الاثنين، 9 يونيو 2014

تفسير سورة القلم/ دورة الأترجة

د. محمد بن عبد الله الربيعة



هذه السورة العظيمة تُسمّى سورة القلم، وتُسمّى (ن والقلم)، وتُسمّى سورة (ن).
نزلت هذه السورة في أوائل ما نزل على النبي ﷺ، نزل عليه أربع سور هي من السور التي فيها بناء للنبي ﷺ في مرحلته الأولى، نزلت عليه أولا سورة (اقرأ) لتُظهر أساس العِلم في بناء هذا الرجل النبيّ الكريم وكل داعية من  أتباعه، العِلم في قوله (اقرأ), ثم نزلت (المزمل) في بيان أساس العبادة وهو المقوِّم الثاني من مقومات هذا الرسول الكريم ومقوّم لكل داعية مؤمن، الثالث نزلت سورة (المدثر) التي هي تظهر فيها مقومت الدعوة (قُمْ فأنذر)، والرابع سورة (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) إلى قوله (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) هذه مقومات الداعية المسلم الذي يريد أن يحمل رسالة الله -عز وجل- ويبلِّغها للناس، العلم، والدعوة، والعبادة، والأخلاق. إنها متينة عظيمة من كمّلها وحققها لاشك أنه قد كمُل في شخصيته وأهليته لحمل هذه الرسالة وتبليغها.
/ قال الله -سبحانه وتعالى- (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) هذه السورة -أيها الإخوة- مقصدها الأهم هو: إظهار مقام النبيّ ﷺ وفضله وخُلقه في الإسلام في مقابل لمز الكافرين له بالجنون والشِعر والكهانة، فهي ردّ عليهم، وهي تسلية للنبيّ وتثبيت له وإظهار لشرفه فهي إظهار لمقام النبيّ ﷺ وتميُّزه بالخُلق الكريم الذي تمّز به دينه الإسلام، في مُقابل أن الله -عز وجل- أظهر أخلاق هؤلاء وما هم فيه من أخلاق سيئة كما ذكره الله -عز وجل- في الآيات التي بعد الآيات الأولى -سنأتي عليها-.
/ يقول الله -سبحانه وتعالى- (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) هذه آية -أيها الإخوة- عظيمة تُبيّن لنا فضل العِلم، فضل القلم، والكتابة وأهميتها، وأن هذه الكتابة يجب أن تُرفع ويجب أن يكون شأنها عظيم، وألّا يكتب الإنسان إلا ما هو نافع له وللناس، وأن يرتقي بقلمه في خدمة الإسلام والمسلمين، خدمة هذا الدّين إذ أن الله -عز وجل- أقسم بهذا القلم الذي هو أول مخلوق خلقه الله -عز وجل- (أول ما خلق الله القلم قال: اكتب، فكتب عِلم الخلق كلهم إلى قيام الساعة) دليل على عظمة القلم، هذا القلم الذي نحتاجه في عصرنا الحاضر الذي ظهرت فيه أقلام وأفكار علمانية غربية تريد أن تزعزع مبادئنا. نحن بحاجة إلى أن نعني بالقلم الذي عظّمه الله فيكون تعلُمنا له لأجل أن نسطُر ونُسطِّر ما فيه خدمة الإسلام والمسلمين، نحن بحاجة إلى الكُتّاب البُلغاء الأدباء الذين يتعمقون في فكرهم فيستقون ويُسطرون لنا من فكرهم ما يستقون لنا من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هديا كريما. نعم نحن بحاجة شديدة إذ أنه الآن انبرى أو ظهر فينا نازغة ونبتت فينا نبتة سوء أرادت أن تُظهر بقلمها وفكرها -كما يزعمون- ضلالات الغرب وثقافاتهم ويُسوقون لنا ولأبنائنا وشبابنا ما يهدم مبادئهم وأفكارهم ودينهم وعقيدتهم.
حقيقة -أيها الإخوة- هذه الآية الكريمة كم نحن بحاجة للوقوف معها، كم نحن بحاجة -يا إخواني- إلى أن نُربي ونُوثق ونهتم بشأن القلم وشأن الكتابة وما نُسطِّره وأن الإنسان ونحن في زمن -أيها الإخوة- كثُرت وسائل الإعلام، وسائل الاتصال التي يُسمونها التواصل الاجتماعي الفيسك بوك وتويتر وواتس أب وغيرها، كانت -الحقيقة- مثار كثُر الحديث والكلام بين الناس، وتجد -والله- أكثرها غثاء لا فائدة فيه.
 أين نحن -يا إخوان- من استثمار هذه الوسائل في طاعة الله وخدمة الدين، مع أنني أقول -بفضل الله عز وجل- في مجتمعنا نرى -ولله الحمد- أن عددا من الدُعاة وأهل الإيمان والدعوة والشباب قد نفروا بهذه الوسائل لخدمة الدين والذبّ عن حياض الإسلام، والدفاع عن مبادئ الإسلام ومُنافحة أولئك أصحاب الفكر المُنحرف. كم هي نِعمة -أيها الإخوة- نحتاج أن نُسخرها لخدمة الإسلام. هذه -والله- وقفة مهمة تحتاج منا إلى وقفات.
/ قال الله -عز وجل- (وَمَا يَسْطُرُونَ) من هم الذين يسطرون؟ إما أن يكون المقصود وما تسطُر الأقلام، وإما المقصود هنا إذا كان القلم هنا اللوح المحفوظ ، القلم الذي يكتب في اللوح المحفوظ ، أو يكون القلم يُقسم الله بالقلم عامة فيكون كل ما يُسطر، والظاهر -والله أعلم- الأول.
/ قال الله تعالى (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) الله أكبر، أقسم الله -عز وجل- لأجل نبيه دِفاعا عنه، أقسم الله بالقلم لأجل نبيه دِفاعا عنه (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ما علاقة القسم بالقلم بقوله (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)؟ مناسبة عظيمة -حقيقة- القلم والعلم أليس هو الذي به كمال العقل؟ القلم والعِلْم هو الذي به كمال العقل، العقل إنما ينمو ويكمُل بالعِلم، فالله تعالى يقول الذي خلق القلم وسطّر به علوم البشر كلهم، الخلق كلهم، ما أنت بنعمة ربك بمجنون بما وهبك الله من العلم وكمّلك به مما تُسطره الأقلام. هذا يدلنا -أيها الإخوة- على أن تعلُّم العِلم والقلم من دلائل كمال العقل. لكن العلم الصحيح الذي هو العِلم بالله وآياته وشرعه، هذا الذي يدل على كمال العقل. أرأيتم كيف أن الإنسان يكمُل بعقله حينما يتعلم العِلم والقلم والكتابة، لاشك -أيها الإخوة- لذلك كلما كان الإنسان جاهلا كان كالسفيه أو المجنون، فالذي لا يعرف شيئا أبدا في الحياة ما قيمته؟ ليس له قيمة، قيمة الإنسان بعِلمه والعِلم يُورث بالقراءة والكتابة.
/ ثم قال الله -عز وجل- (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) ما أعظم رعاية الله لنبيه (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا) غير مقطوع، (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي ليس فيه مِنّة وليس هو مقطوع، فأجر النبي ﷺ جارٍ إلى قيام الساعة لأنه -عليه الصلاة والسلام- هو الذي علّمنا ديننا وهو الذي بلّغنا فكل حسنة نعملها وكل عِلم نعلمه وكل عمل نعمله هو في ميزان حسناته -عليه الصلاة والسلام- جميع أمته إلى قيام الساعة في ميزان حسناته، وهذا معنى قول الله (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع، وغير مُمنِن فيه فهو أعظم الخلق أجرا. أعظم الخلق أجرا هو -عليه الصلاة والسلام- بما شهد الله، كما أنه أعظم الخلق والبشر خُلُقا فقال الله (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) والله -يا إخواني الكرام- إن هذه الآية الكريمة (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) أعظم شهادة يشهد الله -عز وجل- بها لمخلوق في خُلُقه (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) ولاحظوا -أيها الإخوة- لم يقل (وإنك لفي خُلُق) قال (لعلى) و"على" تدل على الاستعلاء والتمكُّن فقد تمكّنت من الخُلُق العظيم، ومن وصفه بالعظيم؟ هو الله -عز وجل- العظيم سبحانه، أي خُلق هو كان -عليه الصلاة والسلام-؟
 أهو خُلُق الرحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) 
أهو خُلُق السماحة والعفو (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)
أهو خُلُق الكرم
أهو خُلُق التعامل العظيم مع أصحابه ومع أهله ومع أعدائه -عليه الصلاة والسلام- حتى مع البهائم، عمّ خُلُقه سائر المخلوقات، أرأيتم كيف كان خُلُقه مع الجذع الذي بكى لما تركه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كيف جاء واحتضنه  -عليه الصلاة والسلام-، جذع؟!  (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) والله -يا إخواني- إن هذه الآية لكافية في فضل نبينا -صلى الله عليه وسلم-، كافية في الذبّ عنه في الوقت الذي نرى -وللأسف الشديد- من نابتة في أرضنا وشرذمة من أبناء جلدتنا افتروا على رسول الله ﷺ واجترؤا عليه والله تعالى من فوق سبع سموات يشهد له بالعظمة (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).
 ثم إن هذه الآية -أيها الإخوة- كافية في أن نهتدي بهديه وأن نكون على خُلُقه، ثم إن هذه الآية الكريمة دالة على أن الإسلام دين الأخلاق. أي وربي الإسلام دين الأخلاق (الدين التعامل) وإن كان في الحديث مقال، (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) هذا الإسلام -أيها الإخوة- من أعظم كمالاته أنه يكمِّل الأخلاق فدلّك ذلك على أن أعظم دين اكتمل بالأخلاق هو دين الإسلام. أين أهل الإسلام من أخلاقه؟! أيننا نحن في أخلاقنا وتعاملنا؟! يجب أن نجعل هذا المبدأ من أعظم ما نعنى به في حياتنا، ولذلك النبيّ ﷺ بيّن حُسن الخُلُق وأن حَسَنَ الخُلُق ليبلُغُ بحُسن خُلُقِه درجة الصائم القائم و (أقربكم مني منزلا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا) أليس هذا كافٍ أن يكون الإنسان سعيُه حثيث في الاهتداء بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- علّه أن يحوز على هذا الفضل والشرف والشهادة التي شهد الله له بها ولاتباعه. لعلنا نقف هنا وإن شاء الله نُكمل في الدرس القادم.
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
بعد الآيات الأولى التي نزلت من أول السورة وهي إلى قوله (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) يتجه الخطاب في السورة، في سورة القلم التي هي سورة الأخلاق، فتُظهِر أخلاق الإسلام مُقارنة بأخلاق الكفر قال الله -عز وجل- هنا (فَسَتُبْصِرُ) أي يا محمد دينك وعاقبتك وما سيمنحك الله تعالى به من الخير والفضل والتمكين والنصر، (وَيُبْصِرُونَ) وسيُبصرون هم مآلهم وعاقبتهم، ويُبصرون الإسلام حينما يكمُل نوره ويتِم هديه وينتشر أمره في الأرض قال الله تعالى (وَيُبْصِرُونَ * بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ) أيّكم المفتون حقا حينما افتروا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيُظهِر الله تعالى من هو الذي يتصف حقا بتلك الصفات.
/  قال الله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إن ربك أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهم أولئك الكافرون ومن تبِعهم وهو سبحانه أعلم بالمهتدين. لا حظوا وتأملوا -إيها الإخوة- قوله(هُوَ أَعْلَمُ)  (وَهُوَ أَعْلَمُ) لم يقل (إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وبالمهتدين) فهو أعلم بحقيقة الضالين حقا وبحقيقة المهتدين. وفي هذه الآية بيان أن الناس طرفين لا ثالث لهما، ليس هناك وسط، وليس هناك ... وتقارب، إما ضلال وإما هُدى، إما أن تكون في سبيل الإيمان أو تكون في سبيل الكفر. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) لا يمكن للإنسان أن يجمع بين سبيل الله وسبيل الشيطان أو سُبُل الشياطين الإنس والجن، فلذلك هذه الآية تُميّز بين أهل الإسلام وأهل الكفر.
/ قال الله -عز وجل- (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) الله تعالى هنا أمره ألّا يطيعهم فيما يطلبونه من المداهنة والملاينة كما في قوله تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) معنى تُدهن: تلاينهم، وقاعدة: أن الإنسان المسلم لا يُداهن في طاعة الكافرين من أجل يبقى معهم في سلام ويبقى معهم في وئام أو الالتقاء مع الآخر -كما يُسمونه- في ظل السلام العالمي أو ظل حقوق الإنسان، كلا، في أمر العقيدة والدّين لا مُداهنة ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) حينما جاء المشركون فقالوا للنبيّ ﷺ أرادوا أن يدخلوا عليه من باب -يدغدغون عواطفه كما يُسمى- لعله أن يلين، اعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة، فتريث النبيّ ﷺ حتى يأتيه أمر الله فقال الله (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)  صريحا (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ*وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) تأملوا -أيها الإخوة- هذا التكرار والتأكيد (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) العقيدة لا مواراة فيها، لا مُلاينة فيها، إصرار تام، لماذا لأنه لا يمكن أن ألتقي أنا والآخر -كما يسمونه- والكافر وهو يكفر بالله وأنا أُؤمن بالله، كيف نجتمع أنا وإياه؟! نعم قد أُحسن التعامل بصفتي كمسلم فيما أمرني الله وأمرني نبيّ -صلى الله عليه وسلم- (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) [الممتحنة:٨] كمثل هؤلاء العَمَلَة الذين أتوا للعمل وهم كفار لا مانع من التعامل معهم بالمعروف لعل الله أن يهديهم ونُظهر لهم كمال الإسلام وخُلُقه، أما في قضية العقيدة والتوافق والالتقاء والتقارب فلا وألف لا.
/ قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) هذه الآية نازلة ابتداء في الوليد بن عُتبة، وقيل: في أبي جهل، حينما آذى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو من وصف النبيّ ﷺ بالجنون والكهانة والشِعر،  فوصفه الله -عز وجل- بوصفٍ لم يصفه لأحد من الخلق في القرآن في سوئه وتعدد صفات السوء فيه كمثل هذه الصفات -عياذا بالله- تُتلى إلى يوم القيامة، ما أشنعه وما أعظمه من فضيحة لهذا الكافر الجاحد المُعاند لله ورسوله. قال الله (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) هذه من صفات الكفار كثرت الحلِف في كل شيء وهذا يدلنا على أن هذه الصفة من صفات الكافرين فينبغي للإنسان أن ينأ عنها -كثرة الحلِف-.
 وتأملوا -أيها الإخوة- قوله (كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) مما يدلنا ونأخذ منه فائدة أن كثير الحلِف مهين لا قيمة له -حقيقة- حتى ولو كان يحلف أحيانا بالصدق لكن يحلف على تجارته، ويحلف على كذا، ويحلف على كذا، هذا لا قيمة له عند الناس، تنعدم عنه الثقة، قيمته في مهانة فكيف بالكافر؟! لاشك أنه مهين بخُلُقِه وكُفره.
/ قال الله -عز وجل- (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) ليس له شأن إلا أن يسُبّ ويذُم ويهمِز ويلمِز ويغتاب وينقل النميمة بين الناس، أي خُلُق هذا؟! أي خلُق أسفل من هذا الخُلق؟! أن يكون الإنسان يمشي بين الناس بنميمة وهمز ولمز -عياذا بالله- كيف إذا كان همزه ولمزه ونميمته عن المؤمنين وعن عباد الله الصالحين؟! لاشك أن حاله أسوأ، خُلُقه أقبح.
/ قال الله  -عز وجل- (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) قيل: أن الوليد له عشرة أولاد منعهم من أن يدخل أحدهم في الإسلام فقال: من دخل منكم في دين محمد فسأقطع رزقه، كأنه يقول لن أصرف عليه، لن أُنفق عليه، -أعوذ بالله من هذا الضلال- يعني هل بعد هذا الضلال من ضلال؟ أن يكون كافرا ثم يمنع الناس من الإيمان ويمنع أبناءه من ذلك، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) فضلا عن منعه الخير عن الناس، ولهذا من أقبح الصفات أن يمنع الإنسان الخير، والله إنها لمن أقبح الصفات. إذا رأيت إنسانا -أخي الكريم- يمنع الخير عن الناس، خير العِلم والدعوة والإنفاق وغير ذلك فهذه -والله- صفة سيئة من صفات الكافرين من وقع فيها فقد تشبّه بصفة من صفات الكافرين، فحذارِ حذار أن نمنع خيرا ولو بشيء من التأويل إلا أن يكون في ذلك مصلحة ظاهرة يراها أهل العِلم والعقل الراسخ. قد يكون في منع شيء من الخير لمصلحة أعظم، والله تعالى أعلم.
قال (مُعْتَدٍ) يعتدي على الناس، يسُبّ هذا ويشتم هذا ويأخذ مال هذا، (أَثِيمٍ) فهو عمله كله فيه إثم.
/ (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ) عُتُل: يعني ذو جبروت وطُغيان وكبرياء وسطوة على الناس. 
 (بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ) ما معنى "زنيم"؟ يعني ابن زنا -عياذا بالله- فضحه الله -عز وجل- في كتابه أنه ابن زنا. كان العرب في الجاهلية يجتمع على المرأة عشرة رجال، أو تكون المرأة يأتيها عشرة رجال -من النساء اللواتي تؤتى سفاحا- فيأتيها فلان وفلان وفلان ثم إذا جاءها ولد نسبته لأحدهم، هي تنسُبه لمن ترى أنه أبوه، فيُنسب إلى ذلك الرجُل ثم يكون ابنا له ويُعرف به. فالله تعالى فضح ذلك الكافر المستكبر المُعاند وأنه ابن زنا.
/ قال الله -عز وجل- (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) أعطاه الله -عز وجل- عشرة من الولد وأغناه، فالغنى أحيانا يُطغي (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق:٦،٧] كما قال الله -عز وجل- عن أبي جهل.
/ قال الله سبحانه وتعالى (إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في استخفافه واستهزائه بآيات الله -عز وجل- يقول هذه أساطير الأولين يتناقلها الناس ويأخذها محمد من أخبار الناس.
/ قال الله -عز وجل- (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) سنشوهه كما شوّه، أو أراد أن يُشوِّه سمعة نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- باتهامه بالجنون أو بالسِحر، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)  تشويهاً، تفظيعا لِخلْقِه، وما أعظم أن يكون الإنسان مُشوّهاً في وجهه في مثل تلك الصورة. ثم لاحظوا -أيها الإخوة- قال (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) لم يقل على الشفاه وإنما قال  (عَلَى الْخُرْطُومِ)  كأنك تتصور إنسانا ضخماً قد تدلى خرطومه وشفته مِما لا تكاد تقع عينك عليه إلا وقد اقشعّر جلدك واستكرهت منظره، فالله يُصوّر هذا الرجل بصورة شنيعة مما يستحقها.
/ قال الله تعالى (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ)
هؤلاء الكفار المشركون الذين أنعم الله عليهم يُهددهم الله ويتوعدهم أن يبلوهم كما يبلو أولئك، لقد ابتلى الله -عز وجل- الكفار والمشركين بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنة حينما أحرق بُستانهم حينما كفروا نعمة الله -عز وجل- قال الله (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ) أي بالقحط والجوع  (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ).
 قصة أصحاب الجنّة هي: أن رجلا كان من أهل الكتاب مؤمناً فكان يرعى حق الله في مزرعته وبستانه، فكان يدّخِر فيه ثُلُثها، ويُطعِم أبناءه ثُلُثها، ويتصدق بالثُلُث، فيأتيه المساكين فيُعطيهم، فلما تُوفي قال أبناؤه إن أبانا لفي ضلال مبين و(أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) أي يقطعونها مصبحين قبل أن يأتي المساكين يطلبون حقهم فيها.
(وَلَا يَسْتَثْنُونَ) ولم يستثنوا فيقولوا إن شاء الله، ومعنى آخر: لم يستثوا شيئا منها، كلها سيأخذونها ويحرِمون منها المساكين.
/ قال الله -عز وجل- (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) طائف الريح الذي أحرقها بالنار  (وَهُمْ نَائِمُونَ) أي بالليل (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي حصادا ليس فيها شيء.
(فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ) استيقظوا مُصبحين (أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ) في الصباح الباكر ائتوا إلى بستانكم (إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) أي عازمين على ذلك في أخذ هذه الثمرة وصرمِها قبل أن يأتي المساكين.
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) يُسِروّن (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) -عياذا بالله- (وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ) يعني كأنهم ذهبوا وهم يزعمون أنهم قادرون على إنفاذ أمرهم وتخطيطهم.
(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) لعلنا ضللنا الطريق، يعني إما يكون رأوا بستانهم مُحترِق ليس فيه شيء قالوا ليس هذا طريقنا وليس هذا بستاننا فلعلنا أخطأنا الطريق، ثم تنبهوا فرأوا أنه بستانهم فقالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) وهو أعقلهم، والوسط هنا ليس الوسط بين الأولاد بالسن وإنما (أوسطهم) الوسط: الخيار، العدول يعني: أخيرهم عقلا وعدالة كما قال الله -عز وجل- (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) يعني خيارا عدولا.
 فقال أعقلهم وقد أقرّ معهم وإن كان قد أنكر في نفسه قبل لكنه لم يُظهر هذا الإنكار.
 ونأخذ من ذلك درسا: أن الإنسان لا يُشارك الناس فيما هم فيه من مُنكر ولو أنكره في قلبه لا يُشاركهم، يعتزلهم، والأولى قبل ذلك أن يُنكر عليهم ويمنعهم.
 لكن هذا الأخ لم يستطع أن يُغالبهم ويُناصحهم قبل ذلك إذ غلبته نفسه لكنه رجع لما رأى آية الله في بستانهم (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) رجعوا لما رأوا آية الله -عز وجل- عرفوا أن الله قد أخذهم بذنبهم. ولاشك أن هذا هو الواجب على الإنسان أن يرجع حينما يرى عقوبة الله عليه في شيء أو أن الله أصابه بمصيبة يرجع إلى الله ويتوب ويُصحح أمره ويسأل الله أن يغفر له له لهذا قالوا (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَىٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ) تابوا ورجعوا.
في هذه القصة -أيها الإخوة- أراد الله -عز وجل- أن يُظهر فيها حال أولئك الذين ابتلاهم الله فرجعوا وأنابوا وقالوا (إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ) كأن فيها دعوة لهؤلاء الكفار أن يرجعوا بعد أن أصابهم الله بالقحط والجوع، أن يرجعوا ليُذيقهم الله النعمة ويزيد عليهم من فضله وإنعامه. قال الله -سبحانه وتعالى- (كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ) أي كذلك عذابنا للكافرين أو لكم أيها المشركونإن أصررتم على الكفر (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)  فهو تهديد لهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
ثم انتقل السياق في الحديث عن المؤمنين المتقين ولاحظوا وتأملوا -أيها الإخوة- كيف عبّر بلفظ التقوى فقال (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اتقوا عذاب الله باجتناب نواهيه وفِعل الأوامر وحذِروا من عصيانه وكفر نعمته فليسو كأولئك (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ  جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
 وفي هذه الآية سبب نزول: لما نزلت هذه الآية وكان المشركونحوله أو قريبون منه قال المشركون: إن كان لهم نعيم عند الله فنعيمنا أكثر وأعظم عند الله. يزعمون أنهم عند الله أقرب وأقرب إلى الله وأحظى، إن لهم عند الله حظا أكثر من أولئك كما يزعمون الضعفاء المساكين. فقال الله -عز وجل- (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أفنجعل في الجزاء عندنا المسلمين كالمجرمين؟! عبّر هنا بالإجرام لِما فعلوه ومن ذلك ذمهم وسبهم واستهزائهم واتهامهم للنبي ﷺ بالجنون وبما أوتي به من الآيات بأساطير الأولين أو بالشِعر أو نحو ذلك. 
قال الله -عز وجل- (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) كيف نجعل من أسلم وآمن بمن كفر؟!(مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) يعني هل عندكم كتاب من عند الله -عز وجل- تتعلمون منه ما لكم عند الله تعالى؟! (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هل لكم أيمان بالغة عندنا يعني وعد ووعيدة إلى يوم القيامة  (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ).
 (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ) أيهم يزعم ذلك؟ من الذي يزعم منهم ذلك؟ من هو صاحب الشأن فيهم؟ قال الله (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ) من تلك الأصنام (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ) يوم القيامة (إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) يأتوا بشركائهم ليُدافعوا عنهم، ليُناصروهم، ليُجازوهم.
قال الله -تعالى- في إظهار صورة من صور حِرمانهم وصورة من صور العذاب،وصورة من صور الحسرة التي سيُلاقونها يوم القيامة قال الله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) وهو ساق الله -عز وجل-  يأتي ربنا -سبحانه وتعالى- يوم الحشر فيكشف عن ساقه ويُدعى للسجود فلا يسجد إلا المؤمنون ويستعصي عن السجود ولا يستطيع السجود الكافرون والمنافقون قال الله (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) تتصلب ظهورهم -عياذا بالله- فلا يستطيعون لماذا؟ لأنهم لم يسجدوا لله -عز وجل- في الدنيا. 
فيا لحسرة من ترك السجود لله -عز وجل- في الدنيا
يا لندامة من أعرض عن السجود لله في بيوت الله 
يا ويله من ذلك اليوم الذي سيقف سيكون حاله مع أولئك المنافقين الكافرين فيُدعى للسجود فلا يسجد. يا حسرة ويا أعظم حسرة على الإنسان التارك للصلاة، التارك للسجود لله تعالى حين يقف ذلك الموقف ويُدعى فلا يستطيع. إنها والله -أيها الإخوة- آية، موعظة لكل إنسان تارك للصلاة، تارك للسجود يُحذر بها وينأ أن يكون من أهلها وأن يكون في صفّ المنافقين والكافرين قال الله -عز وجل- (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) حُق لهم أن يكونوا خاشعة أبصارهم يوم أن يروا المؤمنين يسجدون لله -عز وجل- وهذه علامة نجاتهم وعلامة رضا الله عنهم وإذا بأولئك الكافرين (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) هي ذلة حسية ومعنوية أبصارهم خاشعة متدنية من الحسرة والندامة،تصوروا -ولله المثل الأعلى فيما يعرضه لنا- لو أن إنسان أتيت به فحرمته من جائزة عظيمة كيف سيكون؟ سيطأطئ رأسه حسيرا نادما مُتحسرا مما وقع فيه من خطأ أو قصور، ذلك هو اليوم الذي سيكون فيه حال الكافرين يوم القيامة (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ) ليست خاشعة خشوع تعظيم وتذلل لله وإنما حسرة وندامة على ما كانوا عليه في ذلك اليوم ولهذا قال (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) إرهاق أصابتهم ذلة تُرهقهم إرهاقا عظيما، عذاب معنوي فكيف بالعذاب الحسي؟! 
قال الله (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) نعم قد كانوا في الدنيا يُدعون للسجود في الصلاة (واركعوا مع الراكعين) لكنهم يأبون -عياذا بالله- فلما حرموا أنفسهم من السجود لله حرمهم الله من السجود له يوم القيامة.
قال الله -عز وجل- لنبيه وهو يؤنسه ويُسليه فيم يلقاه من أولئك الكافرين من الاستهزاء والسخرية والاتهام قال الله (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)،(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ) فلسنا مستعجلون في عذابهم، لا تستعجل في عذابهم فإن لهم يوما عند الله قريب قال الله (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) كيف يستدرجهم الله؟ بأن يُملي لهم ويُمهلهم ويزيدهم قُدرة فيما هم فيه وإنعاما وإمهالا تزيدهم عذابا وشقاء في الآخرة. وهذه سنة من سُنن الله -عز وجل- في الكافرين: إمهال الكافرين كما قال الله -عز وجل- في سورة الطارق (فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا) وإن هذه الصورة هي ما نراها اليوم، والله نراها رأي العين فيما نُشاهده في إمهال الله -عز وجل- لطُغاة الكُفر والإجرام في سوريا وغيرها. لا نحسب -يا إخواني الكرام- أن ما يجري في سوريا وما يجري من تمكّن من أعداء الله -عز وجل- من النصارى واليهود وطال ليلهم وظلمهم وعُدوانهم أن ذلك بغفلة عن الله وإنما هو والله استدراج وسيأتيهم مِمن سبقه  يوم -بإذن الله- قريب يحصدهم بقدرته -سبحانه وتعالى- وجنوده. ونسأل الله -عز وجل- أن يُقرّ أعيُننا ويُرينا بأسه الشديد فيهم لكننا نؤمن بقدرة الله ونؤمن بكمال الله ونؤمن برحمة الله ولُطفه بالمؤمنين ونؤمن أيضا بسنته -سبحانه وتعالى- في الكافرين وحكمته البالغة.
ولهذا من حكمته (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) -عياذا بالله - أملي لهم: يعني أُرجؤهم وأُملي لهم في الوقت ليزداد كيدي لهم وعذابي لهم الشديد (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) ولهذا -إخواني الكرام- والله إن عاقبة هذا الظالم المجرم ستكون أشدّ عذابا وانتقاما من الله مِمن سبقه من الطُغاة، سنرى يوما أسودا عليه وعلى جنوده وأعوانه -بإذن الله تعالى- وما ذلك على الله بعزيز.
قال الله تعالى (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) يعني أنت لا تسألهم شيئا على هذا الدين فكيف لو سألتهم شيئا؟! (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) غرم ودين (مُثْقَلُونَ) يعني لن يتحملوا شيئا، ليسوا على استعداد، إذا كانوا ليسوا على استعداد للإيمان والإسلام والاستجابة والقبول من غير شيء كيف لو طالبتهم بذلك؟ (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) سيزعمون أنهم مدينون وسيزعمون أنهم غير قادرين ونحو ذلك. فالإنسان الذي يُدعى إلى الخير وإلى الأجر ثم يتنأى وينصرف عن ذلك بُغية الانصراف عن الخير فهو والله قد اتصف بمثل هذه الصفة. قال الله -عز وجل- (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يعني أم عندهم غيب الله يتصرفون ويعرفون مآلهم وعاقبتهم؟! (فَهُمْ يَكْتُبُونَ*فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) كأن الآية فيها ملحظ: أن النبي ﷺ أراد يستعجل عذابه فيهم. وقيل: أن هذه الآية نازلة في أهل الطائف حينما آذوا نبيه وكذبوه وطاردوه ورموه بالحجارة فدعا عليهم،فكأن الله قال له (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) وهو يونس -عليه السلام- الذي لما رأى إصرار قومه دعا عليهم وتركهم وولى عنهم وخرج قال الله (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي مكظوم على قومه غيظا وغضبا ونادى ربه أن ينتقم منهم وأن يُعجّل عذابه فيهم.
قال الله (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) فالله تعالى يُظهر لنبيه صورة من صور أنبيائه الذين استعجلوا عذابه في قومهم ثم خرد وتركهم لكن الله -عز وجل- تداركه بنعمته حينما رجع وأناب وآمن قومه به. وكأن في هذه الآية إشارة للنبي ﷺ بأن قومه سيؤمنون فلا يستعجل لهم. ولهذا كان ذلك يوم الفتح إذ دخل الناس في دين الله أفواجا ومنهم قريش فلم يبقَ منهم أحد أظهر كفره.
قال الله -سبحانه وتعالى- (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في هذا وعد من الله لنبيه ولمن حمل لواء هذا الدين أن الله يجتبيه ويُعينه ويُسدده ويُؤيده (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي يَصلُح أمره ويصلُح حاله ومآله.
(وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) من حنقهم وحسدهم وغضبهم (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) أي يعينونك بأبصارهم حسدا منهم بما أوتيته من الفضل والنعمة والخير من ربك، وإنما اتهموك بالجنون وغيره حسدا منهم (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ  لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) لاحظوا -أيها الإخوة- أن الله ختم السورة في مُقابل ما افتتحها به فقال (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ثم قال في آخرها  (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) مما يؤكد أن السورة نازلة في تأييد الله لنبيه وتأنيسه له في مقابل ما اتهمه به المشركون من أنه أصابه الجنون.
ثم قال الله في آية عظيمة ختم بها الله تعالى السورة فقال (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) لمن؟  (لِلْعَالَمِينَ) ما أجمل هذا الختام الذي يبعث في نفس النبي ﷺ الأمل العظيم والفأل والنظرة البعيدة فيقول الله -عز وجل- إن كان هؤلاء أشركوا وكفروا حينما سمِعوا الذِكر فإنه سيكون ذِكرٌ للعالمين إلى قيام الساعة (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الله -عز وجل- يعِد نبيه في هذه الآية أن هذا الذِكر -القرآن الكريم- سيكون ذِكرٌ للعالمين. وهو وعد بأن ينتشر دينه ويُمكّن له في الأرض إلى قيام الساعة، وهو ما نراه ولله الحمد في وقتنا الحاضر أن دين نبيه ﷺ وهذا الذِكر العظيم قد نشره الله في الأرض كما أخبر النبي (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار) ما أعظم -أيها الإخوة- هذه الآية لنا ونحن ربما نرى من اليأس ونرى من تمكن أعداء الله -عز وجل- ونرى من اعتدائهم على المسلمين واستهزائهم بدين الله وسخريتهم بأولياء الله أن نتفاءل ونرى أن الله -عز وجل- سينتقم منهم وأنه سيُمكن لدينه.
والله إن هذه الآية لنحن في حاجة إليها في هذا الوقت ونحن نرى ما نرى من الكيد من أعداء الله -عز وجل- فنؤمن ونتفاءل ونأمل بالله ونظن بالله ظنا حسنا أنه سيُمكّن دينه وسينصُر عباده.
 نسأل الله -عز وجل- أن يُقِرّ أعيننا بنصر عاجل للإسلام والمسلمين وأن يُمكّن لأهل الإسلام في كل مكان وأن ينصر دينه وعباده وأولياءه وأن يرينا في أعدائه من الظالمين يوما كيوم عادٍ وثمود وفرعون وأُبيّ بن خلف، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن ينصر إخواننا المستضعفين في سوريا وأن يُنجيهم من الظالمين وأن يُمكّن لهم في ديارهم وأن يُقر أعيننا بهلاك طاغيتهم وجنوده ويمزق ملكهم ونظامهم ويشتت شملهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ الملف الصوتي:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق