الحمدلله على فضله والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف رسله وبعد...
أيها المباركون نستأنف في هذا اللقاء المبارك دروسنا في هذا المسجد ونستعين الله جل وعلا في لقاء هذا اليوم وعنوانه " الحَزَن " ؛ أذهب الله عني وعنكم الحَزَن .
الحَزَن ورد في كلام الله جل وعلا كثيرآ في القرآن ؛ قال الله لنبيّه : (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
وقال الله لنبيّه (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) ؛ والآيات في هذا كثيرة (فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) . ومن أراد ألاّ يحزن في الدنيا فليتخذ شيئا لا يُفقد ، ولا يوجد شيء لا يُفقد ؛ والحَزَن في اللغة : خشونة في الأرض ثم استُعير فأصبح خشونة في النفس سببها غمّ ما .
الآيات التي ورد فيها الحَزَن في الدنيا لن أتحدث عنها لأني كثيرا ما تحدثت عنها سابقا ؛ سنتحدث عن الحَزَن المذكور في القرآن في آيات تتكلم عن البعث والنشور وعن دخول الجنة وأرجو الله أن ينفع بها .
/ قال الله - جل وعلا - : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ*لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا
وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ*لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ
تُوعَدُونَ) .
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ) أي أن فلاحهم كان بقدر الله منذ الأزل .
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى) معنى الحسنى هنا الحالة الحسنة من الدين هذا قول ؛ وقال بعض العلماء : الجنة ؛ لكن القول الأول أرجح .
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا) "أولئك" اللام لام البعد وإنما أُريد بالبعد هنا بيان علو منزلتهم ؛ (أُوْلَئِكَ عَنْهَا) عن ماذا ؟ عن النار لأن الله - جل وعلا - ذكر قبلها أهل النار (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) فقال ربنا هنا : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) معنى "مبعدون" : لا يُرَوعهم منظرها ، ولا يأتيهم لفحها ، ولا يسمعون صوتها ، وعبر الله عن الصوت بالحسيس لأن الحسيس هو الصوت إذا بَعُد ، فبيّن الله - جل وعلا - بعضآ من دلائل بعدهم عن النار . قال : ( أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) فلا يُكتفى بالإنعام عليهم بالنجاة من النار بل شمل أنهم يدخلون الجنة ولهذا قال الله - جل وعلا - : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) .
ثم قال : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ) . الفزع : نفرة في النفس لحصول مكروه تتوقعه ، لكن هؤلاء الأخيار الأبرار قال ربنا عنهم (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ) وهذا يوم يقوم الأشهاد ويُحشر العباد يكون الفزع الأكبر (مَن شَاء اللَّهُ) هم أولئك .
(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) التلقي هو: اللقاء على وجه الإكرام ، (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) "كنتم" أي في الدنيا "توعدون" أي توعدون إياه، فهذا إخبار على أن أهل الإيمان في أول مراتب البعث والنشور إذا نُشروا وحُشروا بين يدي الله في موقف فزع يخشى كل أحد لا يدري ما هو مآله ومصيره تطمئنهم الملائكة(هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) هذا مرحلة أولى من مراحل إكرام الله - جل وعلا - لأولياءه المتقين .
بقينا في الحزن المنفي بالكلية وهو في الجنة وهذا بيّنه الله في آيات كثيرة لكن أظهرها ماجاء في سورة فاطر قال أصدق القائلين بعد أن ذكر الصالحين من عباده قال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) "جنات" مفردها "جنة" وجُمعت باعتبار أن لكل أحد جنان خاصة به قال الله - جل وعلا - (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ) .
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي دار إقامة (يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) حتى تفهم الآيات جيدآ.. أهل الجنة عندما يدخلونها يهولهم منظر ما فيها من النفائس، والإنسان إذا هاله شيء وأحبه لا تسكن عينه حتى يملك ولو بعضه فحتى لا تبقى أعينهم متأملة فيما يرون منذ أن يدخلوا يحلون أساور من ذهب ولؤلؤآ وفي آية اخرى من فضة .
الأساور: مايأتي على المعصم ، وهي محرمة على الرجال في الدنيا والنبي عليه الصلاة والسلام قال : (رأيت أن سوارين من ذهب في معصمي فهالني أمرهما فنفخت فيهما فطارا فأولتهما كذابين الأسود العنسي ثم كان مسيلمة الكذاب) .
لماذا هاله صلى الله عليه وسلم الأسورة على معصمه ؟
لا يوجد معصم أكرم من معصمه صلوات الله وسلامه عليه ، والأساور للنساء في الدنيا فمن الظلم أن تكون هذه الأساور على معصم سيد الأحرار والرجال صلى الله عليه وسلم فلذلك أهمّه أمرهما وعرف أن هذا وضع شيء في غير موضعه ، فلما يأتي الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب يدعيان النبوة هذا وضع الشيء في غير موضعه لأنهما كذابان فادعيا أنهما في أعظم مراحل الصدق وهي النبوة...- واضح الربط ما بين معنى السوار على معصمه صلى الله عليه وسلم وما بين تأويل الرؤيا بأنهما الكاذبان الأسود ومسيلمة.
في الجنة يختلف الوضع فما حُرم وتركه المؤمن من أجل الله يناله يوم القيامة حتى الخمر..وليس كل ما حُرم لكن أكثره فقال - جل وعلا - : (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) .. بدهيا أيها المبارك القرآن لا يمكن أن يأتي بما لا تقبله العقول.. لوأنك رأيت رجل من أهل الدنيا يلبس ساعة غالية الثمن تهول كل من يراها ويلبس معها ثوبا خَلِقا ستتعجب لأنه لا يوجد شيء يجمع بينهما فإن ساعة مثل هذه يلبسها من يملك أفاخر الثياب ولهذا قال الله : ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا
حَرِيرٌ) فمثل هذه الأساور من الذهب واللؤلؤ لا يليق بها إلا ثيابا من حرير ولهذا قال ربنا : (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) .
/ ثم قال الله - ونحن نتكلم عن الحَزَن - : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَن) الحَزَن يكون من أحد أمرين: إما شيء تريد أن تناله فيفوتك ، وإما شيء تملكه فتفقده وكلا الحالين منتفٍ في الجنة ، فلا يفوت راغب فيها عطاء ولا يمكن أن يبلى شيء مما يؤتيه الله جل وعلا فيها عباده .
(وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) هم يعلمون في أنفسهم أنهم وإن دخلوا الجنة كانت لهم معاصي ، كانت لهم زلات، فقالوا( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ) غفر لنا الزلات (شَكُورٌ) ضاعف لنا الحسنات. (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ*الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ) فالدنيا دار معبر واعتبار أما الجنة فدار بقاء واستقرار ولهذا قالوا كما أخبر ربنا عنهم :(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ*الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ) بأي سبب (مِن
فَضْلِهِ) ؛ ولن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله لأن هؤلاء الذين دخلوها كانوا قوما صالحين، كانوا يصومون وكانوا يصلون وكانوا يحجون وكانوا يعتمرون وكانوا يأمرون بالمعروف وكانوا ينهون عن المنكر ، من الذي وفقهم لهذا كله؟ ربهم بفضله ورحمته ولهذا قال الله عنهم : (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ) والجنة بعض فضله ( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ) أين؟ في أبداننا (وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) أين؟ في أرواحنا .
وأهل الدنيا ينامون لأن الله كتب عليهم التعب وجعل النوم راحة لهم من التعب ؛ أما أهل الجنة فقد قالوا عنها : ( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ) لا يوجد فيها تعب البتة فلا حاجة لأن يناموا فلهذا ليس في الجنة نوم وقالوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ*الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ).
تبقي عظة يأخذها الإنسان من هذه الآيات :
كلما مرّ عليك حال تحزن فيها - ولابد أن يمر عليك - فتذكر هذه الآية ، تذكر يوم أن يمنّ الله على عباده الصالحين بأن يدخلوا الجنة ، واعلم أن لا راحة للمؤمن دون لقاء الله فإذا لقي الله وجعل جسر جهنم وراء ظهره ودخل الجنة زال عنه كل بؤس وحَزَن ، ولا يمكن مهما بلغت فصاحة مفسر أو بلاغة مؤول أن يعرف أو يعبر أو أن يقول عظيم ما يشعر به أهل الجنة إذا دخلوا الجنة . لكن أسأل الله بأحب الأسماء إليه وأقربها زلفى لديه بأن يمنّ علينا وعليكم بأن نقولها بعد عمر طويل وعمل صالح نكون ممن قال الله فيهم وقال الله عنهم :(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ*الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ).
هذا الحَزَن جعله الله في الدنيا ليرفع به الدرجات ويكفر به السيئات قال الله : (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ
أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
ورد أن الصديق - رضي الله عنه - قال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له - عليه الصلاة والسلام - : (يا أبا بكر ألست تحزن ؟ ألست تنصب ؟ ألست يصيبك اللأواء ؟ فهذا ما تجزون به) .
فالعاقل وكل أحد له طريقان الى الله...طريق إنعام فحق الله فيها الشكر ؛ وطريف ابتلاء فحق الله فيها الصبر وبهاتين المطيتين يصل المؤمن إلى رضوان ربه . هذا مايتعلق بالحزن في الآخرة .
قلنا أن الحَزَن في الدنيا ذُكر كثيرآ في القرآن ؛ ذُكر في قصة الغار (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ؛ ولما فقد يعقوب عليه السلام ابنه الحبيب إليه يوسف قال كما قال الله: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ) ؛ والنبي - عليه الصلاة والسلام - كما في الخبر الصحيح لما فقد ابنه ابراهيم قال (إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع) .
فالمعنى لا مفر منه البتة لكن كما قلنا من أراد أن لا يحزن البته فليتخذ شيئا لا يُفقد وهذا محال فلابد منه شاء الإنسان أم أبا لكن الإنسان إذا جعل ما بين عينيه لقاء الله تبارك وتعالى هانت عليه الأمور وهذا مستقى من قول الله - جل وعلا - لما ذكر الصالحين قال : (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) فتذكر الآخرة وما فيها به يُعزى المؤمن ، والإنسان إذا أراد أن يُوطن أحدا على مصائب الدهر لا ينفي الحَزَن بالكلية فالله يقول: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا) فلا يأتي لأحد حديث عهد بموت قريب أو حبيب أو فقد مال فيطالبه بما لا يُطاق لكن خلّي العين تدمع قليلا وخلّي القلب يحزن قليلا ثم بعد أن تسكن النفس وتجمد الدمعة إئت لأخيك وعِظه ، أما أن يأتي الإنسان لمن أصابه حزن فيبيّن له وهو غير مكلوم كأن الأمر لابد أن يصمد فيه هذا صعب أن يُطالب فيه كل أحد إذا كان إمام الصابرين - صلى الله عليه وسلم - دمعت عيناه لما فقد ابنه صلوات الله وسلامه عليه، ودمعت أعين مُتمم بن نويرة وكانت عوراء لما فقد أخاه مالكا ،وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه - طلب من مُتمم أن يقول له شعرا في أخيه زيد لما فقده وهذا شي مألوف معروف بين الناس جُبل الخلق عليه لكن نقول مما يوطن الإنسان عليه نفسه انه يرتقب يوما يدخل فيه الجنة ويقول كما قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).
وصلى اللهم على محمد وآل محمد والحمد لله رب العالمين .
__________________________________
الشكر موصول لمن قامت بتفريغ الحلقة جزاها الله خيرا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق