوبة, تأمَّلوا في فتح باب التوبة الواسع، وتأمّلوا في التَّضييق على بني إسرائيل تجد فعلاً أنَّ هذا كُلُّهُ فيه دعوةٌ لكَ يا أيُّها المسلم، يا من آمنت بالنّبي - صلى الله عليه وسلم - واتبّعت هذا القرآن, فَلَكَ مُميزات ليست لِغيرك، ولكَ تسهيلات ليست لغيرك, ونحن قد خفّفنا عنك تخفيفات ما خفّفناها على من قبلك . ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (ويَضَعُ عنهم إِصرَهُم عليهم والأغلالَ التي كانت عليهم) فالحَمد لله على تيسيره وتوفيقه.
 نتوقف في نهاية المَجلس الثّالث ونواصل بإذن الله في المَجلس الرابع وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 المجلس الرابع:
 بسم الله الرحمن الرحيم , الحمدلله والصَّلاةُ والسَّلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً. هذا هو المجلس الرَّابع من مجالس تفسير سورة المائدة, هذه السُّورة المَدنية التي تتحدَّث عن الحَلال والحرام، والتِّي اشتملت كما تقدَّم معنا في أوَّلِهَا على ستةَ عشرَ نداءً بِوصف الإيمان (يا أيّها الذِّين آمنوا) وقد ذكرتُ سابقاً أنَّ السُّورة دارت حول هذه النِّداءات الستةَ عَشرَ، والتّي كان معظمها متعلِّقاً بالطَّعام، وبالشَّراب، وبالصَّيدِ، وبالذَّبائح فلذلك ناسَبَ تسميتُها بسورة المائدة لذلك، بالإضافة إلى ذكر المَائدة في آخر هذه السورة.
/ يقول الله تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب يشمل النَّبي صلى الله عليه وسلم ويشمل أُمَّته. يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذه من الآياتِ الجامعة، وهي تتكرَّر في القرآن الكريم فيه تذكيرٌ للمُؤمن بأنَّ الله سبحانه وتعالى له كل شيء له ملك السموات والأرض, وأنت إذا سمعت مثل هذه الآية يذهبُ فِكرُكَ وعقلُكَ إلى هذه الكلمة العظيمة : (السَّماواتُ والأَرض ) (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء ) وهذا مُنتهى القُوَّة، والقُدرة، والعِلم لأنَّ هذا المُلك يَستلزِم العِلم، والقُدرة، والحِكمة فإذا قَارنت ذلك بِمَلِك من مُلوكِ الدُّنيا تضاءَل عندكَ مُلكُه, وهذا يُولِّدُ في نفس المُؤمن وهو يقرأ هذه الآيات : استشعارُ عظمةِ الله سبحانه وتعالى وتعظيمه في نفسك ، وأنَّك تعبدُ العَظيم الذي له مُلكُ السَّموات والأرض ، وأنّك ترجُو العظيم الذِّي له مُلكُ السَّموات والأرض.
 وهذا يجعلُ في نفسك من الطُّمأنينةِ، ومن الثِّقة، ومن الفَخر، ومن الاعتزاز بهذا الإله سبحانه وتعالى ممَّا يجعلُكَ تزهَدُ في مُلكِ غيره، وتتضاءَل في عينيكَ الدُّنيا . لكن من هو الذي يتدبّر مثل هذه الآيات، ويتأمّل معناها ؟ ولذلك الصَّحابة كانوا يتوقفُون عند مثل هذه الآيات, فمعناها واضح لا تحتاج إلى تفسير، ولكنّ استشعارها هو الذِّي يحتاج إلى أن يُعمِلَ الإنسان عَقله وقلبَهُ في تدبُّرها، لعلّ الله أن ينفعه بها ولذلك يذكرون عن بعضِ السَّلف قصص كثيرة في هذا،وتأثُّرُهُم بمثلِ هذه الآيات, من ذلك: أنّه دَخَلَ ذاتَ يومٍ أحدُ المُلوكِ على قومٍ، فقامُوا له جميعاً إلا أحدُ التَّابعين أو أظُنُّه من أتباع التَّابعين. فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد أردتُ أن أقوم- أيّ ليس جلوسي احتقاراً لك- فتذكَّرت قولُ الله تعالى: (يوم يقومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالِمين) فتركتُ القيام لذلك اليوم! ولاشَك أنّه معنى عظيم الذي يستشعره ينخلع قلبُه، تعظيماً لله تعالى، وهيبةً له. وكذلك هذه الآية (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مُنتهى المُلك والقُوَّة .
/ ثم يدعو الله سبحانه وتعالى النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويخطابه خِطاباً بِوصَف الرِّسالة (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) من المُنافقين , في ندائِه بوصف الرَّسول، رفعٌ لمَكانته عليه الصّلاة والسَّلام وتصديقٌ له وتثبيتٌ له عليه الصَّلاة والسَّلام (يا أيُّها الرُّسُول) لم يذكره باسمه إلا في مَواضِعَ قليلة في القرآن الكريم (وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَت من قبله الرُّسُل) سمَّاه باسمه في هذه الآية لأنَّه يقول إنَّه بشرٌ مثلُكُم يَجري عليه ما يَجري عليكم من الموت (وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل) وسُمِّيَ كذلك باسمه، في سُورة الفتح قال الله: (محمدٌ رسول الله) فسمَّاهُ باسمه هنا ولم يكُن نداءاً،فناسب ذلك لكي يصفه بأنه رسول الله ، وفيما عَدَا ذلك فإنَّه يخاطِبه بِوَصَف النَّبي والرَّسول:
(يا أيُّها النَّبي لم تُحرِّم ما أحلَّ الله لك)
 • (يا أيَّها النَّبيّ جَاهد الكُفَّار والمنافقين) .
 • (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ )
 وكُلَّ هذا من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربِّه وتوقيره, فالنَّبي صلى الله عليه وسلم كان يَجِدُ مشَّقَةً وعَنَتاً نفسِّيا كبيراً من تَكذيب المُكذبيّن له , وكانت في بداية الإسلام أشدُّ منه في آخره، فقد كان يتضايِق عليه الصَّلاةُ والسَّلام من تكذيب المُشركين ومن إعراضهم, فلذلك كان الله سبحانه وتعالى يقول له (فلعلَّك بَاخِعٌ نَفسَكَ على آثارِهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديثِ أسفاً) باخعٌ نفسك: أي قاتِلُ نفسك من الحُزن ومن الهَمّ لِتكذيب هؤلاء وإعراضهم . وكذلك هنا يقول (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) فلا تهتَم لهؤلاء, أنتَ عليك البلاغ فمن آمن فلنفسه، ومن كفر فعلى نفسه. ولاحظوا قوله تعالى في وصف هؤلاء المنافقين (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لم يقُل "ولا يَحزُنكَ الذِّين يَكفرون" وإنَّما قال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ممّا يدُلُّ على أنَّهم أصحاب قَصد، وأصحاب نِيَّة فاسدة، وجُهُود حثيثة في التَّكذيب، والكُفر والإعراض، ويبتَكِرُون الطُّرق. ويحثُّون غيرهم ويُجنِدُّون غيرهم على الكُفر فهؤلاءِ هُمُ المُنَافقون . قال الله (مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) فهذا أفضل تعريف للمنافقين , المنافق هو الذي آمَن بلسانه وكَفَرَ بقلبه (ومن الذِّين هَادُوا) هَذَا ما يُسمِّيه علماءُ التَّجويد (تعانق الوقف) فممكن أن تحتمل الآية عدة معاني :
 • المَعنى الأوَّل: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ) فيكون المقصود اليهود والمنافقين .
 • المَعنى الثَّاني: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) ثم تتوقف, فيكون المقصود بها المنافقون, ثم تبدأ فتقول  (وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) فيكونُ ابتداءً لكلامٍ جديد .
 • المَعنى الثَّالث : أن تَجمَعها جميعاً فتقول: (مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) فتكون هذه الصِّفات كُلَّها موجودة في المُنافقين وفي اليهود على حَدٍّ سواء , فيكونُوا كُلُّهُم يُسارِعُون في الكُفر وهم كذلك، فاليهود يُسارِعُون في الكُفر، والمُنافقون يُسارِعُون في الكُفر وهو صحيح , وقال الله (سمَّاعُونَ للكذب سَمَّاعونَ لِقومٍ آخرين) أيضاً فَهُم كذلك, فوقفُ التَّعانُق فيه هذه الثَّلاثَة:
 • فإمَّا أن تصِل الجميع.
• وإمَّا أن تَقف عند الكلمة الأولى، وتبدأ من الكلمة الثانية.
• والذِّي لا يَصِح أن تقوله (يا أيُّها الرَّسول لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) ثم تقف, ثم تقول (ومن الذين هَادُوا) وتقف, ثم تقول (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) فيَختلَّ المعنى , أمَّا إذا وَصلت، ووقفت على أحدِهِما فالمعنى مُتَّصل, فلا يوجد شيء اسمه حالةٌ أولى، بل كُلُّها مقبولة ولو كان هناك حالة أولى لَمَا كانَ هناك وقف التَّعانق وإنما كَتبوا (صِلي أو قِلي). وطبعاً هذه اجتهادية، ووضع الوَقف تابعة للمعاني والمعاني إذا كانت تحتملها الآيات ولم يكن في ذلك مَحذُور من حَملها على أحد الأوقاف فإن ذلك جائز إن شاء الله, إذا لم يَترتب على الوَقف مَعنىً باطلٍ ومعنىً فاسد لا تحتمله الآية فلا بأس . في سورة القَصص مثلاً عند ذكر قصة موسى إذا قرأ أحدهم (فَسَقَى لهُما ثم تَولَّى إلى الظِلّ فَقَال) يعني من القيلولة, فالمعنى صحيح تولى إلى الظل لكن هل الآية تدل على ذلك؟ هل يجوز أن تبدأ من بعدها (ربِّ إنِّي لِمَا أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقير)؟ هَذه مقولُ القَول, ولا يجوز أن تَفصل في جُملة مَقُول القَول،فمعنى الآية (قال ربِّ إنِّي لِمَا أنزلت إليّ من خير فقير) ومعنى (قَالَ) هنا من القَول وليس من القيلولة, فإذا نقول الوقف هنا غير صحيح , أو يأتي شخص فيقول في قِصَّة يوسف ( قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبِق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكَلَه) ثم تقف، فاختلّ المعنى (فأكله الذِّئب) الذئب فاعل فأكله, فإذا وقفت عليها وألحقتها هنا فممنوعٌ الوقوف, وهذا فنٌّ لَطيف من فنون التفسير.
/ قال: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) لاحظوا أيُّها الإخوة كيف الله ذكر ذلك المنافقين واليهود, فلم يَقل "ساِمعونَ للكذب" وإنّما قال: (سمَّاعون) مبالغة في أنّهم سمّاعون للكذب , يستمعون إلى الكذب، ويروِّجونه، ويُكثِرُون منه, وسبحانَ الله العظيم بالرَّغم من هذه الأوصاف الواضحة والصَّريحة لهؤلاء، فنَحن لم نعتبر ولم نَتَّعظ , وهم يُروِّجُون علينا الأكاذيب إلى اليوم، ولكنّنا لا ننتبه لهذا مع أنّ الآية واضحة في وصفهم بالكذب, (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) وقال في اليهود (أكّالُونَ للسُّحت) .
/ قال الله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) يُحرِّفونه لفظاً، ويُحرّفونه معنىً
 • يُحرِّفونه لفظاً أيّ يُغيِّرُونه ويمسحون ويضيفون، ويُعدِّلون .
 • ويُحرِّفُون معانيه يتركون الألفاظ كما هي ولكن يُغيّرون التفسيرَ والمعنى
قال (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ) يُشيرُ إلى إرجاف هؤلاء المنافقين وإرجاف هؤلاء اليهود .
 ثم يقول الله تعالى: (وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهذه آية عظيمة فنعوذ بالله من النِّفاق، ومن حالِ المُنافقين عندما يقول الله سبحانه وتعالى: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) لماذا؟ عقوبةً لهم, لِمَا في قلوبهم من الحَسَد، ومن الغِلّ، ومن التَّكذيب جعله الله تعالى عقوبةً لهم بأن جعلهم في نفاقهم يعمهون، نعوذ بالله من ذلك, ولاحظوا أنَّ الله سبحانه وتعالى هنا يذكر عن اليهود بالذَّات قضيةَ الحَسَد والغِلّ الذِّي في نُفُوسهم إشارة إلى أنَّ هذا الأمر من أشهر ما يَتصِّف به هؤلاء اليهود وإلى يَومنا هذا، وهذا شيءٌ لا يَشُّكُ فيه أحد.
/ ثُمَّ يَصف الله سبحانه هؤلاء المُنافقين، وهؤلاء اليهود فيقول الله سبحانه وتعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) والسُّحت هو الرِّبا والمال الحرام (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فكان اليَهُود يأتون للنَّبي صلى الله عليه وسلم يَتحاكمون إليه, يحكم بينهم في بعض القَضايا فالله سبحانه وتعالى يقول للنَّبي صلى الله عليه وسلم إذا جاؤوك يا محمد ، الله لم يُكلِّف النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب فيقضي بينهم ابتداءً وإنما هم يتقاضون , ولذلك يقول في الآية التي بعدها (وكيف يُحكِّمونك وعندهم التوراة) أيّ لو أرادوا أن يَحتكموا إلى التَّوراة التي بين أيديهم لفعلوا، ولكن هم عندهم مثلاً في التوراة حُكم قاسي فبعضهم يقول اذهبوا إلى محمد يمكن تجدوا تخفيف , المسألة ليست بمسألة هوى , فقال الله سبحانه: (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أنت بالخيار , إن حكمت بينهم بكتاب الله فلك ذلك، وإن أعرضت عنهم وأرجعتهم إلى ما بين أيديهم فلك ذلك , (وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا) ليس عليك في ذلك مُؤاخذة (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الخِطاب للنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) فإذا كان الخِطاب هذا للنَّبي صلى الله عليه وسلم وهو أَعدلُنا - عليه الصلاة والسلام - وأقومنا بالقِسط فهو في حَقِّ أُمتِّه من بابِ أَولى.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى مُتَعجِباً من حالِ اليهود (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ثُمَّ لاحظوا كيف يَصِف الله التَّوراة، وأنّه أنزلَ فيها الهُدى، وأنزل فيها النُّور على هؤلاء المُكذِّبين،ولكنَّهم لم يعملوا بها ولم يستجيبوا لِمَا أمرهم الله تعالى فيها فيقول: (إنَّا أنزلنا التوراة فيها هُدَى ونُور) لاحِظُوا الفَرق بين القرآن والتَّوراة, الله تعالى يقول في القرآن (ولكن جعلناه نُـوراً نَهدي به من نشاءُ من عِبادنا ) ويقول في التَّوراة (إنَّا أنزلنا التَّوراة فيها هُدَى ونُور) ولا شَكّ أنَّ وصَفها (بالنُّور) هنا أقلّ من وصف القرآن الكريم هناك , لأنَّه قال: (ولكن جعلناه نُوراً) فالقُرآن كُلُّهُ نور, وقال: (رُوحاً من أَمرنا) وقال هنا (إنَّا أنزلنا التَّوراة فيها هُدَى ونُور) ولا شَكّ أنّ هذا تفضيلٌ للقرآن الكريم على غيره، لِذلك وصَفه سبحانه وتعالى بأنَّه مهيمن قال: (ومهيمناً عليه) .
قال (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) يَصِفُ الله سبحانه وتعالى التَّوراة أيضاً بأنَّ فيها من الهُدى، وفِيها من الأحكام ما لو استجاب لها اليهود الذِّين يزعُمُون أنَّهم يتَّبِعُون ما في التَّوراة لاتَّبعُـوك يا محمد, فقد أنزلنا فيها نُوراً وكان يحكم بها النَّبيُّون الذِّين أَسلموا يَحكمون بين اليَهود فِيما بَينهم (والرَّبَانيُّون والأَحبار) وهنا فيه تفريق بين الرَّباني والأَحبَار:
 • والرَّبَاني هو العَالِم الذي يَعمل بِعلمِه.
 • وبعضُ المُفسِّرين قال: الرَّبَانيُّ هو الذِّي يُربِّي الطُّلاب بصِغَارِ العِلمِ قبل كِباره. والمعنى الذِّي يَجمع التَّعريف الجَيِّد للرَّباني أن يُقال : أنَّهُ المُعلِّم المُرَبيّ، مَأخوذٌ من التَّربية, التَّربية هي أن تُعلِّم وتُربِّي ولا شَكّ أنَّ المُعلِّم المُربّي هو الذِّي يَتعَاهَد وَيعرِف كيف يُربِّي، ومتى يُربِّي،ويعرف كيف يعطي المعلومة، وكيف يكون قُدوة ...الخ, ولذلك سمّاه الله الربّاني يعني عالم يعمل بعلمه ويُربّي به ويكون قدوةً لتلاميذه .
 • أمَّا الأحبار فهُم جمع حَبْر, وقيل جمع حِبر وهو العالم الكبير أيضاً، لكن لا شكّ أنّ الربّاني يُفضَّل على الحَبر لأنَّ الربّاني أكثر عَمَلاً بِعلمِه .
/ ثم قال: (بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) يذكُرونَ قصَّةً طريفة يَقولون: كان يَحيى بن أكثم وهو من قُضاة المأمون المشهورين, يذكر قصةَ رجل كان خطَّاطًا، وكان صَابِئياً. فقال له المأمون: أَسلِم وأُعطيكَ عِشرين ألف دينار، فاستكبر المَأمون أن يكون هذا الرجل من جُلسائه في المجلس،وخَطُّهُ بهذا الجَمال، وهو على دِين الصَّابئة. فقال: دَعني ودِيني يا أمير المؤمنين. ثم غابَ فترة، ثم جاءَ فإذا به قد أَسلم،فقيل له في ذلك فقال: إنِّي أخذتُ كِتاباً لليهود فكتبتُ منه نُسخة وجوَّدُتُها، وحبَّرتُها تحبيراً، وزِدتُ فيها ونقصت, ثم عرضتُها على أحبار اليَّهود - العُلماء - قال: فاستحسَنُوها غايةَ الاستحسان. قال: فلما رأيتهم لم يكتشفوا التَّغيير الذِّي أحدثتُه فيها،علمت حينها أنّه لو كان ديناً مَرضياً ومَحفوظاً، لانكشف لهم هذا التَّحريف،وهذه الزِّيادة . قال: ففعلت ذلك في كتاب بالنصارى فانطلى عليهم التزويُر أيضاً. قال: فأخذتُ القرآنَ، فكتبت منه نسخة وذهبت به إلى سوق الورّاقين - لم يذهب به للعلماء - ذهب للذِّين يبيعون الكُتب ويشترونها - والعادة أنَّهم ليسوا بعلماء مُتخصصين - قال: فما إن وقَع في يد أحدهم وقعت عينُه على التَّحريف . قال: فعلمتُ أنّه دينٌ محفوظ فأسلمتُ.
 يقول يحيى ابن أكثم فلمَّا كان الحجّ لقيتُ أحدُهُم فأخبرتُهُ بالقصَّة ، قال: مصداقُ ذلك في كتاب الله, الله سبحانه وتعالى يقول عن القُرآن: (إنَّا نحن نزّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون) فنَسَبَ حِفظَ القُرآن الكريم إلى نفسه, تكفَّل الله بِحفظ القرآن ،وقال الله في التّوراة والإنجيل (بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) فأوكَلَ حفظ كتابهم إليهم، فحرّفوه وبدّلوه. وهذا استدلالٌ حسن.
/ قال الله بعد ذلك: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
 سؤال: هل معنى (وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً) أنّه يُمكن للإنسان أن يشتري بآيات الله ثمناً كثيراً فيكونُ معفواً عنه؟ الله يقول: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) يُخاطِب هؤلاءِ العُلماء، وهؤلاءِ الأحبار أنَّي قد استحفظتكم على هذا الكتاب العظيم، وعلى هذه التَّوراة وما فيها من العِلم وما فيها من الشَّرع (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) وهذا الذِّي ينبغي على العَالِم أن لا يخشى إلا الله، لأنَّه قد استحفظه الله على أمَانةِ العِلم فإذا كَتَمَه ونَطَق بالبَاطل، وكَتَم الحقّ فهو لم يَصُنِ الأمانة . ولاحظوا أنَّ الله سبحانه وتعالى يذكر في هذا السِّياق يقول (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) فيه إشارةٌ واضحة للعُلماء إلى أنَّكم سوف تتعرَّضُون للابتلاء وسوف تَمُرّون بمواقف ينبغي لكم أن تقولوا فيها كلمة الحقّ، وتدفعون ثمنها، وتصبرون على ذلك (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً) فقال العلماء : كُلُّ الدُّنيا ثمنٌ قليل, لو أَخَذت الدُّنيا كُلَّها مُقابلَ السُّكوت عن الحقّ وكتمانه فأنت قد أخذتَ بها ثمناً قليلاً. فالدُّنيا كُلُّها هي ثمنٌ قليل وعرضٌ زائل مُقابل قَول الحقّ والصَّدع به .
/ ثم يقول الله سبحانه (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) تُلاحظون في هذه الآية، والآية التي بعدها، والتي تليها تكرار لهذه الآية :
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ثُـــمّ يقول
 (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْظّالمون) ثُـــمَّ يقول
 (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفاسقُون)
 فَوَصف الله الذِّين يَحكمون بغير ما أنزل بثلاث صفات (الكُفر والظُّلم والفِسق) فَبَدَأَ بأعظمِهَا ثم تَدَرَّج إلى أقلِّها.
فالآية الأولى يَذكُر اللهُ فيها العُلماء، والأحبار، والرَّبانيين الذِّين هُم أولى النَّاس بأن يَستمسكوا بهذا الكتاب, فإذا وقع أنَّهم تركوه وحكموا بغيره فهم أولى بوصف الكفر لأنّهم قد نَبذوه وراءهم ظِهريَّاً ولذلك قال: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) فماذا صنعوا ؟ قال (فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ) مُنتهى الاستهانة والاحتقار له (وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) .
 ثم ذكر بعض الأحكام التي كتبها الله في التَّوراة، فقال جلّ في عُلاه: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) أحكام القصاص (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ) فَمَن تنازلَ عن حقِّه فهو كفارةٌ له, يَغفر الله له من الذَّنب، ويعفوا عنه، بِقَدر عَفوِه عن صَاحبه أوعمن ظلمه (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) جاء هنا الحديث عن الحكم بغير ما أنزل الله في سياق تعداد الحدود - القصاص - فيما دون النفس (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ) .
ثم جَاءَ بِذكر عيسى عليه الصّلاة والسَّلام فقال: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم) أَيّ على آثار أَتباع موسى من اليهود ، قال (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم) أي بعدهم  (بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: جَاءَ عيسى عليه الصّلاة والسّلام مُصَدِقاً لِمَا جَاءَ به موسى ، (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) كما وصف أيضاً التوراة قال (إنّا أنزلنا التَّوراة فيها هُدىً ونور) وكذلك وَصَفَ الإنجيل قال: (فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) فيبقى وصف التَّوراة والإنجيل أَقَلّ من وصف القرآن . (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
/ ثم قال الله سبحانه وتعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) لاحظوا كيف أنّه تَدرَّجَ فَذكَرَ التَّوراة، وما فيها من الأَحكام، ثم ذكرَ الإنجيل وما فيها من الأحكام, وَصَفَ الله التَّـوراة بأنَّ فيها نُور وفيها هُدى, ووصَفَ الإنجيل بأنَّ فيه نُور وفيه هُدَى، وأنَّه مُصدِّق لِمَا جاء به موسى عليه الصّلاة والسَّلام, ثم جاءَ إلى القرآن الكريم. نستمع إلى هذه الصِّفَات التِّي وصف الله بِهَا القُرآن الكريم، ووَصفُ القُرآن في القرآن كثيرة جِدّاً، القرآن يَتحدَّث عن القرآن، فيه كلامٌ كثير في وصفه وما فيه من العَظَمَة، وفيه كلامٌ كثير فيما ينبغي عليك تجاهه كيف تفهمه، كيف تتدبّره، كيف تحفظه, فقال (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ)
 أي أيضا ما أنزلنا عليك من القرآن يا محمد فيه تصديقٌ لما بين يديك من الكتب السَّماوية السَّابقة التَّوراة والإنجيل.
 • وفيه أيضاً نسخٌ لبعض ما فيها.
 • وفيه بيانٌ لبعض ما حرَّفَهُ أهلها منها فهَذا هو معنى الهيمنة.
 قال (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ) أي من الكُتُب السَّابقة, قال (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه) فالمقصود هنا بقوله (لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ) أي جنس الكتب السماوية (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه) أيّ على الكتب السَّماوية كاملة.
/ قال (فاحكم بينهم بما أنزل الله) هذا الخِطَاب للنَّبي صلى الله عليه وسلم ولأمّته من بعده (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) وهذا فِيه إشارة إلى أنَّ المُسلم ينبغي عليه أن يحكم بأمر الله، وبما أنزل الله، فليس لك أن تجتهد فيما حَكَمَ الله فيه ولذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم حذّر ممن يتدَّخل في الحُدود بعد أن تُرفَع إلى القاضي وإلى الإمام وتوَّعَدَه وعيداً شديداً لأنَّه قد خَالف هذا المعنى (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) والتَّدخُل في الحُدود بعد أن تُرفَع هو محاولةٌ لتغيير حُكمَ ما أنزل الله تعالى. ولذلك لما أراد الصحابة - رضي الله عنهم - عندما سرقت امرأة من بني مخزوم فأرادوا أن يبحثوا عمن يشفع فيها لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الحكم فأرسلوا إليه أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وكان يحبه - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ، فأتى يشفع في هذه المرأة التي سرقت فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا وقال : (وأيمُ الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يَدَها) فضلا عن أن تكون غيرها ، وفاطمة هي فاطمة .
 في الحديث: أنَّ قريشا أهمَّهُم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلَّمه أسامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشفع في حد من حدود الله . ثم قام فاختطب ثم قال : إنَّما أهلك الذين قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيمُ الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يَدَها .
/ فيقول الله سبحانه وتعالى للنَّبي صلى الله عليه وسلم هنا (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ) سبحان الله، النَّبي - صلى الله عليه وسلّم - يُخاطَب بهذا، يقولالله تعالى له (َولاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) الخِطاب للنبي- صلى الله عليه وسلّم - ، فكيف بمن هو دونه ممن هو أولى بهذا الخطاب من غيره - عليه الصلاة والسلام - الذين يدخل فعلا فيهم هذا ويتبع أحدنا هواه لأسباب كثيرة  فهذا تحذير شديد عندما ينهى الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع أهواء أصحاب الهوى والمنافقين والمنحرفين أن يزل وأن يحكم بغير ما أنزل الله لأيّ سبب من الأسباب فيقول (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) فيه إشارةٌ وأمرٌ صريحٌ وواضح أنّ الذِّي جَاءك من الحقَ يا محمد فيه كفاية، ويُغنيك ويَكفيك عن اتبّاع ما جاء في كتاب اليهود أوكتاب النصارى. ولذلك لــمّا رأى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نُسخةً من التَّوراة أو أوراق منها بين يدي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : ما هذا يا ابن الخطاب ؟ قال : كتاب يهود أنظر فيه فقال " أمتهوكون بها يا ابن الخطاب؟ -أيّ أعندكم شكٌّ فيها - والله لقد جئتُكُم بها بيضاء نقيِّة ، والله لو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي " عليه الصلاة والسلام . فكان في ذلك نهي شَديد ووعيد شديد لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه - أن يقرأ في هذه الكتب في هذا الوقت بالذات الذي ينزل فيه الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم وينزل فيه القرآن الكريم عليك يا محمد , فَكُلُّ الكُتُب الأخرى تُغلَق, لذلك كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في أوَّل الإسلام إذا رأَى أحد من الصَّحابة يكتب حديثه عليه الصَّلاة والسلام يَنهاهُ عن ذلك, ويقول: (لا تكتُبُوا عنِّي شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فَليمحُه) كُلُّ هذا مُحافظةً على كتاب الله أن يختلط به شيء من كلام غيره .
/ ثم قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يُشيرُ الله سبحانه وتعالى إلى أنَّ العقيدة التِّي جاء بها الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام واحدة, من آدم، إلى نُوح، وإدريس وهود، وصالح، وشعيب، وموسى، وعيسى ومحمد عليهم الصَّلاة والسَّلام أجمعين.
/ يقول الله سبحانه وتعالى في الآية (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) يُشير الله إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الله قد جعل ما يدعو إليه الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام من العقيدة واحداً, فَكُلُّهُم يَدعُون إلى توحيد الله تعالى, فلم يأتِ أحد من الأنبياء عليهم الصّلاة السلام بدعوةٍ إلى غير ذلك (أن اعبدوا الله ربِّي وربَّكم) ولكن اختلفت دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الشَّرائع ,في التَّكاليف في الأَحكام الشَّرعية, في صِفة العبادة ونحو ذلك, لذلك قال الله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) فالاختلاف في الشَّرائع والعِبَادات أمَّا في العَقائد والأُصُول فإنَّهم يَتَّفِقُون.
/ ثم قال: (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أيّ مُتفقةً في الدِّين وفي التَّفاصيل كُلِّها (ولكن ليبلُوكم فِيما آتاكم) وخَلقُ الإنسان مَبنيٌّ على الابتلاء , ولذلك سورة البقرة لو تأمّلتُم فيها قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة) قبل أن يَخلُق آدم عليه السَّلام يقول (إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة) ولذلك لا يُستغرَب عندما يخرُج آدم عليه السَّلام من الجنَّة وينزِل إلى الأرض، ويستخلف ذريّة آدم بعضهم بعضاً، (جاعلٌ في الأرض خليفة) بمعنى يَخلُف بعضهم بعضاً (وجعلناكم خَلائِفَ في الأرض) وليس معناها أنّ الله جعل الإنسان خليفةً له في الأرض , هذا معنى خاطئ لأنّ الخليفة يكون عن الغائب ويكون عن الميّت يُقَال هذا خليفة. ولكن أن يُـقال خليفةً عن الله سبحانه وتعالى فالله سبحانه وتعالى لا يَخلُفُه أحد ، لكن المقصود أن استخلاف الإنسان في الأَرض، وخلق الإنسان ابتداءً كان للابتلاء, فالله يقول أنّه قد نوّع لكُم الشَّرائع لِيَبلُوَكُم .
/ قال سبحانه وتعالى (وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ)
 (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) مع قِصر هذه الجُملة إلاّ أنَّ فيها دلالة عظيمة وهي: ضَرورة مسارعة الإنسان إلى الخيرات ومسابقة الزَّمن - إن صحّ التَّعبير- وكأنَّ الإنسان - وهَذا هو الواقع - يُسابِقُ أجله فيعمل ما يستطيع من العمل الصَّالح قبل أن يفجَأهُ المَوت وينتهي الأَجل, فالله تعالى يقول (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) وهذه الآية من الآيات الجَامعة في القُرآن الكريم والتِّي تدل على وجوب مسارعةِ الإنسان إلى الخير واستكثاره من الخَير وحِرصه عليه ما دام في عمره بقية لأنّه إذا انتهى الأجل فإنها تُطوَى الصَّحائِف، ولا يستطيع الإنسان أن يُضيفَ فيها حسنةً واحدة .
/ قال الله بعدها (إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وهذا فيه إشارة أيّها الإخوة إلى أنَّ الواحدَ منّا قد ينشغل بالخِلاف بينه وبين اليَهود وبين النَّصارى وبين غيرهم عن العمل الصالح , فيقول الله سبحانه وتعالى اشتغلوا بما يَنفَعكُم، واستبقوا الخيرات، واتركوا ما لا يُفيدكم من المُجادلات، والاشتغال بالجَدَل عن العمل, فإنّكم كما قال الله جلّ في عُلاه (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
 / ثم قال (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
هذه الآيات فيها معاني عظيمة :
 أولاً : الخِطَاب فيها للنَّبي - صلى الله عليه وسلّم - وقَد تكرَّر في هذه السُّورة هذا الأسلوب,الخِطاب للنَّبي صَلى الله عليه وسلم، والتَّحذير له من اِتِّباع الهَوى، أو اتِّباع المنافقين، أو اتِّباع اليهود, وهو - عليه الصلاة والسلام - أَكمَل البَشَر عَدَلاً وتقوى وعِلماً - عليه الصلاة والسلام - فيقول: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ) كرَّرَهَا أكثر مِن مرة, ثُمَّ يقول: (ولا تتَّبِع أهواءهم) سبحان الله! هذا التَّحذير للنَّبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يغضب الواحد مِنَّا إذا قيل له اتقّ الله، ولا تَتبِّع الهَوى، وانتبه من المُنافقين، واحذر من نفسك، واحذر من الشِّيطان، ونُصِح بذلك, فليسَ هُنَاك أحدٌ أَكمل من النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو يُقال له هذا الكلام .
/ ثم يُقال (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) بمعنى التَّحذير الشَّديد للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتنازل عن شيءٍ من دِينه ولو كان يسيراً مُقابل إرضاء هؤلاء المنافقين، والمُرجفين، واليهود, وهم كانوا يحاولون بطرق كثيرة حتى في أوَّل الإسلام كان المشركون يحاولون أن يُخفِّف النِّبي صلى الله عليه وسلم حِدَّة الكلام عليهم قليلاً،وحِدَّة القَسوة على آلهتهم ويقولون : ما رأيُك يا مُحمد أن نعبُد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة ؟ فإن كُنَّا على الحقّ تكون قد أصبت منه، وإن كُنتَ أنت على الحق نَكون أيضا نَحن أَصبنا ما عندك من الحق فقال الله سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) وكانت المسألة واضحة ومفاصلة.. فهنا يقول (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) هذه الآية حقيقة في غَاية الوُضُوح أنه لا ينبغي للمُسلم أن يتنازل عن شيء من دينه مجاملةً أو مُداهنة, وأنَّ المُشركين والمُنافقين يَفرحون فَرحاً شديداً بأيّ تَنازُل تُقدِّمه, ولذلك يقول الله تعالى (ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدهِنُون) هُم يَودون أن تتنازل بأيّ شَيء، وهم سيتنازلونَ لك أكثر ، هُم يَفرحون بمن يتنازل لهم عن شيء من دينه مقابل إرضاءَهُم أو مُجامَلتِهِم .
/ ثم قال (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) وتُلاحظون في القرآن الكريم يأتي وصف الكثرة مقروناً بالذَّم:
(وما أكثرُ النَّاس ولو حَرصتَ بمؤمنين )
• وقال (وإن تُطِع أكثرَ من في الأرض يُضلُّوكَ عن سبيل الله)
وقال (وقليلٌ من عِباديَ الشَّكُور)
 • وهنا يقول: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)
ولذلك يقول أحد السَّلف كلمةً جميلة قال "لا تَستوحِش من قِلّة السَّالكين، ولا تَعجَب من كَثرة الهَالكِين" فالبعض أحياناً ينجرِف إلى طريق الضَّلال فإذا قلتَ له: لماذا؟ قال لك: كُلُّ النَّاس هؤلاء مُخطئين! لا يُعقل أن يكُون هؤلاء كُلُّهُم مخطئين، وأنت على الحق!
 الله تعالى كرَّر ذلك في مواطن كثيرة في القرآن الكريم ولذلك يقول عمر بن الخطاب أنَّه سمع رجلاً يوماً وهو يطُوفُ بالبيت يقول: "اللَّهُم اجعلني من القليل"  فَسَأَلَه :ما هذا الدُّعاء. قال: أليس الله تعالى يقول (وقليلٌ من عِبَاديَ الشَّكُور) فأنا أقول: اللَّهُم اجعلني من هَذا القليل . فقال عُمَر: كُلُّ النَّاس أفقهُ مِنك يا عمر - رضي الله عنه وأرضاه - ثم يقول الله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) في هذه الآية إشارة أيُّها الإخوة إلى أنَّ أيَّ حُكمٍ مُخالفٍ لأَمر الله تعالى، فهُوَ حُكمٌ من أحكام الجاهلية, وليست بالضَّرورة أن يكونَ قد وقع في أيَّام الجاهلية قبل الإسلام، ولكنَّه جَاهليٌّ لأنَّه مخالفٌ لِحكم الله تعالى.
أسال الله تعالى أن يُفَقهنا وإيَّاكم في كتابه وأن يرزُقَنا العَمل به، إنَّه وَليُّ ذَلِك والقَادر عليه وصلى الله وسلم على سيِّدنا ونبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ المادة الصوتية :




_______________________________
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق