الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد: فهذه فقرة الوقف والابتداء للآيات السبع الأولى لسورة البقرة وفيها مسائل:
المسألة الأولى: الوقف على قوله تعالى. (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) هل يوقف على (لَا رَيْبَ) أو يُوقف على ( لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ)؟
کلا الوجهين جائزان، يصح أن تقف على (لَا رَيْبَ) ثم تُكمل وتقول (فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ، ويصح أن تقف على ( لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ) ثم تُكمل وتقول (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)، وهذا الذي نصّ عليه عامة من صنّف في الوقف والابتداء. وبعض المصاحف وضعت هنا علامة التعانق الدالة على أنه من وقف على أحد الموضعين لا يقف على الموضع الآخر وكلا الموضعين يصح اختيار الوقف على أحدهما ، فوضعوا ثلاث نقاط على قوله (لَا رَيْبَ) وثلاث نقاط على قوله ( فِيهِ) ، إذا وقفت على (لا ريب) لا تقف على (لا ريب فيه) ، وإذا وقفت على (لا ريب فيه) لا تقف على ما قبله (لا ريب) ، ثم تكمل (هدى للمتقين) أو (فيه هدى للمتقين). لكن أي الوجهين أولى؟
عند التأمل المعنى لا يكاد يختلف، لكن هنا لطيفة تحتاج إلى أن نتنبه لها وهي: أننا إذا وقفنا على (لا ريب فيه) قلنا (هدى للمتقين) على إضمار (هو هدى للمتقين) ففيه إشارة إلى أن القرآن كله هدى، بينما لو وقفنا (على لا ريب) وقلنا (فيه هدى للمتقين) في الظرفية قد تُوهِم التبعيض أي أن الهدى فيه في جزء منه أو ما شابه ذلك، أقول: قد توهم هذا ولا يلزم.
فبناء على هذا نقول الأولى دفع الإيهام وأن نقف على (لا ريب فيه) ثم نكمل (هدى للمتقين) وهو الذي اختارته لجنة المصاحف في النسخ الأخيرة من مصحف المدينة، أزالوا علامة التعانق ووضعوا الوقف على (لا ريب فيه).
وأنبّه هنا إلى أني لا أحب أن أتعمق في التفاصيل التي يذكرها علماء الوقف والابتداء من كون الوقف أولى أو الوصل أولى أو جائز الطرفين أو لا يصح الوقف، إنما أكتفي بـ هل يصح الوقف أو لا يصح ، فإن صح صح الابتداء بما بعده ، فإن قلنا إن الوقف حسن فمعناه إنه حسن في ذاته ولا يصح الابتداء بما بعده، وإن قلنا لا يصح فالأمر ظاهر، لا يصح الوقف ولا يصح الابتداء بما بعده، ولا أحب أن أتوغل في تفاصيل الإعراب والأوجه الإعرابية الجائزة، وهي التي يفصِّلها المصنفون في الوقف والابتداء كثيرا، يهمني فهم المعنى العام الذي ترتب عليه الوقف.
المسألة الثانية: هي عطف الجُمل وقد جاءت معنا هنا كثيرا، لأن الله تعالى لما وصف المتقين قال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) هذه جملة ، ثم عطف عليها قال (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) جملة ثانية ، ثم قال عطفا (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ثم عطف (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) ثم عطف (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) ثم عطف (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، هذه المعطوفات على بعضها تتكرر كثيرا في القرآن، والعطف إما أن يكون عطف كلمة مفردة على كلمة مفردة ، أو عطف جملة على جملة، والقاعدة العامة في الوقف والابتداء: أن المعطوفات لا يُفصل بينها، بمعنى أنها لا بد أن تُوصل في القراءة فلا وقف بينها.
نستثني من هذه القاعدة أولا رؤوس الآيات، فرؤوس الآيات كما ذكرنا في الدرس السابق هي مقاطع في نفسها ويسن الوقف عليها لأنها
رأس آية ولأنها توقيفية فلا نقاش عندنا في قول الله تعالى هنا (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) لأنه رأس آية، وإن قلنا أن الواو التي بعدها عاطفة، لكن نأتي إلى ما يتعلق بالمعطوفات قبلها وما بعدها أيضا قال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) هذه المعطوفات - كما قلنا - الأصل أنه يُوصل بينها ولا يُفصل.
لكننا لاحظنا في مصحف المدينة النبوية - مثلا - في الآية الثانية لما قال (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) وضعوا علامة الوصل أولى وفصلوا بينها وبين (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فما وجه الفصل؟
هنا -كما ذكرت- أن عطف الجمل فيه نقاش طويل لكن لابد أن نصطحب الأصل وهو: أنه لا يُفصل بين المعطوفات.
ثم نستحضر أمرا آخر وهو: أن كل جملة عُطفت على ما قبلها واحتاجت إلى إضمار فالعطف وثيق الصلة كما عندنا هنا في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ)، (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) يحتاج إلى إضمار أي : ويؤمنون بما أنزل من قبلك، فلما احتجنا إلى الإضمار لم يصح الفصل أبدا، واضحة هذه النقطة؟ أعيد: إذا احتاجت الجملة المعطوفة إلى إضمار حتى تصح الجملة فلا يفصل بينها وبين الجملة التي قبلها، مثل: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ)، جملة (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) لا تقوم لوحدها، إنما تحتاج إلى إضمار، فإذا قال لك إنسان وما أنزل من قبلك ابتداء لم تفهم المقصود إلا أن يقول ويؤمنون بما أنزل من قبلك، فأضمرنا يؤمنون وأضمرنا الباء، هنا نقول أصبح وثيق الصلة فاحتاج للوصل ولم يصح الوقف ، لكن إذا لم تحتج الجملة إلى إضمار فهل يصح الوقف أو لا؟ نقول الأمر فيه سعة، فإن وقف فلا حرج ، والله أعلم.
المسألة الثالثة: في الوقف على قول الله تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
هل في الآية وقف أو لا؟
نعم في الآية وقف على قوله تعالى: (وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ) والواو التي بعدها واو استئنافية ابتدائية، وللمعلومية في باب الوقف والابتداء من أهم ما تحتاج أن تنتبه له أنواع الواو، فالواو قد تكون عاطفة -وهذا هو الأكثر- لكنها قد تأتي أيضا استئنافية بمعنی ابتدائية لجملة جديدة، وقد تأتي حالية وقد تأتي بمعنی مع، وغير ذلك [فلا يوقف قبل الواو إلا إذا كانت إستئنافية ابتدائية أما إذا كانت عاطفه أو حالية أو بمعنى مع أو غير ذلك فإنه لا يوقف قبلها ] احفظوا هذه القاعدة جيدا، وستأتينا في تطبيق الوقف والابتداء كثيرا.
طیب نأتي إلى هذه الآية (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ) ثم جاءت واو (وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ) هل هي عاطفة أو استئنافية؟
الجواب: هي عاطفة أي : ختم الله على قلوبهم وختم على سمعهم. ثم قال (وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) الواو هنا هل هي عاطفة أو استئنافية؟ الأكثر على أنها استئنافية، وبالتالي يصح الابتداء بها والوقف قبلها، فيقف على (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ) ثم يبتدئ (وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ). فالختم على القلوب والأسماع والغشاوة على الأبصار، وإن كان البعض قد قال بأن الواو هنا عاطفة وبالتالي يصح الوصل بل الوصل أولى ويكون المعنى ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم بغشاوة ، لكن الأولى هو ما ذكرته قبل ذلك، فيكون الوقف (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ) ، (وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
هذه المواضع التي أحببت التنبيه عليها في هذا اللقاء.
اسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما يعلمنا وأن يزيدنا علما وعملا وهدى والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق